وضع داكن
28-03-2024
Logo
الإسلام والحياة - الدرس : 01 - أركان النجاة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  بسم الله الرحمن الرحيم ، أعزائي الكرام ، السلام عليكم ورحمة الله و بركاته .

الإيمان مرتبة علميّة و أخلاقيّة :

 الإنسان أيها الأخوة هو المخلوق المكلف ، لقوله تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

 هذه اللام لام التعليل ، أي أن علة وجود من على سطح الأرض أن يعبد الله ، ولكن ما تعريف العبادة ؟ إنها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، إنها غاية الخضوع ، وغاية الحب ، فمن أحبّ الله ولم يطعه لا تعد هذه عبادة ، ومن أطاع الله ولم يحبه لا تعد هذه عبادة ، فالعبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
 أيها الأخوة الأحباب ؛ العبادة علة وجودنا على سطح الأرض ، من خلال هذا التعريف يتضح أن في العبادة جانباً معرفياً ، فالمعرفة هي الحاجة العليا في الإنسان ، والإنسان لا يؤكد إنسانيته إلا إذا طلب الحقيقة ، وطلب الحقيقة يجعله إنساناً ، والمؤمن شخصية فذة ، ذلك أن في الإيمان مرتبة علمية ، المؤمن عرف الحقيقة الكبرى في الكون ، وانسجم معها ، فلابد للمؤمن من أن يكون على علم ، وهذا هو العلم الذي أراده الله عز وجل .
 أيها الأخوة الأحباب ؛ الإيمان مرتبة علمية ، ومرتبة أخلاقية ، ذلك أن المؤمن يخضع لمنظومة قيم عالية جداً ، لا تجد مؤمناً يخالف القيم الأخلاقية إلا أن يكون ضعيفاً في إيمانه ، والمؤمن يمكن أن يكون في مرتبة جمالية ، لأنه عرف أصل الجمال .
 أيها الأخوة الأحباب ؛ إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، بل يظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل ، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا ، فيربحهما معاً ، والذي لم يطلب العلم يؤثر الدنيا على الآخرة ، فيخسرهما معاً .

أنواع العلم :

 ولكن أيها الأخوة ، أي علم هذا المنجي ؟ هناك علم بخلق الله ، فكل الظواهر الفلكية والفيزيائية والكيميائية والطبية ، وكل حقائق التاريخ و الجغرافيا ، وما إلى ذلك هذا علم بخلقه ، وجامعات العالم كلها متخصصة في تعليم الطلاب القوانين التي تنتظم خلق الله عز وجل ، هناك علم بأمره ، افعل ولا تفعل ، وهذا منوط بكلية الشريعة في العالم الإسلامي ، هناك علم بخلقه ، وهناك علم بأمره ، وهناك علم به .
 أيها الأخوة الأحباب ؛ العلم بخلقه وبأمره يحتاج إلى مدارسة ، أي لابد من معلم ، لابد من كتاب ، لابد من قراءة ، لابد من حفظ ، لابد من أداء امتحان ، لابد من نيل شهادة ، لابد من أن تعمل بهذه الشهادة ، هذه كلها ما تعنيه كلمة مدارسة ، لكن العلم بالله شيء آخر ، ثمنه باهظ ، ونتائجه باهرة ، العلم بالله يقتضي المجاهدة ، جاهد تشاهد :

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة العنكبوت : الآية 69]

 أنت حينما تعرف الله عز وجل تحبه ، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تعرفه ، ثم لا تحبه :

تعصي الإله و أنت تظهر حبه  ذاك لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعتــــــــــه  إن المحـب لمن يحب مطيـــع
***

 إذاً مستحيل أن تعرفه ، ثم لا تحبه ، ثم مستحيل أن تحبه ، ولا تطيعه ، الأصل أن تعرف الله ، بل إن أزمة أهل النار ، وهم في النار هي العلم :

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾

[ سورة الملك : 10]

 فالإنسان مفطور على حبّ وجوده ، وعلى حبّ سلامة وجوده ، وعلى حبّ كمال وجوده ، وعلى حبّ استمرار وجوده ، ويشقى الإنسان حينما يخطئ وسائل السعادة , وحينما يخطئ الهدف .

في العبادة جانب معرفي وسلوكي وجمالي :

 أيها الأخوة الأحباب ؛ العلم هو الذي يشرف الإنسان ، العلم هو الذي يؤكد في الإنسان إنسانيته ، وفي العبادة جانب معرفي ، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ، أو على كل مسلم ومسلمة ، أو على كل شخص مسلم ، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، ولو اتخذه لعلمه .
 وفي العبادة جانب معرفي ، وحينما تعبد الله عز وجل على علم تسلم من الشيطان ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ))

[ الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 هذا الجانب المعرفي هو الأصل ، لأنه ما من حركة يمكن أن تتحسسها إلا من خلال العلم ، لذلك كن عالماً ، أو متعلماً ، أو مستمعاً ، أو محباً ، ولا تكن الخامسة فتهلك .
 في العبادة أيها الأخوة جانب سلوكي ، والجانب السلوكي هو الأصل ، أي الإسلام من دون التزام ، من دون انضباط ، من دون تقيد بمنهجه ، من دون اتباع لسنة نبيه الإسلام يصبح ظاهرة فردية ، صوت عال ، وليس هناك شيء يمكن أن نقطف ثماره ، وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها المسلمون في العالم الإسلامي ، ذاكرة صوتية ، يمكن أن تكون المظاهر صارخة ، لكن حقيقة الإسلام هو الانصياع لأمر الله عز وجل ، وقطف ثماره ، فلابد من السلوك الصحيح، إن العلم الحقيقي يفضي إلى السلوك الصحيح .
 هناك مبدأ في علم الاجتماع ، هذا المبدأ يضبط تعامل الإنسان مع البيئة ، إدراك ، تأثر ، وسلوك ، لو أن الإنسان رأى حشرة قاتلة ، فإدراكه أنها حشرة قاتلة يجعله يضطرب ، وينفعل ، وانفعاله الصحيح يجعله يسلك سلوكاً صحيحاً ، فنحن حينما يصح إدراكنا يصح انفعالنا، وانفعالنا يقودنا إلى السلوك ، ففي العبادة جانب معرفي ، وجانب سلوكي ، وجانب جمالي ، الإنسان عرف أصل الجمال :

و لو شاهدت عيناك من حسننـــا  الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنـــــــا
و لو سمعت أذناك حسن خطابنا  خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
و لو ذقت من طعم المحبــــة ذرة  عذرت الذي أضحـــــى قتيلا بحبـنا
و لو نسمت من قربنا لك نسمـة  لمــت غريباً و اشتياقاً لقربـنـــــــــا
فما حبنا سهل وكل من ادعـــــى  سهولتــه قلنا له قد جفوتنـــــــــــــا
***

 إذاً كلمة مؤمن تعني أن صاحب هذا اللقب على علم ، وعلى خلق ، وعلى انغماس في جمال لو وزع على أهل بلد لكفاهم ، لذلك قال بعض العلماء : في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة ، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة :

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[ سورة الرحمن : 46]

أنواع العبادة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك في العبادة نوعان كبيران : عبادة تعاملية ، وعبادة شعائرية ، فالعبادة التعاملية هي المنهج التفصيلي الذي أمرنا أن نتبعه ، لقد أمرنا بالصدق ، وأمرنا بإنجاز الوعد ، والوفاء بالعهد ، أمرنا بالأمانة ، أمرنا بالعفة ، هكذا قال سيدنا جعفر حينما سأله النجاشي عن الإسلام قال :

(( أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الرحم ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف صدقه ، وأمانته ، وعفته ، ونسبه))

[أحمد عن أم سلمة]

 هذه أركان الأخلاق ، إن حدثك المؤمن فهو صادق ، وإن عاملك فهو أمين ، وإن استثيرت شهوته فهو عفيف .
 أيها الأخوة الأحباب ؛ قال : " أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الرحم ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف صدقه ، وأمانته ، وعفته ، ونسبه ، فدعانا إلى الله لنعبده ، ونوحده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة، وصلة الرحم ، والكف عن المحارم والدماء ، وحسن الجوار " .
هذا هو الإسلام ، منظومة أخلاقية ، مجموعة قيم أخلاقية ، من زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان ، وثمة أحاديث صحيحة كثيرة تؤكد أن الإيمان هو الصدق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه العبادة التعاملية ، لكن العبادة الشعائرية أن نقف ، ونصلي، وأن نصوم رمضان ، وأن نحج البيت ، وأن نؤدي الزكاة ، ما العلاقة بين العبادة التعاملية والشعائرية ؟ لو أننا مثلنا العبادة التعاملية بالعام الدراسي ، يوجد دوام ، يوجد إصغاء إلى المحاضرات ، يوجد كتابة وظائف ، يوجد أداء مذاكرات ، أداء امتحانات ، نشاط الطالب في العام الدراسي هو العبادة التعاملية ، أما العبادة الشعائرية فهي هذه الساعات الثلاث التي يؤدَّى فيها الامتحان ما لم يداوم ، ما لم يدرس ، ما لم يذاكر ، ما لم يحفظ ، ما لم ينضبط ، لا معنى لهذه الساعات الثلاث ، ذلك أن العبادة الشعائرية لا تصح عند الله إلا إذا صحت العبادة التعاملية .

أدلة عن العلاقة بين العبادة التعاملية و الشعائرية :

 إليكم الأدلة ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 أرأيتم إلى علاقة العبادة التعاملية بالعبادة الشعائرية ؟
 شيء آخر في الحديث الصحيح ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ :

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا ، وَصِيَامِهَا ، وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ))

[أحمد عن أبي هريرة]

 وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ ، قَالَ : فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا ، وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِهَا ، وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا ، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ))

[متفق عليه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ]

 عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ؟ جَلِّهِمْ لَنَا ، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))

[ ابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ ]

 هؤلاء يجعل الله أعمالهم هباء منثوراً ، وإن الذي يحج بيت الله الحرام بمال حرام يضع رجله في الركاب ، ويقول : لبيك اللهم لبيك ، يناديه مناد : أن لا لبيك ، ولا سعديك ، وحجك مردود عليك ، وإذا أنفق الإنسان مالاً من حرام :

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾

[ سورة التوبة : 53]

 بل إنك إذا قلت : لا إله إلا الله ، يقول عليه الصلاة والسلام : " من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة قيل : و ما حقها يا رسول الله ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ".
 أرأيت إلى العبادة التعاملية والشعائرية ؟ لا تصح العبادة الشعائرية عند الله ، عليك أن تؤديها ، شئت أم أبيت ، ولكن لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية .

المفهوم الشمولي للعبادة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ شيء آخر في العبادة ، العبادة ذات مفهوم شمولي ، هناك عبادة هوية ، أي من أنت ؟ أنت غني ؟ عبادتك الأولى إنفاق المال ، أنت قوي ؟ عبادتك الأولى أن تنصف المظلوم ، وأن تحق الحق ، أنت عالم ؟ عبادتك الأولى أن تعلم العلم ، أنتِ امرأة ؟ عبادتك الأولى أن تحسني رعاية زوجك وأولادك ، فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لها :

(( اعلمي أيتها المرأة ، وأعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعّل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله ))

[البيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد الأنصارية]

 إذاً هناك عبادة الهوية ، أقامك الله غنياً عليك أن تنفق المال ، أقامك الله عالماً عليك أن تعلم العلم ، أقامك الله قوياً عليك أن تأخذ بيد الضعيف ، وأن تنصفه من القوي ، أقامك الله امرأة عليك أن تحسني رعاية زوجك وأولادك .
 هناك معنى آخر من معاني العبادة ، عبادة الظرف ، لا سمح الله ولا قدر لك أب مريض ، عبادتك الأولى رعاية الأب ، عندك ضيف ، عبادتك الأولى إكرام الضيف ، ابنك عنده امتحان ، عبادتك الأولى أن ترعى هذا الابن ، لأنه بضع منك ، إذاً هذه عبادة الظرف ، ثم إن هناك عبادة من نوع آخر ، سماها بعض العلماء عبادة الوقت ، الطرف الآخر إذا أراد أن يفقرنا فكسب المال وإنفاقه في حلّ مشكلات المسلمين هو مسح دموع البائسين ، وإكرام اليتامى ، وإكرام الأرامل ، ومعالجة المرضى ، إنفاق هذا المال الحلال في خدمة المؤمنين هو العبادة الأولى ، لأن أحد الصحابة الكرام يقول :

حبذا المال أصون به عرضي  وأتقرّب به إلى ربــي
***

 لقد جعل الله المال قوام الحياة ، فمن كسبه حلالاً ، وأنفقه في وجوهه ، كان بالنسبة إليه عبادة الوقت ، أي إذا كان الطرف الآخر يريد إفقار المؤمنين فكسب المال ينبغي أن يكون من صنف العبادة ، بل إن أيّ عمل يعمله الإنسان إذا كان في الأصل مشروعاً ، وسلك به طرقاً مشروعة ، وأراد به كفاية نفسه وأهله ، وخدمة المؤمنين ، ولم يشغله عن واجب ديني انقلب هذا العمل إلى عبادة .

أعمال المؤمن العادية إذا رافقتها نوايا عالية تنقلب إلى عبادات :

 أيها الأخوة الأحباب ؛ أعمال المؤمن العادية إذا رافقتها نوايا عالية تنقلب إلى عبادات ، بينما عبادات المنافق الخالصة تنقلب إلى سيئات ، هذه حقيقة مهمة جداً ، فأنت حينما تكسب المال الحلال ، وتنفقه في سبيل الله هذه عبادة ، ولكن إذا طريق كسب المال سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون غنياً ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ . . .))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 لأن خيارات المؤمن الغني القوي أكثر رحابة من خيارات المؤمن الضعيف ، ولكن إذا كان طريق كسب المال محفوفاً بالمعاصي والآثام فينبغي أن تكون بعيداً عن المعاصي والآثام ، عندئذ أنت معذور عند الله ، هناك فقر الكسل ، وهذا عند الله مذموم ، وهو فقر القدر ، وهذا عند الله معذور ، وهناك فقر الإنفاق ، وهذا عند الله مستحسن .

أول عبادة للمسلم ترسيخ حقائق الدين إذا كثرت الفتن و الضلالات :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ثم إن الطرف الآخر إذا أراد إذلالنا فترسيخ حقائق الدين ، توضيح عقيدة المسلمين ، نشر الفضائل الإسلامية ، بيان أحكام الكتاب والسنة ، هذا يعد أول عبادة إذا كثرت الضلالات ، وشاعت الترهات ، ودخل الحق في الباطل ، لابد من توضيح الحق :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾

[ سورة الأحزاب : 39]

 إذاً حينما توضح معالم الدين ، تأتي بالدليل التفصيلي ، ترد على الشبه ، ترد على الضلالات ، حينما تتوضح معالم الدين فهذه أول عبادة ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم :

(( ما من كلمة أحب إلى الله من كلمة الحق ))

[ورد في الأثر]

 الإنسان أحياناً من كلمة صادقة ينشر هداية في الآفاق :

﴿ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾

[ سورة إبراهيم : 24-25]

 وحينما يريد الطرف الآخر إفسادنا عن طريق هذه المناشط التي تفسد الأخلاق ، وعن طريق أجهزة وأدوات تحطم القيم لابد من أسلمة هذه الأجهزة والأدوات ، ولابد من مناشط نظيفة تحفظ لأجيالنا خلقها وقيمها وعقيدتها ، إذاً حينما يعم الفساد في الأرض كما قال الله عز وجل :

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

[ سورة الروم : 41]

 حينما نعيش فتناً ، وحينما نعيش ضلالات ، وحينما نخشى على أبنائنا الانحراف ينبغي أن نهيئ لهم مناشط نظيفة تقي عقيدتهم ، وتقي سلوكهم من الانحراف ، وهذا أيضاً عبادة من العبادات .
 وحينما يريد الطرف الآخر أن يذلنا لابد من أن نعتز بإيماننا ، لابد من أن نضع تحت قدمنا كل مصالحنا ، سيدنا عمر رحمه الله تعالى ورضي عنه جاءه ملك من ملوك الغساسنة ، اسمه جبلة بن الأيهم ، سرّ به عمر ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ ، بِأَبِي جَهْلٍ ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ : وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ ))

[الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ]

 سرّ به ، ورحب به ، في أثناء طوافه حول الكعبة داس بدوي من فزارة طرف ردائه، فما كان من هذا الملك الذي أسلم حديثاً إلا أن ضرب هذا البدوي ضربة هشمت أنفه ، ماذا يفعل هذا البدوي ؟ ذهب إلى عمر ، وشكاه ، سيدنا عمر استدعى جبلةً ، قال : أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح ؟ قال : لست ممن ينكر شيئاً ، أنا أدبت الفتى ، أدركت حقي بيدي ، هذا الحوار صيغ شعراً ، قال : يا بن أيهم ، أرضِ الفتى ، لابد من إرضائه ، مازال ظفرك عالقاً بدمائه ، أو يهشمن الآن أنفك ، وتنال ما فعلته كفك ، قال : كيف ذاك يا أمير ، هو سوقة ، وأنا عرش وتاج ؟ كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً ؟ قال عمر : نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية ، قد دفناها ، أقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً ، قال جبلة: كان وهماً ما جرى في خلدي أني عندك أقوى وأعز ، أنا مرتد إذا أكرهتني ، قال : عنق المرتد بالسيف تحز ، عالم نبنيه ، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى .
 أيها الأخوة ؛ لقد علّق بعضهم على هذا الحادث بأن عمر رضي الله عنه وأرضاه ضحى بملك ، ولم يضحِ بمبدأ ، وأن الإيمان مجموعة مبادئ .
 أيها الأخوة الأحباب ؛ شيء آخر ، هذا الطرف الآخر إذا أراد اجتياح الأرض ينبغي أن نقاومه ، ينبغي أن نبذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس في سبيل إحقاق الحق .

الزمن أثمن شيء يملكه الإنسان :

 الإنسان أيها الأخوة بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا بن آدم أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني ، فإني لا أعود إلى يوم القيامة ، ذلك أن الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، وهذا الزمن الذي هو أثمن شيء نملكه ، وهذا الثمن الذي هو رأس ماله الوحيد ، هذا الثمن هو الذي ينبغي أن يستهلكه استهلاكاً استثمارياً ، لا استهلاكاً تافهاً ، الزمن ينفق استهلاكاً ، وينفق استثماراً ، فإذا أكلنا ، وشربنا ، واستلقينا ، وذهبنا إلى النزهات فقط ، ولم نحمل رسالة ، ولم نحمل هماً ، ولم نؤدِ واجباً ، ولم نحقق شيئاً ، نحن أنفقنا الزمن استهلاكاً ، أما إذا آمنا بالله ، وعرفنا الحقيقة العظمى ، وعملنا وفق توجيهاتها ، ودعونا إلى الله دعوة كفرض عين ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ...))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ]

 ثم تعرفنا إلى خالقنا جل وعلا نكون قد أنفقنا هذا الوقت استثماراً ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر الآيات : 1-3 ]

 الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال عن هذه السورة : " إنها تكفي المؤمن ، لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم " ، وقال عن قوله تعالى :

﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر:3 ]

 هذه أركان النجاة ، فلا بورك لي في يوم لم أزدد فيه من الله علماً ، ولا بورك لي في يوم لم أزدد فيه من الله قرباً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون قد أفدنا جميعاً من هذه الحقائق ، وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور