وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0589 - الإيمان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإيمان أعظم قضية مصيرية :

 أيها الأخوة الكرام: يطيب للإنسان أن يرجع إلى أصول الدين من حين إلى آخر، كما يطيب له أحياناً أن يغوص في فروعه، موضوع هذه الخطبة متعلق بأصول الدين، فقضية الإيمان ليست أمراً على هامش الوجود يجوز للإنسان أن يغفله، أو أن يستخف به، أو أن يدعه في زوايا النسيان، قضية الإيمان تتعلق بوجود الإنسان، وسعادة الإنسان، ومصير الإنسان، قضية الإيمان أعظم قضية مصيرية، تحكم مصير الإنسان سعادة الأبد، شقوة الأبد، الجنة أبداً، أو النار أبداً. الناس في حياتهم الدنيا يفرزون وفق مقاييس اخترعوها من عند أنفسهم، هناك غني وفقير، هناك قوي وضعيف، هناك وسيم ودميم، هناك صحيح ومريض، هناك أبيض وأسود، أبيض وملون كما يقولون، هناك بلاد الشمال الغنية، وبلاد الجنوب، هناك شرق وغرب، هناك أعراف، هناك أجناس، هناك ملل، هناك نحل، هناك طوائف، هناك مذاهب، هذه التقسيمات اخترعها الناس من عند أنفسهم، إلا أن الفرز القرآني للبشر لا يزيد عن نوعين اثنين، إنسان عرف الله، اتصل به، انضبط بمنهجه، أحسن إلى خلقه، وإنسان أوقع نفسه في الجهل باختياره، أبقى نفسه جاهلة، انقطع عن الله، تفلت من منهجه، أساء إلى خلقه، الأول سعد في الدنيا والآخرة، والثاني شقي في الدنيا والآخرة.
 لا يزيد الناس عن رجلين، مؤمن وغير مؤمن، ولي لله وولي للشيطان، مستقيم ومنحرف، مخلص وخائن، أمين وخائن، صدوق وكذوب.
 أيها الأخوة الكرام: لابد من أن نعتمد فرز القرآن للإنسان، قال تعالى:

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة القصص: 50]

 خطان لا ثالث لهما، إن لم تكن على الأول فأنت على الثاني حتماً.

 

ضرورة الدين للفرد و المجتمع :

 الدين ضرورة للفرد ليطمئن ويسعد، ولتزكو نفسه، وضرورة للمجتمع ليستقر ويتماسك، ويرتفع ويرقى، والفرد من غير دين ولا إيمان ريشة في مهب الرياح لا تستقر على حال، ولا تُعرف لها وجهة، ولا تسكن إلى قرار مكين، الفرد من غير دين ليس له قيمة ولا جذور، إنسان قلق، متبرم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سرَّ وجوده، ولا يدري من ألبسه ثوب الحياة، ولماذا ألبسه إياه ؟.. ولماذا يُنزع منه في نهاية المطاف ؟ لا يدري لماذا خُلق.. ولا يدري أين المصير.. الإنسان من دون إيمان، ومن دون دين، حيوان شره، أو سبع فاتك، لا تستطيع الثقافات مهما علت، ولا القوانين مهما دقت ، أن تحد من شره. الثقافات مهما علت، والقوانين مهما دقت، لا تستطيع أن تقلم له أظافره، المجتمع من غير دين ولا إيمان، مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، الحياة الناعمة للأشد الأقوى، لا للأفضل الأتقى ، مجتمع تافه رخيص ؛ لأن غايات أهله لا تتجاوز البطون والفروج ، هم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم.. كلمة الإيمان يشدها كل إنسان إلى جانبه، كلمة ذات مفهوم واسع جداً، موضوع الخطب اليوم تحديد مفهوم الإيمان، لئلا يتوهم متوهم أنه مؤمن، وهو ليس كذلك..

الإيمان بمعناه الصحيح :

 الإيمان الذي نعنيه أولاً ليس أن يعلن الإنسان بلسانه أنه مؤمن فما أكثر المنافقين الذين قالوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، قال تعالى:

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾

[سورة النساء: 142-145]

 لا يكفي أن تقول: أنا مؤمن، كما أنه لا يكفي أن تقول: أنا طبيب وأنت لا تقرأ ولا تكتب، الإيمان ليس الذي يعلم صاحبه أنه مؤمن، وليس الإيمان مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتاد على أن يقوم بها المؤمنون، فما أكثر الدجالين الذين يتظاهرون بالصالحات من الأعمال، بأعمال الخير وشعائر التعبد، وقلوبهم خراب من الخير والصلاح والإخلاص لله، كما أن الإيمان ليس أن تقول بلسانك إنك مؤمن، كذلك الإيمان ليس أن تمارس بعض الشعائر، أن تأتي إلى المسجد كي تصلي، هذا لابد منه، ولكن ليس هذا وحده كافياً ليكون الإيمان في قلبك مكيناً، قال تعالى:

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾

[سورة النساء: 142-145]

 ثالثاً: ليس الإيمان معرفةً ذهنية بحقائق الإيمان، ثقافية إسلامية، يقرأ كثيراً، يحلل، يتأمل، يقرأ، يطالع، يثقف نفسه، ليس الإيمان مجرد معرفة دينية بحقائق الإيمان، وكم من قوم عرفوا حقائق الإيمان ولم يؤمنوا، وإليكم الدليل، قال تعالى:

﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾

[سورة النمل: 14]

 آية ثانية:

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة: 146]

 وصف الله اليهود بأنهم يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك أنكروا رسالته. الإيمان أيها الأخوة ليس مجرد عمل إنساني، قال عليه الصلاة والسلام:

(( من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل: وما حقها ؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله ))

[رواه الطبراني عن زيد بن أرقم]

 ليس مجرد عمل لساني، وليس مجرد عمل بدني، كإقامة الشعائر، وليس مجرد عمل ذهني كالاطلاع على الثقافة الإسلامية، إنه عمل نفسي، يبلغ أغوار النفس، يتغلغل في جزئياتها، يهز كيانها، يجعله إنساناً آخر. الإيمان يغلغل في أعماق النفس، ويحيط بجوانبها كلها، إدراكاً، وإرادة، ووجداً.
أيها الأخوة الكرام: هذا هو النفي، نفيت ثلاثة أشياء، نفيت أن يكون الإيمان عملاً لسانياً، ونفيت أن يكون الإيمان عملاً بدنياً، ونفيت أن يكون الإيمان عملاً ذهنياً، ما الإيجابيات من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه؟ ما العلم؟ التطور الموافق للواقع، لابد من إدراك ذهني فكري، تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه في الواقع، وهذا الانكشاف الكامل المطلق لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم، قال تعالى:

﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 73 ]

 الإله العظيم أوحى إلى أنبيائه الكرام، الوحي معصوم، قال تعال:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[سورة النجم: 3-4]

 كيف أن العين مهما كانت حادة البصر دقيقة إدراك الجزئيات لا قيمة لها من دون ضياء يتوسط بينها وبين الأشياء، كذلك العقل مهما كان متفوقاً لا يمكن أن يصل إلى الحقائق الصحيحة إلا بنور الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه الكرام.

 

الإيمان ما وقر في القلب وصدقه اللسان وأقرّه العمل :

 الإيمان أيها الأخوة هو إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه، هذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم، ولابد لهذا الإدراك أن يصل إلى حدّ الجزم الموقن واليقين الجازم، الذي لا يعتوره شك ولا شبه، والدليل:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾

[سورة الحجرات: 15]

 لا يسمى إيماناً هذا الذي يخالطه الشك، لا يُسمى إيماناً هذا الذي يخالطه التردد.
زعم المنجم والطبيب كلاهمــا لا تُبعث الأموات قلت إليكمـــــــا
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
***

 هذا التردد، وهذا الشك، وذاك الارتياب ليس من الإيمان في شيء.
 ولابد أيها الأخوة ثالثاً من أن يصحب هذه المعرفة الجازمة إذعان قلبي، وانقياد إرادي، يتمثل بالخضوع والطاعة، بحكم من آمن به مع الرضى والتسليم قال تعالى:

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾

[سورة النساء: 65]

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

[سورة النور: 51]

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً ﴾

[ سورة الأحزاب: 36]

 رابعاً: لابد من أن يتبع تلك المعرفة الجازمة، والإذعان القلبي، والإنقياد الإرادي حرارة وجدانية، تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة، والالتزام بمبادئها الخُلقية والسلوكية، وإنفاق الغالي والرخيص، والنفس والنفيس في سبيل الله عز وجل، يقول الله عز وجل:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾

[سورة الأنفال: 1-4]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون 1-11]

 الإيمان تصديق وإقبال، والكفر تكذيب وإعراض، الإيمان تصديق القلب بالله ورسوله، الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن، الثابت، المستقيم، الذي لا يتزعزع، ولا يضطرب، لا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، الذي ينبثق منه بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس. والقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان، واطمئن إليه، وثبت عليه لابد و أن يندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب، أكثر الجهلاء يقولون: إيماننا بقلوبنا والعمل مخالف للإيمان !.. هذه فرية، هذا سخف مضحك، إذا استقر الإيمان في القلب، إذا استيقن القلب به، إذا ثبت عليه، لابد من أن ينتقل إلى خارج القلب، الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه اللسان، وأقره العمل، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي..))

[الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال كبير]

 قد نلبس زياً إسلامياً، قد نردد كلمات إسلامية في حياتنا، قد نقول لإنسان: صلّ على النبي، اذكر الله، هذه الكلمات، وتلك اللوحات، وهذا الزي، لا يعني أن صاحبه مؤمن، لابد من أن تنقاد إلى أمر الله.

 

المؤمن إيمانه صارخ من خلال معاملته :

 الحقيقة إذا استقرت في قلب المؤمن لابد من أن تعبر عن ذاتها خارج القلب، لابد من أن ترى موقفاً من المؤمن، لابد من أن ترى له عطاءً، لابد من أن ترى له منعاً فيما لا يرضي الله، لابد من أن ترى له موقفاً، لابد من أن يقيم الإسلام في بيته، لابد من أن ترى إيمانه صارخاً، لابد من أن تراه متميزاً، إنساناً آخر، إنساناً عبر عن فطرته السليمة، وصبغته الصبغة الإلهية، إنساناً تحسُّ إيمانه لا في صلاته وصيامه فحسب، بل في معاملته، في لسانه المنضبط، في أعضائه المنضبطة، ترى الإسلام في بيته واضحاً، تراه في سلوك أهله واضحاً، تراه في خروج بناته ونسائه واضحاً، تراه في تعامله بالدرهم والدينار واضحاً، تراه في مجاورته واضحاً، تراه في سفره واضحاً، هذا هو الإيمان، ما إن تستقر حقيقة الإيمان في القلب إلا وتعبر عن ذاتها بحركة خارج القلب، لابد من أن ترى المؤمن ذا إيمان صارخ من خلال معاملته.
 أيها الأخوة الكرام: لعل أكبر قطر إسلامي يُعد أكثر من مئتين وخمسين مليوناً هذا القطر الإسلامي في جنوب شرقي آسيا ما وصله سيف ولا حصان ولكن وصله تجار مسلمون، عاملوهم معاملةً حملتهم على أن يسلموا، إن أطيب الكسب كسب التجار ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا أن لهم لم يعسروا .
 هؤلاء الذين يدعون إلى الله بمعاملتهم لا بلسانهم، الناس لا يصدقون بآذانهم يتعلمون بعيونهم، نحن نفتقر لا إلى علم، ولا إلى كتاب، ولا إلى شريط، ولا إلى مسجد مبني وفق أحدث الأنظمة، نحن مفتقرون إلى مسلم ترى الإسلام في بيته، وفي عمله، وفي حركته، وفي نظراته، وفي أعضائه، وفي جوارحه، وفي بيعه، وفي شرائه، وفي تعامله، هذا الذي يبعث على أن يتمسك الناس بالدين، متى دخل الناس في دين الله أفواجاً ؟ حينما رأى الناس من أصحاب رسول الله تطابقاً تاماً بين القول والعمل.. ومتى خرج الناس من دين الله أفواجاً ؟ حينما صار الإسلام شعاراً يُرفع، أو عادة تُفعل، أو ثقافة تنشر، أو عادات وتقاليد نمارسها، أو تراثاً نعتز به، الإسلام شيء غير هذا كله. الخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعة المؤمن أن يعيش حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني وواقعه العملي. لا يطيق المؤمن أبداً أن يكون واقعه في واد، وحياته النفسية في واد، جهاد المؤمن هو في التطابق بين ما يؤمن به وما يشعر وبين ما يتحرك.

الإيمان معرفة يقينية أساسها وحي سماوي :

 أيها الأخوة الكرام: أردت من هذا الموضوع المتعلق بأصول الدين ألا يظن الإنسان وألا يتوهم أنه مؤمن مع أنه مقصر جداً في خصائص الإيمان.
 ملخص هذا الموضوع: ليس الإيمان قولاً تقوله، ولا عملاً تفعله، ولا إدراكاً تدركه، ولكن الإيمان معرفة يقينية، أساسها وحي سماوي، واندفاع إلى طاعة الله، واهتزاز في وجدان الإنسان. الإيمان ليس عملاً قولياً، ولا عملاً بدنياً، ولا عملا ذهنياً، ولكنه يتغلغل في كيان الإنسان.
 مادام القلب يخفق، وما دام في العمر فسحة، فباب الإيمان واسع جداً وقصير جداً لمن أراده، أما الذي أعرض عن الإيمان فطريقه متشعب ووعر وبعيد، هو قريب وبعيد، واسع وضيق.. واسع لمن أراده، قصير لمن سلكه، وطويل لمن لم يسلكه، وضيق لمن لم يدخله.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحياة بلا إيمان ضياع و دمار :

 أيها الأخوة الكرام: تأكيداً لهذه الحقائق سمعت أن مهندساً من عمالقة المهندسين في العالم، صمم وأشرف على إنشاء جسر يربط بين قارتين اثنتين، فوق مضيق من أضخم المضائق في العالم، ومن أشدها حساسية، يمكن أن يمر تحت هذا الجسر أضخم سفينة عملاقة، وهذا الجسر لا يستند إلى أية دعامة في البحر، إنه مُعلق على حبال فولاذية، يعبره في اليوم أكثر من خمسمئة سيارة ذهاباً وإياباً، بعد أن انتهى هذا المهندس العملاق من إنشاء هذا الجسر ألقى بنفسه في البحر منتحراً، وترك رسالة، قال فيها: ذقت ألوان الحياة، ذقت المتع كلها، ما من متعة إلا مارستها، لم أجد للحياة طعماً، لا تتهموا أحداً بموتي، أردت أن أذوق طعم الموت.. أرأيتم الحياة بلا إيمان؟؟ الحياة بلا إيمان هي ضياع، يتحرك بلا هدف، يتحرك بلا قيم، يتحرك بلا وازع، يعيش ولا يدري لماذا هو يعيش ؟..
 أي يكاد هذا الجسر يُعد من أعظم الجسور في العالم، أنشأه وصممه، وأشرف على تنفيذه، فلما انتهى ألقى بنفسه من على هذا الجسر فنزل ميتاً، ذاق طعم الحياة فلم يجد لها طعماً، والحقيقة أيها الأخوة أن الحياة من دون إيمان لا تُعاش، الحياة من دون مبدأ لا تعاش، الحياة من دون قيم لا تُعاش، الحياة من دون معرفة بالله لا تُعاش، الحياة من دون منهج تسير عليه لا تُعاش، الحياة من دون قرب من الله لا تعاش، قال تعالى:

﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾

[سورة الفرقان: 44]

﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾

[سورة فاطر: 22]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾

[سورة الأنفال: 24]

 الإيمان أخطر ما في حياتنا، ليس قضية هامشية يمكن أن نأخذها أو لا نأخذ بها، ليس قضية يمكن أن ننساها، ليس قضية يمكن أن نتجاهلها، الإيمان قضية مصيرية، الإيمان يعني سعادة الدنيا أو شقاءها، الإيمان يعني جنةً إلى أبد الآبدين، أو نار إلى أبد الآبدين.
 الإيمان يعني أن تحقق ذاتك، أنت المخلوق الأول، قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[سورة الذاريات: 56]

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[سورة الإسراء: 70]

الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله إيمان إبليسي :

 أيها الأخوة الكرام: يجب أن نسعى إلى الإيمان الذي أراده الله، أقول لكم هذا المقياس وأنا أعني ما أقول: لا تتوهم أنك مؤمن وأنت مقيم على معصية، الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله إيمان لا يكفي، هذا إيمان إبليس، قال:

﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾

[سورة ص: 78-83]

 أليس هذا مؤمناً ؟ !.. الإيمان الذي لا يحملك على طاعته، لا يحملك على ضبط جوارحك، لا يحملك على تحرير دخلك، لا يحملك على تربية أولادك وأهلك، ليس هذا هو الإيمان، ليس هذا هو الإيمان الذي تحلى به الصحابة الكرام، كانوا بضعة آلاف أو يزيدون، وصلوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، ويعد المسلمون اليوم ملياراً ومئتي مليون، ليس كما نريد، ولا كما نتمنى، ولا كما ينبغي، قال تعال:

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾

[ سورة مريم: 59]

 وكل واحد منكم مسؤول مسؤولية ذاتية عن نفسه، ثم عن أهله قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾

[سورة التحريم: 6]

 أيها الأخوة الكرام: هذا الكلام كلام خطير:

﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾

[سورة النجم: 59-62]

 ليست خطبة الجمعة نستمع إليها، والله الخطيب لطيف، كلامة دقيق، منطقي، ليس هذا هو الموضوع، الموضوع أخطر من هذا بكثير، أين أنت من الخطبة ؟.. ماذا طبقت منها؟.. ماذا وعيت منها ؟ ماذا نقلت منها ؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ))

[ البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

 القضية أخطر بكثير من أن تكون أداءً شكلياً لعبادات، أو تزين بزي إسلامي، القضية أكبر من أن نفتخر بالإسلام، ينبغي أن نكون مسلمين..

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك، ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء.
 اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
 اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور