وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0365 - إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه - الساعة البيولوجية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا ، وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

السعي لطلب محبة الله عز وجل :

 أيها الأخوة المؤمنون ، في خطبةٍ سابقة تحدّثتُ عن الآيات القرآنيّة التي فيها يبيِّنُ الله سبحانه وتعالى أنّه يحبّ هؤلاء وهؤلاء ، إنّ الله يحبّ المتّقين ، إنّ الله يحبّ الصادقين، إنّ الله يحبّ التوابين ، إنّ الله يحبّ المتوكِّلين ، في خطبةٍ بيَّنْتُ ما في القرآن الكريم من آياتٍ توضِّحُ من يحبّ الله سبحانه وتعالى .
وفي هذه الخطبة أيّها الأخوة الأكارم ؛ اخْترْتُ لكم مجموعةً من الأحاديث الشريفة من كتاب الجامع الصغير ، هذه الأحاديث الشريفة تبدأُ كلّها بِقَول النبي عليه الصلاة والسلام : " إنّ الله يحبّ " وهذا شيءٌ مهمّ جدًّا ، لأنّك إذا أحْببْتَ الله عز وجل فهذا تَحصيلُ حاصلٍ ، لأنّه سببُ وُجودك ، ولأنّه سببُ رزقك ، ولأنّك بِهِ تقوم ، وبه تتحرّك ، وإليه المصير ، ولكنّ المُعَوّل عليه أنْ يُحبَّك الله سبحانه وتعالى كي تسْعَدَ بِجَنّة عرضُها السموات والأرض ، لأنّ هذه الدنيا عرَضٌ حاضِر يأكل منه البرُّ والفاجر ، والآخرة وَعْدٌ صادِق يحْكُمُ فيه ملكٌ عادل ، فو الذي نفسُ محمّد بيَدِهِ ما بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار . إذا أعْلنْتَ عن حبّك لله ، وإذا ذكرْت حبَّك لله تعالى ، وإذا عبَّرْتَ عن حُبِّك لله ، وإذا أوْحَيْتَ للناس أنـَّك تحِبّ الله ، أقول لك : المُعَوَّل عليه أن يحبّك الله عز وجل ، كيف يحبُّك ؟ في خطبة سابقة تحدّثنا على أنّ الله يحبّ التوابين ، إنّ الله يحبّ المتطهّرين ، إنّ الله يحبّ الصادقين ، إنّ الله يحبّ المتوكّلين ، واليوم نختارُ من بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعض الأحاديث .

 

محبّة الله للعبْد تعني أن يكْبر الله عملهُ ويحْفظُه ويرْحمهُ :

 يقول عليه الصلاة والسلام : " إنّ الله يحبّ " وقبل أن نُتِمَّ الحديث ، ماذا تعني كلمة يحبُّ بالنِّسْبـة إلى الله عز وجل ؟ بالنّسبة إلينا القضِيّة واضحة إذا أحبَّ إنسانٌ إنسانًا مالَ إليه ، تمنَّى أن يلْتقي معه ، حرِصَ على مرْضاتِهِ ، تمنَّى أن يقتربَ منه ، شوْقٌ ، ولِقاءٌ ، وقُرْبٌ، فهل يُعقلُ أن يُسْحَبَ هذا المعنى ، أن يُطبَّقَ هذا المعنى على حضْرة الله سبحانه وتعالى؟ أَيُعْقَلُ أنّ الله يميلُ أو يُمالُ إليه ؟ أجْمَعَ العلماء أنّ محبّة الله للعبْد تعني بالضَّبْط أنّ الله سبحانه وتعالى يُكْبرُ عملهُ ، ويحْفظُه ، ويرْحمهُ ، يُكْبرُ عملهُ ويحْفظُه مِن كلّ سوء ، ويرحمهُ رحمةً واسعة في الدنيا والآخرة ، إذا أردْتَ أن تفْهمَ ماذا تعني كلمة محبّة الله عز وجل ، قال تعالى متحدِّثًا عن بعض المنحرفين :

﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾

[ سورة الأنعام : 124]

 صغير عند الله ، يمْقُتهُ الله عز وجل ، ويغضبُ عليه ، وأما المُطيعُ فيحبُّه الله عز وجل ، ويرضى عنه ، يحْفظُه في الدنيا والآخرة ، يرْحمهُ ، يُغْدقُ عليه من العطايا ما لا سبيل إلى وصْفِهِ ، وأكبر أنواع العطايا أن يمْنحه قرْبهُ .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ ذاقَ طعْمَ الحبّ من أطاع الله عز وجل ، ذاقَ طعْمَ الحبّ من أخْلصَ لله عز وجل .

 

محبة الله للإنسان المتقن لعمله :

 أيها الأخوة الأحباب ، الحبُّ شطْر الدِّين ، ولا إيمان لِمَن لا محبّة له ، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول في حقّ المؤمنين :

﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾

[ سورة المائدة: 54 ]

 الحديث الأوّل ؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))

[البيهقي عَنْ عَائِشَةَ]

 هذا الحديث مُوَجّه لأرباب المِهَن ، ولأصحاب الصّناعات ، ولأصحاب الأعمال، حتى لِمَن يعملُ في الخدمات العامّة ، كلّ إنسانٍ ألْبسَهُ الهَ عملاً يحبُّك الله عز وجل إذا أتْقَنْتَهُ ، هذا الذي يُتقِنُ عملَهُ كبيرٌ في نظر الناس ، فإذا كان مسْلمًا ، وإذا كان له مَظْهرٌ ديني ، إذا كان بين الناس يُصلّي ، وأتْقَنَ عملهُ ، احْتَرَمَ الناس دينهُ ، وربّما فسَّرُوا إتْقانَ عملهِ بِسَبب دينِهِ ، ربّما أقبلوا على الدِّين من إتْقان العمل ، إذا أظْهرَ الإنسان أنَّه يُصلّي ، وأنّ له انْتِماء دينياً ، وأنَّه وأنَّهُ ، وأهْمَلَ عملهُ صغُرَ في عَيْنِ الناس ، وإذا صغُر في عَيْن الناس صغُر دينُهُ في عَين الناس ، وإذا صغُر دينهُ في عَين الناس ابْتَعَدَ الناس عن دينِهِ ، شيءٌ خطير ، دينُكَ في إتقان عملك ، محبّة الله لك في إتقان عملك ، إكبارُ الناس لك في إتقان عملك ، إذا أهْملْتَ عملك وجعلْتهُ من الدرجة الثانية ، أوَّلاً هذا الذي اِشْترى هذه الحاجة غير المُتْقنة ، واسْتعملها قليلاً ، ثمَّ فسدَتْ يتألّم ، وهذا عبدٌ من عباد الله تعالى دفَعَ ثمنها مِن كدِّه وعرقِ جبينهِ ، فإذا هي بعد أيّامٍ خرِبَةٌ ، ولا تصلح ، فاسدة ، لأنّ العمَلَ فيها غير مُتْقَن ، هذا الإنسان أسأْتَ إليه ، لأنَّ أحد مخلوقات الله قبل كلّ شيءٍ ، مخلوقٌ خلقه الله عز وجل ، أخذْت مالهُ ، ولمْ تُعْطِهِ ما يُكافئ مالهُ ، أعْطيْتَهُ حاجةً غير مُتْقنةً ، أعْطَيْتَهُ حاجةً اسْتَعملها قليلاً فتَلِفَتْ بين يديه ، أعْطَيْتَهُ ثوْبًا لمْ يشْعُر أنَّه مُتقَن ، وخجِلَ من ارْتِدائِهِ ، ألْقاهُ في زاوِيَة خِزانتِهِ ، دفَعَ ثمَنَهُ بلا مُقابِل ، الذي لا يُتقِنُ عملهُ بادئ ذي بدْء أساء إلى مخلوقات الله تعالى ، والخلْق كلّهم عِيال الله تعالى ، وأحبُّهم إلى الله تعالى أنْفعُهُم لِعِيالِهِ .

 

من أتقن عمله فقد أحبه الناس و أحبوا دينه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا شيء ، والذي لا يُتْقنُ عملهُ - البُنْد الثاني - صَغُر في نظر الناس ، لعنهُ الناس ، سبَّبَ للناس متاعِب حمَلَتْهم على أن يعْصُوا الله فيه ، صَغُرَ في نظر الناس ، صغر دينه في نظر الناس ، انتقل الضّيق والألَمُ منه إلى دينه ، أهكذا أمرك دينك؟ أهكذا يأمرك الإسلام ؟ أهكذا الإسلام ؟ وصلوا إلى الدِّين كلّه من خلال إهمال العمل .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما قال الصادق المصدوق ، حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام :

((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))

[البيهقي عَنْ عَائِشَةَ]

 أنت إذا أتْقَنـْتَ عملكَ فأنت قد فعلْتَ شيئًا يحبّه الله عز وجل ، يحبّك الله ، ويحبّك الناس ، ويحبُّ الناس دينكَ ، لكن أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يقول قائل : أنا إن لمْ أعْمَل بهذه الطريقة لا أعيشُ ، هنا خللٌ في العقيدة ، قال تعالى :

﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾

[ سورة الذاريات : 22-23]

 هذا الذي لا يُتقنُ عملهُ لِيَعملَ أعمالاً كثيرة تُسبّب له ربْحًا وفيرًا ، تُعينهُ على مواجهة أعباء الحياة ، هذا إنسانٌ مشرك بالله عز وجل ، وإنسانٌ لا يصدّق كلام الله عز وجل، الطبيب عليه أن يجلِسَ جلسةً متأنِّيَةً مع المريض ، فلعلّ كلمةً يقولها المريض تغيِّرُ مَجْرى التَّشْخيصِ كلّه ، لعلّ سؤالاً يسألهُ للمريض يُعطيهِ فكرةً أخرى عمّا يُعانيه ، فإذا أراد الطبيب أنْ يُعالِجَ مَرضاهُ بسُرعةٍ كي يُنجزهم جميعًا في وقتٍ محدود فقد خالف نصّ هذا الحديث ، وكذلك المحامي إذا لمْ يُطالِع اِجتهادات المراجع العليا ، لعلّ اجتِهادًا يعْتمِدُ عليه فيُنقذُ مُوَكِّلهُ من حُكمٍ مُزعج ، وكذلك التاجر ، وكذلك المُدرِّس ، وكذلك الصانِع ، أنت إذا أتْقنْتَ عملَكَ أحبّك الله تعالى ، وأنت إذا أتْقنْتَ عملَكَ أحبّك الناس ، وأنت إذا أتْقنْتَ عملَكَ أحبّ الناس دينَكَ ، وكم من إنسانٍ اهْتَدَى إلى الإسلام لا بالقول بل بالعمل ، وأنت إذا أفْسدْتَ عملَكَ أبْغضك الله ، وأبغضكَ الناس ، وأبغضَ الناس دينكَ .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إنّ الله تعالى يُحبّ من العبْد إذا عمل عملاً أن يُتقنهُ ، العلماء قالوا : مَنْ عمِل عملاً غير مُتقَنٍ على نِيَّة أنَّه إن لم يعْمل بهذه الطريقة ضاعَ فهذا مُشركٌ بالله عز وجل ، ومَنْ يعمل عملاً على مِقدار الأُجرة أيضًا وقع في مُخالفةٍ كبيرة جدًّا ، إما أن تقبَل ، وإما ألا تقبل ، إما أن تقبل بهذه الأُجْرة فَتُقدِّمُ عملاً متقنًا ، وإما ألا تقبل ، عندئذٍ الوِزْرُ يقعُ على غيرك .
 شيءٌ آخر ، قصّة لا علاقة لكم بها ، إنسانٌ في دولةٍ عربيّة أتْقَنَ عملاً إتقانًا بالغًا ، ثمّ اعْتزلَ هذا العمل ، فجاءهُ مَنْ يرْجوه أن يُتابِعَ العمل ، ففرضَ عليهم طريقةٍ إسلاميّة في التعامُل ، الإنسان إذا أتْقنَ عملهُ انْتَزَعَ إعْجاب الناس ، وفرضَ عليهم احْتِرام دينه ، المُتْقِنُ لِعَملِهِ يحْترمُ الناس دينَهُ ، والذي يُهملُ عملهُ كأنَّه ينْتقصُ من دينه ، وهو لا يدري .

 

على الإنسان اختيار حرفة ترضي الله و تنفع الناس :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ كي أُطمئِنُكم ، أعمالكم التي ترْتزِقون منها ، مِهَنُكم ، حِرفُكم ، وظائفكم ، خدماتُكم ، تِجاراتكم ، صناعاتكم ، زراعتكم ، مكاسبُ الرّزق كلّها أعمال ، إذا كانت في الأصْل مَشروعة ، وتعاملْتَ معها بِطَريقةٍ مَشْروعة ، لمْ تأكل الربا ، لم تُدلّس ، لم تكذب ، لم تغِشّ ، لمْ تُعْسِر ، لمْ تُمْطِل ، الأعمال المَشْروعة ، والأعمال المِهَنِيَّة ، إن كانت في الأصل مشروعة ، أما إن لم تكن مَشْروعة ، فلا تعبأ بِدَخلها ، واجْعَل دخْلها الكبير تحت قدمِكَ، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

((نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها ، فأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تحملوه بمعصية الله ، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته))

[الطبراني عن أبي أمامة]

 اخْتَرْ حِرْفةً تُرضي الله ، اِخْتَر حرفةً فيها نفْعٌ للمسلمين ، اخْتَرْ حرفةً إذا مارسْتها وكسِبْتَ منها مالاً تنامُ على فراشِكَ قرير العَين :

((نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها ، فأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تحملوه بمعصية الله ، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته))

[الطبراني عن أبي أمامة]

 إذا كانت المِهنةُ في الأصْل مشروعة ، وتعاملْتَ بها بطريقةٍ مَشروعة وأتْقَنْتَها ، وأحْسنْتَ في علاقاتك مع أربابها ، ونَوَيْتَ بها أن تكفي نفْسكَ وأن تكفي أهْلكَ ، ونَوَيْتَ بها مرَّةً ثانيَة أن تتقرّب إلى الله ، ولمْ تصْرِفْكَ عن طاعة ، ولا عن مجْلسِ علْمٍ ، ولا عن فرْض صلاة ، ونوَيْتَ بها خِدمة المسلمين ، هذه بِشارة ؛ انْقَلَبَتْ هذه الحِرفةُ عبادةً لله عز وجل .

 

الإتقان و الإخلاص في الأعمال و العبادات :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ قال العلماء في هذا الحديث إنَّ مِنْ معاني الإتقان :

((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))

[البيهقي عَنْ عَائِشَةَ]

 كأنّني وجَّهْتُ الحديث إلى الأعمال المِهَنِيّة ، ولكن هناك من العلماء منْ وجَّهَهُ إلى أعمال الطاعات والصّلوات ، فبهذا المعنى ؛

((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))

[البيهقي عَنْ عَائِشَةَ]

 بالإخلاص ، وأن يُتْقِنَهُ بالبُعْد عن الرّياء ، وبالبُعْد عن البِدعة ، إتقانُ العمل أن يكون خالصًا وصوابًا ، خالصًا ما ابْتُغِيَ به وَجْه الله ، وصوابًا ما وافَقَ السّنة ، فإذا أردتَ أن تصرفَ هذا الحديث إلى أعمال البرّ ، والتقوى ، والعبادات ، والصلوات ، والطاعات ، وما إلى ذلك ، فالإتقانُ أن يكون خالصًا وصوابًا ، خالصًا ابْتُغِيَ به وَجْه الله تعالى ، وصوابًا أي وافقَ السنّة ، وإذا صرفْتَ هذا الحديث إلى أعمال المِهَن ، فإتقان العمل شرطٌ أساسي في محبّة الله عز وجل ، ومحبّة الناس ، ومحبّة دينك أيّها المسلم ، هذا الحديث له أسباب وُرود ، نقول في القرآن له أسباب نُزول ، وفي الحديث أسباب ورود .
 أبو كُلَيْب كان طفلاً صغيرًا ، عن عاصم بن كليب عن أبيه كليب بن شهاب الحري قال العلاء : قال لي محمد بن سوقة : اذهب بنا إلى رجل له فضل ، فانطلقنا إلى عاصم بن كليب فكان مما حدثنا أن قال : حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وعلى وآله وسلم ، وأنا غلام أعقل وأفهم - يا أيها الصِّبيان ، ويا أيّها الغلمان ، غلامٌ صغير كان مع رسول الله ، شهِدَ معه جنازةً ، ويقول عن نفسه إنّه يعْقلُ ويفْهم فلمّا كبرتْ سِنّه روى هذا الحديث ، فنفعَ به المسلمين - فانتهى بالجنازة إلى القبر ، ولم يمكن لها فجعل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول :

((سووا في لحد هذا حتى ظـن الناس أنه سنة فالتفت إليهم فقال : أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره - أي قبر مُتْقن أو غير مُتقن ، فيه فُرجة ، غير فرجة - ولكن إن اللّه تعالى يحبّ من العبد إذا عَمِلَ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))

[البيهقي عَنْ عَائِشَةَ]

 إهالةُ التراب على الميّت ، وإحكام القبر ، يجبُ أن يكون متْقنًا ، وهذا من أسباب وُرود هذا الحديث .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ المسلمون اليوم بِأَمسّ الحاجة إلى هذا الحديث الشريف ، إتقانُ أعمالهم ، لِيَظهروا أمام من يُعارضُ الدِّين بِمَظهرٍ كبير ، وأنّ هذا الإتقان هو ثمرةٌ من ثِمارِ دينهم ، وإذا علمَ العبْد أنّ إتقان عملهِ عِبادة بادرَ إليه ، فلعلّ الله سبحانه وتعالى يحبّ هذا العبْد إذا أتْقنَ عملهُ ، ولا تنسى أيّها الأخ الكريم أنّ الذي يُهْمِلُ عملهُ ، في الصّناعة ، في الزّراعة ، في التّجارة ، في الطّبابة ، في أيّ مجال ، إذا أهْمَلَ عملهُ أساء إلى مخلوقٍ من مخلوقات الله ، وإن أسأْتَ إلى ابنٍ فقد أسأْتَ إلى أبيه - الخلق كلّهم عِيالُ الله ، وأحبّهم إلى الله أنْفعُهم لِعِيالِهِ - وصغَّرْتَ نفسك أمام الناس ، وسببت سُمعةً سيئة لدِينِكَ ، والمُسلمُ مَن سلمَ المسلمون مِن لسانِهِ ويدِه .

 

إغاثة اللهفان :

 حديث آخر ، روى ابن عساكر عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال:

((إن الله تعالى يحب إغاثة اللهفان))

[ رواه ابن عساكر عن أبي هريرة ]

 من هو اللّهفان ؟ الذي هو في أمسّ الحاجة إلى مُساعدتك ، قد تكون المُساعدة مادّيّة ، وقد تكون عَضَلِيَّة ، وقد تكون عِلْميّة ، الذي في أشدّ حالات الافتقار إليك إذا قدَّمْت له ما في وُسْعِكَ مِن جُهْدٍ ، ومن وقتٍ ، ومن طاقةٍ ، ومن قُدرةٍ مالَ إليك ، وما من شيءٍ أفْعَلُ في النّفْس من إغاثة اللّهفان ، إذا أغثْتَهُ أنقذْتَهُ ، ولا تنسى أنّك يمكنك أن تنقذهُ من الضّلال ، هذا الذي وقعَ في مشَقَّةٍ بالغة ، وحرجٍ شديد ، وقعَ في حاجةٍ كبيرة ، وجئتَ أنت ، ولبَّيْتَ حاجتهُ ، وجبَرْتَ كسْرهُ ، ورأبْت صدْعهُ ، وناولْتَهُ مُرادهُ ، وأغَثْتَهُ ، كأنَّك اشْتريْتَهُ ، مالَ إليك ، ورأى فيك الإحسان ، ورأى فيك المَثَل الأعلى ، عندئذٍ يُصبحُ هذا اللّهفان تربةً خصيبةً جداً جداً بِتَوجيهك ، وبإمكانك أن تأخُذَ بيَدِهِ إلى الله تعالى ، بإمكانك أن تدْعُوَهُ إلى طاعة الله ، وبإمكانك أن تحْمِلَهُ على توبتِهِ من المعاصي ، بإمكانك أن تنقذهُ من براثن الشِّرْك والشكّ ، بإمكانك أن تنقلهُ من الشّقاء إلى السعادة ، على أثَرِ هذه الخِدمة البالغة .

 

إن الله رفيق يحب الرفق في كل أمر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حديثٌ ثالث ؛ عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت : قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم :

((إِنّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ ))

[مُتَّفَقٌ عَلَيهِ عن عائشة]

 عرّف بعضهم الرِّفْق بأنّه حُسْن القيادة ، والانقياد إلى الهدف الكبير ، قد تصِلُ إلى هدفك بالعُنْف ، وقد تصِلُ إلى هدفك بالرِّفْق ، إذا وصلْتَ إلى هدفك بالعُنْف ربّما لمْ يتحقّق الهدف ، لأنّ هذا الإنسان لهُ شخْصيَة ، ولهُ مشاعِرَ ، وله كرامة ، إذا حملْتَهُ بالعُنْف سحقْتَهُ ، وإذا سحَقْتَهُ ماذا يستفيدُ من بُلوغِ أهدافهِ ؟ ليس له أهدافٌ عندئذٍ ، تلاشَتْ أهدافهُ ، عن أبي هريرة قال : قالَ عليه الصلاة والسلام :

((عَلِّمُوا ولاَ تُعَنِّفُوا ، فإنَّ المُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنَ المُعَنِّف))

[البيهقي عن أبي هريرة]

 أحدُ الشعراء يُخاطبُ النبي عليه الصلاة والسلام :

داوَيْتَ مُتَّئِدًا ودَاوَوْا طُفْرَةً  وأشَدّ مِن بعضِ الدَّواء الداءُ
* * *

 ربّما كان الدواء أشدَّ إيذاءً من الداء ، قال :

داوَيْتَ مُتَّئِدًا ودَاوَوْا طُفْرَةً  وأشَدّ مِن بعضِ الدَّواء الداءُ
* * *

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حُسْن الانقياد ، وحُسْنُ القِياد إلى الهدف الكبير ، عرَّفَهُ بعضهم بِلِينِ الجانب بالقَول والفِعْل ، والأخْذ بالأسْهَل ، بشّروا ولا تنفّروا ، يسّروا ولا تُعسّروا ، سدِّدوا وقاربوا ، عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت :

((ما خيِّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما ً ، فإِن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لنفسه ، إلا أن تنتهك حرمة اللّه [تعالى]فينتقم للّه بها ))

[أبو داود عن عائشة]

 لِينُ الجانب بالقَول والفعل ، والأخذ بالأسْهَل ، والدفع بالأخفّ ، ماذا قال سيدنا معاوية بن أبي سفيان ؟ لا أضعُ سيفي حيثُ يكفيني لِساني ، ولا أضعُ لساني حيث يكفيني بناني ، إذا الشيء يُحلّ بالإشارة لا أتكلّم ، وإذا الشيء يُحلّ بالكلمة لا أضرب ، فالدَّفْعُ بالأخفّ حتى في معاملة المرء نفسهُ ، أي نفسُكَ مطِيّتُك فارْفُقْ بها ، الذي يُحمِّلُ نفسهُ ما لا تُطيق ليس رفيقًا بِنَفْسِهِ ، نفسُكَ مطِيّتُك فارْفُقْ بها ، إنّ الله لا يملّ حتى تملُّوا ، افعلوا ما تُطيقون ، رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يقف في الشمس ، وقد نذر ذلك ، فقال : مُروهُ فلْيَتَحَوَّل ، إنّ الله غنيّ عن تعذيب هذا نفسَهُ .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ إنّ الله يحبُّ الرِّفْق في الأمر كلّه ، قالوا : في أمر الدِّين والدنيا . وقالوا أيضًا : في معاشرة من لا بدّ من مُعاشرتِهِ ، ليس بحَكيمٍ مَنْ لمْ يُدار مَنْ لابدّ مِن مُداراته ، ومن لا بدّ من مُعاشرتِهِ ، قد تكون الزوجة سيِّئةً ؛ دارِها تعِشْ بها ، الزوجة والولد والخادِم بالرِّفْق يُقْدم ، وبالرِّفْق يُحبّ ، وبالرِّفْق يرْغَب ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :

((إِنَّ الِّرْفَق لاَ يَكُونُ إلا في شَيْءٍ إِلاَّ زَاَنُه ، ولاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَ شَانَهُ))

[مُسلِم عن عائشة ]

 كلُّ ما في الرِّفْق من خَير يُقابلهُ شرّ في العُنْف ، وفي القَسْوَة ، وفي الغِلْظة ، قال تعالى :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[ سورة آل عمران: 159 ]

 كلُّكم يعلمُ قصّة سيّدنا معاويَة بن أبي سفيان حينما جاءَتْهُ رِسالة من عبد الله بن الزّبَيْر ، قال له : أما بعْدُ فيا معاوِيَةُ - هكذا باسمه فقط ‍! - إنّ رِجالَكَ قد دَخَلُوا أرضي فانْهَهُمْ عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأْنٌ والسّلام . ما هذا الكلام ؟ وما هذا الخِطاب ؟ كان إلى جانبه ابنهُ يزيد ، قال : يا يزيدُ ما تقُول في هذا الخِطاب ؟ قال يزيدُ : أرى أن تُرسِلَ له جيشًا أوَّلُهُ عندهُ ، وآخرهُ عنك يأتوكَ بِرَأسِهِ ! ماذا قال معاوِيَة رضي الله عنه ؟ قال : يا بنيّ غير ذلك أفْضَل ، أمرَ الكاتب أن يكتب ؛ أما بعدُ : فقد وقفْتُ على كتاب ولد حواريّ رسول الله ، ولقد ساءني ما ساءَكُم ، والدنيا كلّها هيِّنَةٌ جَنْبَ رِضاه ، لقد نزلْتُ لك عن الأرض ، ومن فيها !! فجاء الجواب من عبد الله بن الزُّبَيْر ، يا أمير المؤمنين - أوّل الكتاب يا معاوِيَة وثاني كتاب يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءَكَ ، ولا أعْدَمَكَ الرأْيَ الذي أحلَّك من قومك هذا المحلّ .
 لذلك بالعُنف لا تَصِلُ إلى شيء :

((إِنَّ الِّرْفَق لاَ يَكُونُ إلا في شَيْءٍ إِلاَّ زَاَنُه ، ولاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَ شَانَهُ))

[مُسلِم عن عائشة ]

 علِّموا ولا تُعَنِّفوا ، كاد الحليم أن يكون نبيًّا ، الحِلْمُ سيِّدُ الأخلاق .

 

محبة الله عز وجل للإنسان الطّلق السّهل :

 حديثٌ رابعٌ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :

((إِنّ اللَّهَ يُحِبُّ السَّهْلَ الطَّلْقَ))

[البيهقي عن أبي هريرة]

 من هو السّهل الطّلْق ؟ طلْقٌ في وَجهه ، سهْلٌ في مُعاملتِهِ ، الطَّلْقُ المُتَهَللُ الوَجه ، البسّام ، الضّحاك ، المُتَيَسِّر في أمْرِهِ غير المتعسِّر ، في بيْعِهِ ، في شِرائِهِ ، في أخْذِهِ ، في عَطائِهِ ، يُشْعرُكَ أنّ الدنيا لا قيمة لها ، هناك وادي من الغَنَم ، قال أحدهم : يا رسول الله لِمَن هذا الوادي ؟ قال : هو لك ، قال : أتهزأ بي ؟َ قال : لا ، هو لك ، قال : أشهدُ أنّك رسول الله تُعطي عطاءَ مَنْ لا يخشى الفقْر ، دَخَل النبي إلى البيت ، فقال : هل عندكم من شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فإنِّي صائم ، المُتَهَلِّلُ الوَجه ، البسّام ، الضّحاك ، المُتيسِّرُ في أمرِهِ ، غير المُتعَسِّر في بيعِهِ ، وفي شِرائِه ، وأخذه وعطائِهِ ، من خِلال تصرّفاتِهِ يُشْعرُكَ أنّ الدنيا ليْسَت كبيرة عندهُ ، سَهلاً في مُعاشرة الخلق ، ليِّنَ الجانب ، حسنَ الصُّحْبة ، ذا رفْقٍ في الدنيا ، وفي الدِّين ، سَهْل الانقياد إلى طاعة الله تعالى ، لكنْ يجبُ أن نقفَ وقفةً صغيرة ، المؤمن كما قال بعض العارفين أسْهَلُ شيءٍ وأيْسَرُهُ ، فإذا تُعُرِّضَ لِدِينِهِ كان كالجبل ، يسِرٌ في الدنيا ؛ في الأخذ والعطاء ، وفي البيع والشّراء ، في حاجات الدنيا ، وفي متاع الدنيا ، وفي حُطام الدّنيا ، أما أن تُنْتَهَكَ حُرَم الله تعالى وهو ليِّنٌ ، وهو مُبْتسِم ، وهو مُشرقٌ ؛ فهذا هو النِّفاق بِعَيْنِهِ ، فإذا تُعُرِّضَ لِدِينِهِ كان كالجبل رُسوخًا ، وشُموخًا ، لا تأخذُه في الله لَوْمةُ لائم ، علَّق بعض العلماء على هذا الحديث ؛ إنّ الله يحبُّ أسماءهُ ، ويحبّ من تخلَّق بأسمائه ، والسهولة والطلاقة داخلان في أسمائِهِ ، فهي من الرّحمة والحِلْم ، أقربُ الأسماء إليها الحِلْم والرحمة ، فمَن كان طلْقًا سَهلاً فقد تخلَّق بأخلاق الله ، ومن تخلّق بأخلاق الله أحبّه .

 

محبة الله عز وجل للشاب التائب :

 الحديث الأخير ، رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :

((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الشَّابَ التَّائِبَ))

[رواه أبو الشيخ عن أنس]

 من هو الشابّ ؟ قال : مَنْ بلغَ الثامنة عشرة ولمْ يتجاوَز الثلاثين ، من الثمانية عشر عامًا إلى الثلاثين ، قال : هذا الشابّ ، الشبيبة حالها غلبةُ الشّهوَة ، وحِدَّة النّفْس ، وقوّة الطَّبْع ، وضَعْفُ العقل ، وقِلَّة العِلْم ، كلّ أسباب المعْصِيَة مُتوافِرَة في الشابّ ، وكلُّ أسباب العِصْمة ضعيفةٌ عندهُ ، فإذا تغلَّبَ الشابّ على قوّة طَبْعِهِ ، وعلى غلبة شهوته ، وعلى حِدّة نفْسِهِ، وعلى ضَعف عقلِه ، وعلى قلَّة علْمِهِ ، وأطاع الله عز وجل ، ماذا حَدَث ؟ فإنّ الله سبحانه وتعالى يُحبُّه ، ويعْجَبُ منه ، وضحِكَ ربُّكم من شابّ ليْسَتْ لهُ صَبْوَة ، وإنّ الله تعالى ليُباهي الملائكة بالشابّ المؤمن ، يقول : انْظُروا عبدي ترَكَ شَهوتَهُ من أجلي .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ورد في بعض الأحاديث القدسيّة أحبّ الطائعين ، وحُبّي للشابّ الطائع أشدّ ، وأبغضُ العُصاة ، وبُغضي للشيخ العاصي أشدّ .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ ويا أيّها الأخوة الشباب ، وأنتم في هذا السنّ أبواب رِضوان الله عز وجل ، أبواب السّعادة ، أبواب محبّة الله مُفتّحةٌ لكم ، لأنّ البُطولة أن تُطيعهُ وأنت شابّ، والشهواتُ تغلي فيك ، ومع ذلك تغضّ البصرَ عن محارم الله ، أن تُطيعهُ فتأكل المال الحلال فقط ، والمال الحرام بين يديك ، وأنت عفيفٌ عمّا نهى الله عنه ، هذه هي البُطولة ، بِقَدْر الحاجة ، أن تتصدَّق وأنت صحيحٌ شحيح ، تخْشى الفقْر وتأمُلُ الغِنى .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من عرفَ الله في الرَّخاء عرفهُ في الشدّة ، عالمٌ جليل من علماء الشامّ بلغَ السادسة والتّسعين من عمرِه ، كان منتصِبَ القامة ، حادّ البصر ، مرهف السّمْع ، أسنانهُ في فمِهِ ، كلّما سئِلَ يا سيِّدي : ما هذه الصّحة التي متَّعَك الله بها ؟ قال هذه المقَوْلة الشهيرة : يا بنيّ حَفِظناها في الصِّغَر فحَفِظَها الله علينا في الكِبَر ، من عاشَ تقِيًّا عاشَ قويًّا ، هؤلاء الشباب إذا أطاعوا الله عز وجل يدَّخِرُ الله لهم سعادةً في زواجهم وسعادةً في خريفِ عُمُرهم ، كلّما ازْدادَ عمرهُم ازدادوا وقارًا ، وحكمةً وعلمًا وقوّةً وجاهًا ، أما الذي يُفني شبابهُ في المعاصي فله في حياته الدنيا آخرةٌ قبيحةٌ جدًّا سمّاها الله تعالى أرْذَلَ العُمُر ، قال تعالى :

﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾

[ سورة الحج : 5]

 فمن أراد أن يحيا سعيدًا فعليه بطاعة الله تعالى ، من أراد أن يحيا كريمًا فعليه بطاعة الله ، من أراد أن يحيا عزيزًا فعليه بطاعة الله .
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الساعة البيولوجية :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ اكْتشف العلماء أنّ الخلايا التي تحت السرير البصري تعمل وكأنّها ساعة بيولوجيــّة داخِلَ الجِسْم لِيَتِمّ مِن خلال عمل هذه الساعة الانسجام بين وظائف الجِسْم ، وتعاقب الليل والنهار ، فهذه الخلايا تسْتشعرُ من خلال الضوء الذي يقعُ في الشبكيّة أنّ الوقت نهارٌ ، أو أنّ الوقت ليلٌ من دون وعي الإنسان ، فلو أنّ الإنسان كان فاقدًا للوَعْي ، ساعةٌ بيولوجِيّة هيّأها الله سبحانه وتعالى في الجِسْم مكانها تحت السرير البصري تعمل كما قال العلماء وكأنّها ساعة ، تعلمُ ما إذا كان الوقت نهارًا أو ليلاً .
 ماذا يحدثُ في النهار ؟ قال : يزداد الاستقلاب ، ويزداد اسْتِهلاك الطاقة ، وتزداد حرارة الجسم بِمِقدار نصف درجة ، وتزداد نبضاتُ القلب من عشر إلى عشرين نبْضَة في الدقيقة ، ويزداد ارتفاع الضّغْط في النهار ، ويزداد إدْرار البول من ضِعْفَين إلى أربعة أضعافٍ في النهار ، ويزداد نشاط المخّ ، وتزداد درجةُ لزوجة الدّم وتخثُّره في النهار ، ويزداد عدد الكريات البيضاء في النهار ، وأما في الليل فيزداد عملُ خلايا النمّو في الإنسان ، وينخفضُ اسْتِهلاك المخّ للسّكَر ، وفي الليل يضْعف إيصال الهواء إلى المسالك الهوائيّة في الرّئتين ، أي هناك حوادِث الاستقلاب ، والحرارة ، ونبْض القلب ، والضغط الشرياني ، وإدرار البول ، ونشاط المخّ ، ولُزوجة الدّم ، هناك نشاط يكون في النهار ، وهناك نشاط يكون في الليل ، كيف يعلمُ الجسمُ أنّه في نهار أو أنّه في الليل ؟ الخلايا تحت السرير البصري في الدّماغ ، العلماء قالوا : تعملُ وكأنّها ساعة بيولوجيّة ، هذه الساعة تعْمل ليَتِمّ الانسِجام بين وظائف الأعضاء ووظائف الأجهزة ووظائف الغدد والخلايا ، وبين الليل والنهار .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الخلايا التي تعملُ وكأنّها ساعة تسْتشْعِرُ ما إذا كان الوقت نهارًا أو ليلاً من خلال الشّبكيّة التي يقع عليها ضوء النهار ، فهل بعد هذا الإتقان إتقان وأنت لا تدري ؟ هل بعد إتقان صَنعة الله عز وجل في خلق الإنسان إتقان ؟ هكذا قال الله عز وجل :

﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾

[ سورة النمل : 88]

 قال تعالى :

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾

[ سورة الذاريات : 21]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور