وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0616 - ان الله يحب التوابين ......التوبة 2 - يد الإنسان وعظمة خلقها .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أنواع التوبة :

 أيها الأخوة الكرام: بدأت موضوعاً متسلسلاً وهو أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه الكريم أن الله يحب المؤمنين، ومحبة الله للمؤمنين لها أسباب في القرآن الكريم، إن الله تعالى يحب المحسنين، فإذا كنت محسناً فقد قدمت ما يوجب محبة الله لك، وإن الله يحب التوابين، فإذا كنت كثير التوبة إلى الله فقد قدمت سبباً لمحبة الله لك.
 وتحدثت في الخطبة الماضية عن التوبة، وها أنذا أتابع هذا الموضوع لأنني وعدتكم أن للموضوع بقية.
 للتوبة أنواع كثيرة، من هذه الأنواع أن يتوب المرء عن المعاصي والتقصيرات التي بينه وبين الله، هذا ذنب بينك وبين الله، ما كان بينك وبين الله يغفر، وما كان بينك وبين العباد لا يُترك إلا بالأداء أو المسامحة، أما ذنب الشرك فلا يُغفر ما لم تتب منه. فالتوبة عن المعاصي التي بينك وبين الله قوامها الندم، والاستغفار، والضراعة، والإكثار من الطاعات والقربات، وهي أهون أنواع التوبات.
 وأما التوبة عن المعاصي التي بينك وبين الخلق كالاعتداء على النفس، والاعتداء على الأموال بالغصب والخيانة، والتلبيس في المعاملات، والاحتيال، والاستغلال، وما شاكل ذلك، فهذا لا تقع التوبة منه إلا بالأداء أو المسامحة. فهذه الأموال تُرد إلى صاحب المال الذي اغتصب منه، أو تُرد إلى ورثته، وحينما لا تعلم صاحب المال، ولا تعلم ورثته ينبغي أن تتصدق به، لا تصح توبة من مال مغصوب إثماً إلا بردّ الأموال إلى أصحابها، أو إلى ورثتهم، أو التصدق بها في حال لا يعلم التائب من صاحب هذا المال.
 وأما العدوان على الأعراض والعدوان على القلوب بالغيبة والنميمة فهذا لابد من الاستحلال والاعتذار والمسامحة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((أتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُقْضَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

الذنوب التي ينبغي أن يتوب منها المؤمنون الملتزمون :

1 ـ الخلل في الطاعات :

 أيها الأخوة الكرام: لكن الشيء الذي أقف عنده طويلاً هو ظني الحسن بأن الأخوة الكرام رواد المساجد المؤمنين الصادقين هؤلاء لا يأكلون مالاً حراماً، ولا يعتدون على الناس بلسانهم بالغيبة والنميمة، إنما هناك مجموعة من الذنوب يقع بها المؤمنون الذين يتوهمون أنهم صادقون. لا يتوهمن المرء أن التوبة مقصورة على المخطئين العصاة، بل إن أهل الطاعات محتاجون إلى التوبة، ومن ظن أنه ليس عنده ما يتوب منه، أو ظن أنه مستغن عن التوبة، فقد زلَّ وضلَّ.
 الحديث الآن عن أهل الطاعات، عن رواد المساجد، عن الملتزمين، عن المؤمنين، هؤلاء الذين يظنون أنهم ليس عندهم ما يتوبون منه، والحقيقة عكس ذلك.
 من هذه الذنوب التي ينبغي أن يتوب منها المؤمنون الملتزمون طالبو العلم، الخلل الذي يقع في الطاعات نفسها، فإن المرء قلَّما يأتي بالطاعة، والعبادة مبرأةً من كل عيب، فقد تخلو الصلاة من حضور القلب، وخشوع الجوارح، وكذلك الصيام والحج، فهذه التقصيرات، وذاك الخلل في العبادات التي أمرنا بها يجب أن تتوب منه.

2 ـ الظنّ بأن النعمة الواحدة من نعم الله ترجح كل الأعمال يوم القيامة :

 شيء آخر: من ظنّ بأن هذه الطاعات هي منتهى حق الله علينا، وأن من أداها فقد فرغ ذمته، ودفع لله ثمن نعمته، وثمن جنته، وبقي أن يبعث الله ملائكته ليسلم هذا المغرور مفاتيح الجنة التي استحقها بعمله، هذا ذنب يجب أن تتوب منه، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الجنة محض فضل، وجعل النار محض عدل. والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، ولهذا الحديث شرح طويل.
 هذا الإنسان الذي توهم هذا الوهم قد يظن أو قد يغيب عن ظنه أن النعمة الواحدة من نعم الله عز وجل ترجح بعمله كله يوم القيامة، النعمة الواحدة من نعم الله عز وجل ترجح بكل أعماله يوم القيامة، وأن أحداً لن يدخل الجنة بعمله ما لم تشمله رحمة الله عز وجل، فقد روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ فَقِيلَ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ ))

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 أضرب لكم مثلاً يوضح معنى هذا الحديث: لو أن أباً وعد ابنه بدراجة غالية الثمن إذا هو نجح، ما إن نجح هذا الابن حتى توجه إلى بائع الدراجات يعطيه الجلاء ليأخذ منه الدراجة، هذا شيء غير صحيح، لولا أن الأب تكفل بدفع الثمن لما كان جلاء هذا الابن كافياً لشراء هذه الدراجة، فالعمل الصالح سبب وليس ثمناً، قد تدخل بيتاً ثمنه خمسون مليوناً، بمفتاح ثمنه عشرون ليرة، هل هذا المفتاح هو ثمن هذا البيت أم هو سبب لدخول هذا البيت؟ فرق كبير بين المفتاح وبين الثمن، أعمال الإنسان الصالحة كلها ليست ثمناً للجنة، ولكنها سبب لدخول الجنة، وفرق كبير بين السبب، وبين الثمن " الجنة محض فضل، والنار محض عدل".

3 ـ التمسك ببعض القربات و ترك الأولى :

 هناك ذنب هو أن يتمسك الإنسان ببعض القربات وغيرها أوجب منها وألزم، فيستمسك بالحسن ويترك الأحسن، وربما كانت الضرورة ملحة جداً بالأخذ بالأحسن، مثال ذلك الغني الذي يستكثر من الصلوات النافلة، ويمسك عن الإنفاق في سبيل الله والبذل في حين أن المحتاجين والمعوزين يئنون حوله من ألم الحرمان، هذا الغني الذي يكثر من الصلوات والنوافل، ويمسك ماله عن أن ينفقه، ينبغي أن يتوب من هذا المسلك، لأن الواقع يحتاج إلى غير هذا السلوك، هذا نمط من أهل الطاعات.
 العالم البليغ الذي يصوم يوم الاثنين والخميس، ويكثر من الأوراد والأذكار، ويلوذ بالصمت في مواطن الزجر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحق، يجب أن يتوب من هذا المسلك.
 والقوي الذي يكثر من قراءة الكتب الدينية، ويحجم عن نصرة المظلوم، يجب أن يتوب من هذا المسلك.
 والمحسن الذي يعطي، ثم يمن، أو يطلب بعطائه الصدارة بين الناس، رجل يحبط بهذا المسلك عمله، ويضيع أجره، ويجب أن يتوب من هذا المسلك.
 المستقيم الذي يتيه باستقامته على الناس، ويظن أن الناس هالكون وأنه وحده هو الناجي، وأنه فوقهم جميعاً، يجب أن يتوب من هذا الوهم، وهذا المسلك.

(( لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر - ما الذي هو أكبر من الذنب؟- قال عليه الصلاة والسلام: العجب ))

[شعب الإيمان عن أنس بن مالك ]

 والمتفوق في أحد الاختصاصات الدينية، كعلم التفسير، وعلم الحديث والفقه، وعلوم اللغة، هذا الذي يعظم اختصاصه، ويجعله الدين كله، ويزدري اختصاصات الآخرين، لا لشيء إلا لأنهم لم يعظموا اختصاصه، هذا يجب أن يتوب من هذا المسلك. هناك ازدراء متبادل بين من يسمون أنفسهم علماء الحقيقة وبين علماء الشريعة، هذا الازدراء ذنب من الذنوب ينبغي أن يتوب الناس منه.
 الحقيقة أن كل صاحب اختصاص في الدين سدّ ثغرة في هذا الدين العظيم، وله عند الله أجر عظيم، والذي يعتقد أن الدين حكر على شخص، أو جماعة، أو طائفة، أو مذهب، أو مدينة، أو بلد، أو مصر، أو جيل، أو حقبة يجب أن يتوب من هذا الوهم، وهذا المسلك، يجب أن يعتقد أن الدين كالهواء، يحتاجه الناس جميعاً في شتى العصور والأمصار، وأن جنة الله هي لكل المؤمنين الصادقين المستقيمين، في كل العصور والأقاليم. والذي يظن أن الله لا ينصر عباده المؤمنين، بل يقوي أعداءهم ليجعلهم تحت رحمتهم، وأن الله كما يتوهم هذا الإنسان يمكن الكفر من الإيمان تمكيناً مستمراً ومستقراً فقد ظن بالله ظن الجاهلية، وأنه عليه أن يتوب من هذا الوهم وهذا الذنب.
 قال: يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إلي تقيّ القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم أني أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي.

4 ـ عدم الاهتمام بأمور المسلمين و تعظيم أهل الكفر :

 الذي لا يحمل هموم المسلمين، الذي لا يتفقد أخوانه المؤمنين، الذي لا يعنيه أمر المسلمين، ولا يلقي بالاً لمشكلاتهم، ولا لما يعانونه، هو إنسان مذنب ينبغي أن يتوب من هذا الذنب، " من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ".. يجب أن تتوب من هذا الذنب، يجب أن تحمل هموم المسلمين، يجب أن تشغلك مصالح المسلمين بعامة عن مصالحك بخاصة. والذي يظن أن الله أجبر عباده على المعصية، وسيحاسبهم عليها، وسيدخلهم النار، وأن الإنسان لا اختيار له، إنه كريشة في مهب الريح:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له  إيّاك إياك أن تبتل بالماء
***

 وينسى قوله تعالى:

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[سورة الأنعام: 148]

 هذا الذي يظن أن الله أجبر عباده على المعصية، وأن المعاصي التي يقترفها العباد لا خيار له في اقترافها، وأن الله سيحاسبهم وسيدخلهم النار عقاباً لهم على ما لم تقترف أيديهم، هذا الذي يظن هذا الظن، ظن بالله غير الحق، ظن الجاهلية، ينبغي أن يصحح عقيدته ويتوب إلى الله عز وجل.
 والذي يعظم أهل الكفر، ويثني على ذكائهم، يذهب إلى بلادهم يرى أبنيتهم، حدائقهم، محلاتهم، الرفاه الذي يحيونه، يثني على ذكائهم، وعلى قوة شخصيتهم، ويحتقر أمته، وينسى أن هذا الذي يعيشونه على أنقاض الشعوب الأخرى، ينسى انحلالهم الأخلاقي، ينسى كفرهم، ينسى ظلمهم لشتى الشعوب، " من هوي الكفرة حُشر معهم ولا ينفعه عمله شيئاً " وهذا ذنب من الذنوب أن تثني على الكفار، وأن تسبغ عليهم كل صفات العقل، والحكمة، والذكاء، والقوة، وتنسى أنك مسلم، عندك دين عظيم، لو طبقت تعاليمه لكنت أول الأمم.

 

5 ـ ارتكاب الذنوب :

 شيء كثير يحتاجه رواد المساجد، يحتاجه المؤمنون كي يتوبوا منه، ورد في الحديث الشريف:

(( الذنب شؤم على غير صاحبه ))

[ كنز العمال عن أنس ]

 على صاحبه شيء مفروغ منه، المذنب ملام ومحاسب ومعاتب، ولكن الحديث يشير إلى أن هناك إنساناً لم يذنب، لكنه أصابته جريرة ذنب أخيه، ما هذه الجريرة ؟

((الذنب شؤم على غير صاحبه، إن ذكره فقد اغتابه، وإن عيره ابتلي به، وإن رضي به شاركه في الإثم ))

[ كنز العمال عن أنس ]

6 ـ تنصيب الإنسان نفسه وصياً على الآخرين :

 أيها الأخوة الكرام: إن كثيراً من الأعمال الطيبة يأتي بها بعض الناس، ويؤثرونها على غيرها، لأنها أقرب إلى الهوى، وأقرب إلى السلامة، أو أن أصحابها يجنون فوائد دنيوية، إن هذه الأعمال ينبغي أن توضع على ميزان دقيق.
 أنا أخاطب المؤمنين، أخاطب طلاب العلم، أخاطب رواد المساجد، أخاطب الذين ابتعدوا عن الكبائر، أخاطب الذين يرجون رحمة الله، أخاطب الذين أرادوا الآخرة، هناك مزالق خطيرة. المستقيم مثلاً الذي ظن أن استقامته بسبب قوة إرادته وعزيمته وحزمه لا بتوفيق الله تيسيره واهم ومخطئ، ويجب أن يتوب من هذا الوهم، وهذا الاعتقاد، وهذا المسلك، ماذا قال سيدنا يوسف؟

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة يوسف: 33]

 هذا الذي ينتسب إلى جماعة، أو إلى مسجد، ويظن أن وحده، أو جماعته هي الفرقة الناجية، وأن بقية الجماعات الذين لم يعتقدوا اعتقاده، هؤلاء ليسوا ناجين، وأنهم هالكون، عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ ))

[ البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ ]

 جميل جداً أن يكون لك مسجد، وأن يكون لك جماعة تأنس بها، وتستفيد من علمها، ومن أخلاقها، ومن روحانيتها، ولكن القبيح أن تظن أن الجماعات الأخرى ليسوا على شيء. الذي ينصب نفسه وصياً على المسلمين، يوزع ألقاب الإيمان والكفر والشرك على الناس كافة، وكأنه أوحي إليه بعد رسول الله، أو كأنه اطلع على اللوح المحفوظ، يتألى على الله، ويجب أن يتوب من هذا المسلك، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لامرأة قالت لصحابي جليل كان ميتاً، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء ليودعه قبل الدفن.

(( رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي .. ))

[ رواه البخاري عن ابن شهاب]

7 ـ الإساءة إلى غير المسلمين ظناً أن هذا يرضي الله :

 هذا الذي يسيء إلى غير المسلمين ظناً منه أن هذا يرضي الله عز وجل واهم ومخطئ، ويجب أن يتوب من هذا الذنب، وهذا المسلك، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

[سورة المائدة: 2]

 أي إذا توهمتم أن إيذاء غير المسلمين، وأن ظلمهم يقربكم إلي فأنتم واهمون ومخطئون، اعدلوا معهم، فإن عدلكم معهم يقرِّبهم إليكم، ولعلهم يتوبون من ذنوبهم، إن عدلكم معهم يقربهم إلى الله عز وجل :

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

[سورة المائدة: 2]

8 ـ عدم إخلاص النية :

 أيها الأخوة الكرام: سيدنا أبو ذر الغفاري خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا ذر خفف الأثقال فإن العقبة كؤود، أكثر الزاد فإن السفر طويل، أحكم السفينة فإن البحر عميق، أخلص النية فإن الناقد بصير .

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف : 110]

 الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم والذي يبين فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام:

((يؤتى بالعالم فيقال له: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم، وعلمته فيقال له: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

 أخلص النية فإن الناقد بصير.

محاسبة النفس حساباً دقيقاً :

 يا أيها الأخوة الكرام: ليس وسام شرف أن يقول المسلم: أنا لا أفعل الكبائر، هذا شيء بديهي، هذا شيء مفروغ منه، يقول عليه الصلاة والسلام:

((إن الشيطان يئس أن يُعبد في أرضكم، ولكنه رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم ))

[ الترغيب والترهيب عن سليمان بن عمرو عن أبيه]

 هذه الصغائر إذا أصرّ المسلم عليها واستمر عليها انقلبت إلى كبائر، انقلبت إلى حجب كثيفة بين العبد وربه.
 يا أيها الأخوة الكرام: يجب أن نحاسب أنفسنا حساباً دقيقاً، يجب أن نلحظ عقائدنا هل هناك عقائد غير صحيحة تتناقض مع القرآن الكريم ومع سنة سيد المرسلين؟ هل هناك مشاعر غير صحيحة مشاعر العجب والكبر ؟ هل هناك انتقاص من أقدار الآخرين ؟ إنسان سأل النبي عليه الصلاة والسلام أحدنا يحب الثوب الحسن هل هذا من الكبر ؟ قال عليه الصلاة والسلام:

((الكبر بطر الحق وغمط الناس ))

[مسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود ]

 أن ترد الحق، وأن تزدري الناس، وأن تحتقرهم، وأن تنكر عليهم فضلهم، وأن تزهو بنفسك وعلمك على الآخرين. يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))

[أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس]

 هذه الملايين المملينة، في شتى القارات، لماذا كلمتهم ليست هي العليا ؟ لماذا للكفار عليهم ألف سبيل وسبيل ؟ أين التمكين الذي وعدنا الله به ؟ أين الاستخلاف الذي وعدنا الله به ؟ أين التطمين الذي عدنا الله به ؟ أين الدفاع عن المؤمنين الذي وعدنا الله به ؟ أين النصر الذي وعدنا الله به؟

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة الروم: 47]

 يجب أن نتوب من هذه الصغائر وهذه الذنوب التي نتوهمها صغائر وهي عند الله كبائر.
 حينما نخاطب الكفار المتفلتين نقول لهم: آمنوا بالله، نقول لهم: آمنوا بالقرآن الكريم، أما حينما نخاطب المؤمنين فإيمانهم مفروغ منه، ومنهجهم هو القرآن وسنة النبي العدنان، ولكن هناك دقة بالغة في بعض ما يعتقدون، وبعض ما يسلكون.

 

التعجيل بالتوبة :

 شيء آخر في هذا الموضوع هو التعجيل بالتوبة، وأن تكون التوبة عقب الذنب مباشرة، لأن الإنسان إذا طال عليه الأمد قسا قلبه، وإذا قسا قلبه ابتعد عن التوبة بعد الأرض عن السماء.
 وهناك شيء آخر أن هناك من الذنوب ما يعجل الله عقابه في الدنيا قبل الآخرة، إنه البغي والعدوان، وعقوق الوالدين.. اثنان لا تقربهما، الإشراك بالله، والإضرار بالناس.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اليد آية من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة الكرام: من الآيات المدهشة التي تلفت النظر وتعظم خالق الإنسان، هذه اليد التي نملكها، قال العلماء: في اليد خمسة أصابع، وفي كل أصبع ثلاث سلاميات إلا الإبهام، فهو مكون من سلاميتين، وهنا السرُّ.
 قد لا تصدق أن حضارة الإنسان التي يزهو بها متعلقة بهذا الإبهام، الإبهام يتفرد به الإنسان على بقية المخلوقات.. على السلامة الثانية في هذا الإبهام يرتكز وتر قابض طويل مع عضلة يطوي السلامة الثانية، فيعطي الإبهام رشاقته، ودقته التي يتفوق بها الإنسان على سائر المخلوقات. بسبب دقة بناء اليد انطلقت هذه اليد لتؤدي مهمات لا حصر لها.
 أيها الأخوة الكرام: لعب الإبهام... الاتجاهات، هذا مفصل دقيق جداً، لولا هذا الإبهام وحده لما كان لهذه الأصابع من قيمة، جرب أن تكتب من دون إبهام، أو أن تخيط من دون إبهام، أو أن ترتدي ثيابك من دون إبهام، أو أن تعمل على آلة من دون إبهام، جرِّب.. إنك لن تستطيع شيئاً، هذه صنعة الله التي أتقنها:

﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾

[سورة النمل: 88]

 مفصله الكروي يعطيه المرونة الفائقة، والسلاميتان الاثنتان مزودتان بما لا يقل عن خمسة أوتار، يمنحه الحركة برشاقة في كل الاتجاهات، من البسط، والقبض، والتبعيد، والتقريب، والدوران، والإمساك، والمقابلة.
 لو أن ضارباً على جهاز الكومبيوتر جلس ست ساعات على هذا الجهاز يضرب على أزراره لبذل هذا الإبهام جهداً يساوي أن يمشي على قدميه أربعين كيلو متراً، وهو لا يدري.
 أحد العلماء الغربيين قال: هذا الإبهام العجيب هو الذي فتح لنا هذا العالم العجيب، فزاد معرفتنا بالله عز وجل، وعظمته، ووحدانيته، إن هذه الأداة المذهلة اليد، فيها مجموعة من العظام، والأوتار، والعضلات، والأعصاب، والشرايين، والأوردة، والعروق اللمفاوية. في اليد سبعة وعشرون عظماً، وثمانية وعشرون مفصلاً، وثلاث وثلاثون عضلة. عظام الرسغ سبع، وهذا الرسغ أيضاً يعطي اليد الحركة في كل الاتجاهات، ولولا هذا الرسغ لما كان لهذه اليد من معنى، ولو أنها باتجاه واحد فقدت معظم خصائصها.
 تمر شبكة سقي وتروية دموية من أبدع ما خلق الله عز وجل، تصب هذه الشبكة في نهرين عظيمين على حافتي الرسغ في شلالين متعانقين متضافرين، وريد وشريان، يتوزع عنهما شبكة دقيقة جداً في اليد، ففي أي مكان وضعت رأس إبرة يخرج الدم، معنى ذلك أن هناك شبكةً دقيقة جداً. وأما المنظم فهو  شبكة عصبية محكمة، متدفقة من ثلاثة كبلات؛ أعصاب المتوسط، والزندي، والعكبري، تستقبل الحس، وتوجه الحركة، وهناك نظام إرادي، ونظام لا إرادي، مرتبط بالفعل المنعكس الشرطي، لو درسنا هذه اليد لوجدناها آيةً من آيات الله عز وجل.
 هذه الحضارة، هذا المسجد، هذه الصناعات، هذه الآلات، لا معنى لها من دون يد، الله جل جلاله كرم الإنسان بهذه اليد، وهذه من أقرب الآيات إلينا، قال تعالى:

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[سورة الذاريات: 21]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور