- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الصّيام :
أيها الأخوة الكرام ؛ بعد أيام قليلة يطل علينا شهر رمضان المبارك ، والإنسان كما تعلمون هو المخلوق الأول ، والمخلوق المكرم ، والمخلوق المكلف ، وقد قال الله عز وجل :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
والعبادة أيها الأخوة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
وقد صنف العلماء العبادة إلى نوعين : عبادة شعائرية ، وعبادة تعاملية . والصوم من العبادة الشعائرية ، والعبادة الشعائرية أصلها اتصال بالله عز وجل ، مناسبة للاتصال بالله عز وجل ، فالإنسان كما أنه يحتاج إلى الطعام والشراب ليقوى جسمه ، يحتاج إلى غذاء روحي يكون عن طريق العبادات الشعائرية ، فالصلوات الخمس شِحنات يومية تمدك بطاقة روحية ، تصلك بالسماء ، وخطبة الجمعة شحنة أسبوعية تمدك خلال الأسبوع كله بطاقة روحية ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر كما سنّ النبي عليه الصلاة والسلام شحنة شهرية ، وصوم رمضان شحنة سنوية ، تمدك بالطاقة الروحية إلى رمضان القادم ، والحج شحنة تدوم مع العمر ، أو مع كل خمس سنوات كما ورد في بعض الأحاديث .
أيها الأخوة الكرام ؛ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
لعل تفيد الترقب ، أي أنت إذا صمت رمضان إيماناً واحتساباً كما أراد الله عز وجل جعلت نفسك مُعرضاً لرحمة الله ، تلك الرحمة التي تفضي بك إلى التقوى ، وهي طاعة الله عز وجل . وقد قالوا : نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى . نهاية العلم أن توحد الله عز وجل ونهاية العمل أن تتقيه . فإذا صمت رمضان كما قال الله عز وجل وفق الأحكام الشرعية عرضت نفسك لرحمة الله ، فإذا عرضت نفسك لرحمة الله ، لعل هذه الرحمة التي استقرت في قلبك من خلال الصيام والقيام تفضي بك إلى التقوى وهي نهاية العمل ، والتقوى ثمن الجنة كما ورد في القرآن الكريم :
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
الصّوم عبادة من أرقى العبادات :
أيها الأخوة الكرام :
(( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ))
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان إذا بادر إلى عمل تتضح لديه منفعته العاجلة ، ولو أن هذا العمل مما ورد في منهج الله عز وجل ، لكن العبودية لله لا تتبدى أكثر ما تتبدى إلا في العبادات الشعائرية ، فأن تكون صادقاً فالصدق يرفعك عند الناس ، وأن تكون أميناً تكسب ثقة الناس ، وأن تكون وقوراً تزداد مهابة وإجلالاً . أما حينما تدع الطعام والشراب وقد أباح الله لك أن تأكل وأن تشرب ، حينما تدع الطعام والشراب فهذا مما يؤكد عبوديتك لله عز وجل . كلما اتضحت حكمة الأمر ضعف عنصر العبودية فيه ، وكلما غابت عن الإنسان حكمة ترك المباح ازدادت عبودية الإنسان لله عز وجل . فكل عمل ابن آدم له . . آلاف الأوامر والنواهي تقطف ثمارها في الدنيا . كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به . . أي هذا الصوم عبادة العبودية لله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ وروى الإمام البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، يُقَالُ : أَيْنَ الصَّائِمُونَ ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ ))
فالصائمون يدخلون إلى الجنة من باب اسمه الريان كما ورد في السنة الصحيحة، أي إنها عبادة من أرقى العبادات .
أيها الأخوة الكرام ؛ صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر مرةً فقال : آمين، ثم صعد درجة ثانية فقال: آمين ، ثم صعد درجة ثالثة فقال : آمين ، فلما سئل عليه الصلاة والسلام علام أمنت يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : جاءني جبريل فقال لي :
((رغم أنف عبد أدرك رمضان فلم يُغفر له إن لم يُغفر له فمتى . . ))
رمضان شهر مبارك تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق أبواب الجحيم :
نحن على أبواب شهر الصيام ، وهذا الشهر الفضيل والشهر الكريم مناسبة سنوية لنيل مغفرة الله عز وجل . بإمكان كل مسلم إذا صام هذا الشهر الكريم ، وقام ليله ، ونفذ أوامر الله فيه ، وكفَّ جوارحه وأعضاءه عن كل المنهيات ، بإمكان هذا العبد بحسب هذه النصوص الصحيحة أن ينال من الله مغفرة تغطي له الماضي كله ، ما لم يكن عليه حقوق لبني البشر ، فإنها لا تسقط إلا بالأداء أو المسامحة .
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام:
(( بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ))
فرمضان أحد أركان الإسلام الخمسة التي بُني عليها الإسلام .
أيها الأخوة الكرام ؛ روى الإمام أحمد والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا قَدْ حُرِمَ ))
وفي رواية:
((وينادي فيه ملك يا باغي الخير أبشر ، ويا باغي الشر أقصر ))
أيها الأخوة الكرام ؛ شهر مبارك ، تُفتح فيه أبواب الجنة ، وتُغلق فيه أبواب الجحيم ، وتُغل فيه الشياطين ، وقد فسر بعض العلماء أن الإنسان إذا أطاع الله عز وجل ألغى عمل الشيطان ، فكأنه غُلت يداه حكماً . حينما ينصرف الإنسان إلى طاعة الله ، ينصرفون إلى بيوت الله ، ينصرفون إلى تلاوة القرآن ، ينصرفون إلى الأعمال الصالحة ، حينما يضبطون جوارحهم وأعضاءهم عن كل معصية ، حينما يحررون دخلهم من كل شبهة ، حينما ينفقون أموالهم فيما يرضي الله عز وجل ، حينما ينصرفون بكليتهم إلى الله عز وجل ، فقد قيدوا الشياطين حكماً ، غُلت فيه الشيطان ، وفتحت فيه أبواب الجنة ، وغُلقت فيه أبواب الجحيم .
أيها الأخوة الكرام ؛ وينادي المنادي أن يا باغي الخير أبشر ، ويا باغي الشر أقصر .
من صام رمضان بدافع الإيمان غفرت ذنوبه :
وقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن :
(( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
إيماناً بالله ، وإيماناً بفرضيته ، وإيماناً بالعطاء الجزيل الذي يدخره الله للصائمين ، وإيماناً بأن هذا المنهج منهج الله سبحانه وتعالى .
مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا . . إيماناً : بدافع إيمانه ، هناك من يصوم حفاظاً على صحته ، هناك من يصوم مجاراة للفئة التي حوله ، هناك من يصوم لأنه لا يحب أن يُشار إليه أنه مفطر ، هناك من يصوم لئلا يقع في مواقف حرجة مع من حوله . مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا . . أي إذا انطلقت في صيام هذا الشهر من إيمانك بالله عز وجل ، وإيمانك بأن أمره كله حق، إيماناً بأنه فريضة ، إيماناً بأنه أحد أركان الإسلام الخمسة . مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، لا يبتغي من الصيام إلا وجه الله ، لا يبتغي من القيام إلا مرضاة الله عز وجل ، لا يبتغي إلا القرب من الله ، لا يبتغي إلا أن يعرض نفسه لرحمة الله ، لا يبتغي إلا أن يُغفر له ما كان من قبل . مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا . . إيماناً : أي بدافع الإيمان ، واحتساباً : أي بدافع الاحتساب . .
((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
أنتم على موعد أيها الأخوة مع شهر تغفر فيه الذنوب ، مع شهر تُطوى فيه الصحف السابقة ، مع شهر تفتح فيه مع الله صفحة جديدة . الله جلّ جلاله يفرح بالتائب ، بل لله أشدّ فرحاً بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، والظمآن الوارد . .
أهمية الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان :
أيها الأخوة الكرام ؛ وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((الصَّلَوَاتِ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ ))
ألم أقل لكم إن الصلوات الخمس شحنة روحية يومية ؟ كل صلاة تمدك بطاقة روحية إلى الصلاة التي تليها ، وأن صلاة الجمعة مع ما فيها من خطبة تمدك بطاقة روحية إلى الجمعة القادمة ، وأن رمضان شحنة سنوية تمدك بطاقة روحية إلى السنة القادمة .
قد نفهم معنى المكفرات أي أنها تمحو الذنوب التي تقع بينهن ، أو قد نفهم المعنى التكفير الوقائي الذي يقي من الوقوع بالذنب ، على كلّ كلا المعنين وارد في هذا الحديث الشريف .
إفطار يوم من رمضان بغير عذر أمره خطير :
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ ))
قضية أن يفطر الإنسان في رمضان من دون رخصة شرعية يقينية واضحة قطعية ، فأمره خطير ؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب علينا صيام هذا الشهر .
آداب الصيام :
1 ـ السّحور :
أيها الأخوة الكرام ؛ لشهر الصيام آداب ، من هذه الآداب السحور . فقد روى الإمام البخاري ومسلم:
(( تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً ))
إذا قلنا السُّحور نقصد مصدر الفعل ، أن يقوم الإنسان بالليل ليأكل ويشرب ويصلي ، أما إذا قلنا السَّحور فهو الطعام الذي تأكله في السحور .
(( السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ ))
ومعنى أنه بركة ، أي يقوي الصائم وينشطه ، ويهون عليه الصوم ، وقد يُستفاد أيضاً من هذه البركة أن السحور يعينك على صلاة الفجر في جماعة ، ولو يعلم الناس ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ، فمن أحد أكبر ثمرات هذا الشهر الكريم أن تؤدي صلاة الفجر كل يوم في أقرب مسجد إليك في جماعة .
2 ـ تأخير السّحور :
أيها الأخوة الكرام ؛ ومن آداب الصيام تأخير السحور ، فقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس إفطاراً وأبطئهم سحوراً . أي هذا الذي يأكل قبل أن ينام وينام في الساعة الواحدة هذا خالف السنة ، ينبغي أن ينام باكراً ، وأن يستيقظ قبيل صلاة الفجر ليتسحر ، أن تتسحر في وقت مبكر ربما ضاعت عليك صلاة الفجر، فمن السنة أن تنام باكراً لتكون يقظاً نشيطاً وقت السحور .
3 ـ تعجيل الإفطار :
ومن آداب الصيام أيضاً تعجيل الفطر ، فقد روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ ))
مادام قد دخل وقت الغروب فعليك أن تبادر بالفطر ، وكان عليه الصلاة والسلام يفطر على تمرات ، أو على كأس ماء ، ويصلي المغرب ، والحكمة من هذا أن التمر فيه مادة سكرية بسيطة ، بمعنى أنها تصل إلى الدم مباشرة ، وإذا وصل السكر إلى الدم وصل إلى مركز تنبيه الجوع ، فإذا أكلت ثلاث تمرات ، أو شراباً حلواً ، هذا يسهم في تخفيف حدة الجوع ، فإذا جلست إلى طعام جلست وكأنك في الإفطار لا تشعر بحدة الجوع ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يفطر على ثلاث تمرات ، أو يفطر على جرعة ماء ويقوم ويصلي المغرب ، فقد درس العلماء المدة التي تكفي لوصول هذه المادة السكرية التي أودعها الله في التمر إلى الدم فإذا هي لا تزيد عن عشرين دقيقة . فلو أنك أكلت تمرات ، ودعوت دعاء الإفطار ، وقمت إلى المغرب، وأقمت الصلاة وصليت مع السنة لاستغرق هذا عشرين دقيقة ، هو الوقت التي تصل فيه المادة السكرية المودعة في التمر إلى دم الإنسان ، وإذا وصل السكر إلى الدم أحسست بالشبع ، فإذا جلست لتأكل أكلت أكلاً معتدلاً ، أما هذا الذي يأكل أكلاً بغير حساب فيفسد حكمة الصوم التي أرادها الله صحة لجسدك .
4 ـ الدعاء عند الإفطار :
أيها الأخوة الكرام ؛ ومن آداب الصيام أن الدعاء عند الفطر وفي أثناء الصيام دعاء مقبول ومُستجاب ، فقد روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( إن للصائم عند فطره دعوةً ما تُرد ))
فحينما يدخل وقت المغرب وتسمع أذان المغرب ارفع يديك ، وادع دعوةً قد جعلها الله لك حقاً أن يستجيب لك . وقد ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه :
(( اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت ، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله . اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ))
فتناول السحور ، وتأخير السحور ، وتعجيل الفطر ، والدعاء عند الفطر ، هذه من آداب الصيام .
الإمساك عن الطعام و الشراب و سائر ما نهى الله عنه :
لكن هناك شيئاً أساسياً في الصيام وهذا الشيء هو أن يكف الصائم عن كل ما نهى الله عنه ، أما إذا اقتصر صيامه على ترك الطعام والشراب فهذا ليس صيام المسلمين ، وليس صيام المتقين . صيام المسلم ترك الطعام والشراب ، وكل ما نهى الله عنه ، وصيام المؤمن صومه عن كل معصية ، وعن كل مخالفة يمكن أن تبعده عن الله عز وجل . أما صوم المتقي فهو صومه عن كل ما سوى الله عز وجل . أما هذا الذي يصوم عن الطعام والشراب ثم يقع في ما نهى الله عنه ، فهذا هبط عن المستوى الذي يليق بالمؤمن والمسلم . .
أيها الأخوة الكرام ؛ إذاً أخطر شيء في الصيام أن يمسك المسلم عن الطعام والشراب وسائر ما نهى الله عنه ، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( ليس الصيام من الأكل والشرب ، إنما الصيام من اللغو والرفث . .))
وما أكثر آفات اللسان الغيبة من آفات اللسان ، والنميمة من آفات اللسان ، والفحش من آفات اللسان ، والسخرية من آفات اللسان ، وقد عدَّ الإمام الغزالي من آفات اللسان ما يزيد عن عشرين آفة في كتابه الإحياء فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( ليس الصيام من الأكل والشرب ، إنما الصيام من اللغو والرفث . .))
كل آفات اللسان ، وكل آفات الفرج .
((إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابَّك أحد أو جهل عليك فقل : إني صائم إني صائم ))
5 ـ الجود و جبر الخواطر و ترميم الأخطاء :
أيها الأخوة الكرام ؛ ومن آداب الصيام : الجود ، الإنفاق ، إنفاق المال ، ومعاونة الفقير ، جبر الخواطر ، ترميم الأخطاء . كان عليه الصلاة أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، فمن مستحبات الصيام أن تكثر من الإنفاق ، أن تنفق إنفاقاً كثيراً ، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة لعمومها ولشدتها .
6 ـ قراءة القرآن :
ومن آداب الصيام أن هذا الشهر شهر القرآن ، قال تعالى :
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾
فينبغي أن تقرأ القرآن ، وينبغي أن تتلوه حق تلاوته ، وينبغي أن تفهمه ، وينبغي أن تتدبر آياته ، وينبغي أن تطبقه .
أيها الأخوة الكرام ؛ رمضان شهر مدارسة القرآن ، يمكن أن تصلي صلاة التراويح، وأن تستمع في هذه الصلاة إلى جزء يُتلى كل يوم ، فإذا تابعت الحضور وصلوات التراويح ، ربما سمعت القرآن كله . شهر رمضان شهر القرآن ، وشهر الجود .
7 ـ إزالة العقبات و إصلاح ذات البين :
وإذا كان هناك مشكلات ، قطيعة ، قضايا ، فهذا ينبغي أن يحل في رمضان ، ينبغي أن تزيل كل العقبات ، ينبغي أن تصلح نفسك ، أن تصلح ذات البين ، وإصلاح ذات البين كما قال الله عز وجل :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
بعض المفسرين فهم إصلاح ذات البين إصلاح النفس ، وبعضهم فهم إصلاح ذات البين إصلاح ما بينك وبين الآخرين ، وبعضهم فهم إصلاح ذات البين ، أن تصلح أية علاقة بين اثنين .
رمضان مناسبة سنوية للمغفرة و لمتابعة التّرقي :
أيها الأخوة الكرام ؛ مرة ثانية :
((رغم أنف عبد أدرك رمضان فلم يُغفر له إن لم يُغفر له فمتى ؟ ))
مناسبة سنوية للمغفرة ، مناسبة سنوية لمتابعة الترقي ، مناسبة سنوية للقرب من الله عز وجل ، لكن المنافقين يصومون ويفطرون ، ولا يدرون لا لم صاموا ؟ ولا لم أفطروا ؟ مثلهم كالناقة عقلها أهلها ، فلا تدري لا لم عُقلت ؟ ولا لمَ أطلقت ؟ وأخطر ما في هذا الشهر أن يصبح صيام رمضان من عاداتنا ، وتقاليدنا ، وخصائص بيئتنا ، فنصوم عن الطعام والشراب ، ونحن على ما نحن عليه من المخالفات والآثام ، واقتراف المعاصي والكبائر . هذا الصيام لا قيمة له إطلاقاً ، ولا يرقى بالمؤمن ، ما لم يدع المؤمن في صيامه كل المعاصي التي نهى الله عنها .
الفوز الحقيقي أن تقفز قفزة نوعية في رمضان :
هناك شيء آخر وأخير في هذا الخطبة : أن الإنسان إذا ظن أنه في هذا الشهر سيدع المعاصي ، أما إذا جاء العيد فيعود إلى ما كان عليه ، هذه الحركة لا معنى لها ، صعود وهبوط ، صعود وهبوط ، الفوز الحقيقي أن تقفز قفزة نوعية في رمضان ، وأن تحافظ عليها طوال العام ، وأن تقفز قفزة نوعية في رمضان القادم ، وأن تحافظ عليها طوال العام ، أي أن الصيام الحقيقي بمثابة مدرج ، في كل عام تقفز قفزة ، وتبقى فيها . أما هذا الذي يعود بعد رمضان إلى ما كان عليه قبل رمضان ، هذا ماذا يفعل ؟ هذا يصعد ويهبط ، مكانك تحملي أو تستريحي ، عندئذ لا يتقدم ، ينقلب الصيام عنده إلى عادة من عوائده ، وإلى خصيصة من خصائص بيئته ، فهو يصوم لأن الناس يصومون . ينبغي أن نأخذ بهذه الحقائق مأخذ الجد ، وأن نعاهد الله سبحانه وتعالى على الصيام الصحيح الذي أراده الله ، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام .
بقي شيء أخير ، هو أن المركبة إذا أردت لها أن تنطلق من مكان معين بسرعة معينة ، لابد من أن تتحرك قبل هذا المكان بسرعة ابتدائية ، فإذا وصلت إلى هذا المكان بلغت سرعتها السرعة المطلوبة ، ورمضان بقي له أيام ، ينبغي أن نستعد له منذ الآن ، بحيث أنه إذا جاء أول يوم من أيام رمضان كنا في هذا اليوم بالسرعة المطلوبة التي أرادها الله لنا .
أحد الصحابة الكرام كان يقول : " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي " لقد انطلق بأقصى سرعة ، ولا خير في الإسراف ، لكن لا إسراف في الخير . فإذا جعلت من هذا الشهر شهر قرب من الله عز وجل ، شهر جود ، شهر مدارسة القرآن ، شهر صيام ، شهر قيام ، فأنت الكاسب الأكبر ، وهذا الشهر سريعاً ما ينقضي ، يأتي يوم العيد ، هنيئاً لمن صامه ، والويل لمن أفطره ، ويا خسارة من صامه ولم يستوف شروطه .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني . .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
جهاز المناعة :
أيها الأخوة الكرام ؛ جهاز المناعة الذي أكرمنا الله به ، والذي هو حديث الساعة اليوم في شتى بقاع الأرض ، لأن هذا المرض اللعين مرض الإيدز يقضي على جهاز المناعة ، فما جهاز المناعة هذا ؟
في دم كلٍ منا كريات بيضاء ، عددها يزيد عن خمسة وعشرين مليون خلية في أيام السلم ، يتضاعف هذا العدد في حال الاستنفار ، وقد يصل إلى مئات الملايين في حال القتال ، خلال فترة لا تتجاوز بضع ساعات ، يرتفع هذا العدد من خمسة وعشرين مليوناً إلى بضع مئات من الملايين في فترة لا تتجاوز بضع ساعات . لهذه الجيوش الضخمة سلاح إشارة يُعد لغة التخاطب بين هذه الخلايا ، هذه الخلايا بينها اتصال عن طريق إشارة كيماوية .
الحديث عن هذا الجهاز المناعي يكاد لا يُصدق .
أيها الأخوة الكرام ؛ بعد ثوان معدودة من اجتياز جسم غريب لخطوط دفاع الجسم الأولى الجلد ، الجلد خط دفاع أول ، ولكل جهاز في الجسم خط دفاع خاص به ، فإذا استطاع جسم غريب أن يتجاوز خط الدفاع الأول ، وخط الدفاع الثاني ووصل إلى الدم - ويُعد جهاز المناعة خط الدفاع الثالث ، الذي أودعه الله في دم الإنسان- ما الذي يحصل ؟
هناك كريات بيضاء من هذا الجهاز المناعي الضخم مهمتها تعقب هذا الجسم الغريب ، ومعرفة شفرته الكيماوية ، فإذا علمت شفرته الكيماوية عادت هذه الخلايا لتعطي هذه المعلومات إلى الخلايا الأخرى هي الخلايا المحصنة ، هذه الخلايا تأخذ تركيب هذا الجسم الغريب وتصنع مضادات حيوية له . لكن الخلايا التي تهاجم هذا الجسم الغريب تجزئه إلى أجزاء كثيرة عدا شفرته الكيماوية ، تحافظ عليها ، وتنقلها كما هي للخلايا المحصنة كي تصنع مصلاً مضاداً لهذا الجسم الغريب . وبعد أن تُصنع هذه المصول المضادة تنطلق خلايا من نوع ثالث .
الأولى استطلاعية ، والثانية معملية تصنع المصل ، لكن الخلايا الثالثة خلايا مقاتلة ، هذه الخلايا الثالثة تحمل هذا المصل المضاد وتنطلق به لتلتحم مع الجرثوم التحاماً مباشراً ، فإذا أنهكته وقضت عليه تأتي خلايا ملتقمة . بعد الحرب تمتلئ ساحة الحرب بالجثث ، والمعدات التالفة ، لابد من أن تُنظف هذه الساحة من بقايا هذه الحرب الشعواء ، لذلك تُعد هذه الخلايا اللاقمة مهمتها أن تأكل ما تركته هذه الحرب الطاحنة من بقايا جثث ، ومواد ، وأسلحة ، لذلك الخلايا المقاتلة تأتي وراءها الخلايا اللاقمة .
خلايا مستطلعة ، وخلايا محصنة ، وخلايا مقاتلة ، وخلايا لاقمة تنظف ساحة المعركة . وكل هذه الخلايا تتخاطب فيما بينها بأعلى درجات التنسيق عن طريق لغة هرمونية كيماوية ، هي سلاح الإشارة لهذا الجيش . هذه الخلية التي يوجد منها في جسم الإنسان في الحالة الطبيعية خمسة وعشرون مليون خلية ، لا يزيد قطرها عن خمسة عشر ميكروناً ، والميكرون واحد من ألف ميلمتر .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا جهاز المناعة هو الذي يقضي عليه مرض الإيدز ، عندئذ يموت الإنسان لأتفه سبب ، أو لأقل مرض ، أو لأقل هجوم خارجي . وقد عُقد مؤتمر في بعض عواصم البلاد الإسلامية ، دُرست فيه قضية الحبة السوداء التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام فإن فيها الشفاء ، وقد عجب العلماء لهذا الحكم النبوي ، كيف أن هذه الحبة السوداء فيها الشفاء ؟ أيُعقل أن تشفي هذه الحبة من كل مرض ؟ عُقد مؤتمر طبي لدراسة خصائص الحبة السوداء ، فإذا فيها خصيصة كبرى وهي تقوية جهاز المناعة في الجسم . مادامت هذه الحبة السوداء تقوي جهاز المناعة في الجسم إذاً هي التي تشفي من كل داء كما قال عليه الصلاة والسلام .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الحقائق التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام ليست من عنده إن هو إلا وحي يوحى ، وقد فصل العلماء في الوحيين ، الوحي المتلو وهو القرآن الكريم ، والوحي غير المتلو وهو السنة المطهرة . فقد قال سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ثلاثة أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك أنا واحد من الناس ، من هذه الثلاثة : ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .