وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة لقمان - تفسير الآية 34 الغيب لا يعلمه إلا الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، بعض الأئمَّة رأى في المنام ملَكَ الموت، وأظُنُّه الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقال يا ملَكَ الموت كَم بَقِيَ لي من عمري ؟ فأشار إليه ملَكُ الموت هذه الإشارة ؛ خمسة ! فلمَّا اسْتيقظ الإمام مالِك ازْداد قلقًا ! يا تُرى خمسُ سنواتٍ أم خمْس أشْهر أو خمسة أيَّام أم خمْسُ ساعات، فذَهَب إلى الإمام ابْنِ سيرين رحمه الله وكان عالِمًا في تفسير الأحلام، فقال له هذا الإمام: يا إمام، يقول لك ملَكُ الموت، إنَّ هذا السُّؤال مِن خمْسة أشياء لا يعْلمها إلا الله ! لأنَّ الله سبحانه وتعالى في الآية الرابعة والثلاثين والأخيرة مِن سورة لقمان يقول:

﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)﴾

[سورة لقمان]

 بعض العلماء المُعاصرين أجْرَى حِسابًا على الكمبيوتر، فَوَجَدَ أنَّ كلّ أرقام القرآن الكريم من آيات وأرقامها، وعدد الآيات والأحرف يقْبَلُ القِسْمة على تِسْعة عشر ؛ إلى حدٍّ ما قَبِلْنا منه ذلك ! ثمَّ فاجأ الناس بِمُحاضَرة في مِصْر أنَّه يعْلَمُ متى يوْم القِيامة !! فانْسَحَب الناس كلُّهم من المُحاضرة، لأنَّ الله عنده علم الساعة.
 أما المَطَر، فالحقيقة أنَّ الله تعالى ثبَّتَ أشياء، وحرَّكَ أشياء، نحن لا نقْلقُ من أجلها، فالله تعالى ثبَّتَ دوْرة الأرض حول نفْسِها، ونحن لا نشْكو مِن عدم وُجود ليل أو نهار، فالليل والنَّهار مُنْتَظِمان، فَدَورة الأرض حوْلَ نفْسِها ثابِتَة، ودَوْرتها حوْل الشَّمس ثابِتَة، ومُمْكِن أن تعرف قبل ألف عامٍ متى كان شُروق الشَّمس يوم كذا وكذا ؟ فهذه الأشياء ثابِتَة، ولكنَّ الله تعالى حرَّكَ المَطَر، فالأمطار تُشْبِه أرْقى آلة ولكنَّ مِفْتاح التَّشْغيل بِيَدِ الله عز وجل، فآلِيَة المَطَر دقيقة جدًّا، ووِفْقَ أدَقِّ القوانين العِلْميَّة، ولكن متى يسْمح الله لِهذه القوانين أن تعمل أم لا ؟ بيَدِ الله عز وجل، لذا وَجَد العلماء الآن - وهو شيءٌ مُدْهِش - أنَّنا إذا جَمَعنا كمِيَّات الأمطار التي تهْطل في العالم، استَطَعنا أن نأخذ إحْصاءات دقيقة جدًّا، سوف ندْهش أنَّ الأمطار التي تهْطُل في كلِّ عامٍ لا تزيد ولا تنْقص، ولا ميلي مِتر، إلا أنَّها تتوزَّع، ولو دُهِشْتُم أكثر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم قال في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:

 

(( لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي عَامًا أَخْصَبَ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمِيرًا خَيْرًا مِنْ أَمِيرٍ وَلَكِنْ عُلَمَاؤُكُمْ وَخِيَارُكُمْ وَفُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفًا وَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ ))

 

[رواه الدارمي]

 على مسْتوى الأرض، فمرَّة بأوروبا الجفاف، ومرَّة بإفريقيا، ومرَّة بالشرق الأوسَط، وسُيول في مِصْر أما لو جَمَعتَ كمِيَّة الأمطار التي تهْطل في العالم لوَجَدتها واحِدَة والنبي صلى الله عليه وسلَّم لا ينْطِق عن الهَوى، ولو سألت أصحاب الأرصاد الجَوِيَّة الآن لقالوا لك أنَّ نِسَب الأمطار في العالم واحِدَة إلا أنَّها تخْتلف مِن بلدٍ لآخر.
 قال تعالى:

 

﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾

 

[سورة لقمان]

 دِقَّة هذه الآية في حرْف ما، لو أنَّ الله عز وجل قال: ويعْلم مَنْ في الأرحام ! فهو تعالى يعْلم ذَكَرًا أو أنثى ! لكنَّ الله تعالى قال: مَا في، تُفيد الإطلاق، فالحُوَين المنَوِي عليه خمسة آلاف مليون معْلومة مُبَرْمَجَة، وأرقى عِلْم الآن على الإطلاق في الطِّب ؛ الهَنْدسة الوِراثِيَّة ! لأنَّ كلّ حالات الإنسان راجِعَة إلى مُوَرِّثاتِهِ، فالذي معه الكولِسترول يكون معه خطأ بالمُوَرِّثات، والذي عنده ضَغْط مرْتَفعِ فقد يكون وِراثة، فهذه الأعراض الطارئَة لها أصْل في المُوَرِّثات وحتَّى الآن وصَلوا ثمانِيَة مُوَرِّث إلى خمْسة آلاف، ماذا قال الله عز وجل:

 

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾

 

[سورة البقرة]

 فإذا شاء لنا أن نعلم بعض المُوَرِّثات، فهو الذي شاء وسَمَح لنا أن نعلم، وهذا لا إشْكال فيه، لأنّ الإنسان لا يسْتطيع أن يعْلم شيئًا لم يشأْهُ الله تعالى، فالاختراع أساسُهُ الإلْهام، أحَدُ العلماء الذين اخْتَرَعوا بعض المُخترعات، واسْمُهُ أَدِسُن قال: العَبْقَرِيَّة تِسْعٌ وتِسْعون منها عَرَق ! وواحِد بالمائة منها إلْهام، فلا يوجَد عالِمٌ اكْتشَفَ شيئًا إلا وأُلْقِيَ في روعِهِ، فالاخْتِراع والاكْتِشاف والإبْداع هِيَ إشْراقة من الله عز وجل، لأذلك قال تعالى:

 

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾

 

[سورة البقرة]

 لا يسْتطيع الإنسان أن يعْلَمَ شيئًا ما أرادَهُ الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى قال:

 

﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾

 

[سورة لقمان]

 ولم يقُل مَنْ ! فالمولود الذي يولَدُ لك ؛ هل تعلم أنَّه سيَكون عبْقَرِيًّا ؟ أم مُخْتَرِع ؟ أم أكبر داعِيَة للدِّين ؟ أم مُجْرِما ؟ أم مُستقيما ؟ أم مُنْحَرِفا ؟ وهل هو عَصَبِي المِزاج ؟ أم هادئ المِزاج ؟ فالخمسة آلاف مليون مُوَرِّث لا يعلمها إلا الله، فهؤلاء العُظَماء الذين تَركوا بصَمَات في الحياة أجْهَدوا أنفسهم، لذلك الأنبياء وحْدهم لهم بالحياة إرْهاصات أي مُعْجِزَة مُبَكِّرة، كي لا يتفاجَىء الناس، فهذا النبي أُعِدَّ لِيَكون نبيًّا فسيِّدُنا عيسى وهو في المهْد قال: إنِّي عبْد الله ! فهل هذا معْجزة ؟ لا وإنَّما إرْهاص ؛ أيْ إشارة مُبَكِّرة إلى نُبُوَّتِهِ.
 فالله عز وجل قال:

 

﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾

 

[سورة لقمان]

 ألم يكن طِفلاً صغيرًا، فَمن يعْلم مصير الإنسان ؟ لا يعلم الغَيْب إلا الله، أما إذا عرفوا أنّ الجنين ذكر أم أُنثى ! فهذا لا يتعارَض مع النص القرآني، لأنَّ الله عز وجل قال:

 

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾

 

[سورة البقرة]

 وأنا من دون جِهاز أعرف إن كان ذكرًا أم أُنثى !.
 قال تعالى:

 

﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾

 

[سورة لقمان]

 نحن لا نعرف المستقبل ولا يعْلم الغيب إلا الله، ومن ادَّعى الغيب فَهُوَ دجَّال، وقد قال عليه الصلاة والسلام،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))

 

[رواه أحمد]

 فلا يعلم الغيب إلا الله قال تعالى:

 

﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)﴾

 

[سورة الاعراف]

 قد يقول الواحد مِنَّا: لكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حكى مئات الأحاديث عن يوم الساعة ! فالجواب: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لا يعْلم الغيب بذاتِهِ إلا أن يُعْلِمَهُ الله، فكلّ حديث قاله النبي عليه الصلاة والسلام وعن أشْراط الساعة، وعن قِيام الساعة ليس مِن عِلمهِ الذاتي ولكن مِن إعلام الله له.
 ثمَّ قال تعالى:

 

﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾

 

[سورة لقمان]

 يرْوا قِصَّة رمْزِيَّة أنَّ سيِّدنا سليمان كان عنده رجل، وملكُ الموت، وكان ملك الموت يُحِدُّ النَّظَر إليه، فسأل الرجل سليمان: من هو الرجل ؟ فقال: هذا ملكُ الموت ! فترجَّى سليمان أي يأخذه إلى طرف الدنيا الآخر، فنقَلَهُ إلى الهِنْد ! وبعد يوْمَين مات بالهِند، ولمَّا التقى سيِّدنا سليمان بِمَلك الموت: فقال عَجِبتُ لك: لِمَ كنتَ تنْظر إليه هكذا ؟ فقال ملك الموت: أنا معي أمْر بِقَبض روحِه بالهِنْد، فما الذي جاء بِهِ إليك ؟!! فالإنسان قد يموت بِبَلَدِهِ أو بالغُربَة، أو بِمَكَّة أو المدينة فأنا كنت أعرف أخًا مِن إخواننا الدُّعاة إلى الله، فاجْتَمَعتُ معه في بيتٍ وتحادَثنا، وبعدها خرج، وما إن خرج حتَّى وجَدَ أحد الإخوة يطلبُ منه أن يأخذهُ بِسيَّارتِهِ إلى بيتِهِ، فهذا الأخ لمَّا وصل إلى البيت دَخَل بيتَهُ، ونزَع ثِيابَهُ وتسطَّح على فِراشِهِ، وانتَقَلَ إلى الرفيق الأعلى ! فهذا سبحان الله لو بَقِيَ دقائق ينتظر فيها التاكسي لمات بِها ! لذا قال تعالى:

 

﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾

 

[سورة لقمان]

 لكنَّ النبي الكريم يقول:

((صنائِع المعْروف تقي مصارِعَ السوء ))

 فقد يكون الإنسان بفِراشِهِ أمام أهْلِهِ وأولاده، وبين أن يموت بالطريق أو حتَّى بالمرحاض !.
 قال تعالى:

﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾

[سورة لقمان]

 هل ستَكون فقيرًا أم غَنِيًّا ؟ تتزوَّج أم لا ؟ تنْجب أولادًا ذكورًا أم إناثًا ؟ أم عقيمًا ؟! فلا أحدَ يعْلم.
 فالله تعالى قال:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)﴾

 

[سورة لقمان]

 كان هناك رجل شاب له دُروس ناجِحَة، فانْزَعَجَ أحد الكِبار الذين انْصَرَف الناس عنهم، فجاء أحد الكِبار لِيُغيظَهُ، فحضَرَ درْسَهُ وبعد أن انتهى ؛ وقفَ وقال له هذا الشيخ الكبير: يا هذا، هذا الكلام ما سَمِعناهُ مِن أحَدٍ !! فقال له الفتى: أَحصَّلْتَ العِلْم كلَّهُ ؟! فقال: لا فقال الفتى: هذا مِن الجُزْء الذي لم تُحَصِّلْهُ ! قال تعالى:

 

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)﴾

 

[سورة الإسراء]

 وإذا تقدَّمتَ علمِيًّا، وعلِمَ العامَّة تقدُّمَكَ، فالله هو الذي شاء لهم أن يعْلموا تقَدُّمَكَ العِلْمي، والآية واضِحَة.

 

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾

 

[سورة البقرة]

 فإذا سمَحَ الله فلا مشْكِلة في هذا.

 

تحميل النص

إخفاء الصور