وضع داكن
29-03-2024
Logo
صور من حياة التابعين - الندوة : 16 - عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس1
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 متابعينا الكرام السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، أهلاً بكم و مرحباً ندعوكم لمتابعة هذه الحلقة الجديدة من صور من حياة التابعين و حلقة اليوم عن شخصية فذة اسمها عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس، قال عنه المؤرخون: الغافقي صورة صادقة لموسى بن نصير و طارق بن زياد في علو الهمة و سمو المقصد، طبعاً سنتابع الحديث عن عبد الرحمن الغافقي اليوم و سنكمله غداً لما فيه من سجايا سمحة و تاريخ حافل بالأمجاد، يسعدنا أيها الأعزاء أن نستضيف سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، و خطيب جامع النابلسي في دمشق، و أيضاً نقول أهلاً بالمدرس في مساجد دمشق السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته أستاذ جمال.
كيف نبدأ فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي بالحديث عن عبد الرحمن الغافقي ؟
 الحقيقة ما كاد أمير المؤمنين و خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ينفض يديه من تراب سلفه سليمان بن عبد الملك حتى بادر يعيد النظر في أمراء الأمصار ـ الأقاليم ـ و يعزل و يولي، و كان في طليعة من استعمله السمح بن مالك الخولاني، فلقد أسند إليه ولاية الأندلس و ما جاورها من المدن المفتوحة في بلاد فرنسا، ألقى الأمير الجديد رحاله في بلاد الأندلس و انطلق يفتش عن أعوان الصدق و الخير، فقال لمن حوله: أبقي في هذه الديار أحد من التابعين ؟ فقالوا: نعم أيها الأمير إنه ما يزال فينا التابعي الجليل عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي ثم ذكروا له من علمه بكتاب الله و فهمه لحديث رسول الله و بلائه في ميادين الجهاد و تشوقه إلى الاستشهاد، و زهده بعرض الدنيا الشيء الكثير، ثم قالوا له: إنه لقي الصحابي الجليل عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه و عن أبيه و أنه أخذ عنه ما شاء الله أن يأخذ، وتأسى به أعظم التأسي، دعا السمح بن مالك الخولاني عبد الرحمن الغافقي إلى لقاءه، فلما جاءه رحب به أكرم الترحيب، و أدنى مجلسه منه، ثم قعد معه ساعة من نهار يسأله عن كل عمّله، و يستشيره في كثير مما أشكل عليه، و يروجه ليقف على طاقته، فإذا هو فوق ما أُخبر عنه، و أعظم مما ذكر له، فعرض عليه أن يوليه عملاً من كبير أعمال الأندلس، فقال له: أيها الأمير إنما أنا رجل من عامة الناس ـ هذا من تواضعه ـ و لقد وفدت إلى هذه الديار لأقف على ثغر من ثغور المسلمين و نذرت نفسي لمرضاة الله عز وجل، و حملت سيفي إعلاء لكلمته في الأرض و ستجدني إن شاء الله تعالى ألزم لك من ظلك ما لزمت الحق، دقق في هذا الوعي سيدنا الصديق قال: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، قال له: و ستجدني إن شاء الله تعالى ألزم لك من ظلك ما لزمت الحق، وأطوع لك من بنانك ما أطعت الله و رسوله من غير ولاية و لا إمارة، لم يمض غير قليل حتى عزم السمح بن مالك الخولاني على غزو فرنسا كلها، و ضمها إلى عقد دولة الإسلام العظمى، و أن يتخذ من ديارها الرحبة طريقاً إلى دول البلقان، و أن يفضي من دول البلقان إلى القسطنطينية تحقيقاً لبشارة النبي صلى الله عليه وسلم و كانت الخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف الكبير إنما تتوقف على احتلال مدينة أربونة ذلك أن أربونة كانت من أكبر المدن الفرنسية التي تجاور بلاد الأندلس، و كان المسلمون كلما انحدروا من جبال البيرنيه وجدوها تنتصب أمامهم كما ينتصب المارد الجبار، و هي فوق ذلك مفتاح فرنسا الكبرى، و مطمح الطامحين إليها، حاصر السمح بن مالك الخولاني مدينة أربونة ثم عرض على أهلها الإسلام أو الجزية فعز عليهم ذلك و أبوه، فهب يهاجمهم الهجمة تلو الأخرى و يقذفهم بالمنجنيقات حتى سقطت المدينة العريقة الحصينة في أيدي المسلمين بعد أربعة أسابيع من الجهاد البطولي الذي لم تشهد أوربا نظيراً له من قبل، ثم بادر القائد المظفر المنتصر فتوجه بجيشه الجرار إلى مدينة تولوز عاصمة مقاطعة أوكتانيا، فنصب حولها المنجنيقات من كل جهة و قذفها بآلات الحرب التي لم تكن تعرف في أوربا حتى أوشكت المدينة المنيعة الحصينة أن تخر بين يديه، عند ذلك وقع ما لم يكن في حسبان أحد، فلنترك الحديث للمستشرق الفرنسي رينو ليسوق لنا خبر هذه المعركة، قال رينو: لما أصبح النصر قاب قوسين من المسلمين أو أدنى هب دوق أوكتانيا يستنفر لحربهم البلاد و العباد، أرسل رسله فطافوا أوربا من أقصاها إلى أقصاها و أنذروا ملوكها و أمراءها باحتلال ديارهم، و سبي نسائهم و ولدانهم، فلم يبق شعب في أوربا إلا أسهم معه بأشد مقاتليه بأساً و أكثرهم عدداً وقد بلغ من نصرة الجيش وعنف حركته وثقل وطأته ما لم تعرف له الدنيا نظيراً من قبل حتى إن الغبار المتطاير تحت أقدامه قد حجب عن منطقته عين الشمس ولما تدانى الجمعان خيل للناس أن الجبال تلاقي الجبال ثم دارت بين الفريقين رحى معركة ضروس لم يعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل وكان السمح يظهر أمام جنودنا في كل مكان ويتواثب أمام عسكره في كل اتجاه وفيما هو كذلك أصابته رمية من سهم فخر صريعاً عن جواده، فلما رآه المسلمون منجدلاً فوق الثرى فت الموقف في عضدهم وبدأت صفوفهم تتداعى وأصبح في وسع جيشنا الجرار أن يبيدهم عن بكرة أبيهم، لولا أن تداركتهم العناية الربانية لقائد عبقري عرفته  أوربا فيما بعد هو عبد الرحمن الغافقي، هنا دخلنا في الموضوع فتولى أمر انسحابهم بأقل قدر من الخسائر وعاد بهم إلى إسبانية ولكنه عقد العزم على أن يعيد الكرة علينا من جديد هذا كلام المؤرخ الإفرنسي.
 وبعد: هل رأيت الغيوم كيف تنقشع عن البدر في الليلة الظلماء فيستضيء بنوره التائهون ويهتدي بثناه الحيارى، كيف انقشعت معركة تولوز عن بطل الإسلام الفذ عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي هل أبصرت العطاشى الموفين على الهلاك في جوف الصحراء كيف يلوح لهم الماء، كان كالماء في الصحراء، فيمدون أيديهم إليه ليغترفوا غرفة ماء ترد إليهم الحياة، هكذا مدّ جند المسلمين أيديهم إلى القائد العظيم ينشدون عنده النجاة و يبايعونه على السمع و الطاعة.
 و لا غرو فقد كانت معركة تولوز أول جرح غائر أصيب به المسلمون منذ وطئت أقدامهم أوروبا، و كان عبد الرحمن الغافقي بلسم هذا الجرح، و اليد الحامية التي أحاطته بالعناية و الرعاية، و القلب الكبير الذي أصاب عليه الحنان، أرمضت أنباء النكسة الكبرى التي مني بها المسلمون في فرنسا فؤاد الخلافة في دمشق، و أجج مصرع البطل الكمي السمح بن مالك الخولاني في صدرها نار الحمية للأخذ بالثأر، فأصدرت أوامرها لإقرار الجند على مبايعتهم لعبد الرحمن الغافقي، و عهدت إليه بإمارة الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، و ضمت إليه ما جاورها من الأراضي الإفرنسية المفتوحة، و أطلقت يده في العمل كيف يشاء، و لا غرو فقد كان الغافقي حازماً صارماً تقياً نقياً حكيماً مقداماً.
 بادر عبد الرحمن الغافقي منذ أثتيت إليه إمارة الأندلس يعمل على استعادة ثقة الجند بأنفسهم، و استرداد شعورهم بالعزة و القوة و الغلبة و تحقيق الهدف الكبير الذي طمح إليه قادة المسلمين في الأندلس، ابتداء من موسى بن نصير و انتهاء بالسمح بن مالك الخولاني، فلقد انعقدت همم هؤلاء الأبطال على الانطلاق من فرنسا إلى إيطاليا و ألمانيا و الإفضاء منها إلى القسطنطينية، و جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية و تسميته ببحر الشام، مكان بحر الروم، لكن عبد الرحمن الغافقي كان يوقن بأن الإعداد للمعارك الكبرى إنما يبدأ بإصلاح النفوس و تزكيتها، هذه حقيقة خطيرة جداً، كانوا يعتقدوا أن الإعداد للمعارك الكبرى يبدأ بإصلاح النفوس و تزكيتها لأن الله عز وجل يقول:

﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة الروم: الآية 47 ]

 و يعتقد أنه ما من أمة تستطيع أن تحقق غاياتها في النصر إذا كانت حصونها مصدعة مهدمة من الداخل، لذلك هب يطوف بلاد الأندلس بلداً إثر بلد و يأمر المنادين أن ينادوا في الناس: من كانت له مظلمة عند والٍ من الولاة، أو قاض من القضاة، أو أحد من الناس فليرفعها إلى الأمير، و أنه لا فرق في ذلك بين المسلمين و غيرهم من المعاهدين، العدل للجميع ثم طفق ينظر في المظالم مظلمة مظلمة فيقتص للضعيف من القوي ويأخذ للمظلوم من الظالم، ثم جعل يحقق في أمر الكنائس المغتصبة والمستحدثة فيرد ما قضت به العهود إلى أصحابها ويهدم ما بني منها بالرشوة ثم نظر في أمر عماله واحداً واحداً فعزل من ثبتت له خيانته وانحرافه وولى مكانه من استوثق من حكمته وحنكته وصلاحه، وقد قرن عبد الرحمن القول بالفعل ودعم الآمال بالأعمال فطفق منذ اللحظة الأولى لولايته يعد العتاد ويستكمل السلاح ويرمم المعاقل ويبني الحصون.
 فضيلة الشيخ اليوم إذاً كلمات مضيئة حول سيدنا عبد الرحمن الغافقي التابعي الجليل غداً إن شاء الله بمثل هذا الوقت حوالي الخامسة عشر دقيقة من الآن نلتقي مع حلقةٍ جديدة ومتجددة ومتابعة للحديث حول سيدنا عبد الرحمن الغافقي.
فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي لقاءنا غداً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

تحميل النص

إخفاء الصور