- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (003)سورة آل عمران
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الخامس من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية الحادية عشرة ، والتي قبلها ، وهي قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ(10)كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
1 ـ الدأب :
أي كعادة أهل فرعون ، الدأب هو العادة والشأن
2 ـ عادة فرعون تكذيب الأنبياء ، وعادة الأقوياء والأغنياء تكذيب الدعاة إلى الله :
عادة فرعون تكذيب الرسل ، وعادة الأقوياء والأغنياء الشاردين عن الله تكذيب أيَّة دعوةٍ صادقة ، لأن حياتهم مبنيةٌ على شهوات ، والدعوة الصادقة فيها منهج ، فيها افعل ، ولا تفعل ، فأية دعوة صادقة من عند الله عز وجل فيها حَدٌ لشهواته ، وحدٌ لعدوانهم ، وحدٌ لبغيهم ، وحد لتطاولهم ، فشيء طبيعيٌ جداً أن القوي أو الغني يعيش حياةً مترفةً ، وهذه الحياة المترفة ليست وفق منهج الله ، منهج الله فيه عدلٌ ، من أروع ما قيل في الشريعة : " إنها عدل كلها ، مصلحة كلها ، رحمة كلها ، حكمة كلها ، وأية قضية خرجت من العدل إلى الجور ، ومن الرحمة إلى القسوة ، ومن الحكمة إلى خلافها ، ومن المصلحة إلى المفسدة ، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل " .
منهج الله يحقق العدل للبشر ، يمنع الظلم ، يمنع التطاول ، يمنع الكبر ، فالأغنياء والأقوياء الشاردون عن الله عز وجل من شأنهم ، ومن طبيعتهم الفاسدة ، ومن عاداتهم المتوارثة أن يردوا الحق ، وأن يكذبوا ، ومن شأن الله معهم أن يدمِّرهم ، شأنهم التكذيب ، وشأنه معهم التدمير ، هذا معنى :
﴿ كَدَأْبِ ﴾
العادة والشأن ..
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾
حينما جاء النبي عليه الصلاة والسلام ، مَن الذين آمنوا به ؟ الفقراء والضعاف ، أما أقوياء قريش فاستكبروا ، واستنكفوا ، واستَعْلوا .
عادة الله مع المكذبين القصم والهلاك :
وعادة الله مع هؤلاء :
﴿ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
آيةٌ واضحةٌ كالشمس ، فشأن الأقوياء والأغنياء التكذيب ، وشأن الله معهم الإهلاك .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُون
أما هذه الآية التي بعدها :
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ﴾
1 ـ الكافر مهما بلغ من القوة فهو مغلوب :
مهما علوا ، مهما تغطرسوا ، مهما اشتدوا :
﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى(50) ﴾
معنى ذلك أن ثمة عادًا ثانية ، ونحن نعيشها الآن ، تقول عاد الثانية :
﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
سياسة الخارجية كسياسة الداخلية ، أملي أوامر ، إن ذهب أحدٌ إلى هذه البلاد يقول : لم يخلق مثلها في البلاد ، أموال الدنيا كلها فيها ، بلاد بنيت بناءً تامًا ، مرافقها من أرقى المرافق ، صناعتها ، زراعتها ، جمال بلادها ، وفرة الأموال ..
﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ(8) ﴾
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ(128) ﴾
عاد الثانية كعاد الأولى ، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون ، وإذا بطشوا بطشوا جبَّارين ، خمسمئة طفل يموتون من الجوع كل عام ، جوعاً ومرضاً ، ولا يرحمون ، وكيف هلاكهم ؟ بالأعاصير ..
﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7) ﴾
كأن هذا شأن الأقوياء والأغنياء ، وشأن الله معهم أن يهلكهم ، وأن يدمرهم ، ولكن الأحمق يظن حينما يكون الحبل مرخًى ، يظن أنه طليق ، أما هو ففي قبضة الله ، في أية لحظة يدمره الله عز وجل ، والدليل :
﴿ إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ﴾
والله الأرض الآن في زينة ما بعدها زينة :
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾
يقول لك : البلد الفلاني عنده قنابل تدمر الأرض خمسة مرات ، القارات الخمس ، قنابل نووية ..
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾
أي قادرون عليها استطلاعا ؛ فأيّ بقعة تصور ، أنا اطَّلعت على مجلةٍ مدهشة ، الأرض كلها في صوِّرت من القمر ، على هذه الصورة مربعٌ صغيرٌ جداً ، لما كُبِّر ظهرت أمريكا الشمالية ، وعلى هذه الصورة مربع صغير جداً ، لما كُبِّر ظهرت ولاية فلوريدا ، وعلى هذه الصورة مربع صغير جداً ، لما كبر ظهر ساحل من سواحل فلوريدا ، عليه نقطة سوداء ، لما كبرت ظهر مرج أخضر، وشخص مستلقٍ على قماش ، ويقرأ روايةً ، وإلى جانبه صحن فيه فواكه ، هذه الصورة من المركبات الفضائية ..
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾
استطلاعاً ، وتدميراً ، يقول لك : من مكان بعيد ، من قارة أخرى يأتي الصاروخ في غرفة النوم ، دقة إصابة مذهلة :
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ﴾
2 ـ الله تعالى يطمئن المؤمنين :
فربنا عز وجل يطمئن المؤمنين ؛ مهما رأيت الباطل مستعلياً ، مهما رأيته متمَكِّناً ، مهما رأيته قوياً ، والله في بلاد فيها أسلحة لا يصدق العقل حجمها ، ومع ذلك تداعت من الداخل ، وانهارت من الداخل ، وانهيارها والله معجزة ، معجزة من معجزات الله عز وجل ، وقد قال بعضهم : "عرفت الله من نقض العزائم " ، وكل أمة استعلت لابد من أن تذل ، لكن ..
﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾
قد نشاهد ، وربما لا يتاح لنا أن نشاهد ، وقد نشاهد ، وربما لا يسمح عمرنا أن نشاهد ، ولكن الله يمهل ، ولا يهمل .. وقوله تعالى :
﴿ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ(59) ﴾
معنى
﴿ سَبَقُوا ﴾
أنهم فعلوا شيئاً ما أراده الله ، أو تفلتوا من عقاب الله ، مستحيل ، مستحيل وألف ألف مستحيل أن يفعل الكافر شيئاً ما أراده الله ، إن خطة الله تستوعب خطة الكافر ، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن يتفلَّت الكافر من عقاب الله ، لن يسبق الله عز وجل ، لذلك ربنا يطمئن المؤمنين :
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ﴾
3 ـ الإسلام دين الله ، فكن من أنصاره :
أنت حينما تتصوَّر كفَّار قريش ، وهم أقوياء عتاة ، أما المؤمنون فضعاف مستضعفون فقراء ، ومع ذلك حينما فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكة المكرمة ، وقد ناصبته قريش العداء عشرين عاماً ، ينكِّلون بأصحابه ، وأرادوا استئصاله ، فكانت معركة الخندق معركة وجود ، بقي للإسلام ساعات وينتهي ، ولكن لا تقلق على هذا الدين ، إنه دين الله ، اقلق على شيءٍ واحد ؛ أن الله سمح لك أن تتشرف بنصرته ، أو لم يسمح لك ، فقط ذلك ، إنه دينه ؛ فإذا شاء نصره بالرجل الفاجر ، وإذا شاء سخَّر أعداءَه لنصرته دون أن يشعروا ، لأنه دينه ، فقلقك لا ينبغي أن يكون على سلامة هذا الدين ، إنه دين الله ، ولكن من حقك أن تقلق أن الله سمح لك أن تنصره ، سمح لك أن تدلي بدلوٍ في نصرته ، سمح أن تكون داعيةً له ، سمح أن تكون قوةً له ، هنا القلق ..
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ﴾
فأنت حينما ترى لعبة سيارات كهربائية ، كلكم تعرفونها ، وهؤلاء الصغار يتطاحنون ، ويضرب بعضهم بعضاً ، الذي بيده قطع التيار الكهربائي ، إذا فعل هكذا ، فكلّ السيارات تقف ، وكذا - ولله المثل الأعلى - في لحظة ينهي الله عز وجل كل شيء ، فيكون مصير هؤلاء العتاة ..
﴿ إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29) ﴾
صيحة واحدة فينتهون ، إعصار واحد دمر ما مقداره ثلاثين مليارًا ، إعصار واحد بشرق أمريكا بالنيوجيرسي كلفة دماره ثلاثون مليار دولار ، إعصار من عند الله مباشرة ، فالله عز وجل عنده وسائل لا تعد ولا تحصى ، أحياناً يلقي الرعب في قلب الكافر من الداخل ، أحيانا خطأ بسيط يدمِّر ما صنعه .
قصص قرآنية تبعث الأمل :
1 ـ موسى مع فرعون :
سيدنا موسى مع بني إسرائيل كانوا قلة قليلةً مستضعفة ، شرذمة قليلين ، وفرعون وما أدراك ما فرعون ؛ بقوته ، وطغيانه ، وجبروته وراءهم ، والبحر أمامهم ، بالحسابات الأرضية لا أمل أبداً ، مقتولون جميعاً ، و ..
﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ(62) ﴾
2 ـ يونس في بطن الحوت :
وهذه قصة سيدنا يونس لا لأخذ العلم ، بل من أجل أن تؤمن بها ، سيدنا يونس كان في بطن الحوت ، ما من مصيبةٍ على الإطلاق أشد من أن تجد نفسك فجأة في بطن حوت ، في ظلام بطن الحوت ، وفي ظلام الليل ، وفي ظلام أعماق البحر ، نبيٌ كريم يجد نفسه فجأة في بطن حوت في ظلماتٍ ثلاث ..
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
في أي مكان ، وفي أي زمان ، وفي أي ظرف ..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
قصة من الواقع :
والله هناك قصة سمعتها قبل أن آتي إليكم ، يقشعر لها البدن : سائق تاكسي ، استوقفه شخص فقير ، وشبه عاجز ، قال له : إلى أين ؟ قال له : إلى أقصى جادة في الجبل ، وما معي درهم أعطيك إيَّاه ، قال له : حاضر ، أوصله إلى آخر جادة ، فلما نزل من مركبته ، أقبل عليه أولاده ، وسألوه : أجئتنا بالخبز يا أبت ؟ قال : والله ما جئت بالخبز ، استحييت من السائق أن أوقفه ، فالسائق أراد أن يكمل معروفه ، فنزل إلى جادة في الأسفل ، واشترى خمس ربطات وذهب إليه ، أعطاه الخبز ، يقسم بالله من شدة جوع أولاده التهموا نصف الخبز في دقائق ، من جوعهم ، ونزل ، استوقفه سائحان قالا له : خذنا إلى المطار ، فأخذهما إلى المطار ، ونقداه ألفين وخمسمئة ليرة ، والتسعيرة خمسمئة ليرة ، وهو في المطار جاءه سائحان آخران طلبا أن يوصلهما إلى فندق في دمشق ، أعطوه مئتي دولار ـ عشر آلاف ـ فرجع إلى هذا البيت ، واشترى لهم ما لذ وطاب من الفواكه ، والحلويات ، واللحوم ، مع مبلغ من المال ، قال له : كل هذا الرزق بسببك ، لأنني خدمتك .
لكن الناس تصحَّروا الآن ، لا يتحرك إلا بمال ، فكلما قل الخير تخلى الله عنا ، هذا تشجيع من الله ، أنت أوصلت عاجز إلى آخر جادة ، أردت أن ترحمه ، بعد ذلك أمَّنت له خبزًا ، هذا وقت، ومال ، وبنزين ، الله عز وجل أراد أن يكافئك مباشرةً ، أكثر من اثنتي عشر ألف ليرة في يوم واحد مقابل هذه الخدمة ..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
آيات الله :
الآن ، قال الله عز وجل :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
الآية العلامة الدالة على شيء ، فمن علامات خلق الله عز وجل ؟
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾
وأضيف إلى هذه الآيات آية فريدة من نوعها ، قال تعالى :
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ﴾
الآن دقق كيف أن الشمس آية ، والقمر آية ، والليل آية ، والنهار آية ، ونحن المسلمين في أمسِّ الحاجة لهذه الآية ..
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
1 ـ القرآن قوة في البلاغة :
في البلاغة لون رائع مطبَّق في هذه الآية ، فهو يذكر شيئاً ، ويحذف ما دل عليه في الثاني ، ويذكر شيئاً في الثاني ، ويحذف ما دل عليه في الأول ، فيقولون : البلاغة في الإيجاز ، فأصل الآية : قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة كافرة تقاتل في سبيل الشيطان ، أواضح ذلك ؟ فقال :
﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
لما قال :
﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾
معنى ذلك أن الأولى مؤمنة ، فالبلاغة في الإيجاز ، والثانية قال :
﴿ كَافِرَةٌ ﴾
ما قال : تقاتل في سبيل مَن ، ما دام الأولى في سبيل الله ، إذاً الثانية في سبيل الشيطان ، البلاغة في الإيجاز .
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾
2 ـ بمقاييس الأرض النصر مستحيل في هذه المعركة :
بمقاييس الأرض النصر مستحيل ، بمقاييس العَدَد ، والعُدَد ، والتدريب ، والأسلحة ، والمدى المُجْدي ، والأقمار ، والإعلام ، والتوجيه المعنوي ، المعركة خاسرة بمقاييس الأرض المعركة ، لماذا كانت هذه آية ؟ لأن هذه الفئة القليلة ، الضعيفة ، المستضعفة غلبت فئةً كثيرةً قويةً عاتيةً متمردة ، آية من آيات الله ، فبحسب قوانين الأرض لا يعقل لدراجة أن تسبق مركبة ، ولا يعقل لطفلٍ أن يقاوم جماعةً ، لكن إذا كان الله معك فمَن عليك ، وإذا كان عليك فمن معك ؟!
هناك مَثَل واقعي من حياتنا اليومية ، هذه الدولة الصغيرة بمليوني شخص ، لماذا تتحدى كل الشرق الأوسط ؟ لأن معها أكبر دولة ، تتحدى مَن حولها لا بقوتها الذاتية ، بل بدعم أكبر قوة في العالم ، إذاً أنت قوي بالله ، لو استعنت بالله أعانك ، وإذا استنصرت به نصرك .
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾
النصر الاستحقاقي ، والنصر التفَضُّلي ، والنصرٌ التكويني :
لذلك قال العلماء : هناك نصرٌ استحقاقي ، ونصر تفَضُّلي ، ونصرٌ تكويني ...
الاستحقاقي :
﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾
كما انتصر المسلمون في بدر ، قلة قليلة ، ألف مقاتل على ثلاثمئة راحلة ، بلا عُدَد ، ولا خيول مسوَّمة ، ولاهم يحزنون ، واجهت أكبر قوة في قريش وانتصرت.
وأما النصر التفَضُّلي فربما لا تكون على الحق مئة بالمئة ، ولكن حكمة الله اقتضت أن تنتصر ، كما انتصر الروم على الفرس ، قال تعالى :
﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾
أما النصر التكويني فكلا الطرفين لا إيمان له بالله ، ينتصر الأقوى ، فالهليكوبتر مدى مدفعها سبعة كيلو مترات ، وطائرة واحدة تدمر مئة دبابة ، لأن سلاحها يصل إلى المدرعة ، والمدرعة سلاحها لا يصل إلى الطائرة ، انتهت العملية ، فالقضية تكنولوجيا ، قضية حرب بين عقلين ؛ العقل الأرجح والأذكى والأقوى ينتصر ، ففي النصر الاستحقاقي يكون الله مع المؤمنين ، وفي النصر الثاني حكمة الله اقتضت أن ينتصر الأول ، على شيءٍ من الحق ، أما الثالث ؛ النصر التكويني فالنصر للأقوى ، لذلك قالوا : الحرب بين حقين لا تكون ، لأن الحق لا يتعدد ، وبين حق وباطل لا تطول ، لأن الله مع الحق ، وبين باطلين لا تنتهي ؟
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ ﴾
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَار
إذاً : هذه الآية تملأ نفوس المؤمنين ثقةً ، أن الله يتدخل ، من هنا أمرنا أن نعد لهم ما استطعنا ، قال تعالى :
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾
آيتان تحددان عوامل النصر :
هناك آيتان في القرآن الكريم كافيتان لتحديد عوامل النصر ، قال تعالى :
﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(47) ﴾
والآية الثانية :
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾
وأروع ما في الآية الثانية أن الله ما كلَّفنا أن نعد العُدَّة المكافئة ، لا ، لا ، فقد كلفنا أن نعد القوة المتاحة لنا فقط ، لو أننا عرفنا ربنا ، وعرفنا معاني كتابنا ، واصطلحنا مع الله ، والله الذي لا إله إلا هو فهذه العجرفة ، والغطرسة ، والإجرام من أعدائنا اليهود - قاتلهم الله - لا تكون ، فنحن ابتعدنا عن ديننا ، وابتعدنا عن شرعنا ، ولم نقرأ كتابنا ..
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
غيِّر ما في نفسك يغير الله واقعك :
لو أننا آمنا بالله ورسوله الإيمان الذي يليق بنا ، وأعددنا القوة المتاحة ، واستعنا بالله ، لانتصرنا على أعدائنا ، فلا سبيل إلا أن نعود إلى الله ، ولا سبيل إلا أن نصطلح مع الله ، ولا سبيل إلا أن نُغَيِّر ، ولكن الذي يدهش أن المسلمين في آخر الزمان ليسوا مستعدين أبداً أن يغيروا ، ولكنهم ينتظرون من الله أن يغيِّر ، وهذا مستحيل ، هم ليسوا مستعدين أن يغيروا ؛ لا من دخلهم ، ولا من إنفاقهم ، ولا من استمتاعهم بالحياة ، ولا، ولا ، ولا ، ولكنهم ينتظرون من الله أن يغير قوانينه ، وهذا مستحيل ، فالناس امتنعوا في بعض البلاد عن شراء بعض البضائع التي تنتمي لبلاد تعادي المسلمين ، ترك هذا أثراً كبيراً ، أطمئنكم ترك هذا أثراً كبيراً ، حتى إن بعض المؤسسات الغذائية الضخمة التي لها فروع في كل أنحاء العالم ، خصصت لكل شطيرةٍ تباع مبلغاً لأبناء الأرض المحتلة ، شركة من بلد تعادي المسلمين ، حرصاً على مصلحتها ، فقد توقفت المبيعات ، هذا متاح لكل مسلم ؛ أن يمتنع من شراء بضاعة تنتمي لدولة معادية فقط ، لست مسؤولاً ، وليس ثمة مشكلة ، ولا أحد يحاسبك ، فقط أريد بضاعة من بلاد أخرى .
أنا قرأت في موقع معلوماتي كيف أن هذه الشركة الضخمة التي لها مبيعات فلكية في دول الخليج هبطت مبيعاتها إلى رقم لا يذكر ، فاضطرت أن تعلن أن كل شطيرةٍ تباع كذا ( سنت ) إلى أبناء فلسطين ، تشجيعاً للناس على أن يعودوا لشراء هذه الشطائر ، المسلم يملك كل شيء ، لكنها تحتاج إلى إيمان ، وشيء يحتاج إلى وعي ، وشيء يحتاج إلى أن تؤثر الآخرة على الدنيا .
على كلٍ ..
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾
معنى ذلك أن انتصار الضعفاء من آيات الله الدالة على عظمته ، والضعيف عنده أسباب القوة ، وقد تَكْمُن القوة في الضعف ، فنحن ولو افتقرنا إلى بعض مقومّات القوة إيماننا يهبنا قوة .
أيها الإخوة الأكارم ... الآية الثانية مهمة جداً ، وهي أصل في تركيب النفس ، وهي قوله تعالى :
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾
لأهمية هذه الآية سأرجئها إلى الدرس القادم .