وضع داكن
20-04-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 07 - الصحابي حذيفة بن اليمان .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الإخوة والأَخوات، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبَرَكاته، وأهْلاً ومَرْحَبًا بِكم في بِداية هذه الحلْقة الجديدة مِن برنامَج صُوَر مِن حياة الصَّحابة.
 يُسْعِدُنا أن نستضيف في هذه الليلة المُبارَكَة، فضيلة الشَّيْخ محمَّد راتب النابلسي ؛ الأستاذ المُحاضِر في كُلِيَّة التَّرْبِيَة في جامِعَة دِمَشْق وأحد خُطباء مساجِد دِمَشْق.
فضيلةُ الشِّيْخ، أوْقاتُكم طَيِّبَة
الشَّيْخ: أهْلاً وسَهْلاً ومَرْحَبًا.
 السائِل: الصَّحابيُّ الجليل حُذَيْفة ابن اليَمان ؛ هذا الصَّحابِيُّ الجليل لهُ صُوَرٌ مُشْرِقَة في تارِخِنا الإسلامي المُشْرِق، حَبَّذا لو نُلْقي الضَّوء بِدايَةً على هذه الشَّخْصِيَة الفذَّة.
 الشَّيْخ: نشأ حُذَيْفة ابن اليَمان في بيْتٍ مُسْلِم، ورُبِّيَ في كَنَف أَبَوَيْن مِن السابِقين للدُّخول في الإسلام، فأسْلَمَ قبل أن تكْتَحِلَ عَيْناه بِمَرأى سَيِّدِ الأنام عليه الصلاة والسلام.
 وكان شَوْقُ حُذَيْفة إلى لِقاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يمْلأُ جوانِحَهُ فَهُوَ مازال منذ أسْلَمَ يتسَقَّطُ أخْبارَهُ، ويُلِحُّ في السُّؤال عن أوْصافِه فلا يزيدُهُ ذلك إلا ولَعًا، وحنينًا إليه.
 فَرَحَلَ إلى مكَّة لِيَلْقاه، فما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلَّم حتَّى سألَهُ يا رسول الله: أَمُهاجِرٌ أنا أم أنْصاري ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئْتَ كُنْتَ مِن المُهاجِرين وإنْ شئْتَ كُنْتَ مِن الأنْصار فاخْتَرْ لِنَفْسِكَ ما تُحِبّ، قال: بل أنا أنْصارِيٌّ يا رسول الله.
 ولمَّا هاجَرَ النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى المدينة، لازَمَهُ حُذَيْفَةُ مُلازَمَةَ العَيْن لأُخْتِها، وشَهِد معه المواقِع كلَّها إلا بدْرًا، أما تَخَلُّف هذا الصَّحابيّ الجليل عن موْقِعَة بدْر فلها قِصَّة يَرْويها حُذَيْفَة بِنَفْسِه.
 قال: ما مَنَعَني أن أشْهَدَ بدْرًا إلا أنِّي كُنْتُ خارِجَ المدينة أنا وأبي أخَذَنا كُفَّار قُرَيْش وقالوا: أين تَقْصِدون ؟ فقلْنا المدينة ! فقالوا: إنَّكم تُريدون مُحَمَّدًا ! قلنا: ما نُريدُ إلا المدينة، فأَبَوا أن يُطْلِقونا إلا بعْد أن أخَذُوا العَهْد علينا أن لا ننْصُر مُحَمَّدًا عليهم، وأن لا نُقاتِلَ معه، ثمَّ أطْلَقوا صراحَنا، ولمَّا قَدِمْنا على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أَخْبَرْناهُ بِما قَطَعْناهُ مِن عَهْدٍ لِقُرَيْش وسألْناهُ ماذا نَصْنَع ؟ فقال: نَفي بِعَهْدِهم ونسْتَعينُ عليهم الله ‍!
السائِل: ما هذا الوَفاء الرائِع الذي نَشْهَدُه في هذا الحديث ؟
الشيْخ: أخي جمال، يقول عليه الصلاة والسلام: ألا لا إيمان لِمَن لا أمانةَ له، ولا دِينَ لِمَن لا عَهْدَ له.
 سَبَرَ النبي صلى الله عليه وسلَّم غَوْرَ حُذَيْفَة بن اليَمان فَتَجَلَّتْ فيه خِلالٌ ثلاث: ذكاءٌ فَذّ يُسْعِدُهُ في حلِّ المُعْضِلات، وبديهَةٌ مُطاوِعَةٌ تُلَبِّيهِ كلَّما دعاها، وكِتْمانٌ للسِرّ فلا ينْفذُ إلى غَوْرِه أحَد، وكانت مِن سِياسة النبي عليه الصلاة والسلام أنَّهُ يحْرَصُ على اكْتِشاف مزَايا أصْحابِه، والإفادَة مِن طاقاتِهم الكامِنَة في ذواتِهم، وذلك في وَضْع الرَّجل المناسب في المكان المناسب، وهو يُعَدُّ اليوم مِن أرْقى أنواع الإدارَة في المُجْتَمَع الحديث.
وكانت أكبر مُشْكِلَةٍ تُواجِه المسلمين في المدينة هي وُجودُ المنافقين وما يحيكُونَهُ للنبي صلى الله عليه وسلَّم وأصْحابِهِ مِن مكائِد، ودسائِس فأفْضى النبي صلوات الله عليه لِحُذَيْفَة بن اليَمان بِأسْماء المنافقين وهو سِرٌّ لم يُطْلِع عليه أحَدًا مِن أصْحابِه، فَعَهِدَ إليه بِرَصْد حركاتِهم وتتَبُّعِ نشاطِهم ودَرْء خطرِهم على الإسلام والمُسلمين، ومنذ ذلك اليوم دُعِيّ حُذَيْفة بن اليَمان بِصاحب سِرّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وقد اسْتعان النبي صلى الله عليه وسلَّم بِمَواهِب حُذَيْفَة في مَوْقِفٍ مِن أشَدِّ المواقف خطَرًا، وأحْوَجِها إلى الذَّكاء الفذّ، والبديهَة المُطاوِعة وذلك في ذرْوَة غَزْوَة الخَنْدق، حيث كان المسلِمين قد أحاط بِهم العدوّ مِن فوْقِهم ومن تحتهم، وطال عليهم الحِصار، واشْتَدَّ عليهم البلاء، وبلَغَ منهم الجُهْد والضَّنْك كلَّ مَبْلَغ، حتَّى زاغَت الأبصار وبلَغَت القلوب الحناجِر وأخَذَ بعض المسلمين يظنُّون بالله الظُّنون، حتَّى أنَّ أحَدَهم قال: أَيَعِدُنا صاحِبُكم - ولم يَقُل رسول الله - أن تُفْتَحَ علينا بلاد قَيْصر وكِسرى وأحدنا لا يأْمَنُ أن يَقْضِيَ حاجَتَهُ، لكنّ الله عز وجل قال:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾

[سورة الأحزاب ]

السائل: الأستاذ راتب بعد هذا الضِّيق الشديد الذي حَصل، ما الذي حصَل بعد ذلك ؟
 الشَّيخ: الحقيقة، أنَّ الذي حَصَل الأخ جمال يُشْبِهُ المُعْجِزَة، فلَم تَكُن قُرَيْش وأحْلافُها مِن المشْركين في هذه الساعات الحاسِمات بِأَحْسَن حالاً مِن المسلمين، فقد صَبَّ الله عليها مِن غَضَبِهِ ما أوْهَنَ قُواها، وزَلْزَل عزائِمَها، فأرْسَلَ عليها ريحًا صرْصراً تقلبُ خِيامَها، وتَكْفؤُ قُدورها، وتُطفؤ نيرانَها، وتَقْذِفُ وُجوهَها بالحَصْباء، وتَسُدّ عُيونها وخياشيمَها بالتُّراب، وفي هذه المواقف الحاسِمَة في تاريخ الحُروب يكون الفريق الخاسِر هو الذي يَئِنُّ أوَّلاً، ويكون الفريق الرابِح هو الذي يضْبِطُ نفْسَهُ طَرْفَةَ عيْن بعد صاحِبِه.
السائل: يبْدو لي الفرق ؛ الأستاذ راتب الفرق بين الصَّبْر والمُصابَرَة
 الشَّيْخ: نعم، وفي هذه اللَّحَظات التي تُكْتَبُ فيها مصائِرُ المعارِك يكون لاسْتِخْبارات الجُيوش الفضْل الأوَّل في تَقْدير المَوْقف، وإسْداء المَشورَة وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يُديرُ أُمَّتَهُ في أعْلى دَرَجات القِيادَة الحكيمة ففي هذه اللَّحظات احْتاج النبي صلى الله عليه وسلَّم لِطاقات حُذَيْفة ابن اليَمان وخِبْراتِه، وعَزَمَ أن يبْعَث به إلى قَلْب جَيْش العَدُوّ تحت جُنْح الظَّلام، ليأتيه بِأخبارِه قبل أن يُبْرِمَ أمْرًا، فَلْنَتْرُكَ لِحُذَيْفَة ابن اليَمان لِيُحَدِّثَنا عن رِحْلَةِ الموت هذه.
 قال حُذَيْفَة رضي الله عنه: كُنَّا في تِلْكَ اللَّيْلَة صافِّينَ قُعودًا وأبو سُفيان، ومعه مِن مشركي مكَّة فوْقَنا، وبنو قرَيْضَة من اليهود أسفل منَّا ؛ نخافهم على نِسائِنا، ودرارينا، وما أتَتْ علينا ليلة قطّ أشَدُّ ظلْمَةً ولا أقْوى ريحًا منها، فأصْوات ريحِها مثل الصَّواعِق، وشِدَّةُ ظلامها تَجْعَلُ أحَدَنا لا يرى أُصْبعَهُ، فأخَذَ المنافقون يسْتأذِنون النبي عليه الصَّلاة والسَّلام ويقولون: إنَّ بُيوتنا مَكْشوفَة للعَدُوّ، وما هي بِمَكْشوفَة، فما يسْتأذِنُه أحَدٌ منهم إلا وأذِنَ له، وهم يتسَلَّلون لِواذًا ناجينَ بِأنْفُسِهِم حتَّى بقينا في ثلاثمئة أو نحو ذلك من أصْحابِهِ، لِنُواجِهَ العرب كلّهم وقد جاؤوا ليْسْتأصِلوا شأْفَة المسلمين.
 عند ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلَّم، وجعل يمُرُّ بنا واحِدًا واحِدًا حتَّى أتى إليّ، وما عليَّ شيءٌ يقيني مِن البَرْد إلا مِرْطٌ لامْرأتي ما يُجاوِزُ رُكْبَتَي، فاقْتَرَبَ مِنِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنا جافٍ على الأرض قال مَن هذا ؟ فقُلْتُ حُذَيْفَة يا رسول الله، فتَقاصَرْتُ إلى الأرض كراهِيَةَ أنْ أقوم مِن شِدَّة الجوع والبَرْد، فقال: إنَّهُ كائِنٌ في القَوم خَبَرٌ فتَسَلَّل إلى عَسْكَرِهم واءتِني بِخَبَرِهم ‍! - لَعَلَّها رِحْلَةُ المَوت - فَخَرَجْتُ وأنا مِن أشَدِّ الناس فزعًا وأكْثرهم برْدًا، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: اللَّهمّ احْفَظْهُ مِن بين يَدَيْه، ومِن خَلْفِه، وعن يمينِه، وعن شِمالِه، ومن فوْقِه ومِن تحتِه ودُعاء النبي عليه الصلاة والسلام لا يُرَدّ، فوالله ما تَمَّتْ دَعْوةُ النبي عليه الصَّلاة والسَّلام حتَّى انْتَزَع الله مِن جَوْفي كلّ ما أوْدَعَهُ مِن خوْفٍ وأزال عن جَسَدي كلّ ما أصابَهُ من برْدٍ، فلَمَّا ولَّيْتُ، ناداني عليه الصَّلاة والسَّلام، وقال: يا حُذَيْفة، لا تُحْدِثَنَّ في القَوْم شيئًا حتَّى تأْتِيَني ومَضَيْتُ أَتَسَلَّلُ في جُنْحِ الظَّلام، حتَّى دَخَلْتُ في جُنْدِ المُشْرِكين وصِرْتُ وكأنِّي واحِدٌ منهم، وما هو إلا قليلٌ حتَّى قام فيهم أبو سُفْيان خطيبًا وقال: يا مَعْشَرَ قُرَيْش، إنَّي قائِلٌ لكم قوْلاً أخْى أن يبْلُغَ مُحَمَّدًا ! فلْيَنْظُر كلّ واحِدٍ منكم مَن جليسُهُ !! فما كان مِنِّي إلا أن أخَذْتُ بِيَدي الرَّجل الذي كان إلى جَنْبي، وقُلْتُ له: مَن أنت ؟! قال: أنا فلان ابن فلان، وحينها قال أبو سُفيان: يا مَعْشَر قُرَيْش، إنَّكم والله، ما أصْبَحْتُم بِدارِ قَرار لقد هوَت رواحلنا، وتَخَلَّتْ علينا بنو قُرَيْضَة، ولقينا مِن شِدَّة الرِّيحِ ما تَرَوْن فارتَحِلوا فإنِّي مُرْتَحل، ثمّ قام إلى جَمَلِه فَفَكَّ عِقالَهُ، وجَلَسَ عليه ثمَّ ضرَبَهُ فوَثَب قائِمًا، ولولا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أمَرَني أن لا أُحْدِثَ فيهِم شيْئًا لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ ! عند ذلك رَجَعْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم، فَوَجَدْتُهُ قائِمًا يُصَلِّي، فلمَّا رآني ادْناني إلى رِجْلَيْه وطرَحَ عليَّ طرَفًا من المِرْط فأخْبَرْتُهُ الخَبَر فَسُرَّ به سُرورًا شديدًا، وحَمِدَ الله وأثْنى عليه.
السائِل: هنا كان الفَرَج من الله عز وجل.
 الشَّيخ: وبعْدها كفى الله المؤمنين القِتال، والحقيقة ظَلَّ حُذَيْفة بن اليمان مُؤْتَمَنًا على أسْرار المنافقين ما امْتَدَّتْ به الحياة، وظلَّ الخُلفاء الراشِدون يرْجِعون إليه في أمْرِهم حتَّى إنَّ عمر ابن الخَطَّاب رضي الله عنه كان إذا مات أحَدُ المسلمين يسْألهُ أحَضَر حُذَيْفَةُ الصَّلاة عليه، فإن قالوا: نعم صَلَّى عليه، وإن قالوا: لا، شَكَّ فيه، وأمْسَك على الصَّلاة عليه، وسألَهُ مرَّةً يا حُذَيْفَة: أفي عُمَّالي أحَدٌ مِن المنافقين ؟ فقال: واحِد فقال: دُلَّني عليه ؟ فقال: لا أفْعَل، قال حُذَيْفَةُ لكِنَّ عُمَر رضي الله عنه ما لَبِثَ أن عَزَلَهُ كأنَّما هُدِيَ إليه، ولَعَلَّ قليلاً مِن الناس مَن يعْلَمُ أنّ حُذَيْفَة للمسلمين ناهَوَنْد وهَمَذان، كان سببًا في جَمْع المسلمين على مصْحفٍ واحِد بعد أن كادوا يفْترقون في كتاب الله، وعلى الرَّغْم من ذلك كان حُذَيْفة بن اليَمان شديد الخوْف على نفْسِه من الله، وعظيم الخَشْيَة من عِقابِه، فَهُوَ حينما ثَقُل عليه مرضُ الموت جاءَهُ بعض أصْحابِه فقال: أيُّ ساعَةٍ هذه ؟ قالوا: نحن قريبٌ مِن الصُّبْح، فقال: أعوذ باله مِن صباحٍ يُفْضي بي إلى النار ! أعوذ باله مِن صباحٍ يُفْضي بي إلى النار ! ثمَّ قال: أجِئْتُم بِكَفَنٍ ؟ قالوا: نعم، فقال: لا تُغالوا بالأكْفان، فإن يكن لي عند الله خير بُدِّلْتُ به خيْرًا، وإن كانت الأُخرى سُلِبَتْ مِنِّي، ثمَّ جَعَل يقول: اللَّهُمَّ إنَّك تعْلَمُ أنَّني كنتُ أُحِبّ الفقْر على الغِنى، والذِّلَّة على العِزّ وأحبّ الموت على الحياة، ثمَّ قال وروحُهُ تفيض، حينما جاءَهُ ملَكُ الموت:
حبيبٌ جاء على شَوْق لا أفْلَح من نَدِم.
السائل: لا يَسَعُنا إلا أنْ نقول: رحْمة الله عز وجل على هذا الصَّحابي الجليل حُذَيْفة بن اليَمان.
 والشُّكْر الجزيل لِفَضيلة الشيخ محمّد راتب النابلسي ؛ الأستاذ المُحاضِر في كُلِيَّة التَّرْبِيَة في جامِعَة دِمَشْق وأحد خُطباء مساجِد دِمَشْق.

تحميل النص

إخفاء الصور