وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0545 - كونوا مع الصادقين - أخلاق النّبي .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

البيئة التي يعيش فيها المؤمن :

 أيها الأخوة الكرام ؛ موضوع دقيق دقيق في حياة المسلم ، ألا وهو البيئة التي يعيش فيها ، هذه البيئة إن كانت صالحة أعانته على الصلاة ، إن كانت فاسدة أغوته وأفسدته ، لذلك في القرآن الكريم ، وفي آية واضحة الدلالة يقول الله عز وجل :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[سورة التوبة: 119]

 كن مع هؤلاء الصادقين الذين صدقوا مع أنفسهم ، وصدقوا مع ربهم ، وصدقوا في طلب الحقيقة ، وصدقوا في تطبيقها ، وصدقوا مع الناس ، وكانوا مستقيمين ، وكانوا أنقياء :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[سورة التوبة: 119]

 وقال علماء الأصول : إن كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، هناك أوامر كثيرة جداً.
 وآية أخرى لا تقل عن هذه الآية يقول الله عز وجل :

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[سورة الكهف: 28]

 كن مع العابدين ، كن مع المصلين ، كن مع المستغفرين ، كن مع الداعين ، الذين يعبدون ربهم.

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[سورة الكهف: 28]

 في الآية إشارة لطيفة إلى أن المؤمنين الصادقين إن جلست معهم سمت نفسك ، وارتقت روحك ، لكن أهل الدنيا ربما أغروك بدنياهم ، أغروك ببيوتهم ، بمآكلهم ، بتفلتهم ، لذلك :

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[سورة الكهف: 28]

 أيها الأخوة الكرام ؛ آية ثالثة تقتضي الوجوب :

﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة لقمان : 15]

 اتبع سبيل من رجع إلى الله ، من احتكم إلى شرعه ، من طبق منهجه ، من أقام الإسلام في بيته ، من أقامه في عمله ، من احتكم إلى حكم الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً ﴾

[سورة الأحزاب: 36]

 أنت ابن بيئتك.. بيئتك مجتمعك الصغير ، أصدقاؤك ، من تتعامل معهم ، هؤلاء إن كانوا صالحين أعانوك على الصلاح ، وإن كانوا فاسدين في الأعمّ الأرجح إن رضيت أن تكون معهم ، وارتاحت نفسك إليهم أفسدوك.

 

أية علاقة ليس أساسها محبة الله ورسوله مآلها إلى عداوة مبينة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هل أبلغ من قوله تعالى :

﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾

[سورة الفرقان: 27-29]

 الشقاء الأبدي الذي سيتحمله هذا الإنسان عُزي في هذه الآية إلى خليل فاسد ، إلى صديق شارد ، إلى صديق فاسق ، إلى قرين منحرف ، إلى إنسان متفلت ، يريد الحياة الدنيا ، يدعوك إلى المعصية ، يدعوك إلى تأخير التوبة ، يدعوك إلى أن تأخذ حظك من مباهج الدنيا، يدعوك إلى التفلت ، يدعوك بشيء يقنع أو لا يقنع ، بفلسفة واهية ، أو غير واهية ، إلى أن تكون مع أهل الدنيا في معاصيهم ، في تبذلهم ، في انحرافهم ، في فسقهم ، في فجورهم ، لذلك:

﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾

[سورة الفرقان: 27-29]

العلاقات النظيفة الطاهرة تدوم وتتنامى :

 أيها الأخوة الكرام ؛ القرآن الكريم يؤكد أن أية علاقة ليس أساسها محبة الله ورسوله، و الانصياع لمنهج الله ومنهج رسوله ، هذه العلاقة سوف تؤول إلى عداوة مبينة ، قال تعالى :

﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾

[سورة الزخرف: 67]

 أية علاقة ، أية صداقة ، أي لقاء ، أي تقارب ، أي تعاون كان من أجل الدنيا ، من أجل مصالح مادية ، من أجل شهوات خسيسة ، هذه العلاقة الطارئة هي علاقة مؤداها إلى عداوة .

﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾

[سورة الزخرف: 67]

 إذا كان إخوانك أتقياء ، إذا كان أصدقاؤك طاهرين ، إذا كان أصحابك ملتزمين بمنهج الله عز وجل ، هذه العلاقة سوف تتنامى وتتنامى ولا تزيدها الأيام إلا متانة .
 لقاء أسبوعي جرى بين أصحاب دام هذا اللقاء سبعة عشر عاماً ، تدارسوا فيما بينهم ، ما سرُّ ديمومة هذا اللقاء وهذا التواصل وهذه المودة ؟ قال : لأن هذا اللقاء بُني على طاعة الله ، فلا مراء ، ولا غيبة ، ولا نميمة ، ولا معصية في هذا المجلس. العلاقات النظيفة الطاهرة تدوم وتتنامى.

 

البيئة الصالحة خير من الوحدة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لا تنسوا أن الإنسان فطره الله اجتماعياً ، هو اجتماعي بفطرته، ومقهور على أن يكون في مجتمع ، والمجتمع له دور كبير كبير في إصلاح الفرد ، فالبيئة الصالحة خير من الوحدة ، لكن إذا كان المجتمع فاسداً ، أو منحرفاً ، فالوحدة خير من الجليس السوء.

(( إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوىً متبعاً ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فالزم بيتك، وأمسك لسانك ، وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة))

[ أبو داود و ابن ماجه و الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني ]

 القاعدة أيها الأخوة أنك إذا استطعت أن تؤثر فيمن حولك كن معهم ، أما إذا استطاعوا أن يجروك إلى خندقهم ، وإلى وحولهم فابتعد عنهم ، إن كنت تملك قوة التأثير فيهم كن معهم ؛ لأن العمل الصالح هو غاية المؤمن في الحياة الدنيا ، أما إذا استطاعوا أن يجروك إلى وحولهم ومفاسدهم فابتعد عنهم وانج بنفسك.

 

التّمسك بإخوان الصدق فهم زينة في الرخاء و عدة في البلاء :

 أيها الأخوة الكرام ؛ آية خامسة :

﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾

[سورة النجم: 29]

 أي هؤلاء الذين حولك ، أصدقاء ، أقرباء ، زملاء ، هؤلاء يعلمونك وأنت لا تشعر، تقتبس من أخلاقهم وأنت لا تدري ، تقنع بكلامهم في غفلة عنك ، لذلك تأثير الصاحب تأثير كبير ، لأن أفكار الصاحب وأخلاقه تتسللان إلى نفسك وأنت لا تشعر ، حبك له يغطي على سوء سلوكه وأفكاره.
 أيها الأخوة الكرام ؛ أنت ألا تنتقي أطيب الطعام لبطنك ؟ ألا تجتنب الطعام الفاسد؟ الطعام المتفسخ ؟ ألا تجتنب الطعام الكريه ؟ لماذا تختار أطيب الطعام لبطنك ولا تختار أطيب الأصدقاء لروحك ؟ هذه بديهية من بديهيات الحياة . النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح يقول :

(( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ))

[أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

 لأنه لا يخذلك ، ولا يخونك ، ولا يسلمك ، ولا يغتابك ، يحفظك.
 من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدث الناس فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته ، المؤمن لا يسخر منك، ولا يحقرك ، ولا يظلمك ، ولا يسلمك ، ولا يخذلك ، ولا يغتابك ، ولا يخونك.
 لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ))

[أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

 فرق بين الصحبة : أي العلاقة الحميمة ، وبين علاقات العمل ، لك أن تتعامل مع أي إنسان في حدود ضرورات العمل ، لك عمل ، هناك من حولك ، هناك من فوقك ، هناك من دونك ، لكن أن تتعامل معهم ، وأن تظهر لهم عظمة الإسلام ، أن تظهر لهم أن المؤمن صادق، وأن المؤمن أمين ، وأن المؤمن مخلص ، وأن المؤمن متقن ، وأن المؤمن ناصح، بإمكانك أن تكون داعية وأنت ساكت ، استقامتك ، إخلاصك ، أمانتك ، صدقك ، دعوة إلى الله فيمن حولك ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ينهى عن علاقة حميمة مع غير المؤمن ، أن تذهب معه في نزهة ربما أحرجك ، وأخرجك عن طورك :

(( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ))

[أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

 سيدنا عمر - رضي الله عن سيدنا عمر - كان يقول : عليك بإخوان الصدق ، تعش في أكنافهم ، فإنهم زينة في الرخاء ، وعدة في البلاء .

 

الصاحب الصالح كبائع المسك :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة السلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم :

(( إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ - الحداد الذي ينفخ الكير ليصهر الحديد- فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً - رائحته طيبة فواحة ، إما أن تشتري منه العطر المسك ، وإما أن تشم من هذه الروائح الطيبة- وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً ))

[متفق عليه عن أبي موسى الأشعري ]

 الصاحب الصالح كبائع المسك ، تفوح عليك كمالاته ، تفوح عليك أعماله الطيبة ، عقيدته السليمة ، منطقه السليم ، حكمته البالغة ، أخلاقه الرضية ، تواضعه ، إيناسه ، إنكاره لذاته ، حبه للآخرين ، هذه كلها فضائل ، وقد فُطر الإنسان على حبها ، فلذلك يسعد الإنسان بصديق مؤمن كامل سعادة لا تُقدر بثمن ، بل إن بعضهم يقول : إن أجمل شيء في الدنيا على الإطلاق صديق مؤمن ، هو متعة ، وروضة ، وإيناس ، وتخفيف من أعباء الحياة وما إلى ذلك.

 

الركون إلى من عرف الله و خشيه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ سيدنا عمر رضوان الله تعالى عليه قال : " اعتزل عدوك ، واحذر صديقك إلا الأمين من القوم.. ". أي علاقة صداقة مع إنسان حصيف العقل لكنه ليس ملتزماً ، ينبغي أن تكون منه على حذر ، أما إذا كان مؤمناً ، صدوقاً ، مخلصاً ، قال : " إلا الأمين من القوم ، ولا أمين إلا من خشي الله ". حقيقة أرجو الله عز وجل أن يوفقني إلى توضيحها . أي إذا كان الإنسان بعيداً عن الدين ، وبعيداً عن العقيدة السليمة ، وبعيداً عن خشية الله ، يمكن أن يكون كاملاً ، فما جدوى الدين إذاً ؟ وما ضرورة الدين إذاً ؟.. الأصح أن الإنسان لن يكون كاملاً ، ولن يُطمأن إلى جانبه ، ولن تجني منه ثماراً يانعة إلا إذا عرف ربه وخشيه ، فكلمة الضمير وحدها لا تكفي ، كلمة الوازع الداخلي وحدها لا تكفي ، يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة ، الذي يكفينا ويزيدنا أن يكون هذا الذي معنا يخشى الله ، فإن خشيه استقام على أمره ، لذلك ورد : أن يا موسى خف ثلاثة : خفني وخف نفسك وخف من لا يخافني .
 الحقيقة أن هناك حالة ؛ الأذكياء أحياناً يرون أن من مصلحتهم أن يكونوا أخلاقيين، هذه الأخلاق التي يتلبس بها غير المؤمنين ، وقد تلفت نظر الناس ، هذه الأخلاق أيها الأخوة ليست الأخلاق التي أرادها الله لنا ، هي أخلاق ناتجة عن تفكير سديد ، لكن إذا تضاربت المصالح الحقيقية مع هذه الأخلاق المتكلفة سريعاً ما يلقي هذا الإنسان الذكي بأخلاقه المتكلفة عُرض الطريق ، وينقلب وحشاً كاسراً ، لذلك سيدنا عمر يقول : " اعتزل عدوك ، واحذر صديقك إلا الأمين من القوم ، ولا أمين إلا من خشي الله " الإنسان الذي يمكن أن تركن إليه ، وأن ترتاح إليه ، ينبغي أن يخشى الله عز وجل . فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ، ولا تطلعه على سرك ، واستشر في أمرك الذين يخافون الله تعالى .
 أعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ..))

[متفق عليه عن أنس]

 أي إذا كنت تحب أهل الحق ، تحب المؤمنين ، تحب أن ترتاد بيوت الله عز وجل، تحب أن تكون مع المؤمنين ، أن تسلك سلوك المؤمنين ، فهذه علامة طيبة على أنك منهم. لذلك قال الله تعالى :

﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾

[سورة المجادلة: 22]

بطولة الإنسان اختيار صاحب أرقى منه إيماناً و علماً :

 أيها الأخوة الكرام ؛ مرةً ثانية : أنت كإنسان لابد لك من مجتمع صغير تعيش فيه ، لابد لك من لقاءات ، من صداقات ، من علاقات ، من زيارات ، لابد من إنسان تجلس معه ، حكمتك البالغة ، وعقلك الحصيف يقتضيان أن تختار الصاحب كما تختار أطيب الطعام.
 الصاحب ساحب. من جالس جانس ، والصاحب يعلمك وأنت لا تدري ، تقتبس من أفكاره وأنت لا تشعر ، تستقي من صفاته وأنت في غفلة ، فلذلك المودة والمحبة والصحبة والاستسلام هذا من شأنه أن يجعل أفكار هذا تنتقل إلى هذا ، لذلك بطولتك كامنة في أن تختار صاحباً أرقى منك إيماناً وعلماً ، من أجل أن تستفيد منه دون أن يؤثر فيك تأثيراً سلبياً.

النقاط المشتركة هي سرُّ المودة بين إنسان و آخر :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :

(( الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ))

[مسلم في الأدب من صحيحه من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي]

 أي سرُّ المودة بينك وبين إنسان النقاط المشتركة بينك وبينه ، فكلما كثرت اشتدت العلاقة وتمتنت ، وازدادت أواصرها شدة ، لذلك مجتمع المؤمنين مجتمع متماسك ؛ لأن قواسم كثيرة مشتركة تجمع بينهم ، إيمانهم بالله ، محبتهم له ، إيمانهم برسول الله ، محبتهم له ، سعيهم للدار الآخرة ، عملهم الصالح ، تخلقهم بأخلاق الله عز وجل ، تمسكهم بأوامر الدين ، ورعهم ، هذه كلها نقاط مشتركة تجمع بين المؤمنين ، والآية الكريمة :

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾

[سورة آل عمران: 103]

 وكأن هذا الدين هو حبل الله ، كأن هذا القرآن هو حبل الله ، هناك شيء يجمعنا ، هناك عقيدة تجمعنا ، هناك أخلاق تجمعنا ، هناك أهداف تجمعنا ، فاللقاء بين المؤمنين هو الأصل ، لذلك قال تعالى :

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

[سورة الحجرات: 10]

 فإن كانت هناك علاقة غير سوية أو شحناء هذه علاقة شاذة وحالة مرضية تقتضي المعالجة ، إذاً :

﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾

  الأصل أن المؤمنين إخوة ، فإن لم تكن كذلك فأصلحوا بين أخويكم.

 

إصلاح النفس و كل علاقة بين الناس :

 والله سبحانه وتعالى في آية في سورة الأنفال يقول :

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة الأنفال: 1]

 أصلح نفسك ، عرفها بربها ، عرفها بمنهجه ، احملها على طاعته ، اسمُ بها إليه.

﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾

  أصلح كل علاقة بينك وبين الناس ، بينك وبين أهلك ، وبينك وبين زوجتك ، وبينك وبين أولادك ، بينك وبين جيرانك ، بينك وبين أرحامك ، بينك وبين أقاربك ،

﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾

 والمعنى الثالث : المؤمن الصادق يصلح أي علاقة بين شخصين يقول عليه الصلاة والسلام :

(( ليس منا من فرق ))

[أبو الحسين بن المظفر عن معقل بن يسار]

 المؤمن يجمع ، يجمع بين زوجين ، بين أخوين ، بين شريكين ، بين أم وولدها ، بين أخ وأخيه ، بين جار وجاره ، شأنه أن يجمع وألا يفرق ، شأنه أن يؤلف القلوب وألا يباعد بينها.

 

مجالسة العلماء و مزاحمتهم بالركب :

 أيها الأخوة الكرام ؛ سيدنا لقمان قال : " يا بني جالس العلماء ، وزاحمهم بركبتيك، فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل القطر " الملاحظ أيها الأخوة أنك إذا صاحبت مؤمناً أرقى في إيمانه منك إنه يفيدك فائدة كبرى ، تقتبس من علمه ، ومن أخلاقه ، ومن استقامته ومن ورعه "
 يا بني جالس العلماء ، وزاحمهم بركبتيك ، فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل القطر ، " تجنب صحبة خمسة ؛ لا تصاحب الكاذب فإنك منه على غرور، وهو مثل السَّراب ، يقرب منك البعيد ، ويبعد منك القريب ، تجنب صحبة الأحمق ، فإنك لست منه على شيء ، يريد أن ينفعك  فيضرك ، تجنب صحبة البخيل ، فإنه يقطعك وأنت أحوج ما تكون إليه ، تجنب صحبة الجبان ، لأنه يسلمك ويفرُّ عند الشدة ، تجنب صحبة الفاسق ، فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها ، قيل : وما أقل منها ؟ قال : يطمع فيها ثم لا ينالها ويبيعك. " ورد في الأثر أن : " لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ، ولا يدلك على الله مقاله" صاحب من ينهض بك إلى الله حاله ويدلك على الله مقاله.
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني..
 أيها الأخوة الكرام ؛ لهذا الموضوع تتمة إن شاء الله تكون في الأسبوع القادم إن أحيانا الله.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أخلاق النّبي الشّخصية :

 روى الإمام البخاري ومسلم وابن سعد في طبقاته ، وابن هشام في سيرته :
 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :

(( خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مُرْتَحِلًا عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتِ الرِّفَاقُ تَمْضِي وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا لَكَ يَا جَابِرُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا ، قَالَ : فَأَنِخْهُ ، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ أَوْ قَالَ : اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ قَالَ : فَفَعَلْتُ قَالَ : فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ ثُمَّ قَالَ ارْكَبْ فَرَكِبْتُ فَخَرَجَ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً - أي يسابقها ، ليس هنا بيت القصيد ، الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سيدنا جابر منفردين ، يمشيان في مؤخرة الصفوف ، دققوا في الجانب الآخر من حياة النبي ، النبي عليه الصلاة السلام نبي هذه الأمة ، رسول الله ، أوحي إليه القرآن ، أيده الله بالمعجزات ، قاد أمة ، الآن النبي عليه الصلاة والسلام الصديق ، المؤنس ، اللطيف ، رقيق الحديث- قَالَ : وَتَحَدَّثَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ أَهَبُهُ لَكَ ، قَالَ : لَا وَلَكِنْ بِعْنِيهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : فَسُمْنِي بِهِ؟ قَالَ : قَدْ قُلْتُ : أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ قَالَ قُلْتُ لَا إِذًا يَغْبِنُنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَبِدِرْهَمَيْنِ قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ -أي ألف درهم- قَالَ قُلْتُ : فَقَدْ رَضِيتُ قَالَ قَدْ رَضِيتَ قُلْتُ نَعَمْ قُلْتُ هُوَ لَكَ قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُ - تمت مساومة على جمل بلطف بالغ - قَالَ ثُمَّ قَالَ لِي يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا قَالَ قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً - أي سيدة منزل- تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ : أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - سأله ثيب أم بكر ؟ قال : ثيب ولكنها امرأة جامعة ، أي سيدة منزل ، والدي استشهد في أحد ، ترك لي سبعة أخوة ، أنا أريد امرأة ترعاهم ، وتقوم بواجبهم - قَالَ : أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ أَمَا إِنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا - صرار ضاحية من ضواحي المدينة ، وكان عليه الصلاة والسلام من عادته أنه إذا قدم من غزوة أقام في إحدى ضواحي المدينة ، كي تستعد النساء لاستقبال أزواجهن- أَمَا إِنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَسَمِعَتْ بِنَا - ويعني بذلك زوجته - فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا – الوسائد- قَالَ : قُلْتُ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ - نحن ما عندنا أثاث في البيت ، الصحابي فقير جداً- قَالَ : إِنَّهَا سَتَكُونُ فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيِّسًا قَالَ فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا المدينة قَالَ فَأَخْبَرْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَدُونَكَ فَسَمْعًا وَطَاعَةً قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى الْجَمَلَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ قَالَ : فَأَيْنَ جَابِرٌ فَدُعِيتُ لَهُ قَالَ تَعَالىَ أَيْ يَا ابْنَ أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ فَهُوَ لَكَ قَالَ : فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ : اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً - أي أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يساعده ؛ لأنه يعلم رقة حاله ، يعلم مصابه بأبيه ، يعلم أن أباه قد استشهد في أحد ، وترك له إخوة أيتاماً يعلم رقة حاله ، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يواسيه بنفسه وماله ، واساه بنفسه بهذا الحديث العذب ، وتلك الرقة البالغة ، وهذا الإيناس الطيب ، وواساه بماله بطريقة لطيفة ، حيث اشترى منه جمله بدرهم ثم بدرهمين ورفعها حتى بلغت الألف – فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا قَالَ فَوَاللَّهِ مَازَالَ يَنْمِي عِنْدَنَا وَنَرَى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ النَّاسُ يَعْنِي يَوْمَ الْحَرَّةِ .

[متفق عليه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]

 أي اشترى نمارق ، وأثث بيته بأثاث جيد ، وعاش في بحبوحة بفضل هذه المساعدة اللطيفة الرقيقة الحانية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه القصة لا علاقة لها بالغزوة ، ولا بشأن الدين ، إنها أخلاق النبي الشخصية ، أخلاقه الرضية ، أخلاقه كصاحب ، أخلاقه كصديق ، أخلاقه كمؤمن، أولاً تفقد أصحابه ، هو قائد الجيش ، ونبي هذه الأمة ، رجع إلى خلف الصفوف ليتفقد المتأخرين ، ليتفقد المرضى الضعاف ، رأى جابراً ، سيدنا رسول الله مربٍّ ، يعرف معرفة يقينية من جابر ، طبعاً جابر كان أكبر أولاد عبد الله ، عبد الله صاحب رسول الله استشهد في أحد ، أين ابنه ؟ ابنه جابر ، ماذا ترك له ؟ سبعة أولاد ، علم النبي أن هذا الابن الأكبر فقير ، ورقيق الحال ، فلذلك آنسه هذا الإيناس وهذه الصحبة ، وهذه هي أخلاق المؤمنين.
 شيء آخر : حينما أراد أن يساعده ما ساعده بفظاظة.. خذ من زكاة مالي ، هذه فظاظة ، ما ساعده بأسلوب قاسٍ ، ساعده بطريقة مشروعة ، بيع وشراء ، وما ظن سيدنا جابر إلا أن النبي جادٌّ في شراء الجمل ، وانظروا إلى هذه المباسطة ، قال : إذاً تغبنني ، فزاد النبي درهمين ، ثلاثة دراهم ، إلى أن بلغ السعر ألف درهم ، قال : أرضيت يا رسول الله ؟ قال : رضيت ، قال : خذه ، قال : قد أخذته..

 

معرفة سيرة النبي فرض عين على كلّ مسلم :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ما أحوجنا إلى أخلاق النبي ، إلى هذه الصحبة الراقية ، إلى هذه العلاقات المتينة ، إلى هذا الود البالغ ، إلى هذا الإنكار للذات . يجب أن تعلموا علم اليقين أن معرفة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم ، لأن الله تعالى يقول :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[سورة الأحزاب: 21]

 كيف يكون النبي أسوة حسنة إن لم نعرف سيرته ؟ إن لم نعرف أخلاقه في غزواته؟ في حله ؟ في ترحاله ؟ في بيته ؟ مع أصحابه ؟ مع إخوانه ؟ في سفره و حضره ؟ يجب أن نعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، ويجب أن تكون هذه القصة قدوة لنا ، أي إنسان معه أصحاب وضع الطعام فأكلوا ، وأناس لم يأكلوا بعد ، لم يحضروا المائدة بعد ، عليه أن يتفقد أحوالهم ، أخلاق الكبراء هي الرحمة بالصغار ، الرحمة بالضعاف ، قال عليه الصلاة والسلام :

((سيروا بسير أضعفكم ))

[المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة]

 هذه القصة لها دلالات كثيرة ، أخلاق من أوكلت إليه الأمور ، أخلاق تفقد الضعاف ، تفقد البائسين ، تفقد المرضى ، أن تعيش حياة الإنسان ، أن تعيش مشكلاته ، هذا الذي لا تعنيه مشكلات الناس ليس من الناس ، هذا الإنسان فقير ، هذا الإنسان مصاب ، هذا الإنسان مريض ، فالنبي عليه الصلاة والسلام في ذهنه أصحابه كلهم ، أحوال أصحابه ، مصير أولاد أصحابه ، فكل هذا الإنس ، وهذا اللطف ، وهذه المودة إكراماً للأب الراحل الذي استشهد في أحد ، وترك أكبر أولاده جابر ، وكان جابر رقيق الحال فقيراً ، وكان جمله ضعيفاً.
 أيها الأخوة الكرام ؛ سئلت السيدة عائشة عن أخلاق رسول الله قالت :

(( كان خلقه القرآن ))

[ مسلم عن عائشة ]

 وهذه أخلاقه الرضية وينبغي أن نتأثر بها ، وأن نتبعها ، وأن نسلك سبيلها ، لأن التأمل النظري وحده لا يجدي ، ولا قيمة له إطلاقاً .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور