وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0358 - تفسير سورة الإنسان ، خلق الإنسان - تَشَتُّت الضّوء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

النعم الكبرى التي أنعمها الله على الإنسان :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأُ في فجْر الجمعة سورة السّجدة ، وسورة الإنسان ، قال تعالى :

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ منَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان : 1]

 وأئمّة المساجد في الأعمّ الأغلب يقرؤون في فجْر الجمعة اقْتِداءً بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم سورة السّجدة ، وسورة الإنسان .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ سنَقِفُ إن شاء الله تعالى وقْفَةً متأنِّيَةً عند الآيات الأخيرة من هذه السورة ، ولكن لا بأْسَ أن نمرّ عليها سريعًا ، قال تعالى :

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان : 1]

 هل فكَّرْتَ أيُّها الإنسان بالنِّعْمة الكبرى التي أنعَمَها الله عليك ؟ إنَّها نِعمة الإيجاد، لمْ تكن من قبل موجودًا ، ولم يكن لك أثرٌ ، لم يكن لك اسم ، لم يكن لك وُجود ، أنْعَمَ الله عليك بنِعْمَة الإيجاد ، وأنْعَمَ الله عليك بِنِعمة الإمداد ، هو ربّ العالمين ، وأنْعَمَ الله عليك بنِعْمة الهُدَى والرّشاد ، قال تعالى :

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾

[ سورة الإنسان : 1-2]

 هذه النّطفة الأمْشاج يُشير العلماء إلى أنَّ خمسة آلاف مليون معلومة مُتَوَضِّعَة على الحُوَين المنوي ، وعلى البُوَيْضة ، وأنّ هذا الحُوَين يخْترقُ البُوَيضة ، ويتلاقحان ، وينْجِبان الجنين الذي يتشكَّل من خمسة آلاف مليون معلومة من الذَّكَر ، وخمسة آلاف مليون معلومة من الأنثى ، وهذا ما يُشير إليه العلماء في قوله تعالى :

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾

 أيْ مختلطة .

 

الابتلاء سرُّ وُجود الإنسان في الأرض :

 ثمّ قال تعالى :

﴿نَبْتَلِيهِ﴾

  وسرُّ وُجود الإنسان في الأرض هو الابتِلاء ، قال تعالى :

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾

 وأبْرزُ ما في الحياة أنَّ الله سبحانه وتعالى سخَّر الكون تسْخير تعريف وتكريم ، ومنَحَ العقْل لِيَكون مناطَ التّكليــف ، وأداة المعرفة ، وأوْدَعَ الشّهوات لِيَرقى بها الإنسان صابرًا وشاكرًا إلى ربّ الأرض والسموات ، ومنحنا نعمة الاختيار في الكَسْب لِيُثَمَّنَ العمل ، فلو أنّ الله أجْبرَ عبادهُ على الطاعة لبَطَل الثّواب ، ولو أجْبرهُم على المعْصِيَة لبَطَل العِقاب ، ولو تركَهم هملاً لكان عجْزًا في القدرة ، قال تعالى :

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾

[ سورة الإنسان : 3]

 هو ، قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

كلُّ شيءٍ خلقَهُ الله يدلّ على وُجوده و كمالِهِ و وَحْدانيّته :

 أما الذي يعتقدُ كما يقول المشركون :

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾

[ سورة الأنعام: 148 ]

 من اعْتقدَ كما يقول المشركون فقد ضلَّ سواء السّبيل ، إنا هديناه السبيل ، وإنا علينا للهدى ، الكون يدلّ عليه ، والعقل يُشير إليه ، والفِطرة تنْسجِمُ مع الإيمان ، والواقع يؤكّد هذه الحقائق ، كلُّ شيءٍ خلقَهُ الله سبحانه وتعالى يدلّ على وُجوده ، ويدلّ على كمالِهِ ، ويدلّ على وَحْدانيّته ، قال تعالى :

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾

[ سورة الإنسان : 3-9]

 هذا هو الإخلاص ، قال تعالى :

﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾

  لا بدّ أيها الأخوة من أن يجْتَمِعَ في القلب حُبٌّ ، وخوفٌ ، وتعظيم ، قال : يا ربّ أيُّ العباد أحبُّ إليك حتى أُحبَّهُ بِحُبِّك ؟ قال : أحبُّ العباد إليّ تقيّ القلب ، نقيُّ اليدَين ، لا يمشي إلى أحدٍ بِسُوءٍ ، أحبّني وأحبّ من أحبّني ، وحبَّبني إلى خلقي ، قال : يا ربّ ، إنَّك تعلمُ أنِّي أُحبُّك وأُحبُّ من يحبّك فكيف أُحبِّبُك إلى خلقك ؟ قال : يا موسى ذكِّرْهم بآلائي ونَعْمائي وبلائي ، ذكِّرْهم بنعمائي كي يُحِبُّوني ، هذا هو المعنى ، وذكِّرْهم بآلائي كي يُعَظِّموني ، وذكِّرْهُم بِبَلائي كي يخافوني ، لا بدّ مِن أن تُحِبّه ، ولا بدَّ من أن تخافَهُ ، ولا بدَّ مِن أن تُعَظِّمَهُ حتى يكْمُلَ الإيمان في قلبك ، قال تعالى :

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾

[ سورة الإنسان :9-12]

حال أهل الجنة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ الله سبحانه وتعالى في الآيات التاليَة يصِفُ حالَ أهْل الجنّة، فإذا آمنْتَ بالله عز وجل إيمانًا تحقيقيًّا يقينِيًّا ، عندئذٍ يستقرُّ اليقين في قلبك أنّ حالَ أهل الجنّة حقّ ، وأنَّ حالَ أهل النار حقّ ، يقول الله عز وجل :

﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً﴾

[ سورة الإنسان :13-19]

 الآن ، قال تعالى :

﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾

  هؤلاء المؤمنون الذين عرفوا الله في الدنيا ، هؤلاء المؤمنون الذين خافوه في الدنيا ، هؤلاء المؤمنون الذي أحبُّوه في الدنيا ، هؤلاء المؤمنون الذي عظَّموه في الدنيا ، هؤلاء المؤمنون الذين استقاموا على أمره في الدنيا ، هؤلاء المؤمنون الذين تقرَّبوا إليه بِشَتى الوسائل ، وبِشَتى القربات ، هؤلاء المؤمنون الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون ، هذا هو مصيرهم ، هذا جزاؤُهم ، هذه ثمَرَةُ إيمانهم ، هذه الجنّة ثمرَةُ عملهم ، قال تعالى :

﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾

 الكبير المتعال ، يُسمِّي عطاءهُ لأهل الجنَّة كبيرًا ، ولا تنْسَوا أيّها الأخوة أنّ كلمة كبير مِنَ الكبير كبيرةٌ جدًّا ، قال تعالى :

﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾

 أعْدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عَيْنٌ رأَتْ ، ولا أُذُنٌ سمِعَت ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَر ، مُلْكٌ كبير ، لذلك المؤمن الذي يستقيم على أمر الله في الدنيا ينالُ في الآخرة مُلكًا كبيرًا ، قال تعالى :

﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾

[ سورة الإنسان :20-22]

 إنّ هذا الملك الكبير كان لكم جزاءً ، قال تعالى :

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾

[ سورة الزلزلة:7-8 ]

 قد يطعم الإنسان لقمةً في سبيل الله يراها يوم القيامة كجَبَل أُحُد ، لا شيءَ يضيعُ عند الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾

  هذا يذكّرنا بقوله تعالى :

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾

[سورة الحاقة : 19-24]

القرآن الكريم خِطابُ السماء إلى الأرض لا يعلو عليه شيء :

 ما الذي ينبغي أن نفعلهُ نحن أيّها الأخوة ؟ يقول الله عز وجل :

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾

 سورة الإنسان :23]

 

هذا كتاب الله ، الكون في كفّة ، وكتاب الله في كفّة ، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ، الكون خلقهُ ، والقرآن كلامه ، الخلْقُ يدُلّ عليه ، والقرآن يُشير إليه ، الخَلْقُ قرآنٌ صامت ، والقرآن كونٌ ناطق ، قال تعالى :

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾

[ سورة الإنسان :23]

 والشيء الذي يلفتُ النَّظر أنّ الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كان يأتيهم الوَحيُ ، وتأتيهم المعجزات الحِسيَّة لِتُؤكِّدَ أنَّ هذا الوحي من عند الله تعالى ، ولكنّ النبي عليه الصلاة والسلام خصَّهُ الله بِخَصيصةٍ انْفردَ بها ، أنَّ الوحي الذي أُنْزلَ عليه هو نفسهُ فيه الدليل على أنَّه الوحيُ ، إعجازُ الوَحي دليلٌ منه ، فهذا القرآن الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام من عند ربِّه مُعْجزةٌ خالدةٌ إلى يوم القيامة :

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾

[ سورة الإنسان :23]

 يا أيها الأخ الكريم ، لو جاءتْكَ رِسالة ، أَبِالإمكان ألا تفْتَحَها ؟ ألا تقرأها ؟ هل يليقُ أن تهْمِلها ؟ هل يليقُ أن تكذّبها قبل أن تقرأها ؟ إنّ القرآن الكريم خِطابُ السماء إلى الأرض ، خِطابُ الله عز وجل لهذا الإنسان ، قبل كلّ شيءٍ لا يعْلُو شيءٌ على هذا العمَل ، عليك أن تتفهَّمَ هذا الكلام .

 

في طاعة الله مخالفة للنفس و الهوى :

 ثم قال تعالى :

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾

[ سورة الإنسان :23-24]

 التكليفُ ذو كُلفةٍ ، الأمْرُ والنَّهيُ يكلّفان العبْد جهدًا حتى يكون هذا الجُهْد ثمنًا لِجَنَّةٍ يدومُ نعيمها .
 فاصْبِرْ لحُكم ربّك ، إذا أمرَكَ الله بأمْرٍ ربّما تاقَتْ النّفْسُ إلى خلافه ، وإذا نهاكَ عن شيءٍ ربّما تاقَت النّفسُ إلى فعله ، لا ترقى عند الله عز وجل إلا إذا صبرْت ، ومن أوْسع معاني الصّبْر أن تُطيع الله عز وجل لأنّ في طاعته مخالفةٌ للنّفْس والهوى ، قال تعالى :

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

[ سورة النازعات : 40-41]

 قال تعالى :

﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾

 آثِمًا في سُلوكه ، كفُورًا في معْتَقَدِهِ ، وفي إعراضِهِ .

 

ذكر الله ذكراً كثيراً :

 ثك قال تعالى :

﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾

 قال عليه الصلاة والسلام :

((من أكثر ذكر اللّه فقد برئ من النفاق))

[رواه البيهقي عن أبي هريرة]

 والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 41]

 قال علماء التفسير : إنَّ الأمْرَ منْصَبٌّ على الذِّكْر الكثير ، لا على مجرّد الذّكْر، يجبُ أن تذْكُر الله ذِكْرًا كثيرًا ، والذِّكْرُ الكثير منه تِلاوَة القرآن ، ومنه الاستغفار ، ومنه الذِّكْرُ الذي يُعرفُ عند عامّة الناس ، ومنه الأمْرُ بالمعروف ، ومنه النّهي عن المنكر ، ومنه التّأمُّل في خلق السموات والأرض ، بل إنّ كلّ هذا النّشاط ينطوي تحت كلمة الذِّكْرُ ، قال تعالى :

﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾

[ سورة الإنسان : 25-26]

حبّ الدنيا رأسُ كلّ خطيئة :

 الشيءُ الذي يُلفتُ النَّظَر أنّ هؤلاء ، يقول الله عز وجل : إنّ هؤلاء ، هؤلاء التائهون ، هؤلاء الشاردون ، هؤلاء المعرضون ، هؤلاء المقصّرون ، هؤلاء العُصاة ، هؤلاء الضائعون ، إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة ، حبّهم العاجلة هي خطيئتهم الكبرى ، لِقَول النبي عليه الصلاة والسلام :

((حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمّ))

[ أخرجه ابن عساكر عن أبي الدرداء ]

 وحبّ الدنيا رأسُ كلّ خطيئة ، وفي قوله تعالى :

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾

[ سورة البقرة: 7]

 لماذا خَتَمَ الله على قلوبهم ؟ وإذا عُزِيَ الختْمُ إلى الله عز وجل فهُوَ مِن باب تَحصيل الحاصِل ؛ لأنَّ القلب وِعاءٌ لا يتَّسِعُ لِشَيْئَيْن ، فلو ملأَهُ العبْدُ من حُبّ الدنيا لمْ يدَع فيه مكانًا لِمَعرفة الله عز وجل ، وهذا معنى الخَتْم أيْ أنَّ قلبَ الإنسان كما قال الله عز وجل في آية أخرى :

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾

[ سورة الأحزاب : 4]

 أيْ لا يتَّسِعُ القلــب لِشَيئين متناقضَين لأنّ كلاًّ منهما يطردُ الآخر ، إذًا الخَتْمُ هنا بِمَعْنى أنَّ قلبَ هؤُلاء امتلأَ من حُبّ الدنيا ، وأنَّ منْفذَ القلب ، وهو السَّمْعُ والبصَر عليهما غِشاوَةٌ مِن حُبّ الدنيا ، فكان الخَتْمُ من باب تحصيل الحاصل .

 

بطولة الإنسان أن يحسب حساب يوم القيامة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قال تعالى :

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾

 قال تعالى :

﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾

[سورة المدثّر : 8-10]

 اليوم الثقيل ، قال تعالى :

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة الحِجر : 92-93]

 قال تعالى :

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾

[ سورة الزلزلة : 1-8]

 قال تعالى :

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾

[ سورة الإنسان : 27]

 البُطولة أيّها الأخوة أن يحْسِبَ الإنسان حِسابًا لهذا اليوم ؛ يوم يقفُ بين يديّ الله عز وجل ليُحاسَبَ عن كلّ صغيرة وكبيرة ، عن كلّ موقفٍ ، عن كلّ انْحِراف ، عن كلّ مُحاباة، عن كلّ ظلْمٍ مهما بدا صغيرًا ، عن كلّ تقصيرٍ مهما بدا طفيفًا . قال تعالى :

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ﴾

[ سورة الإنسان : 27-28]

 إذًا يجبُ أن يعبدوا الله عز وجل ، قال تعالى:

﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾

 أي خلقناهم في أحْسَن تَقويم ، هيْكَلٌ عضمي ، عضلاتٌ مخطَّطة ، عضلات مَلْساء ، تزيدُ عن مئتي عضلة ، أوتاد ، أربِطَة ، حواسّ ، أجهزة ، أعضاء ، نُسُج ، غُدد ، قلب ، رئتين ، شرايين، أوْرِدَة ، قال تعالى :

﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾

 أَيَعْبُدون غير الله ؟ إنِّي والإنس والجنّ في نبأ عظيم ، أخْلُق ويُعْبدُ غيري ، وأرزقُ ويُشْكرُ سِواي ، قال تعالى :

﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾

  إن لمْ تُقْبِل على ربّك ينقضي العمر، ويختمُ العمل ، وتلقى المصير المحتوم ، ويأتي غيرك ، يتعرّف إلى الله ، ويستقيم على أمره ، ويُقْبِلُ عليه . قال تعالى :

﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾

.

 

أنواع الهداية :

 أيها الأخوة ، مادام القلب ينبض فهناك أملٌ كبير ، مادام في العُمُر بقيّة فهناك رجاء عريض ، مادام الإنسان في بَحْبوحة الدنيا فأبواب التوبة مفتَّحَةٌ أمامه ، إنَّها هذه تَذْكِرة، والإنسان مخيّر ، قال تعالى :

﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾

 يقول الله عز وجل يُخاطبُ النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[ سورة الشورى : 52]

 أي دَعْوَتُكَ يا محمّد حقّ وصِدقٌ ، ودَعوتُك توصِلُ إلى الجنّة ، قال تعالى :

﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[ سورة الشورى : 52]

 هذا هو الإلقاء ، أما التلقّي فبِيَدِ الإنسان ، فباخْتيار الإنسان ، لذلك يقول الله عز وجل مخاطبًا النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

[ سورة البقرة : 272]

 لسْتَ مسؤولاً عن عدم هِدايتهم ، قال تعالى :

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

[ سورة القصص : 56]

 إنَّك لا تستطيعُ أن تهدي ، ولسْتَ مسؤولاً عن تقصيرهم ، لكنّ دعْوَتَكَ تهدي إلى صراطٍ مستقيم ، لكنّ دعْوَتَكَ تهدي إلى الجنّة ، لكنّ دعْوَتَكَ تهدي إلى السلام ، لكنّ دعْوَتَكَ تهدي إلى السعادة . قال تعالى :

﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾

 إذا اختارَ الإنسان الهُدَى سهَّل الله له سُبُل الهدى ، وقال الله عز وجل :

﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾

[ سورة طه : 50]

 قال العلماء : هذه الهداية العامّة ، الله عز وجل أوْدَعَ في الإنسان الحواس ، أوْدَعَ فيه الأجهزة ، هذه كلّها تهديه إلى مصالِحِه ، إلى الوِقايَة ، إلى الحِفْظ ، أعطاك السَّمْع يهديك إلى الأصوات المؤْذِيَة ، أعطاك البصَر ؛ يُريكَ ما حولك ، أعطاك الشمّ ، أعطاك الحركة ، أعطاك التفكير ، هذه هي الهِداية الأولى ، والهِداية الثانية هي هِداية الوحي ، قال تعالى :

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾

[ سورة الإنسان :23]

 والهداية الثالثة هِدايةُ التوفيق ، قال تعالى :

﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾

[ سورة الكهف : 13]

 إذا اهْتَدَيْتَ إلـى الله عز وجل وفَّقكَ إلى ما يرضيه ، وأعانَكَ على طاعته ، حالَ بينَكَ وبين معْصِيَتِهِ ، مكَّنَكَ من أن تعْمَلَ صالحًا ، هدايةٌ عامّة ، وهِداية الوَحي ، وهداية التوفيق ، والهداية إلى الجنّة ، قال تعالى :

﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾

[ سورة محمد : 5-6]

الطرائق إلى الخالق بِعَدد أنفاس الخلائق :

 قال تعالى :

﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾

  لا بدّ مِن أن تسْلُكَ السّبيل إلى الله تعالى ، السبيل إلى الله طاعَتُهُ ، السبيل إلى الله تعالى أن تلْزَمَ مجالِسَ العِلْم ، السبيل إلى الله التقرُّب إليه بالأعمال الصالحة ، السبيل إلى الله أن تفْهَمَ كتابَهُ ، هذا السبيل إلى الله أيْ الطريق الموصِلُ إلى الله ، وقد قال بعضهم : الطرائق إلى الخالق بِعَدد أنفاس الخلائق ، الاستقامة طريق ، والعمل الصالح طريق ، وطلبُ العِلْم طريق ، وملازمة أهل الحقّ طريق ، والأعمال الصالحة طريق ، وتعلّم العِلم طريق ، والذِّكْر طريق ، وكلّ الطرائق تؤدِّي إلى الله عز وجل .

حرية الاختيار :

 لكنَّ الإنسان الذي يتمتَّعُ بهذا الاختيار الذي هو سببُ نجاتِهِ في الدنيا وسعادته في الآخرة هو مِنْ خلْق الله عز وجل ، لولا أنّ مشيئة الله شاءَتْ أن يكون الإنسان ذا مشيئة لما سَعِدَ الإنسان في حياته ، لولا أنّ مشيئة الله شاءَتْ أن يتمتَّع هذا الإنسان بهذه المشيئة ، وهي حريّة الاختيار ، لما نجا الإنسان في الدنيا ، ولما سَعِدَ في الآخرة ، قال تعالى :

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾

  وما كان لكم أن تشاؤوا لولا أن منَحَكم الله هذه المشيئة ، قال تعالى :

﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾

  عليمًا بِكُلّ شيءٍ ، حكيمًا في أفعاله ، قال تعالى:

﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾

 لكنّ الآية الأخيرة تبيِّنُ أنَّ مشيئتَهُ جلّ وعلا ذاتُ قواعِدٍ ثابتة وضَّحها القرآن الكريم ، والدليل :

﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾

 هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، هؤلاء الذين ظلموا من وكّله الله بهم ، هؤلاء الذين ظلموا من حولهم ، هؤلاء الذين ظلموا من دونهم ، هؤلاء لا ينالون رحمة الله عز وجل ، قال تعالى:

﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾

.

 

أبوابُ التوبة مفتَّحة ومغفرة الله للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه وقْفاتٌ سريعة عند أواخر سورة الدّهر ، الذي يعنينا ألا يكون الإنسان غافلاً عن الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾

  أي الأوْلى أن يعبدوا الله عز وجل ، وأن يستقيموا على أمرهم ، قال تعالى :

﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾

  أنتم الآن في بَحبوحةٍ ، أبوابُ التوبة مفتَّحة ، أبواب الإصلاح مفتّحة ، بإمكان كلٍّ مِنَّا مراجعة نفسهِ ، وأن يحاسبَ نفسهُ حسابًا عسيرًا ليَكون حسابهُ يوم القيامة يسيرًا ، كلٌّ مِنَّا بإمكانه أن يتوب ما لمْ يُغرْغِر ، كلٌّ بإمكانِهِ أن يُصْلِحَ ، ومغفرة الله عز وجل للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ، إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم .
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

تشتت الضوء :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ عالمٌ من علماء الفلَك كان في زيارةٍ مركزٍ من مراكز إطلاق المراكب الفضائيّة في بعض الدُّوَل المتقدِّمة ، وهو في زيارة هذا المركز الذي كان على اتِّصال مستمرّ بِمَركبةٍ فضائيّة كانت قد أُطلِقَت قبل قليل ، إذ برائِدِ الفضاء يتَّصلُ بِمَركز انطلاق هذه المركبة ، ويقول بالحَرْف الواحِد : لقد أصبحْنا عُمْيًا لا نرى شيئًا ، المركبةُ أُطلِقَتْ في وضَحِ النّهار ، وبعد وقتٍ قليل ، بعد أن تجاوَزَتْ هذه المركبة الغِلاف الجويّ ، ودخلَتْ في منطقةٍ لا هواء فيها أصبَحَ الجوّ مُظْلمًا ظلامًا كليًّا ، فصاحَ هذا الرائِدِ لقد أصبحْنا عُمْيًا لا نرى شيئًا ، ما الذي حَصَل ؟ الذي حصَل أنّ أشِعَّة الشّمس إذا وصَلَتْ إلى الغِلاف الجويّ تناثَرَ ضوْءها ، وتشتَّتَ بين ذرّات الهواء وذرّات الغبار ، وهذا ما يُعَبِّرُ عنه علماء الفيزياء بانتثار الضّوء أو بِتَشَتُّت الضّوء ، أشِعّة الشّمس تنعكسُ على ذرات الهواء وذرات الغبار فَتَجْعلها مُتألّقة، منطقةٌ فيها أشعّة شمس ، ومنطقةٌ فيها ضوءٌ ولا شمسَ فيها كَجَوِّ هذا المسْجِد ، إنّنا نرى بعضنا بعضًا ، هناك ضوء وليس في هذا المسْجِد أشِعّة شمس لأنّ الضّوء ينتثِرُ ، فلمّا غادَرَت هذه المركبة الغِلاف الجويّ انْعَدَمَ تناثُر الضّوء وأصْبحَ الفضاءُ مظلمًا ، شديد الظّلام ، لا يُرى فيه شيءٌ ، لو عُدنا إلى كتاب الله الذي نزلَ قبل أربعة عشر قرنًا ونيّفًا ، ووقتها ما عرفَ أهل الأرض الصّعود إلى القمر ، وما عرفوا غزْوَ الفضاء بهذه العِبارة الفجّة ، وما عرفوا تجاوُزَ الغِلاف الجويّ ، وما عرفوا كلّ ذلك ، لو عُدنا إلى كتاب الله لوَجَدنا هذه الآية فيها إعجازٌ عِلْمي، قال الله تعالى :

﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾

[ سورة الحجر : 14-15]

 هذا الذي قاله رائدُ الفضاء : لقد أصبحنا عُمْيًا ، هذا جاء به القرآن قبل أربعة عشر قرنًا ، أليس هذا دليلاً قَطْعِيًّا على أنّ هذا الكلام كلامُ خالق البشر ؟ عُرِفَتْ الآن قبل عشر سنوات ، حينما عرف الإنسان الغلاف الجويّ واقتحمهُ ، وأُلْغِيَ تناثُر الضّوء ، ودَخَل في ظلامٍ دامِسٍ ، عرفَ كيفَ أنّ الفضاء الخارجي مُظلمٌ ظلامًا داكنًا ، ولا يُرى في الفضاء إلا كوكبٌ متألّق مِن دون أن ينتثِرَ الضّوء ، قال تعالى :

﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾

[ سورة الحجر : 14-15]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ألَمْ أقل لكم قبل قليل : إنّ مِن خصائص الوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ هذا الوَحي دليلهُ منه ، تطابَق الدليل مع المدلول عليه ، فالوَحْيُ الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو مِن عند الله تعالى بِظَاهِرَةٍ صارخةٍ ألا وهي الإعجاز، أيْ أنّ هذا الكلام يَعْجزُ عن معرفتِهِ الإنسان حينما نزلَ القرآن ، والآن مع التقدُّم العلمي بدأ العلم يكشفُ جوانِبَ قليلة من إعجاز القرآن ، يؤكِّدُ هذا قول الله عز وجل :

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

[ سورة فصّلت : 53]

 وهذه السِّينُ للاستقبال ، حتى يتبيّن للمعرضين ، وللمنكرين ، وللمُشَكِّكين أنَّه الحقّ ، أنَّه كلامُ الله عز وجل .
 عودٌ على بدْء ، قال تعالى :

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾

[ سورة الإنسان :23]

 لا شيءَ في الحياة يجبُ أن يسْتَحْوِذَ على فهمنا كفهْمِ منهج ربّنا ، كفهم كتاب الله، كفهْم أبعاده ، كفهْمِ مَدلولاته ، كفهْم حلاله وحرامِهِ ، كفَهْم وعْدِهِ ووعيدِهِ ، كَفَهْم آياتِهِ الكونيّة، لأنَّه طريق سعادتنا .

 

الدعاء :

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت ، فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت ، نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ أعنا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللّسان ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنّا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارضَ عنَّا ، أصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين ، وانصر الإسلام ، وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى ، إنَّك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور