وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة آل عمران - تفسير الآيتان 18 - 19 النجاة في رضا الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثامن من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية الثامنة عشرَة ، مررت عليها مراً سريعاً في الدرس الماضي ، ونظراً لأهميتها الشديدة سأخصها ببعض التفصيلات .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

 كلكم يعلم أيها الإخوة ، أنه حينما تدعى لأداء شهادة ، تنطق بلسانك أنني رأيت كذا وكذا ، وهذا شيء واضح وضوح الشمس ، ولكن كيف تفهم قوله تعالى :

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾

 الإنسان تراه بعينك ، وتسمع صوته بأذنك ، وتسمع شهادته .

كيف يشهد الله أنه لا إله إلا هو ؟

 ولكن كيف يشهد الله لك أنه لا إله إلا الله ؟ أو كيف يشهد لك أن هذا الكلام كلامه ، القرآن كلامه ؟ هذا سؤال دقيق ، وكيف يشهد لك أن الأمر كله بيده ، وأنه الفعال لما يريد ، وأن بيده ملكوت السماوات والأرض ، وأنه إليه يرجع الأمر كله ، وأنه في السماء إلهٌ وفي الأرض إله ، وأنه ما من ورقة تسقط إلا هو يعلمها ، كيف يشهد لك أن كل الكون بدقائقه ، بجزئياته ، بتفصيلاته بيده ، هناك قصص قصَّها علينا في القرآن الكريم ..
 امرأة تضع فلذة كبدها في صندوق ، وتلقيه في اليم ، في النهر ، ما الذي يسيِّر هذا الصندوق سيراً معيناً إلى أن يصل إلى شرفة ، أو إلى مدخل قصر على النيل ؟ وأي غصن اعترض هذا الصندوق ، فوقف عند شاطئ هذا القصر ، وأيَّة امرأة شعرت بدافع أن تقف على شاطئ النهر ؟ إنها امرأة فرعون ، وكيف ألقي في قلبها حب هذا الغلام الصغير ؟ وكيف امتنعت المراضع أن ترضعه تحريم امتناع ..

﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ﴾

( سورة القصص : من الآية 12 )

 إذاً : دقائق الحياة ؛ حركة المياه ، حركة الصندوق ، تحرك إنسان ، محبته في قلب إنسان ، هذا كله بيد الله ، ففي قصص القرآن إشارةٌ إلى أن الأمر بيد الله ، قصة سيدنا يوسف فيها تفاصيل ، ولكن الله يشهد فضلاً عن قرآنه ، وفضلاً عن كتابه أنه لا إله إلا هو ، كيف يشهد ؟

الأسباب الكونية بين الأخذ بها وتأليهها :

 نحن أَلِفنا أنّ لكل نتيجة سبباً ، وأن لكل سبب نتيجة ، وتوهمنا لضعف إيماننا أن هذا السبب خارق النتيجة ، والذي آمن بالأسباب ، واعتمد عليها ، ونسي الله عز وجل فقد أشرك ، والذي لم يأخذ بها فقد عصى ، وأنا أقول دائماً : الإيمان الكامل أن تأخذ بالأسباب ، وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله ، وكأنها ليست بشيء ، من السهل جداً أن تأخذ بالأسباب كما فعل الغربيون ، لكن مع الأخذ بالأسباب الدقيق منزلق خطير أن تؤلِّهها ، وأن تعتمد عليها ، وأن تراها كل شيء ، وأن تستغني بأخذها عن الله .
 والفريق الآخر عندنا في الشرق لا يأخذون بالأسباب ، تواكلاً على الله ، وجهلاً بحقيقة الكون ، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )) .

[ أبو داود ، وأحمد ]

(( عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ))

 ـ أي عليك بالتعقل ، وأن تأخذ بالأسباب ـ

(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ))

 ـ فأن تستسلم ، ألا تتحرك ، أن تنسحب ، أن تندب حظك ، أن تقول انتهينا كمسلمين ، لا ، هذا ليس من الدين ، هذا تواكل ، ولكن الله يلوم على العجز ـ

(( فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )) .

 إذاً : الأخذ بالأسباب ، والاعتماد عليها شرك ، وعدم الأخذ بها معصية ، لكن الكمال أن تأخذ بها ، وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله ، وكأنها ليست بشيء ، أما إذا توهَّمها الإنسان أنها كل شيء ، فلابد أن يؤدبه الله عز وجل ، كيف يؤدبه ؟ يؤدبه ، ويشهد له أن الله هو وحده الفعَّال ، وأنه وحده المتصرف ، وأن الأخذ بالأسباب لا يقدم ولا يؤخر ، يعطل هذه الأسباب .
 أوضح مثل : فتاةٌ شابة تتزوج بشاب ، ولا ينجبان ، الأسباب كلها موجودة ، الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الزواج عقيماً ، مع أن الأسباب متوافرة ، أو أن يسمح لامرأةٍ لم تقترن بزوج وهي طاهرة عفيفة أن تنجب مولوداً ، كالسيدة مريم العذراء .
 فإما أن يبطل الله هذه الأسباب ، أو أن يلغي وجودها ، بهذه الطريقة يشهد الله لعباده أنه لا إله إلا هو ، فأكبر قوة في العالم ، أو ثاني أكبر قوة في العالم تداعت من الداخل بلا حرب ، وبلا هجوم نووي ، وبلا بأسلحة ذرية ، تداعت من الداخل ، وقد قال بعضهم : " عرفت الله من نقض العزائم " ، قد تأخذ بالأسباب كلها ، ولا تنجح ، وقد تضطر إلى ألا تأخذ بها لسبب قاهر ، فتأتي النتائج طيبة ، وكأنك أخذت بالأسباب ، فمن خلال تعطيل هذه الأسباب أو إلغائها يشهد الله لك أن الأمر بيده وحده .

 

لا ينفع مع الله شيء :

 فقد يسعدك ، وأنت لا تملك من الدنيا وشيئاً ، وقد يشقى الإنسان ، ومعه كل أسباب الدنيا ؛ معه المال الوفير ، ومعه الصحة ، ومعه الزوجة ، ومعه البيت المريح ، والمركبة الفارهة ، وهو أشقى الناس ، وقد يسعدك ، وأنت في السجن .
 أحياناً المؤمن إذا دخل السجن يقول لك : والله اقتربت من الله قرباً غير معقول ، والله ارتقى إيماني ، وارتقت صلواتي ، وارتقت تلاوتي إلى درجة لا تصدَّق ، قد يرحمك وأنت في أصعب وضع ، وقد يحجبك عنه ، وأنت في أقوى وضع.
 إذاً : تعطيل الأسباب أو إلغائها شهادة الله لك أن الأمر بيده وحده ، في ظرف صعب جداً قد يرزقك الله رزقاً طيباً ، وفي ظروف مواتية جداً قد تحرم من الرزق ، وفي بالنهاية يجب أن تؤمن أن الأمر كله بيد الله ، ومن الممكن أن يسقط إنسان من ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم من طائرة وينزل سالماً ، الأمر بيد الله عز وجل ..

فإذا كنت في كل حال معي  فعن حمل زادي أنا في غنى
* * *

 إذا كان الله معك فمَن عليك ؟ وإذا كان عليك فمَن معك ؟ إذا كان الله معك يسخر لك أعداءك ليخدمونك ، وإذا كان الله عليك يسمح لأقرب الناس إليك أن يتطاول عليك .
 يا أيها الإخوة الكرام ...

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾

 قد يرزق الله إنساناً ضعيف التفكير رزقاً وفيراً ، وقد يحرم إنساناً ذكياً جداً الرزق ، يتضعضع أمام غني ، وقد ورد في بعض الحكم من الشرق : أن يا رب ارزقني حظاً تخدمني به أصحاب العقول ، ولا ترزقني عقلاً أخدم به أصحاب الحظوظ .
 الله عز وجل يرفع إنسانا ، فتصبح كل الخبرات بيده ، كل العقول بخدمته ، وأحياناً يكون بأعلى درجة من الفهم مسخر لخدمة إنسان ، كل طاقته وكل إمكاناته وكل ذكائه وكل شهاداته العليا ، وكل اختصاصه النادر لخدمة إنسان ليس في مستوى علمه ، " اللهم ارزقني حظاً تخدمني به أصحاب العقول ، ولا ترزقني عقلاً أخدم به أصحاب الحظوظ " ، هذه حكمة من شرق أسيا قالها أحد الفلاسفة .
 فحينما يشهد الله لك أن الأمر بيده ، الأمر أمره ، النبي الكريم أخذ كل الأسباب من دون استثناء ، ووصلوا إلى الغار ، هو أخذها لئلا يصلوا ، ذهب مُشَرِّقاً ، واختبأ في غار ثور ، ومحا الآثار ، وجاء بالأخبار ، وجيء له بالزاد ، واختار خبيرًا بالطرقات مشركًا ، أخذ بكل الأسباب ، لكنه اعتمد على الله ، فلما وصلوا إليه ، وقعت عين المطاردين على عين أبي بكر ، قال : لقد رأونا ، قال يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى :

﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ( 198) ﴾

( سورة الأعراف )

 أي سبب صغير جداً ؛ خيوط عنكبوت أنقذت هذه الدعوة ، ومن عظمة الله عز وجل أنه يفعل الشيء العظيم بالسبب الصغير ، وقد يدمِّر إنساناً بسبب صغير جداً ، بكلمة ، بغفلة ، فمع الله لا توجد غفلة ، لا يوجد مع الله تاجر ذكي ، ولا يوجد قوي ، ولا يوجد حكيم ، إذا أراد ربك إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لب لبه ، يا رب لا ينفع ذا الجد منك الجد ، صاحب الحظ ، والذكاء ، والتألُّق هذا إن لم يكن مستقيماً على أمر الله ، يجعل الله تدميره في تدبيره ، يفكر ، يفكر ، يجمع ، يطرح ، يقسِّم ، ثم يدمَّر بتدبيره ، يأتي إنسان سليم الطوية ، بريء ، طاهر ، الله عز وجل يحفظه مما يحفظ به عباده الصالحين ، فكلمة :

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾

 كل أفعال الله عز وجل في الأرض تشهد لك أنه هو الفعَّال ، هو الفعال ، هو إله في الأرض ، كما هو إله في السماء :

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ﴾

( سورة يونس : من الآية 24 )

 

لا سبيل للنجاة إلى برضا الله :

 ترون أنتم ، أحياناً زلزالاً يكلف ثلاثين مليارًا ، وإعصارًا يكلف ما جمعه هذا البلد من دول متخلِّفة خلال عشر سنوات ، إنه إعصار واحد ، الأمر بيده ، لا سبيل إلا أن نرضيه ، وإلا أن نكون طائعين له .
 أحياناً تاجر يظن نفسه أنه ذكي ، يغش ، الذي جمَّعه في سنوات يدفعه في ساعة واحدة ، الله يورطه في مخالفة كبيرة جداً ، والغرامة تفوق طاقة احتماله ، فيدفع مئات الملايين في ساعة واحدة ، مع الله لا يوجد ذكي ، مع الله لا يوجد حكيم ، مع الله لا يوجد قوي ، لا ينجيك منه إلا أن تطيعه ، في حالة واحدة : يا رب لا ملجأ منك إلا إليك ، إلا أن تكون في طاعته ، والمعصية مع الذكاء لا تجدي ، المعصية مع الخبرة لا تجدي ، المعصية مع القوة لا تجدي .
 كان رجل يهودي يعد من أغنى أغنياء العالم ، كان يقرض الحكومة البريطانية قرضًا ، خزائنه ، أمواله في غرفة لها باب محكم ، دخل مرة غرفة خزائنه ، وأغلق عليه الباب خطأً ، ومن عادته أن يسافر من حين إلى آخر ، ويفاجئ أهله بأسفاره ، فلم يسألوا عنه ، وقد ظنوا أنه مسافر ، ومات في غرفة خزائنه ، جرح يده ، وكتب على الحائط : أغنى رجل في العالم يموت جوعاً وعطشاً ..

كالعيسُ في الصحراء يقتلها الظما  والماء من فوق ظهورها محمول
* * *

 أنا لا أذكر هذا منتقداً أبداً : طبيب في أمريكا ، روَّج قضية الجري لسلامة القلب ، فكان يجري في اليوم ساعتين ، وهو يؤكِّد بمقالات ، وبلقاءات ، وبندوات أن صحة القلب في الجري ، وهذا كلام صحيح ، وأنا لا أنقده أبداً ، إلا أنه نسي الله ، واعتمد على الجري وحده ، فمات وهو يجري في مقتبل العمر ، وهو طبيب قلب .
 قد تجد أحياناً بعض المتخصصين في أعلى مستوى يؤخذون باختصاصهم ، لأنهم اعتمدوا عليه ، ونسوا الله عز وجل ، والذي يعتمد على ذكائه يخفق ، والذي يعتمد على ماله يفتقر ، والذي يعتمد على مَن حوله وينسى الله عز وجل يقلبون له ظهر المجن ، لا تعتمد إلا على الله ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي )) .

[ البخاري ]

 لا تعتمد لا على زوجة ، ولا على ولد ، ولا على صديق ، ولا على صحة ، ولا على مال ، من أدعية النبي الرائعة الثابتة ما ثبت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ )) .

[ مسلم ]

 فجأةً ، بثوان معدودة تنقلب من شخص متألق إلى شخص مهمل ، فخثرة من الدم لا يزيد حجمها على رأس دبوس ، لو تجمدت في إحدى شرايين الدماغ لفقدت الحس والحركة .
 والله كنت في العيد أزور بعض الأشخاص ، أعرفه إنساناً متألقاً ، ذكياً ، حكيماً ، أنا لا أعلم أنه مريض ، استقبلنا ، وبدأ يتكلم كلامًا غير معقول أبداً ، سألت ابنه فقال لي : والله عنده خثرة بالدماغ ، أين ذكاؤه ؟ أين عقله ؟ أين حكمته ؟ أين استقباله ؟ وأين ترحيبه بالناس ؟؟! يتكلم كلامًا غير معقول إطلاقاً ، كلام ليس له معنى ، أحضر وثائق ، وأتى بصور ، وتكلم كلامًا غير معقول ، أنا استحييت والله من زيارته ، فكل شخصيتك ، وقوة شخصيتك منوطة بسيولة الدم في دماغك ، وكل شخصيتك منوطة بقطر الشريان التاجي ، هذا أخطر شريان بالإنسان ، وكل شخصيتك منوطة بنمو الخلايا ، فإذا تفلَّتت انتهى كل شيء .
 والله مرة كنت عند مريض ، جاءه اتصال هاتفي ، هاتف قديم صوته عالٍ جداً سمعت الطرف الآخر عن بعد ، قال له : أي مكان بالعالم نأخذه ، وأي مبلغ ؟ فقال الطبيب له : لا أمل ، والمرض بالدرجة الخامسة ، لا تغلب نفسك ، وإذا أراد الله بقوم سوءً فلا مرد له ، فالأمر بيد الله عز وجل ، الدين كله توحيد ، ألا ترى مع الله أحداً ، فالله عز وجل يشهد لك ، تأخذ بالأسباب كلها ، ولا تنجح ، وربما لا تأخذ بها اضطراراً ، ليس تهاوناً ، وربما لا تأخذ بها اضطراراً فتنجح ، عرفت الله من نقض العزائم ، وهذا الشيء يحتاج الأمر إلى من يتفهمه ..

 

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾

وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْط

مَن هم أولو العلم ؟

 عند بعض المفسرين آراء لطيفة حول أولي العلم ، مَن هم ؟ بعضهم قال : الأنبياء عليهم السلام ، لأن مقام النبوة مقام علم ، ومقام الرسالة مقام علم وتبليغ معاً ، وقال بعضهم : هم المؤمنون ، لأنه ما من مؤمن إلا وعنده الحقيقة ..

 

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾

( سورة الأنعام : من الآية 83 )

 

يكفي العلم شرفا أن الله قرن أهله باسمه :

 على كلٍ هناك ملمح لطيف ، هذا يسعدنا جميعاً ، قال : لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته ..

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾

 لو كان في خلقه جميعاً أحدٌ أشرف ممَّن طلب العلم ، وممن تعلم العلم ، وممَّن علَّم العلم لقرنه الله مع اسمه ، من هؤلاء الذين قرنوا مع اسم الله ؟ هم الذين طلبوا العلم ، فطلبكم للعلم شرف كبير ، ومنحة عظيمة ، وهو عطاء الأنبياء ..

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾

( سورة يوسف : من الآية 22 )

 ولكن الله عز وجل أعطى المال لمن لا يحب ..

﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾

( سورة القصص : من الآية 76 )

 أعطى الملك لمن لا يحب ، أعطاه لفرعون ، أعطى المال لمن لا يحب ، أعطاه لقارون ، أما العلم والحكمة فما أعطاهما الله إلا لمن يحب ، قال :

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22) ﴾

( سورة يوسف: من الآية 22 )

 فإذا سمح الله لك أن تطلب العلم ، وإذا سمح الله لك أن تصغي إلى أهل العلم ، وإذا سمح الله لك أن تعلِّم العلم ، وإذا سمح الله لك أن تخدم أهل العلم ، وإذا سمح الله لك أن تكون في خدمة العلم ، فهذا وسام شرف كبير ، وهذا أعظم عطاءٍ إلهي .
 الآن الله عز وجل يأمر نبيه ، قال له :

﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي ﴾

( سورة طه : من الآية 114 )

 ما هو الشيء الثمين العظيم الذي أراده الله لعباده المؤمنين ؟ قال :

﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾

( سورة طه )

 لم يقل : زدني مالاً ، يا رب زدني جاهاً ، يا رب زدني ذريةً ، لا ، لا ..

﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾

( سورة طه )

 لمجرد أنك طلبت العلم ، وأنك تحضر مجالس العلم ، وأنه يسمح لك من حين لآخر كي تعلِّم العلم فهذا وسام شرف كبير ، ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ )) .

[ الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وأحمد عن أبي الدرداء ]

 والعلماء أمناء الله على خلقه ، والعلماء يحبهم أهل السماء ، ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة ، واسأل نفسك : ماذا أقامك ؟ الله قد يقيم إنسانًا بعمل لا يرضيه ، طبعاً باختياره ، قد يبنى عمله على ابتزاز أموال الناس ، أو على إدخال الخوف إلى قلوبه ، وقد يكون عملك تعليم العلم ، وقد يكون عملك إنفاق المال في سبيل الله ، وقد يكون عملك بناء المساجد .
 ذات مرة افتتح مسجداً في ريف دمشق ، وقد حضرت افتتاحه ، وكان إلى جانبي مسؤول الأوقاف ، قلت له : اشكر الله عز وجل على أن الله أقامك في افتتاح المساجد ، وتعيين الخُطَباء ، فهناك من يفتتح الملاهي ، ويعلِّم الراقصات ، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .
 ما مهمتك في الحياة ؟ هل مهمتك العطاء أم الأخذ ؟ إشاعة الأمن في الناس أم إشاعة الخوف ؟ إكرام الناس بالمال أم ابتزاز أموالهم ؟ أنت تابع لمَن ؟ تابع لخالق السماوات والأرض ، أم تابع لجهة أرضية تأتمر بأمرها ، وأنت أداة بيدها ؟ وكلما عرفت قيمة نفسك أبيت أن تكون لأحد إلا أن تكون لله الواحد القهار ، شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس .

 

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾

اشهد يا طالب العلم للناس بعدالة الله :

 ملمح ثان : إن كنت من أهل العلم حقيقةً ، إن كنت من طلاَّب العلم حقيقة فاشهد للخلق بعدالة الله ، وهناك دعوات إلى الله غير معقولة ، يقول لك : نحن ملك الله - فعلاً نحن ملكه - يفعل بنا ما يشاء ، يضعنا في النار ، أم في الجنة ، هكذا ، ولا يحق لنا أن نعترض ؟! هذه ليست دعوة لله عز وجل ، هذه دعوة منفرة ، يأتون بمثال : نجار عنده لوحان من خشب ، وضع أحد الألواح بابَ قصر ، والثاني باب مرحاض ، ألك عنده شيء ؟ لا ، أما لو كان اللوح الرديء وضعه باب مرحاض ، واللوح النظيف باب قصر فهذا عمل حكيم ، فهنا من أجل أن يؤكدوا أن الله يملك كل شيء ، قد لا ينتبهون ، فيصفون الله بالظلم ، الله عز وجل قال :

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه( 8) ﴾

( سورة الزلزلة )

﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ( 17) ﴾

( سورة سبأ )

 آيات كثيرة تؤكد عدالة الله عز وجل ..

﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ﴾

(سورة لقمان : من الآية 16 )

 إذاً : حينما اقترن اسم العلماء مع اسم الله الأعظم ..

 

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾

طالب العلم المتواضع شريف عند الله والناس :

 ليس هناك على وجه الأرض أشرف من طلب العالم ، من طالب العلم ، والملائكة تضع أجنحتها لطلاَّب العلم رضاً بما يصنعون .

﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

 إذاً طالب العلم يبيِّن عدالة الله ، طالب العلم يبيِّن فضل الله ، أيها الإخوة ، والله أنا أستحيي أن أقول : أنا عالم ، أقول : طالب علم ، كن أديباً مع الله ، أكبر علماء الأرض طلاَّب علم ، لا تقل : عالم ، لأن الله عز وجل قال :

﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا( 85) ﴾

( سورة الإسراء )

 ذات مرة شاب داعٍ إلى الله عز وجل ، يبدو أنه ألقى دروساً في بغداد ، وتحلق الناس حوله ، وأقبلوا عليه إقبالاً شديداً ، بعض من يعلم في العلم من التقليديين امتلأ صدره غيظًا منه ، فجاء إلى مجلسه كي يسفهه ، فحضر الدرس ، وفي نهاية الدرس وقف ، وقال :
 ـ يا هذا ، هذا الذي تقوله ما سمعناه ، من أين جئت به ؟ هذا ليس علمًا .
 ـ قال له : يا سيدي ، وهل حصَّلت العلم كله ؟ سؤال محرج ، إذا قال له : نعم خالف الآية :

﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ﴾

( سورة البقرة : من الآية 255)

﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا( 85) ﴾

( سورة الإسراء )

 ـ قال له : كلا والله .
 ـ قال : كم حصلت منه ؟
 ـ قال له : شطره .
 ـ قال : هذا الذي قلته في هذا الدرس من الشطر الذي لا تعرفه .
 فالإنسان ليكن متواضعًا ، لا تقل : أنا أعلم ، قل : أنا أعلم بفضل الله ، لذلك يظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ، لمجرد أن تقول : أنا أطلب العلم فأنت عالم ، ولا ضير عليك أن تقول : لا أدري ، وهذا وسام شرف آخر ، النبي الكريم سئل أسئلة كثيرة قال : لا أدري ، حتى يأتي الوحي ، فجاء الوحي فأجاب ، وهو قمة العلم في الأرض كلها .
 على كلٍ أكبر شرف تحوزه أن تطلب العلم ، أن تطلب العلم النافع ، هناك علم ممتع ، وهناك علم ممتع نافع ، وهناك علم ممتع نافع مسعد ، إنه معرفة الله ، ممتع نافع مسعد ، قد تقرأ في النعي : أن هذا من أعلم علماء الأرض في هذا الموضوع ، مات ، وانتهى ، أما إذا كان يعرف الله فعلمه ينفعه بعد الموت ، أما إذا كان غافلاً عن الله ، وكان متفوقاً في العلم فعلمه ينفعه في الحياة الدنيا ، أما إذا عرف الله عز وجل فينفعه علمه في دنياه وفي أخراه ، فدقق في هذا .
 هناك علم ممتع ، لو قرأت قصيدة في الأدب الجاهلي لوجدتها ممتعة ، هناك علم ممتعٌ نافع ، معك اختصاص نادر ، دخلك فلكي ، هذا علم ممتع نافع ، وهناك علم ممتع نافع مسعد في الدنيا والآخرة ، وهو أن تعرف الله ، لبعض علماء القلوب كلمة : " إنه حيث ما وردت كلمة العلم في القرآن فإنما تعني العلم بالله " .

 

﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

 أيها الإخوة ... شيء آخر ، يقول الله عز وجل :

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ

1 ـ لابد من الدعوة إلى الإسلام أن تكون صحيحة :


 ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، ولكن اسمعوا هذه الحقيقة : مَن دعي إلى الإسلام بدعوة هزيلة ، دعوة سطحية ، دعوة غير متماسكة ، دعوة متناقضة ، مَن دعي إلى الإسلام من خلال داعية لا يطبق ما يقول ، ولا تجد مصداقية فيما يقول ، من دعي إلى الإسلام بمضمون غير علمي ، وبأسلوب غير تربوي ، وبتناقض بين القول والعمل ، هذا المدعو إلى الإسلام بهذه الطريقة ليس مبلَّغاً عند الله ، لأنه رُكِّب في أعماقنا أن الله عظيم ، وينبغي أن يكونه دينه عظيمًا ، ينبغي أن يكون شرعه عظيماً ، حتى أدى الأمر ببعض العلماء إلى أن يقول : " الشريعة عدل كلها ، رحمة كلها ، حكمة كلها ، مصلحة كلها ، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة ، من العدل إلى الجور ، من الحكمة إلى خلافها ، ليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل " .

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾

2 ـ الإسلام دين الأنبياء جميعا :

 والذي يلفت النظر أنك إذا قرأت آيات القرآن تفاجأ أن كل الأنبياء على الإطلاق وصفوا بأنهم مسلمون ، إذاً : هو دين واحد عند الله عز وجل ، وهو أن تعرفه ، وأن تستسلم له ، وهذا منطوق قوله تعالى :

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون ِ(25) ﴾

( سورة الأنبياء )

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ﴾

( سورة البقرة : من الآية 62 )

 كلهم سواء ..

﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) ﴾

( سورة البقرة : من الآية 62 )

3 ـ الإسلام استقامة :

 اضغط كل المعلومات عن الأديان بكلمتين : أن تعرف الله ، وأن تطيعه ، أن توحِّده وأن تعبده ، إن وحَّدته وعبدته حققت الهدف من وجودك ، فالدين المقبول عند الله أن تستسلم له ، أن تنصاع له ، أن تطيعه ، أما هناك من يعجب بالإسلام ، يقول لك : مفكر إسلامي ، ليس مستقيماً ؛ لا في بيته ، ولا في عمله ، ولا في علاقاته ، ولكنه مفكر إسلامي ، هذا شيء يخالف منطوق هذه الآية :

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾

 فأنت ممكن أن تعجب بطبيب ، أو بمهندس ، أو بعالم آثار ، أو بمؤرخ ، أو بفلكي ، ولا يعنيك أمر استقامته في سلوكه ، ولا تربط بين علمه ولا سلوكه إطلاقاً ، إلا رجل الدين لا يمكن أن تستمع إليه ، ولا أن تصغِي له إلا إذا كان مطبقاً لما يقول ، فإن الدين عند الله أن تكون مطيعاً له ، أما مفكر إسلامي لا يصلي ، مفكر إسلامي يلتقي مع الكاسيات العاريات ، ويملأ عينه من محاسنهن ، يقول لك : مفكر إسلامي ، له خلفية إسلامية ، نزعة إسلامية ، أرضية إسلامية ، منطلقاته إسلامية ، عواطفه إسلامية ، اهتماماته إسلامية ، ولكنه في النهاية ليس مسلما ، فإن الدين عند الله الإسلام ، العبرة أن تطيع الله ، أن يرى هذا في كلامك ، في حركاتك ، في سكناتك ، في بيتك ، في عملك ، في مشيك في الطريق ؛ أتغض البصر عن محارم الله ؟ أم تملأ عينيك من الحرام ؟ هذا الإسلامي .
 بالمعنى اللغوي إن الدين عند الله أن تكون مطيعاً لله ، هذا التدين الحقيقي ، أما في آخر الزمان فيصير التدين تقاليد وعادات ، وفلكلورًا ، وثقافة ، وعلمًا ، مظاهر ، استعراضًا ، يقول لك مثلاً : الآثار الإسلامية شيء جميل ، مكتبة إسلامية ، الزخرفة الإسلامية ، الخط العربي الإسلامي ، الخط الزخرفي الإسلامي ، كله صحيح ، لكن نريد إسلاماً ، نريد كما كان الصحابة ، كانوا يعرفون الله ويطيعونه ، فهذه الأشياء مادية ، زخرفية ، نسميها حضارية ، سميها تراثية ، أما الإسلام فأن تطيع الله فقط .
 والله ذات مرة التقيت مع شخص يحمل شهادات متنوعة ، وكلها دكتوراه ، وله مكانة عندي ، ثم قال لي : أنا لا أصلي ، سبحان الله كيف لا تصلي ؟!! هذا الذي خلق السماوات والأرض ألا يستحق أن تعبده ؟ أنت أكبر من ذلك ؟ حينما لا تعرف الله لست عند الله عاقلاً أساساً ، من هو المجنون ؟ النبي الكريم مشى في الطريق رأى مجنوناً ، فسأل أصحابه سؤال العارف قال :
 ـ من هذا ؟
 ـ قالوا : مجنون .
 ـ قال : لا ، هذا مبتلى ، المجنون من عصى الله .

 

بين الذكاء والعقل :

 حينما وجدت هذه المعاني وجدت أنه لابد من التفريق بين الذكاء والعقل ، فما كل ذكي بعاقل ، فقد تجد إنسانًا قمة في العلم ، فكره قوي ، ومعلوماته غزيرة ، ومنطقه قوي ، ودر عليه علمه أموالاً فلكية ، ولكنه يشرب الخمر ، ولا يصلي ، فما كل ذكيٍ بعاقل ، ولكن كل عاقل ذكي ، العقل أن تعرف الله ، وأن تعرف سر وجودك ، وغاية وجودك ، هذا هو العقل ، وأما الذكاء فأن تتقن اختصاصاً ، أن تتقن اختصاصاً عالي المستوى ، هذا ذكاء ، ولحكمة بالغة بالغ أرادها الله جعل أحقر حيوان نشمئز جميعاً منه ، والله من اسمه نشمئز ، أذكى الحيوانات ، فهذا الذكي إن لم يكن تقياً فينبغي ألا يفخر بذكائه ، ذكاء شيطاني ، هؤلاء الغربيون والله عندهم ذكاء مذهل ، فقد جمعوا أموال الدنيا عندهم ، يعيشون حياةً تفوق حد الخيال ، ولكنهم لأنهم ما عرفوا الله ، وما عملوا لآخرتهم فهم واللهِ أغبياء جداً ، لأنهم سوف يدفعون الثمن باهظاً عند الموت ، هؤلاء الذين يقتلون الصغار في فلسطين ، يتوهَّمون أنهم أذكياء معهم أسلحة فتَّاكة ، أنت قوي على طفل ؟! أسلحة فتاكة على طفل ؟! هذا ذكاؤك ؟ الله عز وجل قال :

﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾

( سورة البقرة : من الآية 190 )

 طفل مندفع ، ببندقية دقيقة الإصابة ترديه قتيلاً ، أنت مسيطر ، لابد أن تعرف الحقيقة : أنه لابد من يوم يدفع الإنسان ثمن أعماله كلها مهما كان كبيراً ، لأن الله عز وجل يقول :

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾

( سورة الأنعام : من الآية 94 )

 تأتي الله وحدك ، لا معك أحد ؛ لا نصير ، لا جماعة ، لا أتباع ، وحدك ، وتحاسب عن أعمالك كلها ، فهناك قصة أنا أرويها لكم ، طريفة للموعظة ، رجل من أغنياء مصر الكبار ، وافته المنية ، وأولاده من شدة محبتهم له خافوا عليه من أول ليلة يوضع في قبره ، القبر مخيف ، واحد ينتقل من بيت ثمنه خمسون مليونًا إلى قبر ، لا يوجد قبر بخمس نجوم أساساً ، ولا قبر فيه بلاط ، كله تراب مُمَدَّد ، أنت حينما تشيع ميتاً ينبغي أن تكون متعظاً ، هذا الذي يوضع في القبر البارحة كان بغرفة نوم ثمنها ثمانمئة ألف ، كان عطاءه من أرقى أنواع الصوف ، وغرفة نومه كانت ثمانية بخمسة ، كبيرة ، ومطبخ ، وعرفة استقبال ، وبيت فخم ، وسيارتان أو ثلاث ، أين هو الآن ؟ في قبر الصغير .
 طلبوا من رجل فقير جداً أن ينام مع ميت أول ليلة ، أعطوه عشرة جنيهات فطار عقله ، فقبِل ـ هي قصة رمزية ليست حقيقية ـ جاء الملكان فرأوا شخصين في القبر ، فقالوا : هذا شيء جديد علينا ، يبدو أن الحي خاف ، فتحرك ، قال له : الثاني حي ، وليس بميت ، تعال نبدأ به ، من شدة فقره كان يلبس كيس خيش ، فيه فتحة لرأسه ، وفتحتان ليديه ، وربطه بحبل ، لا يوجد أفقر من هذا ، أن تلبس كيساً من الخيش ، سألوه عن الحبل من أين جاء به ؟ قال لهم : الحبل أخذته من بستان ، كيف دخلت للبستان ؟ فارتبك ، فضربوه ، كيف دخل البستان ؟ الحبل كيف أخذه ، ما زال موضوعا ثانيًا ، وهو كيس الخيش ، فخرج من القبر مذعورًا ، قال لهم : نسأل الله أن يعين أباكم .

 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( 93) ﴾

( سورة الحجر )

 اصطاد أحدهم عصفورًا لغير مأكلة ، والموسم صيد ، ذهب الصياد إلى صحراء معه سيارته ، رأى عصفورًا ، فقال : هذا العصفور يأتي يوم القيامة له دوي كدوي النحل ، يقول : يا رب سله لم قتلني ؟ والله ستحاسب عن عصفور ، وعن هرة حبستها ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ )) .

[ متفق عليه ]

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( 93) ﴾

( سورة الحجر )

 مَن هو الذكي ؟ قبل أن يفعل شيئاً يهيِّئ جواباً لله عز وجل ، كيف ينجو من حساب الله ؟ هذا المؤمن ، لذلك إن الدين عند الله الإسلام ، التدين الصحيح أن تخضع لله ؛ في كسب مالك ، في إنفاق مالك ، في إطلاق بصرك ، في استخدام أذنك ، في استخدام حركاتك وسكناتك .
 اليوم ذكرت في الخطبة :

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ﴾

( سورة غافر : من الآية 19 )

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور

 أعجبني شرح بعض العلماء قال : إنسان في مجتمع ، مرت امرأة ، له مكانة ، غض بصره حفاظاً على مكانته عند هؤلاء ، ثم نظر إليهم ، فإذا هم غير منتبهين له ، فاسترق نظرةً إليها ، فلما رآهم انتبهوا غض بصره عنها ، هو يغض بصره حفاظاً على مكانته ، وإيهاماً لمن حوله أنه ورع ، فإذا شعر أنه غير مراقب ملأ عينيه من محاسنها ..

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19) ﴾

( سورة غافر : من الآية 19 )

 تحاسب إلى هذا المستوى ، هذا الحق ، هذه نصوص ، أما تقول الأستاذ زودها ، هذا موضوع ثان ، أنا أنقل لكم ما في الكتاب والسنة ، أنقل لكم كلام خالق الأكوان ..

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾

( سورة النور : من الآية 30 )

 تقول لي : لا أقدر ، أقول لك : أنت ترد كلام الله ، لأن الله عز وجل يقول :

﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾

( سورة البقرة : من الآية 286 )

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾

وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُم

 فهناك اختلاف طبيعي ، أساسه نقص المعلومات ، وهناك اختلاف قذر أساسه الحسد ، والغيرة ، والتنازع على المصالح والرئاسات ، وهناك خلاف ممدوح ، خلاف التنافس ، خلاف التنافس محمود ، وخلاف البغي والعدوان مرذول ، والخلاف الطبيعي معذور ، فعندنا خلاف معذور صاحبه ، وخلاف قذر ، وخلاف محمود ، قال تعالى :

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ( 26 ) ﴾

( سورة المطففين )

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور