وضع داكن
19-04-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 06 - الصحابي عكرمة بن أبي جهل .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الإخوة والأَخوات السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبَرَكاته، وأسْعَدَ الله أوْقاتكم بِكُلِّ خير، في ليْلَةٍ من ليالي رمضان المبارك، معنا فضيلة الأستاذ راتب النابلسي الأستاذ المُحاضر في كليَّة التَّربِيَة، والمُدَرِّس الدِّيني في مساجد دمشق.
الأستاذ راتب السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 السائل: الأستاذ راتب ؛ ما هو الموضوع ؟ وما هو الصَّحابيّ الجليل الذي سنتناوَله في هذه اللَّيْلة المباركة ؟
الشيخ: إنَّه الصَّحابي الجليل عِكْرِمَةُ بن أبي جَهْل.
السائل: في البداية، وكما هو دائِمًا مَن هو عكرمة ابن أبي جهل ؟
 الشيخ: إذا قلنا عِكرِمَة بن أبي جهل، نكون قد عَرَّفْناه، فأبا جَهْلٍ كان مِن ألَدِّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، لكنَّ مَغْزى هذه القِصَّة قِصَّةِ عِكْرِمَة بن أبي جَهْل، أنَّهُ سوف يَغْدو مِن أتْباعِه المُخْلِصين، وقِصَّته فريدَةٌ مِن نوْعِها وتُؤَكِّد أنَّ الإنسان قد ينتقِل من أقْصى درجات العَدَاوَة إلى أقْصى درجات الوَلاء إذا أصْغى إلى الحقّ.
السائل: وهنا يكمُن مَغزى هذه القِصَّة الجميلة والرائِعَة مِن خِلال حديثكم عِكْرِمَة وأبي جَهْل.
 الشَّيْخ: في يوم فَتْح مكَّة رأَتْ قريش أنَّه لا قِبَلَ لها بِمُحَمَّدٍ وأصْحابِه فأَزْمَعَتْ على أن تُخَلِّيَ له السَّبيل إلى مكَّة، وقد أعانَها على اتِّخاذ قَرارِها هذا ما عَرَفَتْهُ مِن أنّ النبي صلى الله عليه وسلَّم أمَرَ قُوَّادَه أن لا يُقاتِلوا إلا مَن قاتَلَهُم مِن أهْل مَكَّة، لكنّ عِكْرِمَة بن أبي جَهْل ونَفَرٍ معه خرجوا على إجْماع قُرَيش وتَصَدَّوا للجَيْش الكبير، فَهَزَمَهُم سيِّدُنا خالِدُ بن الوليد فيمَعْرَكَةٍ صغيرة قُتِلَ فيها مَن قُتَل ولاذَ بالفِرار مَن لاذ، وكان مِن جُمْلَةِ الفارِّين عِكْرِمة ابن أبي جَهْل، عند ذلك أُسْقِطَ في يدي عِكْرِمَة فَمَكَّةُ نبَتْ به بعد أن خَضَعَتْ للمسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلَّم عفى عَمَّا سلَفَ مِن قُرَيْش لَكِنَّه اسْتَثْنى منهم نفَرًا سَمَّاهُم بِأسْمائِهم، وأمَرَ بِقَتْلِهم وإن وُجِدوا تحت أسْتار الكَعْبة.
 وكان في طليعة هؤلاء النَّفَر ؛ عِكْرِمَة بن أبي جهل، لِذا تَسَلَّل مُتَخَفِيًا مِن مكَّة ويَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْر اليَمَن، إذْ لم يَكُن له مَلاذٌ إلا هناك ‍، عند ذلك مَضَتْ أُمُّ حكيم زَوْجُ عكرِمَة بن أبي جهل، وهِنْد بنت عُتْبة إلى منزِل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومعها عَشْرَةٌ مِن النِّسْوَة لِيُبايِعْنَ النبي عليه الصلاة والسلام، فَدَخَلْنَ عليه، وعنده اثنان من أزْواجِه وابنَتُه فاطِمَة، ونِساء مِن نِساء بني عبْد المُطَّلِب، فَتَكَلَّمَتْ هنْدُ، وهِيَ مُتَنَقِّبَة وقالَتْ: يا رسول الله ‍! الحمد لله الذي أظْهَر الدِّين الذي اخْتارَهُ لِنَفْسِه، وإنَّي لأسْألُكَ أنْ تَمَسَّني رَحِمُكَ بِخَيْر، فإنِّي امْرأةٌ مؤمنة مُصَدِّقَة ثمَّ قالتْ يا رسول الله، أنا هنْدُ بنتُ عُتْبَة، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: مرْحَبًا بِك ! فقالَتْ: والله يا رسول الله، ولقد أصْبَحْتُ وما على وَجْه الأرض بيْتٌ أحَبُّ إليّ أن يَعِزَّ مِن بيتِك، ثمَّ قامَت أمُّ حكيم زَوْج عكرمة بن أبي جَهْل فأسْلَمَت وقالتْ: يا رسول الله، لقد هرَبَ منك عِكْرِمَة إلى اليَمَن خوْفًا منك أن تقتلَهُ فأَمِّنْهُ أمَّنَك الله ! فقال: عليه الصلاة والسلام: هو آمِنٌ، فَخَرَجَتْ مِن ساعَتِها في طلبِه حتَّى أدْرَكَتْهُ في ساحِل البَحْر في منطقة تِهامَة، وهو يُفاوِضُ نوتِيًّا ؛ أي بحَّارًا، مُسْلِمًا على نَقْلِهِ، والنُّوتِيُّ يقول له: أَخْلِص حتَّى أنْقُلَكَ، فقال له عِكْرِمَة: وكيف أُخْلِص ؟! قال تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشْهد أنّ محمَّدًا رسول الله، فقال عِكْرِمَة: ما هَرَبْتُ إلا مِن هذا ! وفيما هو كذلك إذْ أقْبَلَتْ أُمُّ حكيم على عِكرِمَة، وقالتْ: يا ابن عمّ جئْتُكَ مِن عند أفضل الناس ؛ وأبَرِّ الناس وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلَّم ابن عبد الله، وقد اسْتأمنتك منه فأمَّنَكَ، فلا تُهْلِك نفْسَك، فقال: أنْتِ كَلَّمْتِهِ ! فقالتْ: نعم أنا كَلَّمْتُهُ فأَمَّنَكَ ولا زالَت به تُؤَمِّنُهُ وتُطَمْئِنُهُ حتَّى عاد معها، فلمَّا دنا عِكرمة من مكَّة قال النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصْحابِه: سَيَأتيكم عِكرمة بن أبي جَهْل مؤْمِنًا مُهاجِرًا فلا تَسُبُّوا أباه، فإنَّ سبَّ الحيّ يؤذي الحيّ، ولا يبْلُغُ الميِّت.
 السائل: الله أكبر ! ما أجْمل هذا الكلام، والحديث عن عِكْرِمَة يا أُسْتاذ راتب، دِينُ الله عز وجل يَصِلُ كما تتفَضَّل إلى أعْمَق ما في النَّفْس.
الشَّيخ: الحقيقة أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان عالِمًا، وكان خطيبًا ومُفَوَّهًا، ومُجْتَهِدًا وقاضِيًا وكان فقيهًا، وقائِدًا، وزعيمَ أُمَّةٍ، أما حينما أراد الله تعالى أن يَمْدَحَهُ ؛ ماذا قال ؟ قال تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

السائل: فِعْلاً لقد كان عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم.
 الشَّيخ: وما هو إلا قليل حتى وَصَل عِكرمة وزوْجُه إلى حيث يجْل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلمَّا رآه النبي صلوات الله عليه وثَبَ إليه مِن غير رِداءٍ فرَحًا به ! ولمَّا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقَفَ عِكْرِمَة بين يَدَيْهِ وقال: يا محمَّد ! إنَّ أمَّ حكيم قد الخْبرَتْني أنَّك أمَّنْتني، فقال عليه الصلاة والسلام: صَدَقَتْ فأنت آمِن، فقال عِكْرِمَة: إلى ما تَدْعو يا محَمَّد ؟ فقال: أدْعوك إلى أن تشْهَد أنْ لا إله إلا الله وأنَّي عَبْدُ الله ورسوله وأن تُقيمَ الصلاة وأن تؤْتِيَ الزَّكاة حتَّى عدَّ أرْكان الإسلام كلَّها، فقال عِكرِمَة: والله ما دَعَوْتَ إلا إلى الحقّ، وما أمَرْتَ إلا بِخَير، ثمَّ أرْدَفَ يقول: قد كنتَ فينا، والله قبل أن تَدْعُوَ إلى ما دَعَوْتَ إليه ؛ أنت أصْدَقُنا حديثًا، وأبَرُّنا بَرًّا ! ثمَّ بسَطَ يَدَهُ وقال: إنِّي أشْهَد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّك عبْد الله ورسولُه.
 السائل: هنا ؛ الأُستاذ راتب نسْتَشِفّ من هذا الحديث حديث عِكرِمَة بن أبي جَهْل كيْفَ أنَّ النبي عليه الصلاة والسَّلام كان يُعالِجُ الأمور بِكُلِّ رَوِيَّةٍ وحِكْمَة، وبِكُلِّ أناة.
الشيخ: هذا مِن حِكْمَتِه، وأخْلاقِهِ العَلِيَّة.
السائل: ودليل على ذلك هناك الثَّمْرَة اليانِعَة التي كان فيها إسلام عِكرِمَة بن أبي جَهْل.
 الشيخ: الحقيقة، يا أُستاذ جمال، أنَّ العُظَماء، والنبي عليه الصلاة والسلام أعظمهم، يَغْدو ألَدَّ أعدائِهِ أقربَ الناس إليه يقول عِكْرِمَة: يا رسول الله، إنَّي أسْألك أن تسْتغفِرَ لي كلّ عَدَاوَةٍ عادَيْتُكَها، أو مَقامٍ لَقَيْتُكَ فيه، أو كلامٍ قُلْتُهُ في وَجْهِكَ أو في غَيْبَتِك، فقال عليه الصلاة والسلام: اللَّهمّ اغْفِر له كلّ عداوَةٍ عادَنيها، وكلّ مَسيرٍ سار فيه إلى مواضِعٍ يُريدُ فيها إطْفاء نورِك، واغْفِر له ما نال مِن عِرْضي في وَجْهي، أو أنا غائِبٌ عنه ! فَتَهَلَّلُ وَجْهُ عِكْرِمَةَ بِشْرًا وقال: أنا يا رسول الله لا أدَعُ نَفَقَةً كنتُ أنْفَقْتُها في صَدٍّ عن سبيل الله إلا أنْفَقْتُ ضِعْفَها في سبيل الله، ولا قِتالاً قاتَلْتُهُ صَدًّا عن سبيل الله إلا قاتَلْتُ ضِعْفَهُ في سبيل الله، ومنذ ذلك اليوم انْكَبَّ عِكْرِمَة إلى مَوْكِب الدَّعْوة كَفارِسٍ باسِلٍ في ساحات القِتال وقد كان عِكْرِمَةُ عبَّادًا - كثير العبادة - قوَّامًا، وقرَّاءً لِكِتاب الله في المساجِد فقد كان يَضَعُ المصحَف على وَجْهه ويقول: كتاب ربِّي، كلامُ ربِّي وهو يبْكي من خَشْيَة الله ! والحقيقة أنَّ عِكْرِمَة برَّ بِما قَطَعَهُ للنبي عليه الصلاة والسلام مِن عَهْد، فما خاض المسلمون مَعْرَكَةً بعد إسلامِه إلا وخاضَها معهم، وما خرَجوا في بَعْثٍ إلا كان في طليعَتِهم.
 ففي يَوْم اليَرْموك أقْبل عِكْرمةُ على القِتال إقْبال الظامِىء على الماء البارِد ولمَّا اشْتَدّ الكَرْبُ على المسلمين في أحَدِ المواقف نَزَلَ عن جوادِهِ، وكسَرَ غِمْدَ سَيْفِهِ، وأوْغَلَ في صُفوف الرُّوم، فبادَرَ إليه خالِدُ بن الوليد وقال: لا تَفْعَل يا عِكْرِمَة فإنَّ قَتْلَكَ سَيَكون شديدًا على المُسْلمين، فقال عِكرمة: إليك عَنِّي يا خالِد، فقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سابِقَة أما أنا وأبي فقد كُنَّا مِن أشَدِّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَدَعْني أُكَفِّرْ على ما سَلَفَ مِنِّي ثُمَّ قال: لقد قاتَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في مواطِنَ كثيرة وأَفِرُّ اليوم مِن الرُّوم، إنَّ هذا لن يكون أَبَدًا وكان عِكْرِمَة رضي الله عنه مِن شُهداء هذه المعرَكة، وهكذا انْتَهَتْ حياتُهُ، وكُتِبَت له الشَّهادَة بعد أن كان مِن ألَدِّ أعْداء النبي عليه الصلاة والسلام.
 السائِل: في الواقِع ؛ أُسْتاذ راتِب، يتبَيَّن مِن خلال هذا الحديث الرائِع والشَّيِّق أنَّ الإيمان له مَعْناه الأصيل في النُّفوس، وتأثيرُهُ الواضِح في القُلوب.
 أهْلاً ومَرْحَبًا بِفَضيلة الأستاذ محمَّد راتب النابلسي ؛ الأستاذ المُحاضِر في كليَّة التَّرْبِيَة جامِعَة دمشق، والمُدَرِّس الدِّيني في مساجِد دِمَشْق، وشُكْرًا جزيلاً على هذا الحديث في صُوَر مِن حياة الصَّحابة عن عِكْرِمَة بن أبي جَهْل.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاتُه

تحميل النص

إخفاء الصور