وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة العنكبوت - تفسير الآية 6 ، العلوم ثلاثة علم بخلقه وعلم بأمره وعلم به. .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، الآية السادسة من سورة العنكبوت، وهي قوله تعالى:

﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) ﴾

[ سورة العنكبوت ]

 معنى الجِهاد واسِعٌ جِدًّا، ولعلَّ مِن أبْرزِهِ أن يُجاهِدَ الإنسان نفْسَهُ وهواه كما قال عليه الصلاة والسلام رجعنا من الجِهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ؛ جِهاد النَّفس والهوى ولكن قبل أن نقِفَ عند هذا المعنى الدقيق لا بدّ مِن كلمة تُوَضِّحُ حُدود هذه الآية.
 أيها الإخوة، العُلوم في الكون ثلاثة ؛ عِلْمٌ بِخَلْق الله، وعِلْمٌ بِأمْر الله وعِلْمٌ بالله، فالعِلْمُ بِخَلْق الله هو العلم الذي يبْحثُ عن القانون فيما بين المُتَغَيِّرات ؛ ظاهرة فيزْيائِيَّة أو كيميائِيَّة، أو فلَكِيَّة، ظاهرة اجْتِماعِيَّة أو نفْسِيَّة، فَهُوَ يبْحث في الظواهِر المادِيَّة، والمُتَغَيِّرات، والعلاقات الثابتة بين المُتَغَيِّرات ؛ فالعِلْمُ يبْحَثُ فيما هو كائِن، ذرَّةٌ لها خصائِص فيزيائِيَّة أو كيمْيائِيَّة، ورياضِيات، فالعِلْمُ بِخَلْق الله برَعَتْ به أوروبا أيَّما براعَة، وكُلُّ عُلومِنا الحديثة مُسْتَوْرَدَة من هناك ؛ هذا عِلْمٌ بِخَلْق الله.
 ماذا يَحْتاج ؟ يحْتاج إلى فِكْر وجُهْد ووَقْتٍ، وإلى كِتاب، وإلى مُعَلِّم وإلى جامِعَة، وإلى مُدارَسَة، وحِفْظ، وإلى تذَكُّر، إلى كِتابَة، وامْتِحانات ؛ هذا العِلْم مِن ألِفِهِ إلى يائِهِ مُتَعَلِّقٌ بالدنيا، فإذا برَعَ فيه الإنسان فقد برَعَ في حِرْفةٍ راقِيَةٍ في الدنيا، وهذا العِلْم ثمنهُ الدِّراسة والقِراءة والتَّسْجيل، والمُذاكَرة والتَّأليف، وأداء الامْتِحان، وَنَيْل الشَّهادة ؛ هذا عِلْمٌ بِخَلْق الله، كما قلتُ قبل قليل: برَعَت به أوروبا أيَّما براعة.
 لكنَّ العلْم بأَمْر الله، هو عِلْم الشَّريعة، أيْضًا أحكام الطلاق والزواج والميراث وأحكام الحضانة والنَّفقَة، والعاريَة والهِبة والقرْض وشرِكات المُضاربة والوُجوه والتَّضامن، والمُساقاة والمُزارعة تشْعيباتٍ كثيرة تَجِدُها في كُتب الفقْه ؛ هذا عِلْمٌ بأمْر الله، يحتاج أيْضًا إلى مدارسَة، وإلى دوام ومُتابَعة، وإلى حِفْظ وكتب وأساتِذة وإلى امْتِحانات، إلخ... وهذا العِلْم يتأتَّى عن طريق الجُهْد البشري، وقد يُتْقِنُهُ إنسانٌ غير مسلم، والشيء الذي يُؤْسَفُ له أنَّ في الجامعات الغَرْبيَّة، أساطين هذه العُلوم الشَّرْعِيَّة ليْسَوا مُسْلمين !
 لكنَّ العِلْم بالله، وصَلنا الآن إلى العِلْم بالله، فَالعِلْم بأمْر الله شيء، والعِلْم بِخَلْق الله شيء، ولكنَّ العِلْم بالله لا تكْفيه المُدارسَة، بل يحْتاجُ إلى مُجاهَدَة، لذلك قال الإمام الغزالي جاهِد تُشاهِد، والآية الدقيقة وهي قوله تعالى:

 

﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 هذا إنسانٌ آخر، فَمُمْكِن أن تُساهِم في بناء مَسْجِد ولك الشُّكْر الجزيل مِن العباد، ومن الله، مُمْكِن أن تُساهِم بِبِناء مَيْتَم، أو مُسْتَوْصَف ومُمكِن أن تُساهِم في إسْكان شبابٍ في البيوت، ومُمْكِن أن تقيم سبيل الماء، أما أن تَغُضَّ بصَرَكَ عن محارِمِ الله، هنا المُجاهَدة؛ ضَبْط اللِّسان والعَيْن والسَّمْع، وضَبْط السُّلوك وتحرِّي الحلال في الكَسْب، وفي الإنفاق، وأن تكون مع المؤمنين، ولعلَّ الإنسان تميل نَفْسُهُ لأهْل الدنيا، والمؤمنين قد يكونون فقراء أحْيانًا، فالله عز وجل قال لك:

 

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)﴾

 

[ سورة الكهف ]

 النقطة الدقيقة، أنَّ العِلْم بالله ثمنُهُ باهِظ، فأنت مُمْكِن أن تزور طبيبًا بِأعلى مُسْتوى ولا علاقة لك بِسُلوكِهِ ؛ يُصَلِّي أو لا يُصَلِّي هذا موضوع ثاني، الذي يَهُمّك أنَّ معه بورد بِهذا الاخْتِصاص، فأنت لا تُطالب أيّ إنسان بانْضِباط سُلوكي إذا كان عِلْمُهُ مادِّي، ولكنَّك لن تستطيع من رجل دِين ولا كلمة إن لم يكن مُسْتقيمًا، لذلك قيل: الوَرَعُ حَسَن وفي العلماء أحْسَن، والعَدْل حسَن ولكن في الأُمراء أحْسن والسَّخاء حسَن ولكن في الأغنياء أحْسَن، والحياء حَسَن ولكن في النِّساء أحْسَن والتوبة حسن ولكن في الشباب أحْسَن، الصَّبْر حسَن ولكن في الفقراء أحْسَن، فأنت يُمْكِنُكَ أن تفعل كُلَّ شيء، ولكن حينما تضْبط نفْسَكَ ترْقى عند الله، ولذا قال الإمام الغزالي كلمة دقيقة: حَيْثُمَا ورَدَت كلمة العِلْم في القرآن الكريم فإنَّما تعني العِلْم بالله، لذلك ينْفصِل العاقل عن الذَّكِيّ، فليس كُلّ ذَكِيٍّ عاقل، قد يُحَصِّل الواحد من هذه العُلوم أعلى درجاتها، ولكن لأنَّهُ لا يُصَلي فهو ليس عاقل، فَعَقْلُهُ إن لم يوصِلْهُ إلى الخالق، وإلى سِرِّ وُجوده، فلا يُعَدُّ هذا عند الله تعالى عاقِلاً، فالذَّكي فيما هو فيه، وهناك أساليب يفْعَلُها اللُّصوص لا تخطر في بال الإنس ولا الجنّ ؛ دخل إلى مَحَلّ بِالكُويت، فَوَجَدَ رويْسرايسْ ! أحدث سيارة مبلغها أربعمائة وخمسين ألف دينار كُوَيْتي فوَقَّعَ الشيك، وقَّعَ الشيك بعد الساعة الثانية عشرة، تأتي مُكالمة لِصاحِب المحلّ أنَّ هذا الشيك ليس له رصيد، أوْقفوا له سفره، وكان له سفر صباح السَّبت، وكان قد اشْترى سيارة، وهيَّأ عُقودا لأوروبا، فَمَنعوه بالسَّفر، ووجدوا له رصيدا بالبنْك، وأقام دَعْوى وربِحَ أرقامًا فَلَكِيَّة ! فإذا الإنسان لم يعرف الله عز وجل فإنَّه يسْتخدِم هذا الذَّكاء لِغَير ما خُلِقَ له، ومُشْكِلَة الذَّكاء أنَّ الحيوان لا يستطيع أن يُفَكِّر، أما الإنسان فلهُ عَقْل، فلو كان للواحِد آلة تَصْوير مُلَوَّنة يمْكن أن يُزَوِّر فيها عملات، فهذه آلة، وكذا العَقْل البشري إن اسْتَخْدَمْتَهُ لِغَير ما خُلِقَ له كان سبب الهلاك، لذلك غير الأذْكِياء من غير المؤمنين مُجْرمين ؛ لأنَّهم بِذَكائِهم يصِلون إلى أشياء لا تخطر بِبَال الإنسان، والمُلَخَّص أنَّك إن جاهَدْت هواك ونفْسَك عرفْتَ الله، والله عز وجل لا يتقبَّل مِن العبْد العمَل الذي لا يُكَلِّفُهُ شيئًا، لأنّ الله تعالى لا يُريدُ مالَكَ بِقَدْر ما يريدُكَ أنت، يريدُ إقْبالك عليه، وإخلاصك له، ومحبَّتَك له، فلذلك ترْقى عنده حينما تُجاهِدُ هواك ونفْسَك، أما إن تصَدَّقْتَ بالمال قد يُعْطيك أضْعافًا مُضاعَفَة ولكن في الآخرة لِمَن أحبَّهُ وأخْلصَ له، وأقْبل عليه أيها الإخوة الكرام قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) ﴾

 

[ سورة العنكبوت ]

 فالجاهل يظنُّ حين غَضِّهِ للبَصَر أنَّه فاتَتْهُ فرصَة النَّظر، أما المؤمن فَيَعْتَبِر غضَّ البصر كمَن وضَعَ ليرة ذَهَب، فالشاب حينما يتزوَّج يخْلق بينه وبين زوْجَتِهِ المودَّة، والحبّ والوِئام، والذي يخرق نِظام الله عز وجل أوَّل عِقابٍ له ؛ زواجٌ غير ناجِح، فَمَوضوع الزواج موضوع دقيق جدًا، ولا علاقة له بِشَكْل الزَّوْجة إطْلاقًا، ولكن العلاقة حينما يرى الله من عبْدِهِ الانْصِياع إلى أمْرِهِ، يَخْلِقُ بين الزَّوْجَيْن المودَّة والرَّحْمة، فإذا غضَّ بصره وجاهَدَ نفْسَهُ وهواه فهل نَفَعَ أحدًا بهذا ؟‍ لا فالذي تصَدَّق لِوَجْه الله، والمال مُحَبَّب ويَحُلّ مُشْكِلات، فهذا يَحْميهِ الله من خسارات يَقَعُ فيها مُعْظَم الناس ! ويُلْهِمُهُ إلى أعمال طيِّبة يرْبَحُ بها هذه عِنايَة إلهِيَّة، قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) ﴾

 

[ سورة العنكبوت ]

 اكْتُشِف أنَّ الإنسان الذي ينام نوْمًا مديدًا ؛ لا يَهُمُّه صلاة الصبح، ينام إلى تسعة ساعات أو أكثر، والقلب يضرب ثمانين ضرْبة بالدَّقيقة ومع النوم المديد يُصبِح خمسة وخمسين ضرْبة، ويمشي الدم بِبُطء، وإذا مشى بِبُطْء، وبهذا تترسَّب كلّ المواد الدَّهْنِيَّة على جدران الشرايين فالاسْتِيقاظ باكِرًا لِصَلاة الفَجْر يمْنَعُ النَّوم المُسْتَمِرّ، فأحد أسباب الصِّحة النَّوم المُتَقَطّع، ينام على الساعة الثانية عشرة، ويستيقظ على الساعة الرابعة والنِّصف، فلو دَرَسْتَ الأمور الشَّرْعِيَّة لوَجَدْت كلّ هذه الأمور مُتَوافقَة مع الصِّحة، هناك تدريبات رِياضِيَّة مَشْهورة بالسُّوَيْد أخذوا حركات الصلاة فوَجَدوها من التمارين التي يسْتطيعُهَا أيّ إنسان في كُلّ الأعمار، ذَكَرًا كان أو أنثى، قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) ﴾

 

[ سورة العنكبوت ]

 لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحِدٍ ما زادوا في ملكي شيئًا، فالله غنيّ وإنَّما خلقنا لِيُسْعِدَنا ولِيَرْحَمنا، وهو الله أحد الله الصَّمَد.
 النُّقطة الدقيقة، أنَّه بعدما قال:

 

﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾

 

[ سورة العنكبوت ]

 فالذي له ماضي مرّ، فالماضي مُكَفَّر، لو جئتني بمثل قراب الأرض خطايا غفرتها ولا أُبالي، وقال تعالى:

 

﴿ قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)﴾

 

[ سورة الزُّمَر]

 فالعَبْد إذا قال: يا رب وهو في صلاته قال الله: لبَّيْك يا عبدي، وإن قالها وهو عاصٍ، قال الله له: لبَّيْك ثمّ لبَّيْك ثمّ لبَّيْك، فالذي عنده ابن مُستقيم فهو مرتاحٌ منه، أما الذي عنده ابن شارِد وبعد سنوات يأتي ويُقَبِّلُ يدَ أبيه ويطلب منه السَّماح، يا ترى بِأيِّهما أشَدُّ فرحًا، ونحن الآن بِرَمضان، وهو شهر الطاعة والغفران، والنبي صعد المنبر فقال آمين، نحن في فرصَة أن نتعامل مع الله بِحِسابٍ جديد، فيُمْكِن أن تفْتَحَ مع الله حِسابًا جديدًا، والماضي كُلُّه نظيف، ولكن هذا يحْتاج إلى متابعة مُجاهَدة، وعلى الإنسان أن تكون شَخْصِيَّتَهُ قَوِيَّة، فلا يتلاعب بالأمور ويقول: ماذا أفعَل ؟ جاءوني ولا بدّ أن أخْتَلِطَ معهم، وذاك يقول لك: كنت عند بيتٍ صديقي، وله هوائي مُقعَّر، ونظرنا إلى أفلام جيِّدة ؛ كُلّ هذا بِرَمَضان ! فإذا الإنسان ما ضَبط سُلوكه لا يرْقى عند الله، قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)﴾

 

[ سورة العنكبوت ]

 والمَكْسَب معك.

 

تحميل النص

إخفاء الصور