وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0516 - رمضان4 - ليلة القدر - زكاة الفطر .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الاعتكاف :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في الجمعة التي سبقت رمضان ذكرت لكم أن من عادة الخطباء أن تكون موضوعات الخطب في رمضان على النحو التالي ، خطبة في فضل رمضان، وخطبة في القرآن ، وخطبة في الإنفاق ، وخطبة في معركة بدر ، وخطبة في ليلة القدر . وهأنذا أجعل بفضل الله تعالى وتوفيقه من موضوع هذه الخطبة موضوع الاعتكاف ، وموضوع ليلة القدر ، وفي الخطبة الثانية موضوع زكاة الفطر .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الاعتكاف لغة لزوم الشيء ، وحبس النفس عليه خيراً كان أم شراً في المعنى اللغوي ، يؤكد هذا المعنى اللغوي قوله تعالى :

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾

[سورة الأنبياء: 52]

 أما في المعنى الشرعي فكلمة اعتكاف تعني لزوم المسجد بنية التقرب إلى الله تعالى . هذا هو أصل الاعتكاف . ما من مسلم يتوجه إلى بيت من بيوت الله بنية التقرب إلى الله للصلاة فيه ، أو لحضور مجلس علم ، أو لمدارسة كتب الفقه ، أو كتب التفسير ، أو كتب الحديث ، أو لعمل طاعة فهو المعتكف ، وهذا هو المعنى الواسع للاعتكاف . لقول الله تعالى في الحديث القدسي :

(( إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن عمارها هم زوارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني ، وحق على المزور أن يكرم الزائر ))

[ أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري]

 مادمت في بيت الله فأنت في ضيافة الله ، مادمت في بيت الله فأنت زائر لربك ، لأن هذا بيته . وأي امرئ مسلم دخل بيت الله بنية التقرب إليه ليس غير ، إن لسماع خطبة الجمعة ، أو لحضور مجلس علم ، أو لمدارسة كتاب ، أو للتعليم ، أو للصلاة ، أو للذكر ، أو للدعاء ، أو لأي عمل يزيدك قرباً من الله عز وجل فهذا هو الاعتكاف . والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الاعتكاف سنة ، وواجب ، ومن نذر أن يعتكف لله عز وجل فأداء هذا الاعتكاف واجب عليه . من نذر أن يطيع الله فليطعه . أما ما سوى هذا الاعتكاف الواجب فالاعتكاف سنة . وتتأكد هذه السنة في العشرِّ الأخير من رمضان .
 أيها الأخوة الأكارم : ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ))

[البخاري عن عائشة]

 وفاء النذر يرقى إلى مستوى الواجبات . وسيدنا عمر رضي الله عنه قال :

(( إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال عليه الصلاة والسلام: أوف بنذرك ))

[متفق عليه عن عمر]

 أيها الأخوة ؛ إذا كان من الصعب لظروف خاصة أن ينام الإنسان في المسجد في العشر الأخير من رمضان فلا أقل من أن يكثر المداومة على مجالس العلم في رمضان ، فلا أقل من أن يكثر الصلاة في المسجد في رمضان ، فلا أقل من أن يحيي ليل رمضان بصلاة التراويح ، فلا أقل من يصلي الفجر في المسجد . هذا كله من الاعتكاف .
 أي إذا كان من الصعب بحكم الأعمال التي يرتبط بها المرء أن ينقطع في المسجد عشرة أيام فلا أقل من أن يجعل هذا الاعتكاف مجزأً كل يوم ، إن في صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ، أو بعد صلاة العشاء حتى يصلي قيام الليل التي هي صلاة التراويح .

 

الاعتكاف المستحب ليس له وقت محدود :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الاعتكاف المستحب ليس له وقت محدود ، فهو يتحقق في المكث في المسجد مع نية الاعتكاف فيه طال الوقت أو قصر ، ويثاب المسلم ما بقي في المسجد ، أنت في المسجد إذاً أنت معتكف . لزمت المسجد تقرباً إلى الله عز وجل ، هناك من يجلس في المسجد فيذكر الله عز وجل ، هناك من يسبحه ، هناك من يوحده ، هناك من يكبره ، هناك من يتلو كتاب الله في المسجد ، هناك من يدعوه ، هناك من يستمع إلى مجلس علم ، هناك من يستمع إلى تفسير ، إلى حديث ، إلى سيرة ، إلى موضوعات في الفقه ، هناك من يدرس ، مادمت في بيت من بيوت الله فأنت معتكف . مادمت في بيت من بيوت الله مخلصاً بهذا الدخول فأنت زائر لربك . هكذا ورد في الأحاديث .
 عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ :

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ . . . ))

[متفق عليه عن عائشة]

 وأخوتنا الكرام جزاهم الله خيراً في رمضان بعد صلاة الفجر ، ودرس الفجر يجلسون في هذا المسجد ، ويذكرون الله عز وجل ، ويتفكرون في آيات الله ، ويدعونه إلى أن يمضي عشرين دقيقة على طلوع الشمس يصلون الضحى ويتوجهون إلى بيوتهم ، هذا نوع من الاعتكاف .
 إذا جئت لتصلي صلاة العشاء ، وصلاة التراويح ، وتستمع إلى درس العلم ، هذا نوع من الاعتكاف ، لا تحرم نفسك أيها الأخ الكريم ، أيها المؤمن ، الذي عرف ربه ، لا تحرم نفسك ثواب الاعتكاف ، وثمار الاعتكاف ، إنها ساعة من ساعات القرب ، إنها ساعة من ساعات الإقبال على الله ، إنها ساعة من ساعات التوجه إلى الله عز وجل .

 

الراحة و السكينة جزاء من يقصد بيت الله عز وجل ليتقرب إليه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أنت جسم يحتاج إلى غذاء ، وعقلك يحتاج إلى علم ، وقلبك يحتاج إلى قرب من الله عز وجل ، يحتاج إلى ذكر لقول الله عز وجل :

﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[سورة الرعد : 28]

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾

[سورة طه: 14]

 ويقول بعض الصالحين : إني لأمكث في المسجد ساعة ما أمكث فيه إلا لأعتكف .
 ومرةً ثانية نعيد تعريف الاعتكاف بشكل دقيق : المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله عز وجل . ومن علامات الإيمان أن يكون قلبك معلقاً بالمساجد ، ومن علامات الإيمان أن تكون في المسجد كالسمك في الماء . بينما المنافق إذا كان في المسجد كالعصفور في القفص فيتضايق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان من دون تعلم ، من دون عبادات يضيع ، يتيه ، الحياة موحشة ، الحياة فيها منزلقات ، فيها هموم ، فيها مطبات ، فيها ألغام ، فيها أزمات ، فيها مشكلات ، إذا أتيت بيت الله عز وجل ، واستمعت إلى آيات الله تُفسر ، أو إلى كتاب الله يُتلى ، قمت فصليت ، جلست فذكرت ، ألا تشعر براحة نفسية ؟ إن هذه الراحة هي السكينة التي وعد الله بها المؤمنين ، والتي تتنزل على قلب المؤمن وهو في بيت من بيوت الله .
 ألا ترون أيها الأخوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حينما يدخل بيتاً من بيوت الله ماذا يقول ؟ كان يقول عليه الصلاة والسلام : " اللهم افتح لي أبواب رحمتك" أي إذا دخلت إلى بيت الله أنت تعرض نفسك لحرمة الله ، تعرض نفسك لتجليات الله ، تعرض نفسك للسكينة تتنزل على قلبك ، تعرض نفسك للراحة ، فلذلك : " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها " متى يكون التعرض لها ؟ وأنت في المسجد ، وسأورد لكم قصة هي أصل في هذا الموضوع . سيدنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يمشي في أحد أسواق المدينة ، رأى صحابياً في أحد أسواق المدينة اسمه حنظلة كان يبكي ، قال : يا حنظلة ما لك تبكي ؟ قال : نافق حنظلة ، قال : ولمَ يا أخي ؟ لمَ تقول هذا الكلام ؟ فقال حنظلة : نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين - الصحابة الكرام كانوا مع رسول الله في المسجد كأنهم في الجنة . . من علامات إيمانك أنك إذا دخلت بيت الله عز وجل مخلصاً كأنك في الجنة - قال حنظلة : نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين ، فإذا عافسنا الأهل - توجهنا إلى بيوتنا ، انغمسنا في أعمالنا ، دخلنا في متاهات مع الناس - تذهب عنا هذه الحالة . . هذا الصفاء يذهب ، هذه الرحمة تتبدل ، هذا الشعور بالأمن يتلاشى يحل محله القلق ، تحل محله المشاعر المحزنة ، لذلك قال : نافق حنظلة . فسيدنا الصديق لكرم أخلاقه ولكماله الرفيع طيب قلبه وقال : أنا كذلك يا أخي ، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وصلا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وحدثاه بهذا قال عليه الصلاة والسلام :

((نحن معاشر الأنبياء تنام أعيينا ولا تنام قلوبنا ، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة ))

[مسلم عن حنظلة]

 أنت في المسجد في حالة إقبال ، والله سبحانه وتعالى في المسجد يذكرك ، تذكره ويذكرك ، تذكره بالدعاء ، ويذكرك بالتجلي ، وهذا معنى قوله تعالى :

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

[سورة العنكبوت : 45]

 أي ذكر الله لك أكبر من ذكرك له ." نحن معاشر الأنبياء تنام أعيينا ولا تنام قلوبنا ، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة ، لو بقيتم على الحالة التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة ولزارتكم في بيوتكم ".

 

من أراد أن يكون اتصاله بالله محكماً فعليه بطاعته :

 ولكن هناك نقطة أيها الأخوة لابد من توضيحها . الإنسان حينما يعصي الله عز وجل قبل أن يدخل إلى بيت الله ، هذه المعصية تكون حجاباً بينه وبين الله ، لا تستطيع أن تدخل على الله وأنت في بيته إلا طاهراً ، إلا نقياً ، إلا سليم الصدر ، إلا طيب النفس ، إلا ملتزماً بأمره تاركاً لنهيه ، هكذا . . فلذلك إذا شكوت أنك لا تشعر وأنت في المسجد بشيء هذا يجب أن تعيده إلى تقصيرك . ذهب أحدهم إلى بعض البلاد ونام في فندق فاخر جداً ، قال لي: رأيت على السرير لوحة مكتوب فيها : إن لم تنم نوماً مريحاً فالعلة في ذنوبك وليس في أسِرتنا .
 العلة في الذنوب ، الذنوب تقلق . أي إذا دخلت إلى بيت الله ولم تشعر بهذا الشعور ، بهذه السكينة ، بهذه الراحة ، بهذه الطمأنينة ، بذاك التوازن ، فاعلم أن هناك تقصيرات فعلتها قصرت فيها ، أو مخالفات اقترفتها قبل أن تأتي إلى المسجد ، لذلك وجدت حجاباً بينك وبين الله . إذا أردت أن يكون الطريق إلى الله سالكاً ، إذا أردت أن يكون الاتصال محكماً ، فعليك بطاعة الله التامة ، وعليك بالإحسان إلى خلقه والمكافأة في المسجد . كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجد يقول : " اللهم افتح لي أبواب رحمتك "، فإذا خرج من المسجد يقول : " اللهم افتح لي أبواب فضلك" . ماذا تعلمت في الخطبة ؟ ماذا تعلمت في درس العلم ؟ تعلمت أن تكون صادقاً ، أن تكون أميناً ، أن تكون مخلصاً ، أن ترحم خلق الله ، أن تكون عادلاً . إذاً هلم إلى العدل والصدق والأمانة والإحسان والنصيحة والدعوة إلى الله ، أنت في حالين ، وأنت في المسجد تنتظر رحمة الله ، وأنت خارج المسجد تنتظر فضل الله في الأعمال الصالحة .

ما يستحب للمعتكف :

 أيها الأخوة ؛ يُستحب للمعتكف أن يكثر من نوافل العبادات كالصلاة ، وتلاوة القرآن ، والتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، والتكبير ، وقال بعض المفسرين : إنهن الباقيات الصالحات التي عناهن بقوله تعالى :

﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾

[سورة الكهف: 46]

 والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، والدعاء ، ويُستحب في المسجد أن تدرس العلم ، وأن تستذكر كتب الحديث والتفسير ، وأن تقرأ سير الأنبياء والصالحين، أو أن تستمع إلى تفسير كتاب الله ، أو إلى حديث رسول الله ، أو إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى أحكام الفقه تُتلى عليك . هذا هو النشاط ، نشاط تعبدي تعلمي ، إما أنك في عبادة ، وإما أنك في علم .
 لو دخلت إلى أحد بيوت الله عز وجل ورأيت حلقة ذكر ، وحلقة علم ، المفضل أن تجلس في حلقة العلم ، لأنك بالذكر تصفو لكنك بالعلم ترقى ، بالذكر يرتاح قلبك ، لكنك بالعلم تتسلح بسلاح يقاوم كل انحراف . في حلقة الذكر تصفو وتسعد وحدك ، لكنك بالعلم تسعد وتُسعد الآخرين .

 

على المعتكف ألا يشتغل بما لا يعنيه و يباح له الخروج من معتكفه :

 أيها الأخوة ؛ ويقول العلماء : ويُكره أن يشغل المعتكف نفسه بما لا يعنيه من قول أو عمل ، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم :

(( مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ ))

[الترمذي ومالك عن أبي هريرة ]

 كما يُباح للمعتكف خروجه من معتكفه .

 

الاستدلالات المستنبطة من القصة التالية :

 دققوا في هذه القصة وفيها استدلالات كثيرة :

(( عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي ، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ - أي ليوصلني إلى بيتي . كره النبي عليه الصلاة والسلام أن تسير زوجته وحدها في الليل فخرج من معتكفه ليرافقها إلى البيت وهما في الطريق إلى البيت- رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ - أي أيعقل أن نشك فيك؟- قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءً أَوْ قَالَ شَيْئًا ))

[متفق عليه عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ]

 هذه القصة تعلمنا أشياء كثيرة ، تعلمنا أن تحافظ على زوجتك ، أو على ابنتك ، ولو لك شأن كبير ، أوصلها إلى مبتغاها ، كن معها .
 الشيء الثاني يعلمنا أن البيان يطرد الشيطان . من كان معروفاً بين الناس بالتدين والصلاح ، وفعل فعلاً يمكن أن يُفسر تفسيراً سيئاً عليه أن يوضح ، لو أنه استقبل امرأة في محله التجاري ورحب بها وعنده ضيوف ، ليقل لهم : هذه أختي جاءت إليّ تزورني ، أما إذا رحبت بها ترحيباً يزيد عن الحد المعقول ، وهناك من يستمع إليك ، فقد ألقيت في قلوبهم الشك. إذا تعاملت مع إنسان معاملة مادية ، وضح له الحساب بالتفصيل ، وضح له الأسعار ، المفردات ، تاريخ الدفعات ، لأن هذا التوضيح يطرد الشيطان ، يمكن أن تقيس على هذه القصة مليارات التصرفات ، وضح كل شيء ، اجعل لعملك تفسيراً واضحاً كالشمس ، اجعل عملك كالشمس في وضح النهار .

 

الاعتكاف طوال العام و لا يخص شهر رمضان فقط :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا لم يمكن أن نعتكف في بيوت الله في هذا العشر الأخير فلا أقل من أن نجعل الاعتكاف مجزأ صباحاً ومساءً ، هذا اعتكاف ، والاعتكاف في رأي الفقهاء ليس مختصاً في رمضان ، فهو طوال العام ، ولابد للمؤمن من ساعة يعتكف فيها ، يخلو فيها مع نفسه ، يراجع حساباته ، يفكر في مصيره ، ماذا بعد الموت ؟ كيف سأسأل ؟ ماذا سأجيب ؟ يفكر في كل صغيرة وكبيرة ، هذا الذي تستهلكه الحياة ، ويستهلكه عمله ، ويستهلكه بيته ، ثم يُفاجأ عند مغادرة الدنيا أنه جاء الآخرة صفر اليدين هذا إنسان خاسر أشدّ الخسارة .

الحقائق المستنبطة من ليلة القدر :

 أيها الأخوة الكرام ؛ وفي شهر رمضان تكون ليلة القدر ، قال تعالى :

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾

[سورة القدر: 1-5]

 لم يبق وقت كافٍ لتفسير هذه السورة ، ولن أفسرها ، لكن أضعك أمام بعض الحقائق ، أي أن تعبد الله ثمانين عاماً ، أو أن تعبد الله على معنى التكثير ، ليس المعنى ألف شهر . إما أن تعني ألف شهر أي ثمانين عاماً ، أو أن تعني التكثير ، أن تعبد الله إلى أبد الآبدين ، أو أن تقدره حق قدره . ليلة تقدر فيها ربك ، تعرف عظمته ، تعرف رحمته ، تعرف قدرته ، تعرف كماله ، تعرف وحدانيته ، تعرف أسماءه الحسنى ، تعرف صفاته الفضلى ، تعرف لماذا خلقك ، لماذا أنت في الدنيا ؟ هذه الليلة التي تصل فيها إلى هذه الحقائق هي خير لك من العمر كله .

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾

[سورة القدر: 1-5]

 والمعنى الثاني أن عطاء الله عز وجل لا يكون إلا بعد أن تقدره حق قدره ، قال تعالى :

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾

[سورة الزمر: 67]

 أي لا تنتظر العطاء الإلهي ، لا تنتظر الفتوح الرباني ، لا تنتظر التوفيق ، لا تنتظر الإشراق قبل أن تقدر الله حق قدره . وتقدير الله حق قدره عن طريق التفكر في ملكوت السموات والأرض .

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾

 إنها الليلة التي إذا وصلت إليها وصلت إلى كل شيء ،

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

 ما هذا التجلي الذي يكون ؟ قال القاسمي في تفسير محاسن التأويل : تتجلى الملائكة على النفس الكاملة بعد أن هيأها الله لقبول تجلياتها .
 أي أنت حينما تقدر الله حق قدره ، وتعرف منهجه ، وتسير عليه ، الآن تأتيك الملائكة ، تلهمك الخير من كل أمر يُراد منك ، أو من كل أمر تريده . أي إذا استلهمت الله في قضية وقع في قلبك الجواب الشافي ، أراك الله الحقيقة رؤية نفسية ، إذا قدرت الله تقديراً عالياً ، إذا بلغت هذه المرتبة ، ما الذي سيحصل ؟ سوف تأتيك الملائكة لتلهمك كل خير . أما إذا سألت الله عز وجل فسيأتيك الجواب عن طريق الملائكة .

﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾

  من كل أمر يُراد منك ، أو تريده ، فأنت في سلام مع نفسك ، وفي سلام مع ربك ، وفي سلام مع الخلق ، دخلت في عالم الراحة ، ودخلت في عالم السعادة ، هذا ليس تفسير هذه السورة ، إنه خواطر إيمانية حول هذه السورة . أي تفكر ساعة خير من أن تعبد الله ثمانين عاماً ، تعرف إلى الله من خلال آياته الكونية ، أو التكوينية ، أوالقرآنية ، فإذا قدرته حق قدره ولزمت أمره ونهيه عندئذ جاءك المدد من الله عز وجل ، جاءتك الملائكة يلهمونك الخير ، وجاءتك الملائكة يجيبونك عن تساؤلك .

﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾

  أي من كل أمر يراد منك أو تريده منهم ،

﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾

 وهذه الليلة تكون في رمضان ، وتكون في أي يوم من أيام العام ، بشرط أن تطلب الله صادقاً ، بشرط أن تدعوه مخلصاً ، بشرط أن تلح في طلب معرفته .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني . .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

زكاة الفطر :

 أيها الأخوة : زكاة الفطر ، كيف أننا إذا سهونا عن واجب في الصلاة نسجد سجود السهو ، وكيف أننا إذا صلينا فرضاً سنَّ النبي أن نصلي سنةً بعدية ، قال العلماء : إن هذه السنة البعدية جبر لما اختل من صلاة الفرض ، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث . نظرة لم تكن في مكانها ، أو كلمة لم تكن في مكانها الصحيح ، انحراف بسيط جداً ، سب لم يصرَّ عليه صاحبه ، لغو أو رفث ، جبر لهذا اللغو أو الرفث شُرعت زكاة الفطر ، أي عملية غسيل ، صمت رمضان إيماناً واحتساباً ، صمت النهار وقمت الليل ، حصل مشادة بينك وبين إنسان ، تكلمت كلمة ينبغي ألا تقولها ، حانت منك التفاتة ينبغي ألا تفعلها ، فطهرة لك من اللغو والرفث شُرعت زكاة الفطر .
 بينما هي بالطرف المقابل طعمة للمسكين ، لذلك أحد أخوتنا الكرام بقي عند نص طعمة للمسكين . . اتفق مع إخوانه أن يقدموا لكل أسرة طعاماً يكفيهم أيام العيد كله . أي لو قدمت لهذا المسكين طعاماً يكفي هذه الأسرة الأيام الثلاثة طعاماً نفيساً فهذا عمل طيب ، عمل يرقى بك إلى الله عز وجل ، تشعر أنك فعلت شيئاً ثميناً . لذلك هذه الصدقة أي الزكاة فُرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمسكين ، ولإغنائه عن الحاجة في أيام العيد ، وهذه الزكاة أيها الأخوة لا تجب في الأموال ، بل تجب في الأشخاص . زكاة الفطر هي زكاة الرأس ، هي صاع من تمر أو شعير ، قُدر الآن بأربعين ليرة في حدها الأدنى ، وخمسين ليرة في حدها الأقصى ، تجب على كل مسلم ذكر كان أو أنثى ، صغير كان أو كبير ، حر كان أو عبد ، فقير كان أو غني على المذاهب الثلاثة ، حضري أو بدوي ، أي تجب على كل مسلم ولو كان فقيراً ليذيقه الله طعم الإنفاق .
 أيها الأخوة ؛ الأئمة الثلاثة عدا أبي حنيفة قال : تجب على كل مسلم ولو لم يملك النصاب . وقد ورد في هذا أن أفضل الصدقة جهد المقل . ويؤكد هذا قوله تعالى :

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾

[سورة آل عمران: 133-134]

 فإذا كان فقيراً جداً ودفع هذه الخمسين ليرة ، أو هذه الأربعين هذا جهد مقل ، وهذا إنفاق في الضراء ، وأراد الله أن يذيقه طعم الإنفاق ، لكن هذه الزكاة يجب أن تُؤدى قبل زكاة العيد ، وإذا دفعتم للجمعيات الخيرية زكاة الفطر أعلموهم أن هذه زكاة الفطر كي توضع في المكان الخاص وكي تنفق قبل صلاة العيد .
 أيها الأخوة الكرام ؛

(( أنفق بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا ))

[الطبراني عن ابن مسعود ]

(( أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ))

[ متفق عليه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 رب درهم سبق ألف درهم ، ودرهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم ينفق بعد وفاتك . أنا أعرف أناساً كثيرين توفاهم الله عز وجل ، وقد أكدوا في حياتهم مرات عديدة على وصية ، وكتبوا الوصية ، وأشهدوا عليها ، ووالله الذي لا إله إلا هو لم تنفذ وصاياهم . فلذلك لا تكن تحت رحمة الوارث ، أنفق المال بنفسك ، ولا تخش لومة لائم ، تقرب إلى الله قبل أن يتقرب بعض الناس إلى المعاصي بمالك .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الإنفاق أحد علامات الإيمان ، بل إن الله سبحانه وتعالى سمى هذا الإنفاق صدقة من زاوية أنه يؤكد صدق صاحبه . هناك أشياء كثيرة تفعلها طاعة لله ، لكن تلتقي فيها مصلحتك مع الشرع ، أما الإنفاق فيتناقض مع مصلحتك المادية ، لذلك علامة الإيمان الصادق الإنفاق .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور