وضع داكن
19-04-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 05 - الصحابي عمير بن وهب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الإخوة والأَخوات السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبَرَكاته، وأهْلاً ومَرْحَبًا بِكم مع حَلْقَةٍ جديدة مِن برْنامَج: صُوَرٌ مِن حَياة الصَّحابة .
أهْلاً ومَرْحَبًا بِفَضيلَة الشَّيْخ محمَّد راتب النابُلسي ؛ الأُستاذ المُحاضِر في كُلِيَّة التَّرْبِيَة بِجامِعَة دمَشْق والمُدَرِّس الدِّيني في مساجِد دمشْق ...الشَّيْخ حفظه الله: أهْلاً ومَرْحَبًا بِكم .
 السائِل: أستاذ راتب ؛ ماهي الشَّخْصِيَّة التي سَتُطِلُّ علينا اليوم في هَدْأةِ السَّحَر هذه لو سَمَحْتُم .
الشَّيْخ: الصَّحابي الجليل هو: عُمَيْرُ بن وَهْب
السائِل: لماذا اخْتَرْتُم هذه الشَّخْصِيَّة الفَذَّة ؟ وما المَغْزى الكبير والعَميق مِن قِصَّة عُمَيْر ابن وَهْب ؟
 الشيخ: إنَّ قِصَّة هذا الصحابيّ الجليل تُؤَكِّدُ نُبَوَّةَ النبي صلى الله عليه وسلَّم ؛ مِن حَيْثُ مِصْداقِيَّة الوَحْي ومِن حيث أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يَغْدو ألَدُّ أعْدائِهِ أعَزَّ أصْدِقائِهِ وأحْبابه، هذه القِصَّة مِن القِصص الفذَّة التي تُبَيِّنُ هذه الخصيصَة التي امْتاز بِها النبي عليه الصلاة والسلام ففي ذاتِ ضُحًى تَوَجَّه عُمَيْرٌ إلى المَسْجِد للطَّواف بالكَعْبة والتَّبَرُّك بِأصْنامِها فَوَجَد صَفْوان ابن أمَيَّة جالِسًا إلى جانب الحِجْر فأَقْبَل عليه وقال: عِمْ صَبَاحًا يا سيِّدَ قُرَيْش ‍! فقال صَفْوان: عِمْ صباحًا يا أبا وَهْب اِجْلِس نتَحَّدث ساعَةً فإنَّما يُقْطَع الوقت بِالحديث، فجَلَس عُمَيْر بِإزاء صَفْوان ابن أُمَيَّة، وطَفِقَا الرَّجلان يتذاكَران بدْرًا، ومُصابَهُما العظيم ويُعَدِّدان الأسْرى الذين وَقَعُوا في أيْدي محمَّدٍ وأصْحابِه، ويتفَجَّعان على عُظماء قريش ممَّن قَتَلَتْهُم سُيوف المسلمين، وغَيَّبَهُم القليب في أعْماقِه فَتَنَهَّدَ صفْوان ابن أُمَيَّة وقال: ليس والله في عَيْش خير بعْدهم ! فقال: عُمَيْر: صَدَقْتَ والله، ثمَّ سَكَت قليلاً وقال: ورَبِّ الكعْبَة، لولا دُيونٌ عَلَيَّ ليس عندي ما أقْضيها به، وعِيالٌ أخْشى عليهم الضَّياع مِن بعدي لَمضَيْتُ إلى محمَّد وقَتَلْتُه، وحَسَمْتُ أمْرَهُ وكَفَفْتُ شرَّه، ثمَّ قال: وإنَّ في وُجود ابن وَهْبٍ لَدَيْهِم ما يَجْعَلُ ذهابي إلى يثْرِب أمْرًا لا يُثيرُ الشُّبُهات فَصَفْوان ابن أُمَيَّة اغْتَنَم كلام ابن وَهْب ولم يشأ أن يُفَوِّتَ هذه الفُرْصة فالْتَفَتَ إليه وقال: يا عُمَيْر، اِجْعَل دَيْنَكَ كُلَّهُ عليّ ‍، فأنا أقْضيهِ عنك مهما بلَغ ! وأما عِيَالُك فَسأظُمُّهم إلى عِيالي ما امْتَدَّت بي وبهم الحياة وإنَّ في مالي من الكَثْرة ما يسَعُهم جميعًا، ويَكْفُل لهم العَيْش الرَّغيد، فقال: عُمَيْر إذاً اُكْتُم حديثنا هذا ولا تُطْلِع عليه أحَدًا، فقال صَفوان: لك ذلك .
 السائل: الأستاذ راتب ؛ مِن خِلال حديثكم يتبيَّن أنَّ هناك تعاوُن بين صفوان مع عُمَير على العُدْوان والشرّ، فَكَيْف نتَحَدَّثُ فهذا الإطار ؟
الشيخ: الله جلّ جلاله في كتابه الكريم يقول:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[ سورة المائدة ]

 وقال علماء التفسير البرّ صلاح الدنيا، والتقوى صلاح الآخرة، وفي الآية نفْسِها نَفْيٌ ؛ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، فكأنَّ عُمَير بن وَهْب وصَفوان ابن أُمَيَّة تعاوَنا على العُدوان وتعاوَنا على إطفاء نور الله عز وجل، فقامَ عُمَير من المَسْجد ونيران الحقد تتأجَّج في فُؤادِه، على محمَّد صلى الله عليه وسلَّم، وطَفِقَ يعُدُّ العُدَّة لإنْفاذ ما عَزَمَ عليه، فما كان يَخْشى ارْتِيابَ أحَدٍ في سَفَرِه، ذلك لأنّ ذوي الأسْرى من القُرَشِيِّين كانوا يتردَّدون على يثْرِب سَعْيًا وراء افْتِداء أسراهم .
 أَمَر عُمَيْر بن وهب بِسَيْفِه فَشُحِد، وسُقِيَ سُمًّا، ودعا بِراحِلَتِهِ فأُعِدَّت له وقُدِّمَت وامْتَطى متنَها، ويَمَّمَ وَجْهَهُ شطْر المدينة، وملء بُرْدَيْه الضَّغينة والشرّ، وبلغ عُمَيْرٌ المدينة ومضى نحو المَسْجِد يُريد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلمَّا غدى قريبًا من بابه أناخَ راحِلَتَهُ ونزل عنها، وكان عمر بن الخطَّاب آنَذاك جالِسًا مع بعض الصَّحابة قريبًا من المَسْجِد، فحالَتْ مِن عُمَر التفاتي فرأى عُمَيْر بن وَهْب بينزِل عن راحِلَتِه ويَمْضي نحو المَسْجِد مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، فَهَبَّ مَذْعورًا، وقال: هذا عَدُوُّ الله عُمَيْر جاء يُريد شرًا، وقد ألَّب المشركين علينا في مكَّة، وكان عَيْنًا لهم علينا قُبَيْل بدْرٍ، ثمَّ قال لِجُلسَائِه: اُمْضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم واحْذَروا أن يَغْدِرَ به هذا الخبيث الماكِر، ثمَّ بادَر عمر بن الخطَّاب إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم وقال: يا رسول الله ! هذا عَدُوّ الله عُمَير بن وَهْب قد جاء مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، وما أظُنُّه إلا يُريدُ شرًا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: أدْخِلْهُ علَيّ، فأَقْبَلَ الفاروق على عُمَير بن وَهْب وأخذَهُ بِتَلابيبِه، وطَوَّق عُنُقَهُ بِحَمَّالِة سَيْفِه، ومضى به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلمَّا رآه النبي عليه الصلاة والسلام على هذه الحال قال لِعُمَر !
السائل: هنا، يا أُسْتاذ تتَجَلَّى رحْمة النبي عليه الصلاة والسلام بِألَدِّ أعْدائِه .
 الشَّيْخ: كان عليه الصلاة والسلام يُحِبُّ الإنسان أيَّ إنسان، قال: يا عمر أطْلِقْهُ، فأطْلَقَهُ، ثمّ قال: يا عمر اسْتَأخِر عنه، فتأخَّر عنه ثمَّ تَوَجَّه إلى عمير بن وهب وقال: اُدْنُ مِنِّي يا عُمَيْر، فقال: أَنْعِم صباحًا ! وهي تَحِيَّةُ العرب في الجاهِلِيَّة، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد أكْرَمَنا الله بِتَحِيَّةٍ خير من تَحِيَّتِك يا عُمَيْر ؛ لقد أكرمنا الله تعالى بالسَّلام، وهو تَحِيَّةُ أهْل الجنَّة، فقال عُمَيْر: والله ما أنت بِبَعيدٍ عن تَحِيَّتِنا، وإنَّك لَحَديث عَهْدٍ بها، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عُمَيْر، ما الذي جاء بك إلينا ؟ فقال عُمَيْر: جئتُ أرْجو فكاك هذا الأسير الذي في أيديكم ؟فقال: ما بال السَّيْف التي عاتِقِك، قال: قَبَّحَها الله مِن سُيوف، وهل أغْنَتْ عنَّا يوم بَدْر ؟! قال: اُصْدُقني ! ما الذي جئْتَ له يا عُمَيْر ؟ قال: ما جئتُ إلا لذاك ! قال: بل قَعَدْتَ أنت وصَفْوان بن أُمَيَّة عند الحِجْر فتَذاكَرْتُما أصْحاب القليد مِن صَرْعى قريش، ثمَّ قلْتَ: لولا دَيْنٌ علَيَّ، وعِيالٌ عندي لَخَرَجْتُ حتَّى أقْتُل محمَّدًا، فَتَحَمَّل لك صفوان بن أُمِيَّة دَيْنَكَ وعِيالَك على أن تَقْتُلَني ! والله حائِلٌ بينك وبين ذلك، فَذُهِلَ عُمَيْر لَحْظَةً ثمَّ ما لبِث أن قال: أَشْهَدُ أنَّك لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
السائل: مِن خلال هذا الحديث الرائِع عن هذا الصَّحابيّ الجليل يتَبَيَّن صِدْق نُبُوَّة النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام .
 الشيخ: لقد أوْحى الله إليه هذا الحديث الذي جرى بين صفوان وعُمَير ومِن أجل أن تكون القِصَّة مُأثِّرَةً لم يعلم أحَدٌ بِهذا الحديث، فلمَّا أخبرهُ به النبي عليه الصلاة والسلام، قال: أشْهَد أنَّك محمَّدًا رسول الله ثمَّ أرْدَفَ يقول: لقد كُنَّا يا رسول الله نُكَذِّبُك بما كنت تأتينا به مِن خبر السَّماء، وما ينزل عليك من الوَحْي، لكنّ خبري مع صَفْوان بن أُمَيَّة لم يعْلم به أحَدٌ إلا أنا وهو، ولقد أيْقَنْتُ أنَّه ما أتاك به إلا الله، والحمد لله الذي ساقني إليك سَوْقًا لِيَهْدِيَني إلى الإسلام، ثمّ شَهِدَ أنَّه لا إله إلا الله، وأنّ محمَّدًا رسول الله، وأسْلَم، فقال عليه الصلاة والسلام لأصْحابِه فَقِّهوا أخاكم في دينِهِ، وعَلِّموه القرآن، وأطْلِقوا أسيرَه .
السائل: أستاذ راتب النابلسي، ما تعْليقكم وإضافتكم على قَوْل صَفْوان ؟
 الشيخ: الحقيقة أنَّ المؤمن الصادق لا يكْره الإنسان غير المؤمن لذاتِه بل يكرهه على عمَلِه، فإنْ اصْطَلَحَ مع الله، أحَبَّهُ، وكان أقْرب الناس إليه ويُؤَكِّدُ هذه الحقيقة أيْضًا أنَّ المسلمون فَرِحوا بإسلام وهب أشَدَّ الفَرَح، حتَّى أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: لَخِنْزير كان أحَبَّ إلَيَّ مِن عُمَيْر بن وَهْب حينما قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهو اليوم أحَبُّ إليَّ من بعض أبنائي، هذه الحقيقة التي ينبغي أنْ نتأكَّد من صِحَّتِها، وفيما كان عُمَير يُزَكِّي نفسَه بِتَعاليم الإسلام، ويُتْرِعُ فؤادَه بِنُور القرآن، ويَحْيى أرْوَعَ أيَّامِه وأغْناها مِمَّن أنْساهُ مكَّة من فيها، كان صَفْوان بن أُمَيَّة يُمَنِّي نفسَهُ الأماني ويمُرّ بِأنْدِيَة قرَيْش، ويقول: أبْشِروا بنبأ عظيم يأتيكم قريبًا فَيُنْسيكم وَقْعَةَ بدْرٍ ‍!
السائل: أستاذ راتب كيف نُعَلِّق على قول صَفْوان ؟
الشيخ: التَّعْليق المناسب أن نتْلُوَ قوله تعالى:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

 

[سورة الأنفال ]

 ثمّ إنَّه لمَّا طال انْتِظار صَفْوان، والقَلَقُ يتسرَّب إلى نفْسِهِ شيئًا فشَيْئا، حتَّى غدى يتقلَّب على أحَرَّ من الجَمْر، وطفِقَ يسْأل الرُّكْبان على عُمير بن وهب، فلا يجد عند أحَدٍ جوابًا يشْفيه، إلى أن جاءَهُ راكبٌ فقال: إنَّ عُمَيْرً قد أسْلَمَ ! فَنَزَل عليه الخَبَر نُزول الصاعِقَة إذْ كان يظنُّ عمير بن وهب لا يُسْلِم ولو أسْلَم جميع على من ظَهر الأرض ! هذه قِصَّةُ عُمَيْر، التي تُؤَكِّد مِصْداقِيَّة الوَحْي وأنَّ العداوَة ليْسَت دائِمَة لِمُجَرَّد أن يصْطلح غير المؤمن مع الله، ينقلب إلى أخٍ صديقٍ مُحِبّ .
 السائل: في الواقِع ؛ أستاذ يتبيَّن مِن خِلال هذا الحديث الشَّيِّق أنَّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم هم مِلىء القلْب والفؤاد دائِمًا، إذْ أنَّ حياتَهم مَلآ بالأشْياء الجميلة والرائعة التي تدل على إيمان كبير بالله عز وجل .
 أهْلاً ومرْحَبًا بِفَضيلة الشيخ محمّد راتب النابلسي ؛ الأستاذ المُحاضر بِكُلِيَّة التَّرْبِيَة جامِعَة دمشق، والمُدَرِّس الدِّيني في مساجِد دمشق، لنا لِقاء آخر إن شاء الله .

تحميل النص

إخفاء الصور