وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة العنكبوت - تفسير الآية 3 ، الإنسان مخير . .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، الجنَّة التي عرضُها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين لا يمكن أن تكون لِعَمَلٍ سطحي وشَكلي وبسيط لا يُقَدِّم ولا يؤَخِّر، ألا إنَّ سِلْعة الله غالِيَة ألا إنَّ سلعة الله غاليَة ألا إنَّ سِلْعة الله الجنَّة، وقد ورد أنَّ طلب الجنَّة من دون عَمَلٍ ذَنْب من الذُّنوب، فأيُّ شيءٍ يدَّعِيه الإنسان، قُلْ ما شِئْتَ وأعْطِ لِنَفْسِكَ أيَّ حجْم، وتحدَّث عن إيمانِك ومحبَّتِك لله، ولكنّ الله مُتَكَفِّلٌ أن يكْشِفَ لك حقيقتكَ، ويكْشَفها للناس، فَكُلّ الأقوال بعد حينٍ تنقلبُ إلى امْتِحانات، فإمَّا أن تنْجَح وإما أن ترسُب.
 لكنَّ الله سبحانه وتعالى يعْلم عِلْم كَشْف لا علْم جَبْر أنَّ العِلْم الذي ذَكَرهُ الله في هذه الآية قال عنه العلماء هو عِلم حُصولي، تقريبًا لهذا ؛ لو أنَّ مُدَرِّسًا قديم في التدريس، نظر إلى هذا الطالب وقال: هذا ينْجَحُ وينال الدرجة الأولى، فهذا عِلْم كَشْف، أما حينما يدْخل الطالب الامتحان وينال الدَّرجة الأولى، فهذا عِلْم آخر، وهو العِلْم الحُصولي كان هناك عِلْم كَشْف وأصْبَحَ هناك علْم حصولي، فالعِلم الثاني الذي ذكَره الله عز وجل، قال تعالى:

﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾

[سورة العنكبوت]

 ليس معنى هذا أنَّه لم يكن يعْلم لمَّ علِمَ ! لأنَّ عِلْم الله مُتَعَلِّق بِكُل ممْكِن والله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)﴾

 

[سورة التغابن]

 لكنَّ الذي يفْعَلُ فعْلاً يُصَدِّق عِلْم الله به، نقول: هذا عِلْمَ حُصول وليس عِلْم كَشْف، فالعِلْم الأوَّل عِلْم كَشْف، والثاني عِلم حُصول فالإنسان مُمْتَحن وفي الدنيا كُلّ شيءٍ يُمْكن أن يكون، أما الذي يعْتَقِدُ أنَّهُ كُتِبَ عليه الشَّقاء وانتهى الأمْر، فهذه عقيدة أهْل الشِّرْك، لأنّ الله تعالى يقول:

 

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(35)﴾

 

[سورة النحل]

 أيها الإخوة، لِمُجَرَّد أن تعتَقِدَ أنَّك ريشَةٌ في مَهَبِّ الرِّيح، ولا اخْتِيار لك إطْلاقًا، وأنَّكَ مُسَيَّرٌ في كُلِّ شيء، فأنت بِهذا جَعَلْتَ من الدِّين ومِن الجنَّة والنار والثواب والعِقاب، ومِن إنْزال الكُتب، وإرْسال الرُّسُل، جعَلْتَ مِنْ كُلِّ هذا تَمْثيلِيَّة لا معنى لها، فلو أنَّ الله تعالى أجْبركَ على الطاعة لبَطَلَ الثَّواب، ولو أجْبركَ على المَعْصِيَة لبَطَلَ العِقاب، ولو تركَكَ هملاً لكان هذا عَجْزًا في القُدْرة ؛ إنَّ الله أمرَ عِبادهُ تخْييرًا، ونهاهُم تَحذيرًا، وكَلَّفَ يسيرًا، ولم يُكَلِّف عسيرًا فأعطى على القليل كثيرًا، ولم يُعْصَ مَغلوبًا، ولم يُطَع مُكْرَهًا، فأنت مُخَيَّر.
 أيُّها الإخوة، أقول كم كلامًا في مُنْتهى الدِّقة، حينما تعْتَقِدُ أنَّك مُسَيَّرٌ في كُلِّ شيء، حتى إذا عصَيْتَ الله، كما يقول العوام: الله قدَّر عليه الزِّنا، والله قدَّر عليه شرْب الخَمْر، فهذا الكلام كُفْر ! لأنَّ الله تعالى يقول:

 

﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(28)﴾

 

[سورة الأعراف]

 وقال تعالى:

 

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾

 

[سورة الإنسان]

 وقال تعالى:

 

﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)﴾

 

[سورة فصلت]

 وقال تعالى:

 

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾

 

[سورة البقرة]

 إذا لم تكُن مُخَيَّرًا الْتغى التَّكليف والْتَغَتْ الأمانة، والْتغى الثواب والعِقاب والْتغَت الجنَّة والنار، وأصْبَحَ إنْزال الكُتب عادَةً، وإرْسال الأنبياء لَعِبًا وأصْبَحِت الدنيا تَمْثيلِيَّة، فلو كنت أنت مدير مُؤَسَّسة وأرْسَلت مُوَظَّفًا لِمُهِمَّة، وأعْطَيْتَهُ كتابًا، وفي اليوم الثاني في قوائِم الدوام ؛ مَكْتوب غِياب فهل يُمْكِن أن تُعاقِبَهُ ثاني يوم ؟! فهل يُعْقل أن يُجْبرَكَ الله على المعْصِيَة ثمَّ يُعاقِبُكَ عليها ؟! هذا إلْغاء للعَقْل:

 

ألقاهُ في اليمّ مَكْتوفًا وقال له  إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماء
***

 فالإنسان إذا اعْتَقَدَ أنَّهُ مَجْبور شُلَّتْ حركَتُه، وهذه مشيئة الله، وهذه إرادته، وليس لنا اخْتِيار، فأنت إذا ألْغَيْتَ الاخْتِيار تكون بِهذا ألْغَيْتَ وُجودَك، وألْغَيْتَ الدنيا، وألْغَيْتَ الأمانة والتَّكليف، وألغيت الثواب والعقاب، وألغيت الجنَّة والنار، إنزال الكتب، قال: أكان مسيرُنا إلى الشام بِقضاء وقدَر من الله ؟! فقال له: وَيْحَكَ ! لو كان قضاءً لازِمًا، وقدَرًا حاكِمًا إذًا لبطَل الوَعْدُ والوعيد، ولانْتفى الثواب والعِقاب، إنَّ الله أمرَ عِبادَهُ تخْييرًا، ونهاهُم تَحْذيرًا، وكلَّفَ يسيرًا، ولم يُكَلِّف عسيرًا وأعطى على القليل كثيرًا، ولم يُعْصَ مَغْلوبًا، ولم يُطَع مُكْرهًا.
 هناك معنى ثانٍ ذَكَرْتُهُ سابِقًا، فلو بَنَيْنَا جِدارين بينهما مسافة تُساوي مسافة ما بين كَتِفَيْكَ تمامًا، ومرَرْتَ بِهذا الطريق، فلو قلتُ لك: لفّ إلى اليمين ! فهل لِهذا الكلام معنى ؟! هل تقْبَلُ على الله أن يقول كلامًا لا معنى له ؟ قال تعالى:

 

 

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119) ﴾

 

[ سورة التوبة ]

 فأنت بِإمْكانك أن تكون مع الصادقين أو مع الكاذِبين، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

 

[ سورة النور ]

 الله أمرَك، فأنت مُخَيَّر إما أن تَغُض وإما أن لا تغض، فأحيانًا كلمات تُلقى بين الناس، وهذه الكلمات مَفْعولها خطير جدًا فَمِنهم مَن يدْعو ويقول: اللَّهم إن كنت كتبتني عندك في أمِّ الكتاب شَقِيًّا مَحْرومًا مُقَتَّرًا عليَّ بالرِّزْق، فامْح اللهم بِفَضْلك شقائي وحِرْماني فهذا الدعاء لا أصْل له يقولونه في نصف، قال تعالى:

 

﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149)﴾

 

[ سورة الأنعام ]

 بِرَبِّك هل يمكن أن تأمر إنْسانًا بِخِدْمَتِكَ ثمَّ تُعاقبُهُ عليه ؟! فالله الذي يقول:

 

﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149)﴾

 

[سورة الأنعام]

 هل يعقل أن يأمركَ بالمعْصِيَة ويُحاسبك عليها ؟؟! لذلك جاء سيِّدَنا عمر رجلاً يشْرب الخمر قال: أقيموا عليه الحدّ ! فقال: والله يا أمير المؤمنين إنّ الله قدَّر عليَّ ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: أقيموا عنه الحدّ مرَّتَين ؛ مرَّةً لأنَّهُ شرِبَ الخمْر، ومرَّةً لأنَّهُ افْترى على الله! قال له: وَيْحَكَ يا هذا إنَّ قضاء الله لن يُخرِجْكَ من الاخْتِيار إلى الاضْطِرار فلو أنَّك مُضطَرّ لما حاسبَكَ الله عز وجل والآية الكريمة:

 

﴿َا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 شيء لها، وآخر عليها، فهي حينما تعمل عملاً صالِحًا هو لها، لأنَّها فَعَلَتْهُ بِمَحْض اخْتِيارها، ثمّ النقطة الدقيقة ؛ لماذا جَعَلَ الله سبحانه وتعالى سيِّدَنا النبي والرسول سليمان مَلِكًا؟ قال تعالى:

 

﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)﴾

 

[ سورة ص ]

 ما معنى ملِك ؟ أمْرُهُ نافِذ، ولماذا لم يَجْعَل الله كلّ أنبيائِهِ مُلوكًا وانتهى الأمر ؟ لماذا جَعَلَ أنبياءَهُ ضِعافًا ؟ لكَ أن تقول عن النبي ساحِر ومَجنون وكذاب وكاهِن، وتنام بالليل وأنت مرْتاح، لأنَّ الله ما أراد أن تُطيعه قصْرًا، وما أراد أن يُجْبرَكَ على الطاعة، وإنَّما أراد أن تأتِيَهُ عن اخْتِيار، وعن مُبادَرَةٍ وحُبّ، وعن شَوْق، والجنَّة أساسها الحب، ولو أنَّ الله أرادهُ أن يُطيعَهُ عباده جميعًا لألْزَمَهم ذلك، قال تعالى:

 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾

 

[ سورة السجدة ]

 فلو أنّ رئيس الجامعة أراد أن يضَعَ نِسَب النجاح مائة بالمائة لكان سَهْلاً عليه، يُوَزِّع أوراق الامْتِحان مع الإجابة وما عليك إلا كتابة الاسم، فهل هذا النَّجاح له قيمة عند الناس ؟ وهل له قيمة عند الناجحين ؟ فالواهم هو الذي يظنّ أنّ الله أجْبرَهُ على المعْصِيَة لو أنّ الله أراد أن يُجْبِرَنا على شيءٍ ما لما أجْبرتكم إلا على الهُدى قال تعالى:

 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾

 

[ سورة السجدة ]

 ما تفْعلونه هو من اخْتِيارِكم وكَسْبِكم، وسوف تُحاسَبون عنه، وما سَمْعتُ أحدًا يقول: الله قدَّر عليَّ الهُدى ! والذي يعصي يقول: هكذا قدَّر الله عليّ ! فلماذا إذا أدَّيْتَ الصَّلوات وقُمْتَ رمضان، فلماذا لا تقول: هكذا قدَّر عليَّ الله ! فَفِكْرة الجَبْر فكْرة خاطِئة ومُميتَة، سواء عَمِلتَ أم لم تعْمل فالله هو الذي قدَّر عليَّ ؛ هذه الفِكْرة تتنافى مع كِتاب الله كُلِّه، قال تعالى:

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾

[ سورة الأنعام ]

 فالله سبحانه وتعالى حينما قال:

 

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾

 

[ سورة العنكبوت ]

 هذا عِلم الحُصول، وكان قبلهُ عِلم الكَشْف، فالله تعالى عِلْمُهُ عِلْمُ كشْفٍ لا عِلْم جَبْرٍ.

 

تحميل النص

إخفاء الصور