وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0612 - الإيمان والعمل.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإيمان أعظم دافع للعمل و الإنتاج :

 أيها الأخوة الكرام: موضوع الخطبة اليوم الإيمان والعمل، لأن هناك أوهاماً، أشاعها الجهَّال، أو أعداء الدين، من أن الإيمان بالله وباليوم الآخر يؤخر نوعية العمل، وحجم العمل، حينما يميت في النفس حب الحياة، وبما يلقيه في نفوس الناس من أن الإنسان مسيَّر لا مخيَّر، وأن الحياة الدنيا لا تستحق العمل والاهتمام، هذه الأوهام أشاعها الجهَّال بالدين، أو أشاعها أعداء الدين، والحقيقة عكس ذلك.. الإيمان أيها الأخوة أعظم دافع للعمل والإنتاج، لو تأمل الناس وأنصفوا لوجدوا أن العمل لا يرقى ويزداد إلا بما يبذل الناس من جهد وعمل، وما يصحب هذا العمل من إحكام وإتقان، ولا يتحقَّق ذلك إلا في جوٍّ من الأمانة والإخلاص..
 جهد وعمل، إحكام وإتقان، أمانة وإخلاص، هذا كله لا يكون إلا بباعث قوي، وحافز غلاَّب، وهل هناك من باعث أقوى، ومن حافز أشدّ من الإيمان بالله، لذلك الإيمان بالله أقوى حافز، وأشدّ باعث على العمل، وإتقانه، والإخلاص في عمله.
 إن الإيمان الصادق ليس مجردَ إدراك ذهني، أو تصديق قلبي، غير متبوع بأثر عملي في الحياة، إن الإيمان الحقيقي اعتقاد، وعمل، وإخلاص، أي ما إن تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن حتى تُعبر هذه الحقيقة عن ذاتها بعمل، إياكم أن تتصوروا أن هناك إيماناً بلا عمل، الحقيقة الإيمانية يجسدها العمل، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:

(( ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكنْ ما وقر في القلب وصدقه العمل ))

[ من الدر المنثور عن الحسن ]

 هذا كلام سيد المرسلين..

 

علاقة العمل بالإيمان :

 أيها الأخوة الكرام: مهما اختلف العلماء في علاقة العمل بالإيمان، أهو جزء من الإيمان أم شرط له، أم ثمرة من ثمراته، إن العلماء متفقون جميعاً على أن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان الكامل.. تعالوا بنا إلى كتاب الله، ربنا سبحانه وتعالى ذكر الإيمان مقروناً بالعمل الصالح، في قريب من مئة آية:

﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾

[ سورة البقرة : 25]

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 82]

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

[ سورة البقرة :277]

 وكلمة عملوا الصالحات عدَّها المفسرون كلمةً جامعةً من جوامع القرآن الكريم، إذ أنها تشمل ما يصلح به الدين، وما تصلح به الدنيا، وما يصلح به الفرد، وما يصلح به المجتمع، وما تصلح به المادة، وما تصلح به الروح..

﴿َالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

 وصف الله الأعمال بأنها صالحة، بمعنى أنها تشمل الدين والدنيا، والفرد والمجتمع، تشمل المادة والروح.. المؤمن الحق يندفع إلى العمل بحافز من نفسه، وباعث من ذاته، وبإيحاء ينبعث من داخله، ولا يُساق إلى العمل سوق القطعان، ولا يدفعه إليه قهر قوي، ولا ضغط خارجي، هذا الباعث الذاتي هو الإيمان بالله، وبرسالة السماء، وبمهمة الإنسان في إعمار الأرض..
 المؤمن يعمل..

 

الجنَّة في الآخرة هي جزاء لأهل الجدِّ والعمل والإتقان :

 إن المؤمن يعتقد أن السعادة في الآخرة والنجاح في الدنيا موقوفان على العمل، الجنَّة في الآخرة ليست جزاءً لأهل البطالة، والكسل، والفراغ، بل هي لأهل الجدِّ والعمل والإتقان، وهذا شاهد من كتاب الله دققوا في هذه الآية:

﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة الزخرف: 72]

 لقد وقف البيان الإلهي الموقف نفسه من المسلمين أنفسهم، الذين يتبعون أنفسهم هواها، ويتمنون على الله الأماني، ويظنون أن النُّطق بكلمة الإسلام، أو التسمي بأسماء المسلمين، يكفي لتفتح له أبواب الجنان، فيبين لهم القرآن الكريم أن قانون الجزاء عام لعباده قاطبة، لا محاباة عنده، ولا فرق بين طائفة وأخرى، يدعي كل أتباع دين أن الجنة لهم، فنزلت آية محكمة، فاصلة قاضية، عادلة تخاطب المسلمين في صراحة ووضوح، قال تعالى:

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾

[سورة النساء: 123]

 يخاطب النبي ابنته العزيز فاطمة يقول لها:

((.. يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا ))

[متفق عليه عن أَبِي هُرَيْرَةَ ]

((لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم..))

[ أحمد عن أبي هريرة]

(( من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه.. ))

[ أحمد عن أبي هريرة]

 هذا القانون، هذه الحقيقة الراسخة، تنطبق على الآخرة، كما أنها تنطبق على الدنيا، ربُّ الدنيا هو ربُّ الآخرة، قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾

[سورة الكهف : 30]

 من كان عمله حسناً، هذا الإطلاق على إطلاقه، إنا لا نضيع أجره..

﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾

[سورة الزمر: 74]

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾

[ سورة الزلزلة : 7-8]

 سنة الله أيها الأخوة لا تتبدل، ولا تتحول، ولا تسمح لفارغ، أو قاعد، أو متبطل، أو كسول، أن يظفر بما يريد، أو أن يحقق ما يأمل، بل إن سنن الله تعالى في الدنيا والآخرة لا تفرق في الجزاء عن العمل بين إنسان وإنسان، فمن عمل أجر، ومن قعد حُرم، ولو طبق إنسان ملحد منهج الله عز وجل لقطف ثماره في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق.. منهج تفصيلي، منهج انطباق نتائجه على مقدماته حتمي.

 

إتقان العمل :

 أيها الأخوة الكرام: دعونا ننتقل إلى موضوع آخر، هو إتقان العمل..
 المؤمن الحق لا يكتفي بالاندفاع إلى العمل، بل يهمه أن يجوده، ويتقنه، ويبذل جهده لإحسانه، وإحكامه، لشعوره العميق واعتقاده الجازم أن الله يراقبه في عمله، ويراه في مصنعه، أو في مزرعته، أو في أي حال من أحواله.
 أحد الصحابة توفي، فحضر النبي دفنه، الذي حفر القبر ترك فُرجة فقال عليه الصلاة والسلام:

(( إن هذه لا تؤذي الميت، ولكنها تؤذي الحي، إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ))

[الجامع الصغير عن عائشة]

 فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في العبادة أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، المؤمن الحق يطبق هذا على أعماله كلها، هناك خلقان أصيلان، يتوقف عليهما جودة العمل؛ هما الأمانة والإخلاص. العمل الذكي يلتقي في نتائجه مع العمل الإيماني، لكنهما يختلفان عن بعضهما في البواعث.
 سيدنا عمر أرسل والياً، وقال له: خذ عهدك، وانصرف إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك، إن وجدناك أميناً ضعيفاً، استبدلناك لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، وإن وجدناك خائناً قوياً، استهنا بقوتك، وأحسنَّا أدبك، وأوجعنا ظهرك، وإن جمعت الجرمين، جعلنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أميناً قوياً، زدناك في عملك، ورفعنا لك ذكرك، وأوطأنا لك عقبك. من أين استنبط هذا الخليفة العملاق هذه الحقيقة ؟.. من قوله تعالى:

﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾

[سورة القصص: 26]

 الكفاءة والإخلاص، القوة والأمانة، شرطان أساسيان لنجاح العمل، هذان الخلقان هما في المؤمن على أكمل صورة، وأروع مثال، قال تعالى:

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة التوبة: 105]

 كثيراً ما نقرأ أو نشاهد عن أجهزة وضعت لنفع العالم، توقفت على جدتها، وخُرِّبت على متانتها، كثيراً ما نقرأ أو نسمع عن مصالح تعطلت، ومشروعات نافعة فشلت، وجهود مخلصة تبعثرت، وأموال طائلة ضاعت، بسبب فقد الأمانة والإخلاص.. لا تستقيم الحياة إلا بالأمانة والإخلاص.
 حينما بُعث النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه سيدنا جعفر لملك الحبشة:" كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه".
 من منا يصدق - وهذا قلته كثيراً - إن عملك الذي تعمله، إن حرفتك التي تحترفها، إن مهنتك التي تمتهنها، تجارة، أو صناعة، أو زراعة، أو وظيفة، أو خدمات، إن هذا العمل وحده إذا كان في الأصل مشروعاً، وسلكت في حركتك فيه الطرق المشروعة، وأردت منه كفاية نفسك، وأهلك، وخدمة المسلمين، ولم يشغلك عن فريضة، ولا عن عمل صالح، هذا العمل الحرفي، المهني، الذي ترتزق منه، إتقانه وأداؤه على وجه صالح هو قربة من الله عز وجل، وهو عمل صالح يستحق صاحبه دخول الجنة.

 

عوامل نجاح المؤمن في أعماله :

 

 من عوامل نجاح الأعمال عند المؤمنين أن المؤمن الذي يتمتع بسكينة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، يتمتع ببسمة الأمل، ونعمة الرِّضا والأمن، وروح الحبّ والصَّفاء، هذا الإنسان بسكينة نفسه، وطمأنينة قلبه، وانشراح صدره، والأمل الذي يعمر قلبه، والرِّضا الذي يغمر فؤاده، والأمن الذي يتمتع به، والحبّ والصَّفاء اللذان يشعَّان منه، هذا الإنسان أقدر على العمل، وعلى إتقانه من أي إنسان آخر، ولا سيما إذا كان شارداً عن منهج الله، مضطرباً، قلقاً، يائساً، حاقداً، وهذا قلّما يحسن عملاً يوكل إليه، أو ينتج إنتاجاً يقنع أو يرضي.
 عامل آخر من عوامل نجاح المؤمن في أعماله، المؤمن الصادق الإيمان يقف عند حدود الله، وينتهي عمَّا نهاه الله، وينأى بنفسه عن ارتكاب الموبقات، والانغماس في أوحال المحرمات، وإرسال العنان إلى الشهوات، إن إيمانه يأبى عليه أن يفرِّغ طاقاته في سهر عابث، أو لهو حرام، إيمانه يأبى عليه أن يجري وراء كوب خمر، أو مائدة قمار، أو سهرة حمراء، لذلك يظل المؤمن محتفظاً بحيويته، وطاقته الجسدية، والعصبية، والعقلية، والنفسية، فلا يصرفها إلا في العمل الصالح، وهذا كسب كبير للفرد نفسه، ولأسرته، ولأولاده، وللمجتمع الذي يعيش فيه، وللحياة الإنسانية عامة. لو أحصينا بعض ما تستهلكه الشَّهوات المحرَّمة، والموبقات المحظورة، والملاهي الآثمة، التي يجتنبها المؤمنون الصَّادقون، لو أحصينا ما تستهلك هذه البؤر الفاسدة، والأماكن الساقطة، من الطاقات الإنسانية، والمادية، لبلغت حدّاً هائلاً، يفوق ما تبتلعه الحروب المدمِّرة، والأوبئة الفتاكة، والكوارث المخرِّبة.. اثنان وسبعون مليون إنسان في أمريكا مدمنون على الخمر.. عشرون مليون من هؤلاء يكلفون الدولة بليوني دولار ضياعاً لأعمالهم، وإنفاقاً على علاجهم.. لو أن المجتمع كان نظيفاً، وكان مستقيماً، لوفرت هذه الطاقات، وهذه الأموال، وهذه الجهود لبناء أصرحته، وإنعاش أبنائه.
 شيء آخر يعين على إتقان العمل وتجويده، هو أن المؤمن يحسُّ بقيمة الوقت، إن الله سائل الإنسان يوم القيامة، يوم الجزاء؛ عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ لذلك المؤمن الحق يضن بوقته من أن يضيع في عبث، أو أن يُبعثر سدى، إن الوقت رأس مالك الوحيد، إن الوقت نعمة كبرى، يجب أن تُشكر بالانتفاع بها، وينبغي ألا تُكفر بالتفريط فيها. الزمن لهذا الإنسان الضعيف الذي هو في حقيقته زمن، قال تعالى:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 لذلك المؤمن الحق لا يؤخر عمل اليوم إلى الغد، لأن للغد عملاً لا يتسع لغيره، المؤمن الحق حريص على أن يكون يومه خيراً من أمسه، وأن يكون غده خيراً من يومه، وأن يطيل حياته بالعمل الصالح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))

[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْر]

 المؤمن الحق حريص - وهذا أدق ما في الخطبة- على أن يخلف من عنده علماً نافعاً، أو عملاً طيِّباً، أو مشروعاً مثمراً، أو صدقةً جارية، أو ذرية صالحة، أبو الدرداء صحابي جليل، رأوه وهو في أواخر حياته يغرس جوزةً، وهو في الشوط الأخير من حياته، فتعجبوا فقال: ومالي لا أغرسها ولي ثوابها، ولغيري ثمرها.. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسْلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا ))

[ أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

شروط العمل :

 الإيمان يعني العمل، واليد العليا خير من اليد السفلى، والعمل عبادة بشروطه الدقيقة، أن يكون مشروعاً، وأن تمارسه بالأساليب المشروعة، وأن تبتغي به كفاية نفسك وأهلك، وأن تنفع به المسلمين، وألا يشغلك عن طلب علم، ولا عن أداء واجب.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشّفاء الذّاتي :

 أيها الأخوة الكرام: كتاب علمي عنوانه: "الشفاء الذاتي" ألَّفه عالم كبير وطبيب ماهر، وقد ترجم إلى اللغة العربية، ثم نشر ملخصه في مجلة شهرية، وها أنذا أقتطف لكم بعض الفقرات من ملخص الكتاب المترجم، وفي هذه الفقرات من الحقائق ما يدهش.
 يقول مؤلف الكتاب: إن الترسانة الطبية دواءً وتقنيةً لا تمكِّن الأطباء من علاج أكثر من ربع الأمراض، وبقية الأمراض إما أن تشفى بنفسها أو لا علاج لها.
 الحقيقة الثانية: لا يوجد طبيب لم ير أو يسمع عن حالات شفاء مرض عضال دون سببٍ طبي واضح، إن الشفاء الغامض لكثير من الأمراض المستعصية كان يحدث دوماً منذ أن وجد الطب، لكن الطب لم يتوقفْ عندها، لأن بعضهم يرجعها لأسباب غير علمية، أو ترجع إلى رحمة الله بعباده، قال تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴾

[سورة الشعراء: 78-85]

 الكتاب محوره الشفاء الذاتي. ويقول: هناك جهاز خاص للشفاء الذاتي لم تأتِ على ذكره فهارس كتب الطب أو قواميسه، وهناك حالات مرضية مستعصية شفيت بكل غامض، ودون سبب واضح، من هذه الأجهزة التي أوكل إليها الشفاء الذاتي جهاز المناعة، يقول مؤلف الكتاب: هو من الأجهزة الرائعة التي أبدعها الخالق، ليس لها مكان تشريحي ثابت، جهاز جوال وهو مبرمج ليتعرف على أية خلية غير خلايا الجسد غريبة عنه ليقوم بتدميرها، وأهم ما في هذا الجهاز ذاكرته العجيبة، فهو لا ينسى أبداً أي سلاح واجه به عدواً من أمد طويل، ولولا هذه الذاكرة العجيبة لجهاز المناعة المكتسب ليس هناك فائدة إطلاقاً من التلقيح ضدَّ الأمراض، هذه الخلايا خلايا جهاز المناعة تصنع في نقي العظام، وتعد إعداداً خاصاً وقوياً في الغدة الصعترية تحت عظمة الصدر، وكأن هذه الغدة معهد إعداد المصارعين، هذه الخلايا هي خط الدفاع الأول في الجسم، كما تقوم هذه الخلايا بحماية الجسم من مرض السرطان، ولعل هذا من أبرز خصائصها، وإن من هذه الخلايا ما هو خلايا مستطلعة، تتعرف إلى الجرثوم أو إلى الخلية الغريبة، تأخذ شِفرتها وتذهب بهذه الشفرة إلى الخلايا المصنعة، كي تصنع سلاحاً مدمراً لها، وبعض هذه الخلايا تصنع الدواء المضاد أو المصل المضاد، وبعض هذه الخلايا خلايا مقاتلة تحمل هذا السلاح، وتذهب إلى أرض المعركة لتقضي على هذا الجرثوم، وبعض هذه الخلايا خلايا ملتهمة، هذه الخلايا يهاجمها فيروس الإيدز يدمِّرها، لذلك أخطر مرض يصيب البشرية اليوم هذا المرض، الذي يسبب تدمير جهاز المناعة المكتسب الذي يحقق الشفاء الذاتي.
 من أطرف وظائف هذه الخلايا- وهذه بشارة لمن يمتنع عن التدخين - من وظائف هذه الخلايا للذي يمتنع عن التدخين أن بعضها يذهب إلى الرئتين ويلتهم بعض ما علق بالشعب الهوائية من آثاره، وما علق بهما من شوائب التدخين.
 والجديد في هذا الجهاز أن هناك خلايا من مكونات جهاز المناعة المكتسب اكتشفت في أواخر السبعينات قاتلة بالفطرة، بمعنى أنها تستطيع التعرف على الخلايا الشاذة قبل أن يبدأ شذوذها أو تلك التي تسبب ورماً.
 إلا أن أخطر ما في الموضوع هذه الجملة، قال مؤلف الكتاب: ثبت أن وراء جهاز المناعة قوةً خارج الجسم لا علاقة لها بالمناعة تشكله، وتطوره، وتأمره، القوة المسيطرة عليه لا من داخل الجسم بل من خارج الجسم، ولا يعلم مؤلف الكتاب من هي هذه القوة، إنها الله.
 والحقيقة العلمية أن الاكتئاب والحزن والتوتر والشدة النفسية تضعف من قوة هذا الجهاز، وأن الأمل والحب والهدوء تقوي إمكانات هذا الجهاز، لذلك الشرك بالله يضعف هذا الجهاز، قال تعالى:

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

[سورة الشعراء: 213]

 أما المؤمن:

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة هود: 123]

 لو أن الناس اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو أنهم اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك. التوحيد صحة، لأن الرضا والطمأنينة والأمن والثقة بالله والتفاؤل بالمستقبل هذا يقوي جهاز المناعة، وجهاز المناعة هو الذي أوكل الله إليه الشفاء الذاتي، بينما القلق والخوف والحقد هذا يضعف جهاز المناعة، وهذا الجهاز هو عصب صحة الإنسان.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء.
 اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
 اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور