وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0622 - الإيمان - أحاديث تتحدث عن الإيمان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الموازنة بين أقوال النبي و بين واقعنا :

 أيها الأخوة الكرام: من طبع الإنسان أن يتملق نفسه، من طبع الإنسان أن يركن إلى وهم مريح، وأن يرفض الحقيقة المرَّة، من طبع الإنسان أن يستسهل الأهداف بأقصر الوسائل، فكم من المسلمين يظنون أنّهم مؤمنون كما يريد الله عزَّ وجل؟؟ لو رجعنا إلى أقوال النَّبي صلى الله عليه وسلم في موضوع الإيمان، يمكن أن نوازن بين قول النَّبي وبين واقعنا، فإذا انطبق واقعنا على تعريف النَّبي صلّى الله عليه وسلم للإيمان، فهذه نعمة عظمى، أما إذا كان هناك بون شاسع بين تعريف النَّبي للإيمان وبين ما نحن فيه فينبغي أن نشمِّر، لنجدِّد إيماننا، ولنستكمل كماله.
 أيها الأخوة الكرام: ورد في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

 النبي عليه الصلاة والسلام يحدد شُعب الإيمان ببضعٍ وسبعين شعبة، والبضع كما يقول العلماء عدد مبهم فيما بين الثلاث إلى التسع في الأعم الأغلب.. والحياء شعبة من الإيمان، الحياء كما قال العلماء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يُعاب به، أي يحجم عن فعل لئلا يُعاب في موضوع ما، هذا هو الحياء.. يُطلق على مجرد الترك، ترك أي شيء لأي سبب، هذا معناه الواسع.
 الترك أيها الأخوة من لوازم الحياء، الحياء ترك، أما في التعريف الشرعي فالحياء الشرعي هو خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق كل ذي حق.. خلق يمنعك من أن تفعل قبيحاً، خلق يمنعك من أن تقصر في حق إنسان.. النَّبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ))

[ متفق عليه عن عمران بن الحصين]

الفرق بين الحياء و الخجل :

 إلا أن بعض العلماء يقول: الحياء طبع في الإنسان، فكيف نفرق بين حياء هو طبع فيه لا كسب له فيه وبين حياء شرعي يرقى به إلى الله عزّ وجل ؟.. أجاب بعض العلماء عن هذا التَّساؤل: حينما يُستخدم الحياء، أو حينما يُستعمل الحياء وفق الشّرع، يحتاج إلى اكتساب علم، ونية، وإيمان، وحينما تستخدم الحياء في ترك ما نهى الله عنه، وفي فعل ما أمر الله به فهذا الحياء اقترن بكسب إيمانك وعلمك وسلامة نيتك، أضفت هذا كله إلى الحياء فكان حياءً شرعياً، إذاً هو من الإيمان.
 الحياء الشرعي باعث على فعل الطَّاعة، وحاجز عن فعل المعصية، أما الحياء الذي يمنعك من أن تقول كلمة الحق، أما الحياء الذي يمنعك من أن تؤدي حق الله عزَّ وجل، فهذا ليس الحياء الذي قصده النبي عليه الصلاة والسلام، إنما هو طبع لا علاقة له بهذا الحديث الشريف، والأصح أن نسميه خجلاً، والخجل مرض نفسي، بينما الحياء فضيلة إيمانية.. المؤمن يخاف على سمعته، يخاف على صلته بالله، يخاف على مكانته الاجتماعية، يخاف من يوم تُفتضح فيه السرائر، فالحياء بهذا المعنى الذي يوظف في حقل الإيمان هو الحياء الشرعي الذي أراده الله عزّ وجل.

 

تقسيم شعب الإيمان إلى أعمال قلب و أعمال لسان و أعمال بدن :

 بعض العلماء تكلّفوا حصر هذه الشعب عن طريق الاجتهاد، فهذه الشعب شعب الإيمان التي عدها النّبي عليه الصلاة والسلام تزيد عن بضع وستين شعبة، بعض العلماء اجتهدوا في تعدادها، فقسموها إلى أعمال قلب، وأعمال لسان، وأعمال بدن.. فأما الأعمال بالقلب، فهي المعتقدات والنيات..
ذكرت قبل أيام في درس سيرة أن النّبي عليه الصلاة والسلام حينما عرض على عمِّه أبي طالب أن ينطق بكلمة الإيمان قال له: يا عمُّ قل لا إله إلا الله، فرفض أن يقولها، ومات على الكفر.. كم من خدمة قدمها هذا العمُّ لابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم من موقف دافع عنه فيه، ولأن عقيدته لم تصح مات على الكفر، فالمعتقدات شيء كبير جداً في حياة المؤمن، المعتقدات والنيات، وقد صنفها بعضهم؛ الإيمان بالله، والإيمان بذاته، والإيمان بصفاته، والإيمان بتوحيده، وبأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والقدر خيره وشرّه، والإيمان باليوم الآخر، والمسألة في القبر، والإيمان بالبعث، والنّشور، والحساب، والميزان، والصِّراط، والجنّة، والنّار، ومحبة الله، والحب والبغض في الله، ومحبة النَّبي عليه الصلاة والسلام، واعتقاد تعظيمه، والصلاة عليه، واتباع سنّته، والإخلاص له، ويدخل في هذا أيضاً ترك الرَّياء، والنِّفاق، والتوبة، والخوف، والرّجاء، والشّكر، والوفاء، والصَّبر، والرِّضا بالقضاء، والتوكّل، والرَّحمة، والتَّواضع، وتوقير الكبير، ورحمة الصغير، وترك الكبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب، هذه أعمال القلب، هذه شعب الإيمان في القلب، بينما شعب الإيمان في اللِّسان التلفّظ بكلمة التَّوحيد، تلاوة القرآن، تعلم العلم، الدعاء، الذكر، الاستغفار، اجتناب اللّغو، هذه شعب الإيمان المتعلِّقة باللَّسان. وأما شعب الإيمان المتعلقة بالأبدان فهي التطهُّر حسّاً وحكماً، اجتناب النَّجاسات، ستر العورات، الصَّلاة فرضاً ونفلاً، أداء الزكاة، فك الرِّقاب، الجود، إطعام الطعام، إكرام الضَّيف، الصّيام فرضاً ونفلاً، الحج والعمرة، الطّواف والاعتكاف، التماس ليلة القدر، الفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشِّرك إلى دار الإيمان، والوفاء بالنذر، وتحري الإيمان، وأداء الكفَّارات، والتعفّف بالنِّكاح، والقيام بحقوق العيال، وبرِّ الوالدين، واجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرِّحم، والرفق بالعبيد، والقيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. هكذا قال عليه الصلاة والسلام:

((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

التّوحيد نهاية العلم والتَّقوى نهاية العمل :

 شيء آخر: هناك رواية للإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

 التّوحيد أعلى شيء تصل إليه، التوحيد نهاية العلم، والتَّقوى نهاية العمل، فمن جمع بين التّوحيد والتّقوى فقد جمع الإيمان من أطرافه كلها، أفضلها قول لا إله إلا الله، ألا ترى في الكون إلا الله، ألا ترى معطياً، ولا مانعاً، ولا قابضاً، ولا باسطاً، ولا معزّاً، ولا مذلاً، ولا رازقاً، ولا مسعداً إلا الله عزّ وجل، هذا هو التّوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التّوحيد، وأن تميط الأذى عن الطّريق، هذا نوع من الإيمان، ما الذي دفعك إلى أن تُزيح الحجر عن طريق المسلمين ؟.. طلبك الثّواب من الله، وخوفك من أن يُؤذى به مسلم، فهذا الحديث الشريف أيها الأخوة الكرام من الأحاديث التي هو أصول الدين:

((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

 هذه رواية الإمام البخاري، رواية الإمام مسلم:

(( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ))

حقائق الإيمان و حلاوة الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك]

 حلاوة الإيمان، طعم الإيمان:

((وذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا))

[ مسلم عن العباس]

 الإيمان له طعم، الإيمان مجموعة حقائق، قد تزيد هذه المجموعة بسماع خطبة، بقراءة كتاب، بسماع شريط، بحضور محاضرة، بحضور مجلس علم، هذه الحقائق والقناعات، تزداد بهذه النَّشاطات، ولكنْ أن تذوق حلاوة الإيمان شيء آخر، حلاوة الإيمان ثمنها مجاهدة النفس والهوى، حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، قال تعالى:

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾

[سورة التوبة: 24]

محبة الله على قسمين؛ محبة فرض ومحبة ندب :

 قال بعض العلماء: محبة الله على قسمين؛ محبة فرض، ومحبة ندب، فمحبة الفرض هي المحبة التي تبعث على امتثال أوامر الله عزّ وجل، والانتهاء عن معاصيه، أي الحد الأدنى في المحبّة هي المحبّة التي تحملك على طاعة الله، والمحبّة التي تحجزك عن معاصي الله، فإن كنت مطيعاً لله، مجتنباً لما نهى الله عنه، فأنت تحب لله ورب الكعبة، أما إذا كان العلم يتناقض مع محبّتك لله، إذا كان العمل لا يطابق منهج الله عزّ وجل، فمحبّتك لله مشكوك فيها، وأقوى دليل على ذلك هو أن الله سبحانه وتعالى طالب خلقه بدليل على محبته، قال تعالى:

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[ سورة آل عمران: 31]

 اتِّباع سنّة النَّبي دليل محبّة الله، أما دعوى محبّة الله، من دون اتِّباع سنّة النَّبي، فدعوى لا قيمة لها، ولا يُؤخذ بها إطلاقاً..

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه  ذاك لعمري في المقال شنيعُ
لو كان حبّك صادقا لأطعتــــه  إن المحبّ لمن يحبّ يطيـعُ
***

 قال بعض شرَّاح الحديث أيها الأخوة: المحبّة التي أرادها النّبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث:

((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك]

 قال: المحبّة التي تبعث على امتثال أوامره، والانتهاء عن معاصيه، والرِّضا بما يقدره، فمن وقع في معصية، من فعل محرَّم، أو ترك واجباً، فلتقصيره في محبّة الله، حيث قدّم هوى نفسه على طاعة الله.. معادلة واضحة جداً، حينما تؤثر هوى نفسك على طاعة الله، ففي محبّتك نقص خطير، محبّتك لا تنجيك، محبّتك من النوع الذي لا يكفي ما لم تحملك محبّتك على طاعة الله عزّ وجل، إيّاك أن تدّعي المحبّة. أحياناً الإنسان يسترسل في المباحات، ويستكثر منها، فتورثه الغفلة المقتضية للتوسّع مع الرَّجاء، أحياناً الإنسان يرجو رحمة الله دون أن يدفع ثمنها، والنَّبي عليه الصلاة والسلام يقول: " اللهم إنّا نسألك موجبات رحتمك" هذا الذي يرجو رحمة الله دون أن يدفع ثمنها كالمستهزئ بالله، هذا الذي يطلب الجنّة بلا عمل يرتكب ذنباً كبيراً، فمحبّة الله يدعيها كل مسلم، فلو سألت مليار و مئتي مليون مسلم على وجه الأرض أتحبّ الله؟ يقول لك: نعم أحبّه.. هذه المحبّة دعوى، خاضوا بحار الهوى دعوى وما ابتلوا، هذه دعوى لا يؤكدها إلا طاعة الله، وطاعة رسوله، وامتثال أمريهما..

 

محبة الله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته :

 فيا أيها الأخوة: الإنسان حينما يرجو رحمة الله ولا يقدّم شيئاً، لا يقدّم واجباته، إنّما في محبّته خلل، أو في محبّته نقص خطير، لذلك المؤمن حينما يواظب على النوافل، ويتجنَّب الوقوع في الشُّبهات، يوثق بأنَّه محب لله عزّ وجل، ما الذي ينقلك إلى المخالفة ؟.. أن تتوسع في المباحات، وأن تسترسل بها، وأن تستكثر منها، هذه المباحات من لوازمها أنها تحملك على الغفلة، ومن لوازم هذه الغفلة أن يكون رجاؤك برحمة الله واسعاً دون أن تقدّم الثَّمن لهذه الرَّحمة، ما العلاج في هذه الحالة؟ أن تواظب على النوافل، وأن تتجنب الوقوع في الشُّبهات. المؤمن لا يتلقى أمراً إلا من الله عزّ وجل، ولا ينتهي إلا عما نهى عنه الله عز وجل، ولا يسلك إلا طريق المؤمنين، لا يتبع غير منهج الله عز وجل، من جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان. حلاوة الإيمان سعادة لا يعرفها إلا من ذاقها، هذه السعادة تحملك على بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، هذه السعادة تحملك على بذل تحمل المشاق في الدّين، تحملك على إيثار طاعة الله على أعراض الدنيا، هذه المحبّة لله تحصل بفعل طاعته، وترك مخالفته.

الحب في الله :

 أيها الأخوة الكرام: تتمة هذا الحديث:

((...وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك]

 ومن أدق ما شُرح به هذا الحديث أن الحب في الله ضابطه الشرعي ألا يزيد بالبرِّ، وألا ينقص بالجفاء..
 كل منا إن أحسن أحد إليك تحبّه، هل هذا الحب في الله؟.. الجواب: لا، إن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.. هل أنت من الإيمان أن المؤمن لو نصحك نصيحة وحجَّمك تبقى على محبّته ؟ وأن المنحرف لو أعطاك أعطية وبالغ بها هل تبقى على جفوته؟ علامة الحب في الله، والبغض في الله ؛ ألا يزيد هذا الحب بالبرِّ والصلة، وألا ينقص بالنصيحة والجفاء، هذا الحب في الله؛ تحب مؤمناً ولو قسا عليك في النصيحة، وتُبغض منافقاً ولو وصلك ببرِّه وعطائه.. هذا هو الحب في الله، الذي هو أكمل شيء في حياة المؤمن.

((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك]

علامات الإيمان :

 وعن عبد الله بن جبر قال:

((سمعت أنساً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار ))

[ البخاري عن أنس]

 هؤلاء الذين نصروا النبي، هؤلاء الذين هاجر إليهم النّبي، هؤلاء الذين أحبهم النبي، هؤلاء الذين أثنى عليهم النّبي، هؤلاء الذين رفع مقامهم النبي، هؤلاء يجب أن تحبهم، فإن لم تحبهم فأنت منافق.

((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار ))

 أناس نصروا النّبي، وبذلوا الغالي والرَّخيص، والنَّفس والنَّفيس، وقدَّموا كل شيء، والنّبي عليه الصلاة والسلام كان ممتناً منهم، وقد أثنى عليهم، الأنصار أدوا ما عليهم بقي الذي لهم، فالذي يأتي بعد حين، وبعد سنين طويلة، وبعد قرون طويلة، ويبغض من أحب النّبي، فهذه من علامات النِّفاق.
من علامات الإيمان؛ أن تحب الأشخاص الذين أحبّهم النّبي، وأن تحب الأماكن التي أحبّها النّبي، حينما خرج النبي مهاجراً قال: "اللهم إني خرجت من أحب البلاد إليك، فأسكني أحب البلاد إليك ".
 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

 فالذي يذهب إلى بلاد الله المقدَّسة، إلى مكة والمدينة، وترتاح نفسه هناك، هذه من علامة الإيمان، علامة الإيمان أن تحب هذا المكان الذي كان مكان ظهور رسالة الإسلام..

 

التحلي بمكارم الأخلاق :

 وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ))

[مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ]

 وهذا الحديث الخامس من أصول الدين، الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، الطهور نقاء وكمال، الطهور أن تكون نفسك صافية من كل كدر، من كل انحراف، من كل ضغينة، من كل حقد، من كل سلوك منحرف، من كل سلوك غير نظيف، هذا بالمعنى الواسع، والشطر الثاني أن تتحلّى بالمكارم الأخلاقية، أي تخلية وتحلية.

((....وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلاةُ نُورٌ...))

[مسلم عن أبي مالك الأشعري ]

 قال العلماء: نور في الوجه، ونور في البصيرة.. المصلي يُقذف في قلبه نور يرى به الخير خيراً، والشرِّ شرَّاً، والحق حقاً، والباطل باطلاً، المصلّي عنده رؤية صحيحة، المصلّي ينظر بنور الله، وينطق بتوفيق الله، المصلي يسدّد الله خطاه، ويلهمه رشده،

((وَالصَّلاةُ نُورٌ))

(( وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ))

 لأن المال زُين حبُّه للناس، قال تعالى:

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾

[ سورة آل عمران: 14]

 فحينما تُنفق مالك، تخالف طبعك، وحينما تخالف طبعك ترقى إلى ربّك.

(( فَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ))

((وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ))

 إن كنت مع أوامره فهو حجّة لك، وإن خرجت عن منهجه فهو حجّة عليك.

((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو ))

 يخرج من بيته.

(( فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))

 إما أن يبيع نفسه لله فيعتقها من النّار، ويسعد في الدّارين، أو أن يبيعها للشيطان، فيهلك في الدنيا ويشقى في الآخرة..

((.. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ))

حقيقة الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام: لازلنا في الأحاديث التي تتحدّث عن الإيمان، وهذه الأحاديث وصف ومقياس في وقت واحد؛ لأنّ النّبي عليه الصلاة والسلام يصف لك حقيقة الإيمان، وهي مقياس، قسْ نفسك بهذه الأحاديث، أين أنت منها ؟.. قال عليه الصلاة والسلام:

((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ))

[متفق عليه عن أَبي سَعِيدٍ الخُدريّ]

 الحد الأدنى في الإيمان أن تنكر منكراً بقلبك، ولن يُقبل منك ذلك إذا كان بإمكانك أن تنكره بلسانك، ولن يُقبل منك إنكارك بلسانك إن كان بإمكانك أن تُنكره بيدك.

((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ))

[متفق عليه عن أَبي سَعِيدٍ الخُدريّ]

 أما هذا الذي لا ينكر المنكر لا بيده، ولا بلسانه، ولا بقلبه أين هو من الإيمان ؟ !.. هذه حقائق أيها الأخوة.

((عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ..))

[مسلم عن أبي ذر]

 أعظم الأعمال أن تؤمن بالله، لأنك إن آمنت بالله، كل حركة لك في حياتك الدنيا ستغدو صحيحة، وتثاب عليها، وكل حركة مهما تكن محكمة، إن لم يسبقها إيمان لا قيمة لها، بل تُحاسب عليها. فيا رسول الله أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، هذا الإيمان الجانب الأول، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ.. إذا انتقلت إلى أعلى تنقلك إلى أعلى، وهكذا تأخذ بيدك هذه الفضائل ولو بدأت بالسلبيات منها إلى جنّة الله عزّ وجل.

 

عمل الشيطان لا يكون إلا مع الذين سلكوا طريق الإيمان:

 أيها الأخوة المؤمنون: المنافق يبقى في حال واحد أربعين عاماً، أما المؤمن فيتقلب في اليوم الواحد بأربعين حالاً؛ بين الرّجاء والخوف والاستغفار، بين الطمأنينة والقلق، لشدة خوفه من الله، ولعظم حق الله عليه، ولشدَّة تعظيمه لله، ولحرصه على الآخرة، يتنقل من حال إلى حال.

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوَسْوَسَةِ، قَالَ: تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ ))

[ مسلم عن عبد الله ]

 أي مهتم.. أما هذا الذي لا تأتيه الوساوس أبداً، أنى لها أن تأتيه وهو كما يريد الشيطان، قال تعالى:

﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

[ سورة الأعراف: 16]

 أي حينما يسلكون الصراط المستقيم يبدأ عمل الشيطان، أما إذا كان الإنسان تائهاً، وشارداً، وبعيداً، وغافلاً، وغارقاً في المعاصي والآثام الشيطان يتركه.. عمل الشيطان مع هؤلاء الذين سلكوا طريق الإيمان:

﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 16-17]

 عن أيمانهم بالوسوسات، والغلوّ في الدّين، ونقل فروعه إلى كلياته، والمخاصمة من أجل فرعيات الدّين، وترك جوهر الدّين، هذا عن أيمانهم، يوقع بين المسلمين العداوة والبغضاء، يحرش بينهم:

﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾

[ سورة الأعراف: 17]

 كل شيء حديث، كل شيء جديد، يعظمه الناس، ولو كان فيه تعظيماً لأخلاقهم، ولو كان فيه سحقاً لسلوك أبنائهم، شيء جديد، انظر إلى السطور تعرف معنى قولي هذا..

﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾

[ سورة الأعراف: 17]

 التقاليد التي ألفها الناس عن آبائهم وأجدادهم ولو كانت مخالفةً للشرع إما أن يأتيهم الشيطان من بين أيديهم؛ الحداثة والجدة والعلم، وما إلى ذلك، أو تقاليدهم وعاداتهم التي تنافي منهج الله عزّ وجل ؛ هكذا نشأنا، هكذا علمنا أبونا، هكذا ألفنا، هذا الاختلاط، ولآتينهم عن أيمانهم بالغلوّ في الدّين، وعن شمائلهم بالمعاصي والآثام، ولا تجد أكثرهم شاكرين.. فالوسوسة متعلقة في أنك تسير فعلاً في طريق الإيمان، فالوسوسة قال عنها عليه الصلاة والسلام محض الإيمان، وأحد التابعين قال: التقيت بأربعين صحابياً، ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً، وأكبر دليل على ذلك أن سيدنا عمر- عملاق الإسلام- سأل سيدنا حذيفة بن اليمان قال: بربِّك هل وجدت اسمي مع المنافقين ؟.. أيقولها تمثيلاً ؟.. لا والله، يقولها خوفاً من الله، يقولها حرصاً على طاعته، حرصاً على رضوانه..

 

مهمة كلّ إنسان :

 أيها الأخوة الكرام: ذكرت لكم بعض الأحاديث، وهي كثيرة جداً، لكن الإنسان مهمته مع هذه الخطبة أن يقرأ الحديث، وأن يوازن بين حاله وبين مضمون هذا الحديث، فإن كان حاله مطابقاً لمضمون هذا الحديث فهذه نعمة عظمى لا تعدلها نعمة، وإن لم يكن كذلك، فليسع إلى أن يزيد من إيمانه، وأن يرقى بإيمانه، قال الله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

[سورة آل عمران : 102]

 فسَّر بعض العلماء هذه الآية بأن تطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره، وأن تذكره ولا تنساه.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التوازن الدقيق في جسم الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام: يقول الله عز وجل:

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾

[ سورة القمر: 49]

 من الثابت في علوم الطب أن دم الإنسان إذا زادت ميوعته، نزف دمه كله من جرح صغير، عندها يموت الإنسان، ولو زادت لزوجته عن الحدِّ المعقول تجمَّد الدم في العروق كالوحل في الطرقات، فإذا وصلت خثرة منه إلى القلب أو الدِّماغ قضى الإنسان نحبه، لذلك يفرز الجسم هرموناً يميع الدم، وهرموناً يجلطه، ومن التوازن الدقيق بين إفراز الهرمونين، يحافظ الدم على مستوى من السيولة تسمح له بالحركة عبر الأوعية الدقيقة، ليحافظ الدم على مستوى من اللزوجة تمنع نزيفه من أدق الجروح..

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾

[ سورة القمر: 49]

 ومن الثابت أن الغدّة النُّخامية ملكة الغدد الصماء، من مفرزاتها ما يحث الغدة الدَّرقية المسؤولة عن الاستقلاب، أي تحويل الغذاء إلى طاقة ،وأن من مفرزات الغدّة الدَّرقية ما يثبت الغدّة النُّخامية، ومن خلال التأثير المتبادل الحكيم بين الغدتين يستقيم التوازن بين حاجة الإنسان إلى الغذاء وحاجته إلى الطاقة.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾

[ سورة القمر: 49]

 لذلك قالوا: الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، فالكون كله يترجم آيات القرآن، والقرآن يجسد حقائق الكون، والنبي عليه الصلاة والسلام بخلقه كان خلقه القرآن.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين. اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور