وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة لقمان - تفسير الآيتان 10-11 عبادة التفكر من أرقى العبادات.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، في سورة لقمان، الآية العاشرة، وهي قوله تعالى:

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(10)﴾

[سورة لقمان]

 هذه الآية تُشير إلى عِدَّة آياتٍ مِن خلق الله تَدُلّ على عَظَمَتِهِ، وقد بيَّنْتُ لكم كثيرًا أنَّ التَّفَكّر في خَلْق السماوات والأرض مِن أرْقى العِبادات لأنَّ الكَون أوْسَعُ بابٍ تَدْخل منه إلى الله عز وجل، وأقْصَرُ طريقٍ تسْلُكُهُ إلى الله، إنَّك إن فكَّرْتَ في خلْق السماوات والأرض وقَفْتَ وَجْهًا لِوَجْهٍ أمام عَظَمَة الله جلَّ جلاله، فالله سبحانه وتعالى:

 

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾

 

[سورة لقمان ]

 إعراب تَرَوْنها ؛ تَرَوْن فِعْل مُضارع، وهذا الفِعْل ورَدَ في مَحَلِّ صِفَة أيْ بِغَيْر عمَدٍ مَرْئِيَّة، وما هي القِوَى غير المَرْئِيَّة التي ترْبِطُ السماوات ؟ إنَّها قِوَى التَّجاذُب ‍! فهذه قِوَى غير مَرْئِيَّة، فالأرض تدور حوْل الشمس والشمس تَجْذب الأرض، لذلك تبْقى تدور حَوْلها، وما الذي يَجْعل الأرض في مسارٍ مُغْلقٍ حول الشَّمس ؟ أنَّ جاذِبِيَّة الشَّمْس لها تأصِلُه، فلو أنَّها تفلَّتَتْ مِن جاذِبِيَّة الشَّمس، وانْطَلَقَت في الفضاء الكَوني لانْتَهَتْ الحياة مِن على سَطْح الأرض! لأنَّ الوَجْه المُقابِل للشَّمْس حرارته ثلاثمائة وخمسين درجة فوق الصِّفر، أما الوَجه المُقابل مائتان وسبعون تحت الصِّفْر، فبَعْض العلماء قال: لو أرَدْنا أن نرْبِطَ الأرض بالشَّمس بِحِبالٍ لاحْتَجْنا إلى مليون مليون حَبْل فولاذي، وأمْتَن عنْصر في الأرض الفولاذ المَظْفور، فالمصاعِد تُعَلَّق بالفولاذ المَظْفور، وتليفريك يُحْمَل على الفولاذ المَظْفور، قُطْر كلّ حبْل خمْسة أمتار، وهذا الحَبْل الفولاذي يُقاوِم قِوى شدّ تُعادِل مليونين طنّ، وهذه الحِبال مِن أجل أن تحْرِفَ الأرض ثلاثة ميلي كل ثانية في مسار مُغْلق حول الشَّمس، فالله خلق السماوات بِغَيْر عمَدٍ ترْوَنها، أي بِعَمَدٍ لا ترَوْنها ؛ أعْمِدَة يُمْكن أن تسير خِلالها، وأعمِدَة لا تراها بالعَيْن، وهذه هي قِوى التَّجاذب، فالذي يربِطُ الأرض بالشَّمْس، والقمَر بالأرض، والشَّمس بالمَجَرَّة ؟ قِوى التَّجاذب والقضِيَّة مُعَقَّدة جدًا، فلو أتَيْنا بِقِطْعَتي مغناطيس وبِحَجْمٍ ثابِتٍ ووضَعْناهما على طاوِلة، وأتَينا بِكُرَة حديدِيَّة صغيرة، لا يسْتطيعُ عالِمٌ على وَجْه الأرض أن يضَعَها في المنْتَصَف الدَّقيق بِحَيث تتساوَى قِوى الجَذْب ‍! لو أُزيحَتْ مِعْشار الميلي تَنْجذِب إلى الكتلة الأولى، فلو كان ثلاثى كُتَل لكان الأمْر أصْعَب، ولو كانت الكُتَل مُتفاوتة في الحجم أصْعب وأصعب، لو كان هناك فراغ في عشرين أو ثلاثين كتلة مغناطسيَّة مُتفاوِتَة في الحجْم والجَذْب، هذا شيء فوق قُوَّة البشَر، فالكَون هكذا، فَكُلّ الكواكب تنْجذب إلى بعْضِها عن طريق هذه القِوى، أما الشيء الذي يلْفت النَّظر لولا حركة الكواكب لاجْتَمَع الكون في كُتلةٍ واحِدَة، أما هذه الحركة ينشأ عنها قِوى نابِذة تُساوي القِوى الجاِذبَة فلو أنَّ الحركة انْعَدَمَتْ لانْعَدَمَت الحياة على وَجْه الأرض، ولأصْبح الكون كتْلةً واحِدَة، الله يقول:

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)﴾

 

[ سورة الرعد ]

 يجب أن تعرف مَن هو الله ؟ ومن الذي تَعْبُدُه ؟ ومن الذي أنْزَلَ الكتاب ؟ ومن الذي تُحِبُّه ؟ ومن الذي ينبغي أن تعبدهُ ؟ والذي ينْبغي أن تكون له ؟ فالإنسان قد يبْتعِد عن الشيء احتقارا له، أما أحْيانًا يبْتَعِد عن الشيء احتقارا لِنَفْسِهِ قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(130)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 فالدِّين إن أعْرَضْتَ عنه فأنت تحْتَقِرُ ذاتَك، فأنت مَخْلوق أن تكون لله تعالى فإذا بِكَ تَجْعَلُ نفْسَكَ لِغَير الله، وعبْدًا للَّئيم، قال تعالى:

 

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾

 

[ سورة لقمان ]

 الجبال مُوَزَّعة تَوْزيعًا بحيث أنَّ تَوَزُّعها يَجْعل دَوَران الأرض دورانًا ساكِنًا فأنت لو رَكِبْتَ أعْظَمَ سيارة لوجَدْتَ اهْتِزازًا، وكذا الطائرة والأرض تمْشي في الثانِيَة الواحِدَة ثلاثين كيلومتر دون اهْتِزاز، والدليل أنَّ الزِّلزال يَجْعل الأرض عالِيَها سافِلَها، فالجِبال مغْروسة في الأرض بِحِكْمة بالغة فَهُناك عِدَّة طبَقات في الأرض، هذه الطَّبقات مُتَفاوتَة في الكثافة، فلو أنَّ الأرض حينما تَدور ؛ هذه الطبقات تأخذ تسارع مُختلف عن بعضِها، فيحْدث اضطراب، فالجِبال ترْبط هذه الطبقات بعْضِها بِبَعْض، فمثلاً في بعض الآيات قال تعالى:

 

﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا(7)﴾

 

[سورة النبأ ]

 لو أتَيْتَ بِبَيْضة غير مَطْبوخة لا تدور لأنَّ فيها مادَّة جامدة وسائِلَة فاخْتِلاف الكثافة تُحْدِث اخْتِلافًا بالتَّسارع والتَّباطؤ، أما إذا كانت مطْبوخةً فتَدُور، وكذا الأرض مُتفاوِتَة في الكثافة، ولولا الجِبال لاضْطَرَبَت فالله جعل الجِبال أوْتادًا ورواسي، شاهِقات، وللجِبال وظائِف لا تُعَدُّ ولا تُحْصى ؛ أوَّلاً تُلَطِّف الأجْواء، وتحمي بعض المناطق من الرِّياح تُضاعف المساحة المزْروعة، وتًغَيِّر الطَّقْس، وهناك حِكَم كبيرة جدًّا فالجِبال أحَد الآيات الدالة على عظمة الله تعالى.
 قال تعالى:

 

﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)﴾

 

[ سورة لقمان ]

 لو أجْرَيْت إحْصاءً أنواع النبات الذي يُزْرع مِن أجل الخشَب، وأنواع النبات الذي يُزْرع الثَّمْر، وأنواع النبات الذي يُزْرع من أجل الأدْوِيَة ومن أجل الأصْبِغَة والصِّناعات، والنباتات المطاطِيَّة، ونباتات تُعْطيك سِواك، وأخرى خُلَّى، وأخرى ليفَةٌ، وأخرى روائِح عَطِرة، ونباتات تأكُلها، وأخرى تصْنَعُ بها الأثاث.
 قال تعالى:

 

﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)﴾

 

[ سورة لقمان ]

 المؤمن مَدْهوش بِخَلْق الله، والكافِر مَدْهوش بِخَلق الإنسان ! والله قال أحدهم: أتمنَّى أن تمْشي فوقي هذه السيارة ؛ أيْ بي أم !! مَدْهوش بِصُنع الإنسان، أما المؤمن فَمَدْهوش بِخَلق الله، يقول لك: كِلْيَة صِناعِيَّة ! نعم كِلْيَة صِناعِيَّة، ولكن يُكَلِّفُكَ الأمر أن تبْقى ثماني ساعات، وكُلْفة وصوت، أما الكِلْيَة الطَّبيعِيَّة دون صوت وحجْم صغير، ولها طريق مائة كيلومتر، والدَّم يقْطعُهُ في اليوم خمس مرَّات مِن دون تكْلفة وتَعَطُّل ومن دون انْتِظار، وأنت تأكل وتشْرب وتعمل، فالكِلْيَة الصِّناعِيَّة لا بدّ أن تلْفِتَ نظَرَكَ للكِلْيَة الطَّبيعِيَّة وكذا الحال مع المثانة ؛ لولا العضَلات التي فيها لما كانت هناك طريقة لإخْراج البول إلا بالتَّنْقيس، أنابيب ‍! فالله تعالى زوَّدَ المثانة بِعَضلات فإذا أرَدْتَ إفْراغَها أفْرَغْتَها بِثَواني مَعْدودة ؛ حِكمة الله، ولولا المثانة لكنَّا في مُشكلة كبيرة، لأنَّه كلّ كِلْيَة تنزل منها قطْرة من البول في عِشرين ثانِيَة، ولولا المثانة لاحْتاج الإنسان إلى فُوَط ! فالله كرَّمَك وأعْطاك مثانة، تذهب في السَّفر وأنت في أكْبر راحة، مرتاح وتجْتمع والمثانة شغَّالة، ولك مُسْتوْدَع إذا ملئ فُرِّغَ، قال تعالى:

 

﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)﴾

 

[ سورة لقمان ]

 وأنت تنام اللُّعاب يزْدادُ في فَمِك فيأتي أمْر مِن الفَم إلى الدِّماغ أنَّ اللُّعاب قد كثر، فالدِّماغ يأمر لِسان المِزْمار بإغلاق القصَبة الهوَائِيَّة وافْتَح المريء ؛ كُلّ هذا وأنت في غَفْلة ! وهو يعمَل دون كَلَلٍ ولا ملل هذا هو فِعْل الله، والبروسْتات مسألة مُعَقَّدة جدًا ؛ مَجْرى الحياة ومَجْرى البول يلْتقِيان في مَجْرى الإحْليل، والبول مادَّة حامِضِيَّة، حينها تُفْرز البروسْتات مادَّة قَلَوِيَّة تتعادَل مع المادَّة الحامِضِيَّة، فلا يتأذَّى حينها المَجْرى من البول الحامِضي، في اللّقاء الزَّوْجي ؛ ماء الحياة ماءٌ طاهِرٌ تُفْرِزُ البروسْتات مادَّة مُعَقِّمة ومُطهِّرة ثمَّ مادَّة مُعَطِّرة ثمَّ مادَّة مُغَذِّيَة وتُغْلِقُ هذا الطريق وتفْتَح هذا الطريق، فَمَجْرى البول غير مجْرى ماء الحياة، هذا خَلْقُ الله !
 أيها الإخوة، هذه الآية:

 

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(10)﴾

 

[سورة لقمان]

 عن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ:

((كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهعَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ))

[رواه مسلم]

 هنا مَوْطِنُ الشاهِد، فمهما تشفَّعَ لك النبي لا بدّ أن تُطيع الله تعالى فمهما كانت محبَّتي لك كبيرة لا أسْتطيع أن أضَعَك أستاذ جامعة وأنت عامِّي ! فهذه المرتبة تحْتاج إلى جُهْدٍ منك فالنبي قال له: سأشْفَعُ لك ولكن قال له أَعِنِّي على نفْسِكَ بِكَثْرة السُّجود ! آخر حديث:
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه:

 

(( أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصِنِي قَالَ لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ لَا تَغْضَبْ ))

 

[رواه البخاري]

 لأنَّ الغضب يجْمع الشَّر كلَّه، كم طلاق حدثَ بِسَبب الطلاق ؟ كم جريمة وقَعَت بِسَبب الطلاق ؟ الشرّ كُلُّه بِسَبب الغضب.

 

تحميل النص

إخفاء الصور