وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة التوبة - تفسير الآيتان 1-2 ، البراءة تناقض الاستمساك.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


العبادة عبادتان؛ عبادة شعائرية وعبادات تعاملية :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث من دروس سورة التوبة، ومع الآية الأولى وهي قوله تعالى:

﴿  بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1)﴾

[ سورة التوبة ]

 أيها الإخوة الكرام، لابدّ من تمهيد لهذه الآيات، فكلكم يعلم أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعبده، ولكن العبادة عبادتان، عبادات شعائرية وعبادات تعاملية.

 فالعبادة الشعائرية: الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة.

 أما العبادة التعاملية: الصدق، والأمانة، وإنفاذ العهد، وتحقيق الوعد، وما إلى ذلك.

 يؤكد العبادة التعاملية أن سيدنا جعفر -رضي الله عنه- حينما سأله النجاشي عن الإسلام ذكر العبادة التعاملية، فقال:

((  أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء.  ))

[ أخرجه ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب  ]

 إلى آخر القيم الأخلاقية. 


الإسلام كيان أخلاقي و قيمي :


 لذلك الإسلام كيان أخلاقي، كيان قيمي، كيان مبادئ، كيان سلوك، هذا هو أصل الدين، فالإيمان هو الخُلق، ومن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان، والصفة الأولى التي مُدح بها النبي -عليه الصلاة والسلام- هي:

﴿  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(3)﴾

[  سورة القلم  ]

 فلذلك تصور إسلاماً بلا خُلق، طقوس، العبادات تُؤدّى أداءً شكلياً، مساجد، أبنية، تحف، صور، رموز، أُطُر، الإسلام قيم أخلاقية، فالصحابة الكرام وصلت راياتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، بقيم أخلاقية أصيلة.

يعني هذا الصحابي في أثناء هجرته قبض عليه المشركون، قال لهم: عهداً لله إن أطلقتموني لن أحاربكم، فأطلقوه، فلما جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- وحدثه بما حصل فرح به فرحاً شديداً، لكن بعد فترة من الزمن كان هناك غزوة، فمن شدة تلهفه للجهاد هذا الصحابي الذي عاهد المشركين ألا يقاتلهم انخرط في عِداد هذه الغزوة، فقال له النبي: ارجع ألم تعاهدهم؟.

 بهذه القيم وصل الدين إلى مشارق الشرق، ومغارب الغرب، وصل إلى الصين، وإلى مشارف باريس، ولن يمتد الدين إلا بالقيم الأخلاقية، لن ينتشر الدين إلا بالقيم الأخلاقية، لن يدخل الناس في دين الله أفواجاً إلا إذا كان المسلمون أخلاقيين، ما الذي يفرقنا عن الصحابة؟ جوامعنا رائعة، ممتلئة، كل الشعائر في أعلى مستوى، مكتبات، مؤتمرات، مظاهر إسلامية صارخة، لكن هذا الحب وهذه القيم التي عاشها الصحابة نفتقدها اليوم. 


العبادة الشعائرية لا نقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية :


 إخواننا الكرام، أنا لا أصدق أن يخدع المسلم أخاه، أو أن يغشه، أو أن يكذب عليه، أو أن يحتال عليه: 

((  يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب  ))

[ أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي وهو ضعيف  ]

 فإذا كذب وخان ليس مؤمناً (يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب) .

 ما دام التركيز في الدعوات الإسلامية على أداء العبادات الشعائرية فقط، وعدم الاهتمام بالعبادات التعاملية فهذه العبادات الشعائرية لا نستطيع أن نقطف ثمارها، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، من المُسلَّمات أن العبادة الشعائرية لا تُقطَف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية.

الصلاة:

(( لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلُها اللهُ عزَّ وجلَّ هباءً منثورًا قال ثوبانُ يا رسولَ اللهِ: صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا أن لا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ قال أما إنهم إخوانُكم ومن جِلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها ))

[ صحيح ابن ماجه عن ثوبان مولى رسول الله ]

((  قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً : ' أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ ؟ قالوا : المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. قال : إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار  ))

[  أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة  ]

 هذا الدين، هذه الصلاة

الصوم:

((  مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))

[ أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة  ]

 فليس لله حاجة لا في جوعه، ولا في عطشه.

((  رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش  ))

[ أخرجه الحاكم عن أبي هريرة  ]

 هذا الصيام

 الحج:  

(( من حج بمال حرام فقال: لبيك اللهم لبيك ، قال الله له : لا لبيك ولا سعديك حجك مردود عليك  ))

[ الأصبهاني في الترغيب عن أسلم مولى عمر بن الخطاب وهو ضعيف  ]

 الزكاة:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ(53)﴾

[  سورة التوبة ]

 يعني العبادات الشعائرية لا تُقطَف ثمارها إلا إذا صحت العبادات التعاملية، ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، هذا الكلام يعني لا تضيّع وقتك، لا تتحرك حركة ليست نافعة إطلاقاً، ما لم تستقم على أمر الله لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، كيف أن التجارة فيها آلاف النشاطات، من شراء محل، إلى شراء مستودعات، إلى شراء مكاتب استيراد، إلى تعيين موظفين، إلى تعيين مندوبي مبيعات، إلى عرض البضاعة، إلى السفر، إلى المعارض، إلى استيراد البضاعة، إلى تخليصها، إلى تخزينها، إلى عرضها، إلى بيعها، إلى جمع أموالها، عشرات، بل مئات، بل ألوف النشاطات، لكن كل هذه النشاطات تُضغَط بكلمة واحدة: إنه الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً.

 والدين: إنشاء مساجد، إنشاء معاهد شرعية، إقامة مؤتمرات، عقد ندوات، تأليف كتب، كل هذه النشاطات يمكن أن تُضغَط بكلمة واحدة، إنها الاستقامة، فإن لم تستقم لن تقطف من ثمار الدين شيئاً. 


الإيمان مرتبة علمية و أخلاقية :


 فلذلك أحياناً يأتي الحديث عن الصلاة، وعن أنها عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات، وهناك حديث طويل عن الصيام، وعن الحج، وعن الزكاة،..إلخ، وهناك حديث أطول عن العبادات التعاملية.

 فالمؤمن، كلمة مؤمن ماذا تعني؟ كلمة دكتور بمصطلح معاصر يعني في أي بلد في العالم تعني أن حامل هذه الشهادة معه شهادة ابتدائية، إعدادية، ثانوية، لسانس، دبلوم عامة، دبلوم خاصة، ماجستير، دكتوراه، كلمة دكتور، أو حرف دال قبل اسم هذا الإنسان معنى ذلك أنه يحمل كل هذه الشهادات بالضبط.

 ماذا تعني كلمة مؤمن؟ كلمة مؤمن تعني على حقيقتها: تعني أن صاحب هذا اللقب يتمتع بمعرفة يفتقر إليها غير المؤمنين، عرف الله، عرف خالق السماوات والأرض، عرف حقيقة الحياة الدنيا، عرف حقيقة وجود الإنسان، عرف من أين جاء؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ عرف سرّ وجوده، عرف غاية وجوده، فكلمة مؤمن مرتبة علمية، وقد قيل: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، لو اتخذه لعلمه.

 كلمة مؤمن تعني أنها مرتبة أخلاقية، هذا الإنسان لا يكذب، لا يغش، لا يحتال، لا يتآمر، يعمل في النهار، لا يوجد عنده شيء مُعلن وشيء غير مُعلَن، سره كعلانيته، وعلانيته كسرّه، باطنه كظاهره، وظاهره كباطنه، كما قال عليه الصلاة والسلام:

((  تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها  ))

[ أخرجه ابن ماجه والحاكم عن العرباض بن سارية  ]

 المشكلة أن اثني عشر ألفاً من المؤمنين الصادقين في الأرض لن يُغلبوا.

((  ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ  ))

[ أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس وهو ضعيف ]

 فإذا كان مجموع الأمة يزيد عن مليار وخمسمئة مليون، وليست كلمتهم هي العليا، وليس أمرهم بيدهم، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل، ويملكون أكبر الثروات، وشعوبهم أفقر الشعوب، كيف نفسر ذلك؟ نفسر ذلك كما قال الله عز وجل:

﴿  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً(59) ﴾

[  سورة مريم  ]

 وقد لقي المسلمون ذلك الغي. 


الإسلام منهج تفصيلي :


 إخواننا الكرام، لا تتصوروا أبداً أن الإسلام أن تصلي فقط، أن تكتفي بالصلاة، وأن تصوم رمضان، وأن تحج البيت، وأن تؤدي الزكاة، وانتهى كل شيء، لم ينتهِ شيء من هذا، الإسلام منهج، منهج تفصيلي، يغطي كل نشاطات حياتك، كما أقول دائماً وأكرر: بدءاً من فراش الزوجية وانتهاءً بالعلاقات الدولية، منهج.

 فلذلك من هو البطل؟ هو الذي يدرس هذا المنهج، ليطبقه في زواجه، في اختيار زوجته، في تربية أولاده، في عمله، في كسب ماله، في إنفاق ماله، في مناسباته الحزينة -لا سمح الله- وفي المناسبات السعيدة، كيف تتحرك؟ أنت كائن متحرك، تتحرك بدافع إلى الطعام والشراب حفاظاً على بقائك كفرد، تتحرك بدافع إلى الزواج حفاظاً على بقاء النوع، تتحرك بدافع إلى تأكيد الذات حفاظاً على بقاء الذكر، هذه الحركة ما الذي ينظمها؟ منهج رباني.

 يعني ببساطة ما بعدها بساطة، تقتني آلة غالية الثمن، عظيمة النفع، معقدة التركيب، ومعها نشرة، أي إنسان يقتني آلة غالية جداً ومعها نشرة حفاظاً على سلامتها، وحفاظاً على أدائها أداءً كاملاً لا يستعملها قبل أن يقرأ تعليمات الصانع، ببساطة بالغة أنت أعقد آلة في الكون، ولهذه الآلة صانع حكيم، ومربٍّ رحيم، هذا الكتاب تعليمات الصانع مشروحاً من قبل المعصوم، فهذا الكتاب والسنة هما المنهج، فإذا أردت سلامتك، أردت سعادتك، أردت استمرارك من خلال أولادك، طبق تعليمات الصانع، إذا أردت أن تسلم وتسعد، وأن تنجح في الدنيا والآخرة، وأن تكون من الفالحين، طبق تعليمات الصانع.


تكامل العبادات الشعائرية مع القيم الأخلاقية :


 أنا في هذه المقدمة أريد أن أركز على أن الدين في حقيقته مجموعة قيم أخلاقية مع مجموعة عبادات شعائرية، العبادات الشعائرية والقيم الأخلاقية تتكاملان، وكلاهما شرط لازم غير كافٍ، أن تقول لي: أنا أخلاقي لكن لا أصلي، مرفوض عملك، لابد من أداء الصلوات؛ لأنها فرض على كل مسلم، الأخلاقيات من دون عبادات لا قيمة لها، والعبادات من دون أخلاقيات لا قيمة لها، التعبير المعاصر: كلاهما شرط لازم غير كافٍ، العبادات، والمعاملات، فديننا دين عبادات شعائرية، كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، ودين عبادات تعاملية كالصدق، والأمانة، والعفة، وأداء الواجبات، وإنجاز الوعد، والحفاظ على العهد.

 فإذا فهمنا الدين مجموعة عبادات شعائرية لا غير أخطأنا الهدف، وإذا فهمنا الدين مكارم أخلاقية ولا تحتاج إلى عبادات أخطأنا الهدف، ما لم يكن الدين بجناحيه: جناح العبادات الشعائرية مع جناح العبادات التعاملية، لن نحلق في سماء السعادة إطلاقاً، الدين مجموعة عبادات شعائرية، مجموعة مبادئ أخلاقية، فإذا حلّقنا في السماء بهذين الجناحين معاً سعدنا وسلمنا، وإذا اكتفينا بجناح واحد وقعنا.


البراءة و العصمة :


 أيها الإخوة الكرام، هذه السورة سورة التوبة بدأت بقوله تعالى:

﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فالبراءة تُناقض الاستمساك، بيني وبين فلان عهد أنا مستمسكٌ به، مطبقٌ لشروطه، والبراءة من هذا العهد أن ألغي هذا العهد، وأن أتحرر من قيود هذا العهد.

 إخواننا الكرام، العصمة: الاستمساك، والآية الكريمة:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 العصمة: أن تستمسك بهذا الشيء، العصمة: أن تستمسك ببنود هذا العقد، العصمة: أن تستمسك ببنود هذا العهد، العصمة: أن تستمسك ببنود هذا الوعد، هذه العصمة استمساك، والبراءة: انقطاع العصمة، قال تعالى:

﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)﴾

[  سورة آل عمران ]

﴿ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)﴾

[  سورة هود ]

 فلذلك البراءة تعني أنه كان هناك عهد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، المشركون نقضوا هذا العهد، فلا معنى أن يستمسك المسلمون بهذه البنود، من السذاجة والخطأ أن يبقى المسلمون مستمسكين بهذا العهد، لذلك جاءت البراءة من الاستمساك بهذا العهد الذي كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، هذه البراءة لم تأتِ من إنسان، بل جاءت من الواحد الديان ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي البراءة بسبب أمر إلهي بلغها النبي -عليه الصلاة والسلام- ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ .

 للتوضيح: فلان برِئ من الدَّين؛ كان الدائن ممسكاً به، فلما أدّى الدَّين أطلقه، برِئ من المرض؛ كان المرض ممسكاً بهذا الإنسان، أقعده في الفراش، ترك عمله، فلما شفي هذا المريض انطلق إلى عمله، فبرئ أي خرج من هذا القيد، كان المرض قيداً، وكان الدَّين قيداً، فالبراءة الخروج من هذا القيد. 


على الإنسان أن ينضم إلى المؤمنين و يعيش معهم : 


 أيها الإخوة، كان عليه الصلاة والسلام قد عاهد قريشاً، وعاهد اليهود ولم يوفِّ هؤلاء بعهدهم، لذلك كان لزاماً أن تُنقَض هذه العهود، وقد يقول قائل -والسؤال وجيه-: النبي -عليه الصلاة والسلام- فتح مكة في العام الثامن للهجرة، وجاءت هذه البراءة في العام التاسع، فالسائل يسأل: لِمَ تأخرت البراءة من هذه العهود عن عام الفتح؟ هناك من أجاب فقال: النبي -عليه الصلاة والسلام- حرر المكان أولاً بفتح مكة، وتكسير الأصنام، وعبادة الواحد الديان، وفي العام التاسع حرّر القاطنين بمكة من هذه العهود التي نقضوها هم في الأساس.

 لكن العبرة أن الحياة أحياناً تختلط فيها الأوراق، والاختلاط خطير جداً، يعني أوراق المؤمنين مختلطة مع أوراق الكفار، مع أوراق المشركين، مع أوراق المنافقين، فالبطولة أن يتمايز كل فريق على حِدة.

 يعني أحياناً يذهب إنسان إلى بلاد الغرب، يسكن في أحد أحياء هذه المدينة، كل من حوله أناس لا يعرفون الإسلام إطلاقاً، لا يوجد عندهم انضباط إسلامي، ولا انضباط أخلاقي، تجد أن المعيشة مع هؤلاء، مع الاختلاط، مع التداخل، يبعث ابنه إلى المدرسة، بالمدرسة مبادئ وقيم بعيدة عن مبادئنا وقيمنا، بعيدة بعد الأرض عن السماء، فما يعد عندنا جريمة يعد عندهم تسلية ولا شيء فيها.

 فلابد من أن يجتمع المؤمنون في مكان واحد يقيمون الصلوات، عندهم مسجد، عندهم لحم حلال-تقريباً- عندهم طعام إسلامي، أولادهم ينشؤون مع أولاد إخوانهم، يوجد مسجد صغير، فلذلك الإنسان ينبغي أن ينضم إلى المؤمنين، وأن يعيش معهم.


للانضمام إلى مجموع المسلمين ثمار كبيرة جداً :


 يترتب على الانضمام إلى المسلمين ثمار كبيرة جداً، من هذه الثمار أن الله أشار إليها، قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)﴾

[  سورة التوبة ]

 كن معهم، انضم إليهم، اجلس معهم.

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾

[  سورة الكهف  ]

 إذاً لا بدّ من أن تنضم إلى جماعة المؤمنين.

((  والجماعة رحمة والفرقة عذاب  ))

[ أخرجه الطبراني عن النعمان بن بشير وهو ضعيف  ]

 لا تستطيع أن تستقيم على أمر الله إلا إذا كنت مع المؤمنين، الأخ المؤمن، يقول لك: هل صليت العصر؟ قم لنصلِّ، الأخ يخاف من الله، الأخ يغض بصره، الأخ عفيف، إذا صاحبت مؤمناً تقويت به على طاعة الله، وإذا صحب الإنسان فاسقاً قواه الفاسق على معصية الله، لذلك:

((  لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنا، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ  ))

[ أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري  ]

 فكأن هذه البراءة جعلت التمايز واضحاً جداً بين المؤمنين، وبين المشركين، وبين المنافقين. 


من كان مع المؤمنين كانوا حصناً له :


 الآية الكريمة:

﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)﴾

[  سورة النساء  ]

 معنى ذلك أن للمؤمنين سبيلاً، هناك قيم ومبادئ بين المؤمنين، المؤمن لا يغش، ولا يخدع، ولا يخون، ولا يكذب، هذه الحدود الدنيا في الإيمان، فإذا كنت مع المؤمنين كانوا حصناً لك.

((  عليكم بالجماعةِ، وإِيَّاكُم والفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ ـ وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصيةـ  ))

[ أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمر ]

 إذاً: عن طريق هذه البراءة من العهود التي لم تُطبق، والمواثيق التي انتُهكت، تمايز المؤمنون عن غيرهم من المشركين، وعن غيرهم من المنافقين. 


البراءة التي نزلت ليست من البشر لكنها من خالق البشر :


 الشيء الدقيق في هذه الآية: أن هذه البراءة ليست من البشر، لكنها من خالق البشر؛ لأن خالق البشر:

﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) ﴾

[  سورة طه  ]

 يعلم ما تسره، ويعلم ما لا تعلمه ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾

 لذلك عبر الإمام علي رضي الله عنه بهذه المقولة: "علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون" .

 فهذه البراءة من الله، من العليم، من الخبير، من الذي لا تخفى عليه خافية، إذاً هي أمر إلهي، لأنه ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ .


رحمة الله عز وجل بعباده :


 لكن بعد هذه الآية: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لكن لئلا نُتَّهم  أننا أخذناهم على حين غرة، قال تعالى: 

﴿  فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(2)﴾

[  سورة التوبة ]

 ملمح رائع جداً، أضرب مثلاً بسيطاً: في بلد ما يتساهل في موضوع أخذ رسوم البضاعة المستوردة، فمعظم المحلات فيها مخالفات، أي فيها بضاعة جاءت بطريق غير نظامي، مرة سمعت قراراً في دولة مجاورة أعطت الناس أربعة أشهر فرصة لتدبر شؤونهم، وتأمين رخص لبضاعتهم، بعد هذه الأشهر الأربع، يبدأ التفتيش، أنا لفت نظري أن هذا القانون حضاري، يعني فوضى بالاستيراد، فوضى بعدم دفع الرسوم الجمركية، في اليوم هناك تجديد، الناس كلها مخالفة، فالبطولة أن تعطي هذا الإنسان فرصة.

 الآية دقيقة جداً، يا أيها الذين أشركتم، ونقضتم عهدكم مع محمد -عليه الصلاة والسلام- معكم مهلة أربعة أشهر ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي تحركوا على مهل، اطمئنوا لن نحاربكم، أعطى الله -عز وجل- هؤلاء الذين نقضوا عهودهم مع رسوله أعطاهم فرصة أربعة أشهر.

﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ سيحوا: يعني تحركوا برخاء، بيسر، مثل السياحة، إذا الإنسان يركب مركبته للنزهة لا يسرع، لأن الطريق نزهة، الطريق جميل جداً، يمشي ببطء، هذه الفسحة.

﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ لكن بعد هذه الأشهر الأربع سوف تُطبّق عليكم قوانين صارمة، ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ يعني هذا درس لنا، أنت أب، أنت معلم، مدير مؤسسة، رئيس جامعة، مدير مستشفى، هناك فوضى، أعطِ مهلة لضبط الأمور، وبعدها حاسب، معنى ذلك أنك لم تأخذ أحداً على حين غِرّة، ليست القضية قنصاً، وأنا أقول: أي قانون يصدر حديثاً ويعطي المواطنين مهلة لتدبر شؤونهم قانون حضاري.

 أحياناً مثلاً: نرفع الرسوم الجمركية ضعفين، متى؟ هناك بضائع دُفعت رسومها، فإذا وصلت إلى الميناء ينبغي أن نأخذ الرسوم السابقة، على أساس أنه قدم فواتير، وقدم أسعاراً، وقدم أشياء بالنظام السابق، فكلما كان النظام راقياً وحضارياً يعطي مهلة لمن سيطبَّق عليهم النظام، كي يتدبر أمره وبعد ذلك يأتي الحساب. 


الأحمق من اعتدّ بقوته مع الله عز وجل :


﴿ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ يعني فرضنا أن هذا الذي أُعطي المهلة أربعة أشهر كان قوياً جداً، لم يعبأ بهذه المهلة، على رِسلك، أنت لا تعجز الله -عز وجل-، مع الله لا يوجد قوي، مع الله لا يوجد ذكي، مع الله هناك مستقيم، لذلك يؤتى الحذر من مأمنه، وأي إنسان يعتد بقوته مع الله أحمق، وأي إنسان يعتد بذكائه مع الله أحمق، مع الله هناك مستقيم، المستقيم ينجو، أما القوي لا ينجو.

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ أنت في قبضته، في قبضته دائماً، يعني نقطة دم لا تُرى بالعين، بحجم رأس الدبوس تتجمد في أحد فروع الشرايين في الدماغ بمكان شلل، بمكان فقد ذاكرة، بمكان عمى، أعوذ بالله! كل شأنك، وقوتك، ومكانتك وحجمك المالي، وهيمنتك، وسيطرتك، تتوقف على خثرة دم تتجمد بالدماغ.

 ملك بأوج قوته أصيب بخثرة في الدماغ، انتهى، بقي عشر سنوات درجة عاشرة، فأنت في قبضة الله، لا تقل: أنا، كل أموالك منوطة بضربات قلبك، توقف القلب انتهى كل شيء، كل مكانتك، وأموالك، وهيمنتك منوطة بسيولة الدم، تجمد الدم في العروق، احتشاء، انتهى كل شيء، كل أموالك، ومكانتك، وهيمنتك بنمو الخلايا، فإذا نمت نمواً عشوائياً انتهيت، أنت بكلمة.

 لذلك: ﴿واعلموا﴾ أيها الذين عاهدتم، ونقضنا عهدنا معكم، لا تعتدوا بقوتكم.

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ للتقريب: ثلاثون دولة، من أقوى الدول في العالم، معها أسلحة فتاكة، طيران، على أقمار صناعية، على قنابل عنقودية، على قنابل فسفورية، على قنابل حارقة، وخارقة، وليزرية، وقواعد، وحاملات طائرات، وصواريخ عابرة للقارات، ثلاثون دولة، لم تستطع أن تقف أمام مقاتلين، مقاتل يحمل بندقية فقط، 73% من هذه البلاد أصبحت بيد المقاومين، هذا درس بليغ، إذا كان الله -عز وجل- معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟.

 هناك معنى آخر: هذا الجندي الذي يحمل رسالة ضرب مليون جندي لا يحمل رسالة، الأمة ليس لها رسالة لها طموحات اقتصادية، أن تحتل منابع النفط، أن تحتل أماكن إستراتيجية، فهذه أهداف أرضية، ما دام لا يوجد مبادئ وقيم، الذين يقاتلون أشخاص بلا رسالة، والذين يدافعون عن دينهم، وعن أمتهم، وعن بلادهم، أشخاص معهم رسالة، فالفرق كبير جداً بين من يملك رسالة ومن لا يملك رسالة،

﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾

والحمد لله رب العالمين

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور