وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0549 - الغيبة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الغيبة من أخطر المفاسد الخلقية :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الجرأة على الناس في غيبتهم كالتزلف إليهم في حضرتهم ، كلاهما علامة الجبن والصغار ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يؤمن بقَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنِ تتبَّعَ عَوْرة أخيه تَتَبَّعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ))

[الترمذي عن البراء بن عازب ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ متابعة لموضوع الأسبوع الماضي حول الكلمة الطيبة التي تستند إلى علم ، وإلى واقع ، وإلى فطرة ، وإلى نقل صحيح ، وإلى تطبيق ، وإلى نيَّة طيبة ، الكلمة الطيبة التي شبهها الله بشجرة الطيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، أما الكلمة الخبيثة فهي كالشجرة الخبيثة تنتشر ، وتتسع ، ولها فعل خطير في المجتمع ، والغيبة من الكلمة الخبيثة .
 متابعة لموضوع الأسبوع الماضي ؛ الغيبة من الكلمة الخبيثة ، التي تنتشر كالشجرة الخبيثة ، لكن لا أصل لها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الغيبة من أخطر المفاسد الخلقية ، تسبب كثيراً من النزاعات، وينتج عنها التقاطع ، والتدابر ، والتباغض ، وتفتت وحدة المسلمين ، وتشتتهم ، وتفرقهم، وتلقي بينهم العداوة والبغضاء ، بعض المسلمين يتوهم أنه بتركه للكبائر يصل إلى كل شيء ، ومن قال لك : إن الغيبة من الصغائر ؟ إنها من الكبائر ، وهي متفشية بين المسلمين ، المسلمون في الأعمّ الأغلب لا يشربون الخمر ، واقع المسلمين لا يشربون الخمر، ولا يقتلون ، ولا يزنون ، ولكن المعصية المتفشية فيما بينهم ، والتي تفتتهم وتفرقهم ، وتلقي بينهم العداوة والبغضاء ، وتجعلهم ضعافاً متفرقين ، متنازعين ، متحاسدين ، متباغضين ، إنها الغيبة ، فهي من أخطر المفاسد الخلقية .
 أيها الأخوة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :

((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بَالْكَلِمَةِ مِن سُخْطِ اللهِ لاَ يَرَى بِهَا بَأْساً . فَيَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفاً))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

اللسان من أجلّ نعم الله علينا به يهبط الإنسان أو يرقى :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا اللسان من أجلّ نعم الله علينا ، إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان علمه البيان ، فالبيان من نعم الله العظمى ، ولأن الإنسان مخير ، ولأن كل شيء في الكون اثنيني ، بمعنى أنه يمكن أن يُوظف في الخير كما يمكن أن يوظف في الشر ، كل حظ من حظوظ الإنسان التي منحها الله إياه إنما هي حيادية ، توظف في الخير ، وتوظف في الشر، فلذلك نعمة النطق ، نعمة البيان ، هذا اللسان الذي تذكر به الله عز وجل ، الذي تذكر به إخوتك المؤمنين ، الذي ترقى به إلى أعلى عليين ، هذا اللسان نفسه بذاته يمكن أن يهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين .

((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بَالْكَلِمَةِ مِن سُخْطِ اللهِ لاَ يَرَى بِهَا بَأْساً . فَيَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفاً))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة الكرام ؛ كما أن الإنسان عن طريق اللسان والبيان يرقى إلى أعلى عليين ، عن طريق اللسان والبيان يهوي إلى أسفل سافلين ، قال تعالى :

﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾

[سورة النساء: 114]

 والآية الكريمة :

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فصلت: 33]

 باللسان ترقى إلى أعلى عليين ، وباللسان يهبط العاصي إلى أسفل سافلين .
أيها الأخوة الكرام :

((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ : الْفَمُ وَالْفَرْجُ))

[أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد عن أبي هريرة]

 فلما سئل النبي عن أكثر ما يدخل الناس النار قَالَ :

((الْفَمُ وَالْفَرْجُ ))

 بما يدخل ، وبما يخرج ، بما يدخل فيه من طعام اشتُري بمال حرام ، وبما يخرج منه من كلام فيه الإثم والبهتان ، فأكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج .
 أيها الأخوة الكرام ؛ وفي حديث آخر للنبي عليه الصلاة والسلام قال :

((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 اللسان والفرج . قال عبد الله بن مسعود :

((والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان))

[الطبراني عن عبد الله بن مسعود]

الغيبة خلق ذميم يمقته الإسلام أشدّ المقت :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الغيبة خلق ذميم ، يمقته الإسلام أشدّ المقت ، وهي من أقبح القبائح ، ومن أكثرها انتشاراً بين الناس ، وهي خيانة ، وهي هتك ستر ، وهي غدر ، وهي تفرقة بين المسلمين ، وهي زاد الخبيث ، وطعام الفاجر ، ومرعى اللئيم ، وضيافة المنافق ، وفاكهة المجالس ، ويبغض الله جلّ جلاله هذا الخلق أشدّ البغض ، والعقل السليم يرفضه ، والعرف القويم يأباه ، والمجتمع النظيف يرده ، والفطرة السليمة تنحرف عنه ، والشرع الحنيف يحرمه . شرع حنيف ، وفطرة سليمة ، ومجتمع نظيف ، وعرف قويم ، وعقل سليم ، كل هذه الأشياء مجتمعةً ترفض الغيبة أشدّ الرفض ، لأن الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نكون متماسكين كالصف الواحد ، كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فإذا اغتاب بعضنا بعضاً تفرقت وحدتنا ، وانقسمنا فيما بيننا ، وتفرق جمعنا ، وضعفت مكانتنا .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الغيبة شهوة ، شهوة لا أساسها الطعام والشراب ، ولكن أساسها نهش الأعراض ، نهش أعراض الناس ، وانتقاص كرامتهم وحرماتهم وهم غافلون، إنها دليل جبن ودناءة وطعن من الوراء ، وهي معول من معاول هدم المجتمع ، قلت في مطلع الخطبة : الجرأة على الناس في غيبتهم كالتزلف إليهم في حضرتهم ، كلاهما علامة الجبن والصغار .

نشأة الغيبة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ تنشأ الغيبة من الحسد ، من حسد المغتاب ، والحقد عليه ، لما ناله من نعمة ، أو لما اتصف به من فضل ، تنشأ من الفقير للغني ، ومن الضعيف للقوي، وهي خسة ودناءة ، وضعف همَّة ، ووضاعة نفس ، تزرع الضغينة ، وتنبت العداوة ، وينتج عنها التقاطع والتدابر ، ويضعف الوفاء والإخلاص ، ويشيع الرياء والنفاق ، وتنتشر العداوة والبغضاء ، صورها القرآن بصورة تنفر منها النفوس ، صور المغتاب كوحش كاسر انقض على أخيه الإنسان بعد موته فجعل ينهش من لحمه ، ويمزق من أوصاله ، قال تعالى :

﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة الحجرات: 12]

 قال عبد الله بن مسعود :

((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رجل من المجلس فوقع فيه رجل من بعده - أي اغتابه - فقال عليه الصلاة السلام لهذا الرجل : تخلل - أي تمضمض ، نظف فمك - فقال : يا رسول الله ومم أتخلل ما أكلت لحماً ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إنك أكلت لحم أخيك))

[رواه الطبراني عن عبد الله بن مسعود]

 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال:

((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ ))

[ أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]

إدراك السلف الصالح خطورة الغيبة و مساوئها :

 أيها الأخوة الكرام ؛ جاء رجل إلى عمرو بن عبيد ، فقال له : إن الأسواريّ يغتابك وما زال يذكرك في مجالسه بشرٍّ ، فقال عمرو : يا هذا ما راعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه ، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ، ولكن قل : إن الموت يعمنا ، وإن القبر يضمنا ، وإن القيامة تجمعنا ، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين .
 وروي أن رجلاً قال لعبد الملك بن مروان : إني أريد أن أسرَّ إليك حديثاً ، وكان مع أصحابه ، فأشار الخليفة إلى أصحابه بالانصراف ، فلما أراد الرجل أن يتكلم ، قال الخليفة : قف ، لا تمدحني فأنا أعلم بنفسي منك ، ولا تكذبني فأنا لا أعفو عن كذوب ، ولا تغتب عندي أحداً فلست أسمع إلى مغتاب ، فقال الرجل : هل تأذن لي بالخروج ؟ قال : إن شئت فاخرج .
 أيها الأخوة الكرام ؛ جاء رجل إلى أحد الصالحين ، فقال له : إن فلاناً قد اغتابك، فقال للذي نقل الكلام : أو ما وجد الشيطان بريداً غيرك ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ تروي كتب السيرة أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مع أصحابه ، فقال أحدهم : والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الهن ، فأحدّ فيهم النظر حتى وجلوا ، فقال أحدهم : لا والله ، لقد رأينا من هو خير منك ، قال : ومن هو ؟ فقال هذا الرجل : أبو بكر الصديق ، فقال عمر رضي الله عنه موجهاً الكلام إلى كل من حوله : لقد كذبتم جميعاً وصدق ، كنت أضلّ من بعيري ، وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك.
 أيها الأخوة الكرام ؛ الأب مع أولاده ، والمعلم بين طلابه ، ورئيس الدائرة مع موظفيه ، ومدير المستشفى مع الأطباء ، ومدير المدرسة مع المدرسين ، إن لم يسمح هؤلاء الأشخاص الذين أوكلهم الله أمر هؤلاء الذين دونهم ، إن لم يسمح لأحدهم أن يغتاب أحداً ، سارت الأمور على أحسن ما يرام ، أما إذا أصغى إلى مغتاب ، أو أصغى إلى مادح ، أو أصغى إلى كاذب فاختلت الأمور .

 

الغيبة تفتت وحدة المسلمين و تضعف العلاقة بينهم :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الذي يعنينا من هذا الموضوع أن الإنسان إذا جلس في مجلس ودارت فيه أحاديث الغيبة ، وبقي جالساً فهو آثم ، فإما أن يمنع هذا الحديث ، وإما أن ينصرف من هذا المجلس ، وإلا فهو آثم ، ولو فعل المسلمون هذا التوجيه الكريم ، بألا يقعدوا مع الذين يغتابون ، بأن يعنفوا الذين يغتابون ، بأن ينصحوا الذين يغتابون ، لكانت العلاقات بين المسلمين أفضل مما هي عليه اليوم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ما من شيء يفتت وحدة المسلمين ، يضعف العلاقة فيما بينهم ، ما من شيء يضعضعهم ، يفرق جمعهم ، يلقي بينهم العداوة والبغضاء ، كأن تفشو فيهم الغيبة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لهذا الموضوع تفصيلات كثيرة إن شاء الله تعالى أعالجها في دروس الأحد التي تتسع لتفصيلات كثيرة حول هذا الموضوع الجليل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه قال : الغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد . أي الغيبة تنهش في دين الرجل حتى تقضي عليه .
 وقال عمرو بن العاص ، وقد مرَّ على بغل ميت ، فقال لبعض أصحابه : لأن يأكل الرجل من هذا حتى يمتلئ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

البحث عن الإيجابيات و نقلها لتعم المودة بين الناس :

 أيها الأخوة الكرام ؛ من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كلمت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته ، قال بعض العلماء من السلف الصالح : أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في صوم ولا في صلاة ، ولكن يرون العبادة في الكف عن أعراض الناس ، العبادة ضبط اللسان ، العبادة ضبط الدخل ، ضبط الإنفاق ، ضبط الجوارح ، ضبط البيت ، ضبط العمل :

((الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني))

[الترمذي عن شداد بن أوس ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ قال الإمام علي بن الحسين رحمه الله تعالى : " إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس ".
 الإدام : الفاكهة ، وسيدنا عمر رضي الله عنه عملاق الإسلام له كلمة رائعة ، يقول هذا الخليفة الراشد : " عليك بذكر الله فإنه شفاء ، وإياك وذكر الناس فإنه داء ، وشتان بين الشفاء وبين الداء" .
 الحسن البصري من أئمة التابعين ، قال له رجل : " إنك تغتابني ؟ فقال له الحسن البصري : ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي يوم القيامة" ، من أنت حتى أغتابك فأحكمك في حسناتي يوم القيامة ؟ لأن المغتاب يأخذ حسنات الذي يغتابه .
 وعبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى يقول :" لو كنت مغتاباً لاغتبت والدي ، لأنهما أحق بحسناتي من غيرهم " . وهذه إشارة دقيقة إلى أن الذي يغتابه الناس زوراً وبهتاناً ، المغتاب الذي اغتيب يأخذ حسنات الذي اغتابه ، وهذا شيء ثابت . وقد قيل لعالم ، قال له أحد الناصحين : إني أشفق عليك لكثرة ما يقوله الناس عنك ، فقال هذا العالم : وهل سمعتني أقول عليهم شيئاً ؟ قال : لا ، قال : عليهم فأشفق .
 والإمام علي بن أبي طالب وصف المغتاب وشبهه بتشبيه بليغ ، فقال : " الأشرار يتتبعون مساوئ الناس ، ويتركون محاسنهم ، كما يتبع الذباب المواضع الفاسدة " .
 المؤمن يبحث عن النقاط الإيجابية في أخيه ، يذكرها بخير ، يشجعه ، يذكرها بين الناس ، حتى يعم الخير ، لكن الشرير لا يرى في الإنسان إلا النقائص و العيوب ، يذكرها ، ويكبرها ، وينشرها ، وينقلها للناس .
 أيها الأخوة الكرام ؛ في السنة الشريفة حديث دقيق جداً يقول عليه الصلاة والسلام:

((الذنب شؤم على غير صاحبه ، إن تكلم به فقد اغتابه ، وإن عيره ابتلي به ، وإن رضي به فقد شاركه بالإثم))

[ كنز العمال عن أنس ]

 أي غير المذنب أمام أحد هذه المزالق الثلاثة ، لو أن أخاك أذنب ذنباً ، فإن نقلت هذا الذنب للناس فقد اغتبته ، وإن رضيت به فقد شاركته بالإثم ، وإن عيرته ابتليت به .
 وكلكم يعلم أن السيد المسيح فيما يُروى عنه كان مع الحواريين في طريق يمشون وقد وجدوا جيفة نتنة الرائحة ، فقال بعض من حوله : ما أنتن ريح هذا الكلب ، فقال هذا النبي الكريم : بل ما أشدّ بياض أسنانها ، أي أراد أن ينبه من حوله إلى أن يبحثوا عن الإيجابيات ، ويتركوا السلبيات .
 ونحن إذا تعاملنا ، وإذا اتصلنا ببعضنا بعضاً ، وإذا جلس بعضنا إلى بعض ، وإذا سافرنا ، فإذا كشفنا النواحي الإيجابية في شخصية الإنسان ، وأثنينا عليها ، ونقلناها للآخرين ، تعمُّ المحبة والمودة بين الناس ، ويصبح المجتمع كما أراد الله عز وجل كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً . أما إذا تركنا المحاسن وبحثنا عن المثالب ، ووقفنا عندها ، وكبرناها ، ونشرناها بين الناس ، فهذه صفة تجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً ممزقاً ، مجتمعاً ضعيفاً ، متداعياً .
 ورد في الأثر : " تعلموا ما شئتم ، فوالله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ، وكل علم وبال على صاحبه ما لم يعمل به "

وعالم بعلمه لم يعملن  معذب من قبل عباد الوثن
***

 أيها الأخوة الكرام ؛ بين أن تقول مثلاً ألف مليون ليرة بلسانك ، وبين أن تملكها ، أليست هناك مسافة كبيرة بين أن تنطق بهذا المبلغ وبين أن تملكه ؟ المسافة هي نفسها بين أن تتكلم بالحق ، وبين أن تطبقه ، بين أن تتحدث عن الغيبة ، وبين أن تدع الغيبة، بين أن تتحدث عن الصدق ، وبين أن تكون صادقاً ، بين أن تتحدث عن الوفاء ، وبين أن تكون وفياً .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور