وضع داكن
28-03-2024
Logo
صور من حياة التابعين - الندوة : 20 - التابعي الأحنف بن قيس 1
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الإخوة و الأخوات السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ندعوكم لمتابعة حلقة جديدة و متجددة من صور من حياة الصحابة و التابعين، يسعدنا أن نستضيف في هذه الليلة المباركة سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الشيخ السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته.
نبدأ بالحديث عن هذه الشخصية المباركة بكلام سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه.
 يقول هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه عن الأحنف بن قيس: إن هذا الغلام والله هو السيد و إنه سيد أهل البصرة، في ذات يوم تلقى عتبة بن غزوان كتاباً من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بأن يرسل إليه عشرة من صلحاء عسكره و أحسنهم بلاء في القتال ليقف منهم على أحوال الجيش و ليتملى مما عندهم من رأي و مشورة، أي ألم يقل الله عز وجل يأمر نبيه المعصوم الذي يوحى إليه:

﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[ سورة آل عمران: الآية 159]

 و الشورى في الإسلام منهج أساسي في الحياة، فصدع عتبة بالأمر و جهز عشرة من صفوة رجاله، و جعل بينهم الأحنف بن قيس، مثُل رجال الوفد بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فرحب بهم و أدنى مجلسهم ثم سألهم عن حوائجهم و حوائج عامة الناس فنهضوا إليهم تباعاً و قالوا: أما عامة الناس فأنت وليهم، و صاحب شؤونهم، و أما نحن فنتكلم عن خاصة أنفسنا، ثم طلب كل منهم حاجتهم التي تعنيه و كان الأحنف بن قيس آخر رجال الوفد كلاماً لأنه كان أصغرهم سناً، لاحظ أنّ بقية الوفد تكلموا عن حوائجهم الخاصة لكن النفوس الكبيرة لا تهتم بحوائجها الخاصة، تهتم بحوائج الناس عامة، و كلما اتسعت دائرة الاهتمام ارتقى الإنسان عند الله، فكان النبي عليه الصلاة و السلام يبكي على أعدائه يقول:

 

(( عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ))

 

[ البخاري، الترمذي، أحمد ]

 كان الأحنف بن قيس آخرهم كلاماً كما قلت قبل قليل فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا أمير المؤمنين إن جند المسلمين الذين حلوا في مصر قد نزلوا في الخضرة و النضرة و الخصب من منازل الفراعنة، و إن الذين حلوا في ديار الشام قد نزلوا في الرغد و الثمار و الرياض من منازل القياصرة، و إن الذين حلوا في ديار الفرس قد نزلوا على ضفاف الأنهار العذبة و الجنان الوارفة من منازل الأكاسرة، لكن قومنا الذين حلوا في البصرة قد نزلوا في أرض هشاشة بشاشة لا يجف ترابها و لا ينبت مرعاها، أحد طرفيها بحر أجاج و طرفها الآخر فلاة قفر، وصف بليغ، فأزل يا أمير المؤمنين ضرهم و أنعش حياتهم، مُرْ مواليك على البصرة أن يحفر لهم نهراً يستعذبون منه الماء و يسقون الأنعام و الزرع، فتحسن حالهم و يصلح عيالهم و ترخص أسعارهم، و يستعين بذلك على الجهاد في سبيل الله، فنظر إليه عمر في إعجاب و قال لرجال الوفد: هلا فعلتم فعل هذا إنه و الله لسيد، و قدم للأحنف جائزته فقال: و الله يا أمير المؤمنين ما قطعنا إليك الفلوات و لا ضربنا للقاؤك أكباد الإبل في البكور و العشيات لنيل الجوائز و مالي من حاجة لديك إلا حاجة قومي التي ذكرت، فإن تقضها لهم تكن قد كفيت و وفيت فازداد عمر إعجاباً به و قال: هذا الغلام سيد أهل البصرة، و لما انفض المجلس و همّ رجال الوفد بالانصراف إلى رواحلهم ليبيتوا عندها أجال عمر بصائره على حقائبهم فرأى طرف ثوب خارجاً من إحداها فقام فلمسه بيده و قال: لمن هذا ؟ هذا ملمح دقيق جداً، قال: لمن هذا ؟ فقال الأحنف: لي يا أمير المؤمنين و قد أدرك أنه استغلاه، فقال له عمر: بكم اشتريته، فقال الأحنف: بثمانية دراهم، و لم يعرف عن نفسه أنه كذب في حياته كلها غير تلك الكذبة ذلك لأنه اشتراه باثني عشر درهماً، فنظر إليه عمر في رفق و قال، هلا اكتفيت بواحد و وضعت فضلة مالك في موضع تعين به مسلماً ثم قال: خذوا من أموالكم ما يصلح شأنكم.
هذا تعليم فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي في عدم الإسراف.
 وضعوا الفضول في مواضعها تريحوا أنفسكم و تربحوا آخرتكم، حينما نربي أبناءنا على أن يأكلوا حاجتهم و يطعموا ما فضل عنهم، حينما نربي أبناءنا على المآثرة، يتماسك مجتمعنا، لذلك قال عليه الصلاة و السلام:

 

(( و الله ما آمن، و الله ما آمن، و الله ما آمن، من بات شبعان و جاره إلى جانبه جائع و هو يعلم ))

 ثم إن أمير المؤمنين أذن لرجال الوفد بالعودة إلى البصرة غير أنه لم يسمح للأحنف بالبراح معهم، و استبقاه عنده حولاً كاملاً، فلقد أدرك عمر بثاقب نظره ما توافر للفتى التميمي من حدة الذكاء و نصاعة البيان و سمو النفس و علو الهمة و غنى المواهب، فأراد أن يبقيه قريباً منه ليصنعه على عينه، و ليلقى كبار الصحابة فيهتدي بهديهم، و يتفقه في دين الله على أيديهم ثم إنه كان يريد أن يختبره عن كثب، و أن ينفذ إلى دخيلة نفسه قبل أن يوليه بعض شؤون المسلمين، سيدنا عمر عبقريته تتجلى في أنه أحسن اختيار عماله، مرة عين عاملاً على ولاية و قال: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال: أقطع يده، قال: إذاً فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، و نوفر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك، تقاضيناهم شكرنا، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً.
سيدنا عمر كان يريد والياً إن كان والياً حقاً بدا و كأنه واحد من إخوانه، بدا و كأنه والٍ عليهم، لشدة غيرته على المؤمنين، هذه مقاييس اختيار الولاة عند عمر.
 سيدنا عمر كما يقال كان يخشى من الأذكياء المقاول الذين عندهم قدرة على الإقناع الفصحاء أشد الخشية، فهم إذا صلحوا ملئوا الدنيا خيراً، و إذا فسدوا كان ذكاؤهم وبالاً على الناس، أي الذكاء قوة حيادية إما أن تكون في خدمة الناس، أو أن تكون عبئاً عليهم، و لما انتهى الحول قال عمر للأحنف يا أحنف إني قد بلوتك و اختبرتك فلم أرَ إلا خيراً، و قد رأيت علانيتك حسنة، و إني لأرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، أي دقق في هذا الموقف الموضوعي، لما سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ولى عمر بعض الصحابة خافوا شدته فقال أتخوفونني بالله، إذا  لقيت ربي أقول: يا ربي وليت عليهم أرحمهم، ثم قال: هذا علمي به، فإذا بدل و غير فلا علم لي بالغيب، أي المؤمن أحكامه موضوعية، معتدلة، متوازنة، قال: رأيت علانيتك حسنة، و إني لأرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، ثم وجهه لحرب الفرس، و كتب لقائده أبي موسى الأشعري ما بعده فأدني الأحنف بن قيس منك و شاوره و اسمع به، انضوى الأحنف تحت ألوية المسلمين المشرقة و المغربة في بلاد فارس، و أبدى من ضروب البطولات ما جعل سهمه يعلو و نجمه يتألق، و أبلى هو و قومه بنو تميم في قتال العدو أكرم البلاء، و بذلوا أسخى البذل، حتى فتح الله على أيديهم مدينة تستر درة التاج الكسروي و أوقع في أسره الهرمزان.
 الحقيقة أن الهرمزان من أشد قواد الفرس بأساً، و أقوى أمرائهم شكيمة، و أمضاهم عزيمة، و أوسعهم مكيدة في الحروب، وقع أسيراً و لقد ألجأته انتصارات المسلمين إلى مصالحتهم أكثر من مرة غير أنه كان يغدر بهم كلما سنحت له الفرصة و ظن أنه قادر على النصر، كان غداراً، فلما أطبقوا عليه في تستر تحصن منهم في برج من أبراجها الممنعة و قال لهم: إن معي مئة سهم و والله ما تصلون إلي مادام في يدي شيء منها، و أنتم تعلمون أني رام لا تخطئ له رمية، فما جدوى أسركم إياي بعد أن أصيب منكم مئة بين قتيل و جريح ؟ فقالوا ماذا تريد ؟ فقال: أريد أن أنزل على حكم خليفتكم عمر و ليفعل بي ما يشاء؟ فقالوا: لك ذلك فرمى بقوسه على الأرض و نزل إليهم مستسلماً فشدوا وثاقه و أرسل إلى المدينة مع وفد من أبطال الفتح، و كان على رأسهم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم، و الأحنف ابن قيس تلميذ المدرسة العمرية، مضى الوفد يحث الخطا بالهرمزان نحو المدينة ليبشر أمير المؤمنين بالفتح، أي بين الانتصار و بين البشارة يوجد شهر أو شهران، أما الآن التواصل سريع جداً، أي العالم أصبح قرية، ثم أصبح بيتاً و الآن غرفة العالم كله، هناك تفوق بالاتصالات يفوق حد الخيال.
 من هنا و في هذه النقطة سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي نتوقف، نعاود غداً إن شاء الله متابعة الحديث عن هذه الشخصية الإسلامية الرائعة، سيدنا الأحنف بن قيس نشكركم فضيلة الشيخ إلى اللقاء غداً،

 

تحميل النص

إخفاء الصور