وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 68 - سورة البقرة - تفسير الآيتان 204-205، الظاهر والباطن والفساد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

لحكمةٍ ولكرمٍ كثير جعل الله للإنسان ظاهراً وباطناً :

 أيها الأخوة المؤمنون.. مع الدرس الثامن والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الرابعة بعد المئَتين، وهي قوله تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾

 هناك حقيقةٌ أيها الأخوة هي أنه لحكمةٍ ولكرمٍ كثير جعل الله للإنسان ظاهراً وباطناً، فباطنه محجوبٌ عن الناس، الناس لهم الظاهر، ولولا ذلك لو تكاشفتم لما تدافنتم، لك ظاهر، والناس لهم الظاهر، ولك باطن، لو أن كل واحدٍ منا كشف باطن أخيه، وكان في باطن أخيه غِل أو حقد أو حسد لتدابر الناس، ولكن جلَّت حِكمة الله إذ جعل الباطن محجوباً.
 النقطة الدقيقة أنه بإمكان الإنسان أن يتكلم كلاماً طيباً، ويعمل عملاً طيباً، وينتزع إعجاب الناس، وهو ألدّ الخصام، وهو عدوٌ لدود، ربنا عز وجل حجب باطنه عن الناس، ولكن إذا كان باطن الإنسان سيّئ، وأصر عليه، واستمر، يتولى الله في عليائه فَضْحَهُ.

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾

[ سورة آل عمران: 179 ]

 

من رحمة الله أنه حجب باطننا عن الخَلق :

 الحقيقة أن للإنسان باطناً لا يعرفه إلا هو، ويعرفه ربُّه، وله ظاهر يعرفه به الناس، وقد ورد في بعض الأقوال: أن الإنسان قد يستطيع أن يضلل بعض الناس كل الوقت، أو أن يضلل كلَّ الناس بعض الوقت، أما أن يضلل كل الناس لكل الوقت، فهذا مستحيل، وهذا يأباه الله عز وجل.
 فالباطن مخفي، وهذا رحمة من الله، حينما أُثْنِيَ على سيدنا الصديق قال: " اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم حقق فيَّ ما يقولون، واجعلني خيراً مما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون ".
 كلام دقيق: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، واجعلني خيراً مما يقولون، بل وحقق في ما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون"، فالله عز وجل ستر الإنسان، والله اسمه الستِّير، داخلك محجوب عن الناس، فقد يزور الإنسان شخصاً وفي باطنه حقدٌ عليه، أو حسدٌ، أو غلٌ وهو محجوب، لو أن الإنسان بعد حينٍ تاب إلى الله، وشفي صدره من هذا المرض، فالطرف الثاني ما رأى شيئاً.
 فالله أعطانا فرصة، إذا كان هناك في الباطن شيء سيّئ فيمكن أن تصحح، وإذا كان في الباطن غل، أو حسد، أو تقصير، أو عُجب، فأنت مدعو إلى إصلاح الباطن، ففي فترة إصلاح الباطن أنت في بحبوحة، لأن الإنسان لا يغفر، ولو بلغك عن شخص أنه قال في حقك كلمة سوء لا تنساها له حتى المَوْت، ولو أن الناس تكاشفوا لتدابروا ولتخاصموا، ولما تدافنوا أساساً، ولكن رحمة الله أنه حجب باطنك عن الخَلق، وأبقاه بينك وبينه، فأنت بالإمكان أن تستغفر، وبالإمكان أن تُقْلع، وبالإمكان أن تتوب، وبالإمكان أن تصحح، قال تعالى عن نموذج من هؤلاء:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾

 أي بعض الناس..

﴿ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

 

رحمة الله رحمتان :

 قد يكون الإنسان ذكياً، والذكي يمثِّل، والتمثيل يحتاج إلى قدرات عالية جداً، فالذكي يمثِّل، قد يقول كلاماً يُرضيك، لأنه يعرف اتجاهَك، ولدى بعض الناس قدرة عجيبة على التلون؛ فإذا جلس مع أهل الدنيا فهو في قمة أهل الدنيا، وإذا جلس مع أهل الدين يتلبس، ويقول: لا إله إلا الله، الله يغفر لنا، له كلمات رائعة مع أهل الدين، فيها توكُّل، وفيها إنابة، وفيها شوق إلى الله، وهو يحفظ عدّة أبيات من الشّعر، وإذا جلس مع أهل دينٍ آخر قرَّب ديننا من دينهم، فأصبح ديننا مثل دينهم تماماً، أينما جلس يتلوَّن، هذه قدرة عالية بالإنسان.

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

 قوله يعجبك، يرضيك، يعرف الوَتَرَ الحساس، يعزف عليه، يتلاعب بعواطفك، إنه ذكي، لكن المشكلة أن هذا لا يُمَرَّر على الله، وعلاقتك مع الله، هناك نقطة دقيقة: باطنك محجوب عن الخَلق رحمةٍ من الله، والله كاشف باطنك رحمةٍ من الله أيضاً، والمؤمن يعلم، ولذلك ينضبط وهذا لصالحه، فحينما توقن أن الله يعلم تنضبط، أيّ إنسان يوقن أن الله يعلم فسينضبط، فصار الحساب داخلياً، المؤمن الصادق لا يجرؤ أن يحمل حقداً أو غِلاً لأحد، ولا أن ينافق.
فرحمة الله رحمتان، الرحمة الأولى أنه مُطَّلعٌ على بواطننا، وهذا الاطلاع على بواطننا أكبر رادع لنا، أيْ يا عبدي لا تخفى علي خافية، تكلَّم ما شئت فأنا أعرف الحقيقة، أعرف ماذا تنطوي عليه؟ وهناك أمثلة كثيرة جداً، فالطبيب عندما يفحص امرأةً، إذا اختلس النظر إلى مكانٍ لا تشكو منه، ليس في الأرض كلها إنسان بإمكانه أن يكشف الحقيقة إلا الله.

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾

[ سورة غافر: 19 ]

 

علم الله عز وجل كامل يعلم ظاهرك ويعلم باطنك :

 لو أن صديقة زوجتك جاءت زائرةً، والوقت شتاءً، وقلت لزوجتك: تعالوا إلى هنا، الغرفة هنا دافئة، أنت ماذا أعلنت؟ أعلنت حرصك أن يكونوا في غرفة دافئة، ولكن ماذا تُبطن؟ الله وحده يعلم ماذا تبطن بهذه الكلمة؟ هذا مثل طبعاً، فلو أردت أن ترى شكل صديقة زوجتك، ودعوتهما إلى غرفة الجلوس، حيث المدفأة مشتعلة، مَنْ يعرف النيَّة؟ الله، فباطنك مكشوفٌ عند الله، وهذه من رحمة الله بنا، من أجل أن ننضبط، لذلك يعلم السر ما أخفيته على الناس، ويعلم ما خفي عنك أنت، أيْ أنَّ علم الله عز وجل كامل؛ علم ظاهرك، هو سميعٌ بصير، ويعلم باطنك، ويعلم ما خفي عنك. وهذا معنى قول الإمام علي: " علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون "، فأن يعلم الله باطنك فهذه من نعم الله الكبرى، وأن يحجب عن الناس باطنك، فهذه من نعم الله الكبرى، فالناس يتراحمون بالظاهر:

((إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر)).

[ورد في الأثر]

 إنسان مقيم في بلد أجنبي ذهب إلى مركز إسلامي مع فتاةٍ أعجبته في هذا البلد، وعقد عليها عقداً شرعياً فيه إيجابٌ، وقبولٌ، ومهرٌ، وشاهدان، وليس في الأرض كلها من يكشف حقيقة نيته من هذا الزواج، هو ينوي أن تبقى معه طوال مُدَّة دراسته فإذا أنهى دراسته طلَّقها. وعند الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى: كل زواجٍ ليس فيه نية التأبيد فهو زنا، فأنت عقدت عقداً في مركز إسلامي فيه إيجاب، وفيه قبول، وفيه شاهدان، ومهر، فهذا عقد شرعي مئة في المئة، أما إذا كنت تنوي أن تطلّقها بعد انقضاء مُدَّة الدراسة فهذا لا يعلمه إلا الله.
 فالله عز وجل حجب باطنك عن الخلق، وأبقى لهم الظاهر، وأنا أحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، إخلاصك لا يعرفه إلا الله، ونياتك الطيبة لا يعرفها إلا الله، وهناك أمثلة دقيقة جداً: يوجد عندك ألف دنم أرض بمنطقة غير منظَّمة، وجئت وتبرَّعت بألف متر من هذه الأرض لبناء مسجد، وفي نيَّتك أنه حينما تتبرع بهذه المساحة تنظَّم الأرض، فإذا نُظّمت ارتفع سعرها أربعة أضعاف، يقال لك: ما شاء الله، جزاه الله خيراً؛ عمَّر جامعاً، أنت لك الظاهر، وقد ينوي هو أن يرفع ثمن أرضه فقط، ولا علاقة له بالدين إطلاقاً، فمَنْ يكشف هذه الحقيقة؟ ربنا عز وجل:

﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾

[ سورة الحاقة: 18 ]

باطننا مستور وظاهرنا مكشوف عند الخلق أما عند الله فمكشوفون ظاهراً وباطناً :

 أنت حينما تعلم أن الله يعلم كل شيء هذا أكبر دافع للإخلاص، وأكبر دافع لتطهير الباطن، وأكبر دافع لسلامة النيَّة، فالله عز وجل رحمنا حين أعلمنا أنه يعلم، ورحمنا حين حجب باطنَنا عن الخلق ستراً لنا، فباطننا مستور، وظاهرنا مكشوف، ولكننا مكشوفون عند الله ظاهراً وباطناً..

﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾

 أيْ بَعْضُ الناس..

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

 يعجبك قوله في الحياة الدنيا فقط، أما لو قال في الآخرة كلاماً طيباً، هو في الحقيقة إنسان طيب، لأن الله عز وجل قال:

﴿ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾

[ سورة الكهف: 51 ]

 ففي الدنيا تكلَّم ما شئت، أما في الآخرة لن توفَّق في كلامك إلا إذا كنت مخلصاً، لأن الله لو سمح لك أن تقنع الناس بالآخرة، وأنت لست كذلك، فهذا غشٌ لهم، ففي الآخرة لن يسمح لك أن تقول قولاً يُعجبهم، أما في الدنيا فلك أن تقول قولاً يعجبهم، وهذا مقيَّد.

 

من أرضى الناس جميعاً فهو منافق :

 قال تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾

 هذا منتهى الفجور، كان عند أحدهم مخالفة، لزمه شاهد فذهب إلى شاهد زور، فطلب منه خمسة آلاف، وقال له: إني شاهد زور، فلم أكن موجوداً، دخل الشاهد إلى المحكمة فرأى أن هناك قرآناً، فقال: أريد عشرة لأنه يوجد يمين، وهناك شخص مستعد أن يفعل كل شيء.

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾

 هذا النموذج شائع جداً، يواجهك إنسان فيُثْني عليك ثناءً، يمدَحك مديحاً يجعلك تخجل، وبعد أن تدير ظهرك يتكلم بعكس ما مدحك به، ذو الوجهين لا يكون عند لله وجيهاً، كن بطلاً، وكن موحَّداً، وكن واضحاً. قال له: يا أمير المؤمنين أتحبني؟ قال: والله لا أحبك. قال: وهل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله. قال: إذاً إنما يأسف على الحُبّ النساء.
 كن صريحاً، فهذا الشيء يؤلم كثيراً، إذ تلتقي مع إنسان يثني ثناءً عطراً على كل شيء، تصدقه أنت، تعدّه من طرفك، فإذا به في غيبتك يطعن في كل شيء، وهذا النموذج ممقوت عند الله عز وجل، كن واضحاً، فكلمة الحق لا تقرِّب أجلاً ولا تقطع رزقاً، فالذي تمدحه امدحه صادق، والذي لا تحبه لا تمدحه، اسكت عن مدحه، وإلا فأنت منافق، ومن أرضى الناس جميعاً فهو منافق.

 

اليمين الكاذبة منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة :

 قال تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾

 الباعة أكثرهم: بذمتي، بديني، بأولادي، بصحتي، بالكعبة، أبيعك دون رأس ماله. وهو رابح مئة بالمئة، هذا حلف كاذب، اليمين الكاذبة منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة، قد يخجل الزبون فيشتري، لكن ممحقةٌ للبركة، لا توجد بركة، تأتي مخالفة يضع لها مبلغاً من المال قد تبلغ ثلاثمئة ألف، الذي جمعته فرادى دفعته دفعةً واحدة..

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى ﴾

 واجهك، مدحك، وأشهد الله على ما في قلبه، وهذا الشيء واضح جداً، إن جلس مع أهل الإيمان، تجده شيخ، بل شيخ ونصف، ويعلمهم، وإن جلس مع أهل الكفر يقول لك: كل هذا الدين أفيون الشعوب، الدين حالة ضعف بشري، حكى كلاماً آخر، يتلوَّن، مع كل فئة له موقف.

 

كلمة (تولى) لها معنيان :

 قال تعالى:

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾

 عنك..

﴿ سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾

 "تولى " لها معنيان هنا:

1 ـ تولى عنك أي ترك المجلس :

 تولى عنك أي: ترك المجلس، تولى؛ كان عمله سيِّئاً، هو أشهد الله على ما في قلبه، أنه مؤمن، وصادق، ومحسن، ومستقيم، فإذا تركك وانصرف إلى جماعةٍ آخرين أفسد الأرض ومن عليها، فهذا معنى.

2 ـ إذا تولى أي انصرف أو استلم عملاً فجعل الفساد همَّه :

 المعنى الثاني: إذا تولى شيئاً، أو مهمةً، أو استلم عملاً، فإنه يريد الاختلاط، والفسق، والفجور، والمال الحرام، أنت كنت تدّعي أنّك شيخ الإسلام، فما الذي حدث؟

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾

 فالفساد أيها الأخوة لا يمكن أن يكون إلا بتدَخُّل بشري، لأن كمال الله عز وجل مُطْلَق، وكل شيء خلقه الله عز وجل كامل إطلاقاً، فنحن نفسد، خلق الله الطفل الصغير مثل المَلَك، ولو كان ابن مجوسي، أو ابن أفسق إنسان فهو مَلَك، فالأسرة تفسد الابن أو تصلحه، كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، إذاً هذا الإنسان الذي يقسم لك أنه مخلص، ومحب لله، ومستقيم، وطاهر، ويحب الله ورسوله، وهو ألد الخصام، فما الذي يكشفه؟ إذا انتقل إلى حقل آخر، إلى مكان آخر، إلى جماعة آخرين، هذا ورد في سورة البقرة أيضاً:

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون ﴾

[سورة البقرة: 14]

 إنّه ملوَّن، " فتولى " أي انصرف أو استلم عملاً فجعل الفساد همَّه.

﴿ سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾

 فالفساد تدخُّل بشري، وأصل الفساد كائن مخيَّر ومعه شهوة، وترك المنهج، ولو أمسك بالمنهج ما صار فساداً، فعلاقة إنسان بامرأة وفق المنهج زواجٌ، وبلا منهج زنىً ودعارة، وأعمال لا ترضي الله عز وجل، علاقته بالمال وبالمنهج كسب مشروع إذ لا توجد مشكلة، بلا منهج سرقة، واحتيال، وخداع، وربا، وما شاكل ذلك.

 

الحرث له معنيان:

 قال تعالى:

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ ﴾

 الحرث له معنيان:

 

1 ـ النبات بالمعنى النباتي الأرضي :

 المعنى الأول: النبات، أيْ:

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾

[ سورة الواقعة: 63-64 ]

 هناك فساد حتى بالنبات، الله عز وجل صمم الخلق أكمل تصميم، فجاء الإنسان وأفسد النبات، وضع للنبات هرمون نمو، هذا يعطيه حجماً كبيراً، وألواناً زاهية، لكنه مسرطن، فاستخدم هرمونات للنمو، مثلاً هناك كثير من الأشياء تزيد من ملوحة التربة، فكل المبيدات الكيماوية مؤذية جداً، صمم ربنا مبيدات حيوية، فنحن استخدمنا المبيدات الكيماوية فصار هناك فساد، الأدوية الراقية أدوية نباتية، نحن استخدمنا أدوية كيماوية لأجسامنا، صار في مضاعفات، أمراض كثيرة جداً من أدوية نستعملها بشكل مثير، الشراب الطبيعي استبدلناه بشراب كيماوي، فأكثر أنماط السلوك أنماط مُبْتَدَعَة، ليست في أصل التصميم، فنشأت أمراض وبيلة، نشأ ارتفاع نِسَب السرطان، فهذا من باب إهلاك الحرث وإفساده.

 

2 ـ المرأة بالمعنى الإنساني :

 والمعنى الثاني:

﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾

[ سورة البقرة: 223]

 فالإنبات يأتي عن طريق الأرض، وعن طريق المرأة، فالأرض فسدت، والمرأة أُفْسِدَت، فصار هناك إفساد للحرث، بالمعنى النباتي الأرضي، وبالمعنى الإنساني أي المرأة، والمرأة إذا فسدت حدث شيء مخيف، وهناك قصص عن فساد المرأة؛ ممكن أن تقيم مشكلات لا تنتهي إذا فسدت، فشيئان إذا فسدا فسد المجتمع، المرأة أحد هذين الشيئين، وقد يحارب المسلمون بالمرأة، فأكبر حرب تُشَن على المسلمين إفساد أخلاقهم عن طريق ما تأتي به الفضائيّات، فهذا إفساد، المرأة فسدت، فالزواج فسد، حدثني أخ كريم قاض شرعي، قال لي: نسب الطلاق في سوريا كانت اثنين بالألف، الآن خمسة عشر بالمئة، وأغلب هذا الطلاق أساسه هذه المحطات الفضائية.

الإنسان حينما تولى أفسد الأرض :

 إذاً:

﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾

 حتى النسل، أيْ الأولاد، فالابن كل شيء يدعوه إلى الشهوة، وكل شيء يدعوه إلى معرفة الله مُغَيَّب عنه، بعيد عنه، فالجيل فسد، طبعاً الفساد عندنا أقل بكثير جداً من بلاد أخرى، في أيّ مكان في العالم قد يمارس الجِنس في المدارس، في الحمامات، يضعون واقياً في الحمام، شيء طبيعي جداً، فالفساد عَمَّ العالم، فالإنسان حينما تولى أفسد الأرض، أفسد نباتها، وأفسد المرأة، وأفسد الولد..

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾

 والله صمم المرأة زوجة، وصممها أختاً، وبنتاً، وأماً، ولكنه لم يصممها مومساً، لم يصممها مخلوقاً يبيع جسده بالمال، ولم يصممها مُتْعةً في الطرقات، أو سلعةً رخيصةً، بل صممها كائناً راقياً، وأماً قدِّيسة، وزوجةً وفية، وأختاً رحيمةً، وأماً رؤوماً، ولم يصممها سكرتيرة مثلاً، مهمتها أن تلبي حاجة مديرها، هذه علاقة غير مشروعة، الإنسان أفسد إذ جعل المرأة متعةً في أي مكان.

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾

 الجيل حينما يفسُد، حينما تفسد أخلاقه، ونحن والحمد لله الدعاية للتدخين ممنوعة في بلدنا، وهذه نعمة كبيرة، أما حينما يلقى في روع الشاب أنك تكون عظيماً إذا دخَّنت، وتكون بطلاً إذا دخنت!! كان في بعض أجهزة الإعلام رجل محترف الدعاية للدخان مات بسرطان الرئة، وهو على فراش الموت قال: كنت أكذب عليكم الدخان قتلني، أنت حينما تغري الشاب أن يدخن، وأن يتلف صحَّته، وأن يُتلف ماله، أنت ماذا تفعل؟ حينما تفتح نادياً ليلياً أو ملهى ماذا تفعل أنت؟ حينما تعرض الجنس في هذه النوادي الليلية ماذا تفعل؟ تفسد الشباب.

 

كل شيء خلقه الله سمح لك به في علاقةٍ شريفة وواضحة:

 قال تعالى:

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾

 الله يحب الطُهْر، يحب العفاف، ولم يحرمك شيئاً، كل شيء خلقه الله سمح لك به في قناةٍ نظيفة، في علاقةٍ شريفة وواضحة، فهذا الفساد يرفضه الله عز وجل، عندك شهوة، هذه الشهوة لها قناة نظيفة، تحرَّك من خلالها.

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

 المعنى المخالف من يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه، لا يوجد حرمان في الإسلام ولكن يوجد تنظيم، يوجد طهر، المؤمن كيسٌ فطنٌ حذر، فلا جهل، ولا حمق، يفتِّح الله له بصيرته، يعطيه إدراكاً عميقاً، والمؤمن يكشف المنافق الذي يتخذ شخصية ازدواجية والدليل:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ﴾

 معنى ذلك أنه انكشف، المؤمن يكشف، قال أحدهم لسيدنا علي: لمَ انصاع الناس لأبي بكر وعمر ولمْ ينصاعوا لك؟ فهو بهذا يريد أن يستهزئ به، قال له: " لأن أصحابهم أمثالي، وأصحابي أمثالك ". فهناك مواقف ذكيّة؛ مدح أحدهم سيدنا عمر، فقال له: " أنا دون ما تقول، وأعلى مما في نفسك ". فقصدي أن المؤمن لا يمرر عليه شيء حيث وهبه الله الكياسة، والمؤمن:

((كيسٌ فطنٌ حذر )).

[ورد في الأثر]

 ودليل كشفه قوله تعالى:

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾

 هذا الإنسان المنافق؛ ذو الوجهين، المتلوِّن، الذي يعجبك قوله في الحياة الدنيا..

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾

 

الإنسان إما أن يعتزّ بالله وإما أن يعتز بالإثم :

 هذا الإنسان..

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾

 ينتصر لباطنه، ولمعاصيه، ولانحرافه، ولما يفعله من موبقات، يفلسفها فلسفة.

 

﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾

 الإنسان إما أن يعتزّ بالله وإما أن يعتز بالإثم، كلٌ يعتز بما يعتقد، قال الشاعر:

اجـعل لربك كل  عـزك يستقرُّ و يثبتُ
فإذا اعتززت بمن  يموتُ فإن عزك ميِّتُ
* * *

 يمكن أن تعتز بقوي، لكن القوي سيفنى وسيهلك، ممكن أن تعتز بالمال، وبالنَسَب، وبالوسامة، وبشهادة عُليا تحملها، فينبغي لك أن تعتز بالله، صار عندنا عز بالله، وعز بغير الله، قد تعتز أنَّك حققت دخلاً فلكياً من عمل فيه معصية كبيرة، قد ربحت من حِرْفَةٍ لا ترضي الله، ربحت ملايين مُمَلْيَنَة من عملٍ فيه شقاء للناس، فأنت اعتززت بهذا الدخل، واعتززت بهذا القوي، فهذه عزةٌ ليست لله، سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت".
 قد تعتز إلى حين، إذ للباطل جولة ثم يضمحل، هذا أخذته العزة بالإثم، فالعبرة بالنهاية وبالخاتمة، العبرة بمن يضحك أخيراً، وينبغي أن تعتز بالله، أن تعتز أنك عبدٌ لله، وأنك مستقيمٌ على أمر الله.. فحسبه جهنّم: أيْ تكفيه جهنَّم، ولبئس المهاد.

﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾

 

ملخص سريع لما ورد في الدرس :

 أيها الأخوة.. مرةً ثانية بشكل مختصر: لحكمةٍ بالغةٍ، ولفضلٍ عميم، ورحمةٍ عظيمة، الله حجب الباطل عن الخلق، فأنت مستور، مهما فكَّرت، مهما أتتك خواطر لا تُرضي الله، الناس لا يعرفونها، نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ومن رحمة الله بنا أنه أعلمنا أنه يعرف بواطننا، معرفة باطننا رحمةٌ بنا، هذا أكبر ردع لنا، ردع وباعث إلى الطاعة، وتطهير الباطن، فأنه يعلم رحمة، وأنه أخفى عن الخلق الباطن رحمة أيضاً، رحمتان، إلا أنّه عندما يبطن الإنسان الشر ويتمادى فيتولّى الله كشفه، وعندما يرقى المؤمن عند الله يعطيه بصيرة، " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر من نور الله ".
 عندنا باطن محجوب، وظاهر مُعْلَن، فرحمة الله بنا أن هذا الباطن محجوب، ورحمة الله بنا أنه يعلم باطننا، والله بعد حين يفضح، والمؤمن الموفَّق يكشِف، هناك إذاً رادعان، الله يعلم وسيفضح، والمؤمن بفطنته وفِراسته يكشف، إذاً رحمةٌ من كل الأنواع تقريباً، والفساد محصور بالإنسان، لأنه مخيَّر أودعت فيه الشهوات، ولم يتبع منهج الله حينما يتحرَّك، والعزة ينبغي أن تعتز بالله لا أن تعتز بسواه، من اعتز بغير الله ذَل، فمن اعتز بماله ضَل، ومن اعتز بالقوي اضمحل، فينبغي أن تعتز بالله.

اجـعل لربك كل  عـزك يستقرُّ و يثبتُ
فإذا اعتززت بمن  يموتُ فإن عزك ميِّتُ
* * *

 وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور