وضع داكن
19-04-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 26 - التغيير - المسلمون غير ممكنين في الأرض
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

المذيع:

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحيكم عبر القناة الفضائية السورية في هذا اللقاء الجديد من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، ويسرّنا أن نلتقي اليوم مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وأستاذ الإعجاز العلمي في أصول الدين والشريعة .

 

الأٍستاذ:

أهلاً بكم أستاذ عدنان .

 

 

المذيع:

 في بعض الأحيان يفسر بعض الذين يريدون أن يفتروا على الإسلام بعض النصوص تفسيرات خاطئة، من ذلك قول الله تعالى من كتابه العزيز:

 

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

 

(سورة الرعد)

 يستدلون لذلك، ويتمنطقون، نحن نملي إرادتنا على الله تعالى من خلال تصرفاتنا، من خلال صراط مستقيم، فالله معنا، وإن انحزنا عنه، نحن أملينا ما يجب أن يكون من قِبَل الله تعالى، والعياذ بالله، وهذا خطا في التفسير، وهي مجرد تفسيرات عشوائية وغوغائية في الوقت نفسه، وفيها مغالطة، وكل إنسان يحصل على نتيجة ما فعل، وهذا أمر طبيعي، فإذا كان الطالب مجتهداً يحصل على النجاح، وإن لم يكن كذلك تكن نهايته الرسوب، أشياء طبيعية في حياة الإنسان، وهؤلاء الذين يقولون مثل هذه الأقوال إذا طلبنا منهم أن يتصرفوا على عكس ما يملى عليهم لقالوا: لا يمكن هذا، ففي موضوع:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

 أشياء عديدة تطلب من الإنسان أن يكون واضحاً في طريق الحق، هدفاً في سبيل الحق، وموضوعاً للحق، ويسلك السلوك الصحيح ما بينه وبين نفسه و مجتمعه، وبين خالقه، وإذا كانت علاقة الإنسان بينه وبين خالقه سليمة فستسلم بقية العلاقات، والله تعالى في عون العبد، ويكون هذا الأمر مستمراً في حياته طالما أن الإنسان سلك الطريق المستقيم، هل يمكن أن نتابع هذا الموضوع معكم ؟

 

 

الأستاذ:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين .
بارك الله بكم، وجزاكم الله خيراً أستاذ عدنان، يمكن أن تكون هذه الآية محور هذا اللقاء الطيب .
أيها الإخوة الكرام، إن الله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا، ولكن هذا الموضوع كبير جداً، ويحتاج إلى تمهيد:
من النقاط الدقيقة التي ينبغي أن تعلم في مقدمة هذا الموضوع حقيقة خطيرة جداً، وهي أن العبرة ليست فيما حدث، بل في فهم ما حدث، لا بد من توضيح:
 إنسان يركب مركبته، تألق في لوحة العدادات ضوء أحمر، رآه بعينه، ورأته زوجته، وأولاده، تألق أو لم يتألق ليست هذه المشكلة، ولكن لماذا تألق ؟ وماذا يعني تألق هذا الضوء الأحمر ؟ لو أنه فهم خطأ أنه ضوء تزييني لاحترق المحرك، ولوقفت السيارة، وتعطلت الرحلة، وكلفه إصلاح المحرك مبلغًا كبيرًا، أما إذا فهم هذا التألق تألق تحذيرياً لأوقف المركبة، وأضاف الزيت، وسلم المحرك، وتابع الرحلة، الضوء تألق، ليست المشكلة أن الضوء تألق، أم لم يتألق، الآن العالم كله سطح مكتب، كان قرية فأصبح سطح مكتب، فما يجري في القارات الخمس يبلغ أي إنسان بجهاز مذياع صغير، أو بشاشة صغيرة، فنحن نطلع على كل ما يحدث كل يوم، بكل بساطة، وبسهولة، ولكن البطولة في فهمِ ما حدث .
 النقطة الأولى في هذا اللقاء الطيب: يجب أن نتجاوز الذي حدث لحقيقة، أو علة، أو غاية ما حدث، هذه النقطة الأولى، المسلمون كما ترون في محنة شديدة، هذا شيء بديهي، وشيء واضح، ولا ينكره عاقل، ولكن لماذا كانت هذه المحنة ؟ ولماذا ساقها الله لنا ؟ ولماذا قال الله عز وجل:

 

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾

 

(سورة النور)

 ونحن لسنا مستخلَفين .

 

﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾

 ونحن في الحقيقة لسنا ممكَّنين .

 

 

﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾

 نحن لسنا آمنين، نحن في محنة لا يختلف فيها عاقلان على وجه الأرض، ولكن لماذا كانت هذه المحنة ؟ ألم يقل الله عز وجل:

 

 

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾

 

(سورة هود)

 ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾

 

(سورة الزخرف)

 ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾

 

(سورة هود)

 ألم يق الله عز وجل:

 

﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾

 

(سورة الأعراف)

 ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)﴾

 

(سورة الكهف)

 ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾

 

(سورة الزمر)

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾

فلماذا شاءت حكمة الله أن نكون في هذه المحنة ؟ هذه النقطة الدقيقة في هذا اللقاء الطيب إن شاء الله .
النقطة الثانية: الله عز وجل له قوانين، وسنن، إن آمنا بها أم لم نؤمن، إن احترمناها وقدرناها، أو لم نقدرها، ولم نحترمها فهي واقعة بنا، شئنا أم أبينا .
 مثل يوضح هذا، يوجد في علم الفيزياء ما يسمى علم السقوط، حينما أؤمن بهذا القانون، وأتأدب معه، وأعظمه، فإذا أردت أن أهبط من طائرة أستخدم مظلة، المظلة مبنية على علم دقيق، ومساحة معينة تقاوم حركة الهواء، وهذه المساحة تناسب وزن المظلة، فإذا آمنت بهذا القانون، وتأدبت معه نزلت بالمظلة سالماً إلى الأرض ! أما إذا احتقرت هذا القانون، ولم أؤمن به، وألقيت بنفسي من الطائرة نزلت ميتاً ! عدم إيماني بهذا القانون لا يعطّله، في الكون سنن وقوانين لله عز وجل، سواء آمنا بها، أم لم نؤمن، أو قدرناها أو لم نقدرها، عظمناها أو لم نعظمها، فهي واقعة بنا، شئنا أم أبينا، هذا ما يمليه علينا العقل السليم، نحن ندعو الله .
سيدنا عمر رضي الله عنه رأى أعرابيًّا معه جمل أجرب، قال: يا أخا العرب، ماذا تفعل بهذا الجمل ؟ قال: أدعو الله أن يشفيه، قال: هلاّ جعلت مع الدعاء قطراناً .
 الله عز وجل لا يقبل أن ندعوه فقط، نحن في محنة سابقة ألمت قطراً مجاوراً، دَعَوْنَا في كل مساجدنا في الصلوات الخمس أن ينصرنا، يبدو أن هذا الدعاء لم يستكمل شروطه، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾

(سورة البقرة)

 لا بد من أن نؤمن بالله بأنه الفعال، لا بد من أن نستجيب له، بأن نطيعه، ثم نخلص في الدعاء، عندئذ يكون الدعاء أخلص من أي سلاح، والدعاء سلاح المؤمن، ويرد القضاء، وسلاح خطير بيد المؤمن، لأن خالق السماوات والأرض يمكن أن ينتفع المؤمن من قوته وعلمه وخبرته، فالحقيقة الثانية هذه، القوانين التي قننها الله، والسنن التي سنها الله هذه القوانين آمنا بها، أو و لم نؤمن، قدرناها أو لم نقدرها، هي واقعة بنا لا محالة .

 

المذيع:

يمكن أن يتساءل متسائل في الناحيتين التي ذكرتهما أولاً، إن ما مر بنا دليل على شيء، هل آمنا بالله تعالى فعلاً فاستحق العدو أن يكون جباراً مسيطراً ؟ هذه ناحية .
 الناحية الثانية: القوانين التي هي سنن الله في الكون نازلة بنا لا محالة، وأشرت إلى موضوع الدعاء، وكم من داع دعا، وما إلى ذلك، ضمن هذه الأجواء أن يكون أمر هذا الدعاء، هذا من جهة ؟ وأين يكون أمر أن غيرنا أيضاً، لم يكن، بل إذا كنا على شيء من الإيمان فهو على كل ما يبتعد عن الإيمان ؟

 

 

الأستاذ:

 أنا مضطر أن أضرب المثل: لو أن طبيباً في أعلى درجة من العلم جاءه مريض معه ورم من الدرجة الخامسة، ولا أمل إطلاقاً من شفائه، وسأله هذا المريض: ما هو الطعام الذي تنصحني أن أتناوله ؟ يقول له الطبيب: كُلْ ما تشاء !

 

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾

 

(سورة الأنعام)

 هذا قرآن .

 

﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾

 فالإنسان حينما يطلب الشهوة والعلو في الأرض، والاستمتاع بالحياة الدنيا، ولا يعبأ لا بدين ولا بقيمة، ولا بخلق ولا بآخرة، ولا بمستقبل، يريد شهوته ومصلحته، يريد أن يبني مجده على أنقاض البشر، وقوته على ضعفهم، وأمنه على خوفهم، وغناه على فقرهم، وحياته على موتهم، هذا خرج من العناية الإلهية المشددة ! وينطبق عليه قوله تعالى:

 

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾

 لكن هناك نقطة دقيقة جداً ينبغي أن أشير إليها، هذه الدنيا لها قوانين، أيّ مخلوق أخذ بها، وأتقنها ملك الدنيا، ولو كان كافراً ! من أدق ما قال الله عز وجل في هذا الموضوع:

 

 

﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾

 

(سورة الأعراف)

﴿ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)﴾

(سورة الأنبياء)

في هذه الآية من أحكم فَهْمَ قوانينها، وأعطى الأسباب حقها نال النتائج، إن الله يعطي الدنيا لمن يحب، ولمن لا يحب .
مثلاً: حينما أتقن دراستي أنال شهادة عالية، وحينما أتقن عملي تروج بضاعتي، وحينما أحكم ضبط أموري يصح جسمي، يوجد قوانين !
 عجبي الشديد من المسلم الذي معه وحي السماء، الذي معه منهج خالق الأرض والسماء، لا يطبقه ! لو أن ملحداً أخذ بمنهج الله لقطف ثماره في الدنيا، لأن منهج الله موضوعي .

﴿ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾

(سورة البقرة)

 إنسان ينكر وجود الله، رأى أن الصدق أكثر رواجًا له من الكذب في عمله، وإعطاء الناس حقهم أولى لولائِهم من إهمالهم، والعدل هو الذي يؤلف القلوب، ولا يشتتها، فإذا أدرك إنسان بذكائه وعقله أن مبادئ الإسلام إذا طبقها كانت لصالحه يقطف ثمارها في الدنيا قطعاً، لأن منهج الله منهج موضوعي، فأيّ إنسان أخذ به قطف ثماره في الدنيا، فإن أراد أن يأخذ به لتزداد ثروته تزداد ثروته، إن أخذ بمنهج الله لتزداد قوته، أو ليحكم السيطرة على العالم لنال ما يريد، هذا المنهج موضوعي، كل من أخذ به قطف ثماره، أما إذا أخذ به المؤمن سعد في الدنيا والآخرة، وفي الأبد، إذا أخذ به غير المؤمن قطف ثماره في الدنيا فقط .

 

﴿ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾

 فالشق الأول:

 

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾

 

 والشق الثاني: أن الدنيا لها أسباب، والدليل:

﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)﴾

(سورة الكهف)

 هذا ذو القرنين، أشار الله أنه أخذ بالأسباب ! هذا الفهم المسلمون في أشد الحاجة إليه الله طريق الإيمان الكامل طريق عن يمينه وادٍ سحيق، وعن يساره وادٍ سحيق، يقتضي الإيمان أن آخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، وأتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء، فإن أخذت بالأسباب، واعتمدت عليها، وألّهتها وقعت في وادي الشرك، كما هي حال العالم الغربي، وإن لم آخذ بها، ولم أعتد بها وقعت في وادي المعصية، فالغرب ألّه الأسباب، وتجبّر وتغطرس، وعلا على خلق الله، وبنى مجده على أنقاض الآخرين، لأنه أخذ بالأسباب، وألّهها، واعتمد عليها، بينما الشرق المتديِّن لم يأخذ بها، فعصى الله عز وجل !
الحق يحتاج إلى قوة، حينما يقول الله لي:

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

 

(سورة الأنفال)

 ولا أبالي بهذه الآية لا أربح الدنيا، لأن للدنيا أسباب، لذلك، أنا أقول: هناك ما يسمى الجهاد البنائي، فحينما أبني أعمق اختصاصي، وأتقن عملي، وأستخرج الثروات، وأضع المشاريع، وأهيئ فرص العمل، وأضع نظاماً دقيقاً، أكون قوياً حينما أفعل هذا، وبالمفهوم الاقتصادي قوة العملة ليست في مقدار الذهب المودع في البنك، ولكن في اقتصاد الأمة، هذا هو الجهاد البنائي .
 سيدنا عمر في بلدة من بلاد المسلمين رأى أن معظم الفعاليات الاقتصادية فيها ليست في أيدي المسلمين، فعنّفهم تعنيفاً شديداً فيها فقالوا كما يقول الكسالى: إن الله سخرهم لنا، فقال: كيف بكم إن أصبحتم عبيداً عندهم ! أدرك هذا الخليفة العملاق قبل ألف وأربعمئة عام أن المنتج قوي فيها والمستهلك ضعيف .
 أحياناً نبيع ثرواتنا الزراعية بثمن بخس، لنستورد قطعة لمصنع عالية التقنية جداً، وثمنه باهظ، تعمير محرك طائرة يكلّف خمسة ملايين دولار، كم طنًّا من القمح والقطن مقابل ذلك ؟ فنحن بحاجة للجهاد البنائي، أن نبني وطننا وأمتنا، ونستخرج ثرواتنا، ونهيئ فرص عمل لشبابنا، ونحسن معيشتنا .
الإنسان إذا كان قوياً يستطيع مجابهة عدوه، هذه نقطة دقيقة، فالغرب أخذ بأسباب الدنيا، وألّهها، فملكوا ناصية الأمر، نحن قصّرنا في ذلك، فهذا الطريق أمامنا .

 

المذيع:

 وما تعليقك حول موضوع الدعاء ؟

 

 

الأستاذ:

 الدعاء له ملمح لطيف، أنت كأب، لو أن ابناً لك طلب منك شيئاً يؤذي نفسه به، أو يعتدي على الآخرين، لا تستجيب له، مع أنه ابنك، وتحبه، فنحن حينما ندعو، ولم نقدم مع الدعاء أسباب الاستجابة لا يستجاب لنا، وذكرت قبل قليل قوله تعالى:

 

 

﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾

 

(سورة البقرة)

 فما لم نؤمن بالله عز وجل، وما لم نستجب له فالله لا يستجيب دعائنا، والدعاء كما قال بعض العلماء من دون عمل فيه استهزاء بمن تدعوه، غير معقول أن أكون راكبًا مركبة، وتوقفت، أن أخرج إلى الفلاة وأقول: يا رب، يسّر لي الأمر، لا تفتح غطاء المحرك، أين الخلل ؟ لا يعقل أن يقول طالب: يا رب، اجعلني متفوقاً، ولم يدرس، هذا استهزاء بالدعاء، فحينما أؤدي لكل شيء سببه، وأسأل الله عز وجل عندئذ يستجيب الله لي .
يوجد حديث رائع جداً، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ

(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))

(سنن أبي داود)

 أن تستسلم، وتقعد، وتقول: انتهينا، وما بيدنا شيء، الإنسان الكسول يريحه أن يعزو كل أخطائه إلى غيره، ظروف صعبة، والمعيشية صعبة، والإعلام فاسد، والبيئة سيئة، والعدو متمكِّن منا، هذا كلام سلبي يقعِد الجبابرة، فنحن حينما نعتمد على الله، ونسعى يمكن أن نصنع كل شيء، ونحن ضعاف ! لأن الضعيف يملك ما لا يملكه القوي، هذا تراه فيما يجري حولنا، المقاوم ضعيف أساساً، لكن يفعل شيئًا يهز أركان وقواعد العدو ! هذا شيء بيد الإنسان، وإذا اعتمد الإنسان على الله ألهمه الله الصواب .
 قبل يومين كنت في مؤتمر، أعجبتني كلمة، ماذا يقابل القنبلة الذرية ؟ القنبلة الذُرية أن نربي شبابنا وأولادنا تربية إسلامية، فمن يمنع المسلم اليوم من أن يكون صادقاً، وأميناً، وعفيفاً، ويربي أولاده تربية منضبطة، وأن ينظم حياته، هذا محور هذا اللقاء ! كيف نغير ؟ أن نطمع أن يغيّر الله ما بنا دون أن نغير ـ والله ـ هذه سذاجة، المسلم يتوهم أنه تأتي معجزة فتقضي على أعدائنا، هذا ـ والله ـ شيء مضحك، ويدعو للسخرية، الحياة لها قوانين،

(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ))

 الاستسلام، القعود، ليس بيدنا شيء، انتهينا، هذا كلام الكسالى والضعفاء، الله عز وجل لا يتخلى عن المسلمين أبداً،

(( وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ))

 أي أن تسعى، وتتحرك، وتسأل، وتسعى، وتأخذ بالأسباب،

(( فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))

 متى أقول: حسبي الله، ونعم الوكيل ؟ حينما أستنفذ كل جهدي، وأوضحُ مثلٍ: طالبٌ لم يدرس، فلم ينجح، فقال: حسبي الله، ونعم الوكيل ! هذا استهزاء، أما حينما أدرس دراسة رائعة، ويأتي مرض مفاجئ قبل الامتحان، عندئذ أقول: حسبي الله، ونعم الوكيل، أما كلما وقعت في مشكلة سببها أنا، وكلما قطفت نتائج سيئة لعلم سيئ أنا سببه، أقول: حسبي الله، ونعم الوكيل، هذا استهزاء بهذه الآيات .

 

المذيع:

 كما يقال: لله تعالى عند البشر، وفي الكون، وفيما خلق كتابان ! كتاب القرآن الكريم أولاً، وكتاب سننه وقوانينه في الكون، ما بالنا نؤمن مضطرين خاضعين لسنن الله في الكون، فإن طلبت، ودعوت، ومهما قررت أن أطير في الهواء فإنني لن أطير إلا بطائرة، إذاً أخذت الأسباب، ما بالنا نتخذ الأسباب فيما نقهر عليه، ونترك ما يرغبنا القرآن به من إنتاج، وعمل، وفكر، وتعبد، ويقين بالله تعالى ودعاء، مع اتخاذ أسباب، نترك هذا لأننا لم نخضع له إخضاعًا، خضوعنا لقوانين الله وسننه .

 

 

الأستاذ:

 في العقل الباطن شعور أن الإنسان إذا تفوق يعزو هذا إليه، أما إذا تخلف يعزوه للقضاء والقدر ! وهذا خطا كبير، حينما نستعين بالله عز وجل يمدنا بقوة استثنائية في أيّ ظرف صعب تجد هناك أشخاصًا حججًا على من حولهم .

 

 

المذيع:

 يا سيدي في تاريخنا الإسلامي، إن كان على مستوى المعارف، أو مستوى الاجتهاد والفقه، والعلوم الدنيوية والدينية، وفي كل مجالات الحياة، نجد أمثلة كثيرة تؤكد ما ذكرته، وما ذهبت إليه، الإنسان عندما يقدم بصدق نية، ولو كان العمل متواضعاً، فإن الله تعالى يهبه من نتائج هذا العمل ما لم يكن متوقعاً .

 

 

الأستاذ:

 الشيخ أحمد ياسين رحمه الله معاق من أول حياته، وهو في قلوب الملايين، وما من إنسان إلا واستنكر اغتياله، وما من قلب إلا وامتلأ محبة له، وما من مسلم إلا ويتمنى أن تكون هذه نهايته، وكم من إنسان يحمل أجسام البغال، ولم يفعل شيئاً .
لذلك قلت مرة في بعض الخطب: ساقاك واقعنا، وفكرك حلمنا، إنسان معاق فعل ما لا يفعله الأصحاء، الله عز وجل أودع في الإنسان قدرة عجيبة، إذا أراد شيئاً، وصمم عليه لا بد من أن يقع، لأن الله أراد له ذلك .
فكنت أقول دائماً: إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام، إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان .

 

 

المذيع:

 في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة و أصول الدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور