وضع داكن
29-03-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 25 - الصحابية أم سليم رضي الله عنها .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الأخوة والأخوات بالخير طابت أوقاتكم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسعد الله أوقاتكم جميعاً بكل خير عندما نلتقي في برنامج من صور من حياة الصحابة نطل إطلالة واسعة على شخصيات رباها رسول الله عليه الصلاة والسلام على العلم والإيمان.
أعزاءنا يسعدنا أن نستضيف فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق والمدرس الديني في مساجد دمشق وخطيب جامع النابلسي فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أستاذ جمال .
فضيلة الشيخ

نحن اليوم في رحاب شخصية مؤمنة الصحابية الجليلة حبذا بداية أن نستهل حديثنا بكلمات عن هذه الشخصية الفذة .
 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، الأنظار بدأت تتجه إلى أم سليم رضي الله عنها فجمالها الآسر وذكائها النادر جعلاها مهوى أفئدة الكثير من الشباب، ومن أجل ذلك سارع ابن عمها مالك بن النضر فخطبها من أبيها وتم الزفاف السعيد بينهما على أهنأ بال وأرغد عيش لا يعكر صفوه شيء، وابتسمت لهم الدنيا ووضعت أم سليم مولودها الجميل وراحت القلوب تهتف ماذا نسميه ثم أجمعوا على أن يكون أنس على اسم عمه أنس بن النضر، حتى كان أنس يعطي قدميه للريح ويشتد مع الغلمان ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمع الناس يتحدثون عنه ولا ينسى ذلك اليوم المشرق الذي ارتجت المدينة فيه باستقباله راح أنس يحدث أمه عن كل ما رآه ويبثها سعادته في هذا الوفد الجديد، وبخاصة أنه نزل في حيهم بني النجار، وقال لأمه:شهدته يا أماه فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من اليوم الذي دخل به المدينة، وكان قلب أم سليم يخفق بعنف شوقاً لمحمد بن عبد الله وتتمنى لو تمضي فتعلن إسلامها بين يديه لكنها انتظرت أن يأتي المساء فتفاتح زوجها وتبثه هذه الأشواق ويمضيان معاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمان بين يديه وكانت قد خرجت إلى جاراتها أثناء النهار فلم يكن لهن حديث إلا رسول الله ويقبل البيعة منهن بأن يقولن له أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وما كان يأتي المساء حتى سارعت إلى زوجها تبثه مشاعرها وتحدثه عن ما سمعت من نساء الحي عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن زوجها عندما سمع حديثها انقبضت أساريره وغدا متجهم الوجه، ولاحظت أم سليم أنه لا يحب أن يسمع هذا الحديث فتشاغل عنه وراح يسألها عن طفلها الحبيب أنس، كظمت أم سليم مشاعرها في اليوم الأول وآذاها هذا الإعراض من زوجها مالك، وما أن خرج صباح اليوم التالي من البيت إلا وانتابها قلق عظيم من جراء عواطف زوجها اتجاه هذا الحدث الكبير لقد جرح عواطفها وكبرياءها من عدم مبالاته التي قابل بها هذا الحديث وراحت في هواجسها شاردة أتعلن إسلامها مهما كانت العواقب وخيمة، ولكن هذا سوف يحول البيت إلى بركان ثائر أتحافظ على سعادة بيتها وتدع هذا الإسلام وتكتفي من دنياها برضى زوجها عنها، ولكن كيف يكون ذلك وهذه الأصنام التي تعبد كانت تمقتها وتكرهها .
فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي

 لنا سؤال هنا من هذه النقطة التي تحدثت عنها وهي الحكمة، وضع الأشياء في مواضعها وهنا التصرف من أم سليم .
قال تعالى :

﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)﴾

[ سورة القصص ]

 وفي آية ثانية قال تعالى :

 

﴿أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)﴾

 

[ سورة النساء ]

 لكن الله يقول :

 

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 وازن بين كلمة متاع الدنيا قليل، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا هي الآن في صراع وفي المناسبة أستاذ جمال المرأة مسؤولة عن نفسها وعن إيمانها اتجاه الله ولا يحميها من هذه المسؤولية رضا زوجها عنها، امرأة فرعون قالت، قال تعالى :

 

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)﴾

 

[ سورة التحريم ]

 هذا درس بليغ لكل امرأة، المرأة مستقلة في إيمانها وفي مسؤوليتها وفي تكليفها عن زوجها ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق لكن بالمقابل إذا صلت المرأة خمسها و صامت شهرها و حفظت نفسها و أطاعت زوجها في ما أمر الله دخلت جنة ربها فطاعة زوجها بالمعروف ربع دينها .
إذاً نعود إلى الصحابية الجليلة أم سليم ؟
 ماذا تفعل أتحافظ على سعادة بيتها وتدع هذا الإسلام وتكتفي من دنياها برضا زوجها عنها، ولكن كيف يكون ذلك وهذه الأصنام التي تعبد كانت تمقتها وتكرهها، هل تستطيع أن تسجد لها ثانية ؟ أبداً إن قلبها لينفر سأماً و بغضاً لها و رب السماوات و الأرض يبعث رسولاً تشهد بصدقه كيف لا تهتم فيه ؟ كيف لا تستجيب له ؟ فصممت أن تسلم و صممت أيضاً دفع ابنها أنساً إلى الإسلام فلعل زوجها يلين قلبه و يدخل في الدين الجديد و طردت الوساوس التي كانت تطاردها بين الفينة و الفينة، مالك و مال هذه المتاعب دعي عنك الإسلام فتسعدين بزوجك و رأت أن تستجيب لداعي الله مهما كان داعي الهوى جامحاً قوياً قال تعالى :

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

 

[ سورة الأنفال ]

الحياة الحقيقية الحياة التي تليق بالإنسان، الحياة التي تسعد الإنسان هي حياة القلب و حياة القلب بأن يعرف الإنسان ربه و أن يصطلح معه و أن يتبع منهجه و أن يسعد بقربه .
 جاء المساء و بدأت أم سليم بحديثها عن الإسلام و نظرت في وجه زوجها إنه يعود إلى انقباضه و ألقت كلمتها الحاسمة فكانت كالقنبلة المتفجرة قالت:أشهد أنه لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله و غضب مالك منها فلم تكتفِ بذلك ها هي ذي تشير بعينيها لولدها الحبيب أنس و تتحرك شفتا الطفل الوديع أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله و تحركت لدى مالك كل المشاعر مشاعر الاعتزاز بالإثم فوقف غاضباً ثائر الرأس و أعلمها أنه سوف يخرج من البيت هائماً على وجهه و لن يعود حتى تعود عن دينها الجديد و كررت بعزيمة أقوى من الصخر مرة ثانية أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله و كرر أنس الوديع ما قالته أمه و كانت ساعة الفراق الأخيرة لقد مضى مالك بلا عودة و بقيت أم سليم صابرة محتسبة و نظرت إلى ابنها أنس و ضمته إلى صدرها و قبلته قبلة أودعته فيها كل ما تملك من حنان، لقد مضى زوجها و لن يعود أما هي فإما الإسلام و إما الزوج و الهناء و الرغد و آثرت ربها على زوجها ووضعت يدها على جرحها الغائر من جراء تفتت أسرتها و اتجهت إلى رب السماوات و الأرض أن يرعاها و أن يرعى ابنها الحبيب من غوائل اليتم و التشريد، أستاذ جمال ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه خيراً منه في دينه و دنياه .
و قال تعالى عز وجل :

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾

[ سورة الحشر ]

 و من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، و من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً .
و الله فضيلة الشيخ

 

 هنا موقف عظيم من الصحابية الجليلة أم سليم بنت ملحام فعلاً موقف بطولي .
 لقد تناقل الناس هذا الخبر إن مالكاً بن النضر قد قتل من قبل أحد أعدائه و أحست بدمعة كبيرة تنحدر على وجنتيها و لا تزال في عنفوان شبابها فأصبحت أرملة لكنها احتسبت كل ذلك في سبيل الله و آثرت رضا الله عز وجل على كل شيء و ها هي الفتاة الشابة الحصون التي لم تذق بعد لذة الحياة و طعمها الجميل، نظرت في ابنها أنس و راحت قلقة كيف تجعل منه رجلاً جلداً على مشقات الحياة و هو ابن العاشرة من عمره و خطر على بالها خاطر سرعان ما طارت فرحاً به و نسيت بهذا الخاطر كل متاعب دنياها إنها تريد أن توثق الصلة برسول الله صلى الله عليه و سلم، فلما لا يكون أنس خادماً لرسول الله، و لما لا يعيش في بيته فيتلقى من منبع النور و العلم والحكمة و الهداية و هو في هذه السن، ويردها بكل ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتمالك إزاء هذا الخاطر أن قامت ومضت ميممةً شطر رسول الله عليه صلوات الله وأخذت بيد ابنها أنس إليه، وتقدمت من الحبيب العظيم صلوات الله عليه على استحياء وعرضت عليه أن يكون أنس خادماً عنده فرحب بها وأقر عينها بذلك وعادت وهي لا تتمالك نفسها من شدة فرحها بذلك، ومضى الناس يتحدثون عن أنس بن مالك وأمه كان أبو طلحة من كبار أثرياء يثرب هو الذي يحلم بالزواج من أم سليم، ولم تكن أم سليم نكرة من النكرات، هو الذي يحلم بالزواج من أم سليم، فتقدم إليها وأفصح عن ما في نفسه لقد كان بستان أبي طلحة أكبر بساتين المدينة وفيه تسعة مائة نخلة ولم يكن يخطر في ذهنه لحظةً من اللحظات أن ترده فتاة يطلب يدها مهما كانت إلا أن المفاجأة أذهلته وأي مهر أغلى من المهر الذي يقدمه أبو طلحة، يمكن أن يقدمه أي شاب من شباب يثرب، قالت له وقد أبعدت حديث الزواج في لطف وأناة:يا أبا طلحة أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبةً تأتي بها فينجزها لك النجار هل يضرك أو ينفعك، أطرق أبو طلحة إلى الأرض وراح يعبث بيديه، إنه يسمع الكلام أول مرة وأحس بضيق شديد من هذا الحديث، فعاد يلوح لها بالمهر الغالي والعيشة الرغيدة، فصارحته أنها قد دخلت الإسلام وأنها تأبى الزواج بمشرك وكانت صدمةً عنيفةً وقعت على رأسه كالصاعقة، فقام غاضباً وراح إلى بيته مسترخياً على فراشه ماله وأم سليم وهل خلت المدينة من النساء فصورة أم سليم ماثلة بين عينيه وعاد في اليوم الثاني يمني بالمهر الأكثر على أمل أن تلين أم سليم وتقلع عن عنادها الغريب .
 وراحت أم سليم الذكية اللبيبة وهي ترى الدنيا تتراقص أمام عينيها المال، والجاه، والقوة، والفتوة، وما تطلب أم سليم لكن قلعة الإسلام في قلبها أكبر من نعيم الدنيا كله، فعادت تقول:يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبده إنما هو شجرة تنبت من الأرض وإنما نجرها لك حبشي بني فلان وتمنت من خالص قلبها لو يؤمن أبو طلحة فترضاه زوجاً وكفئاً وعادت تقول له:أما تعلم يا أبا طلحة أن ألهتكم التي تعبدونها ينحتها عبد آل فلان النجار وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت، وراح يسأل نفسه هل يحترق الرب ؟ وأحس بانفعال ملء عليه كل كيانه وأحس بقشعريرة اهتز لها كل ذرة من جسده ووقف له شعر رأسه، وأحس بلسانه ينساب كأنه السحر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
أهلاً وسهلاً بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق والمدرس الديني في مساجد دمشق وخطيب جامع النابلسي فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أستاذ جمال .

تحميل النص

إخفاء الصور