وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0628 - الفقر2 - معالجة الفقر في المجتمع الإسلامي- طريق الجوار .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

إكرام الجار من لوازم الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام: في الخطبة السابقة بينت بفضل الله تعالى أن في الإسلام حلولاً كثيرةً لمشكلة الفقر، من هذه الحلول التضامن الأسري، وقد بينت لكم الآيات الكثيرةَ، والأحاديث الصحيحة الغزيرة، حول هذا الموضوع واليوم هناك حلٌ آخر، لا على أساس العلاقات الأسرية، بل على أساس العلاقات المكانية، فالنبي عليه الصلاة والسلام حدثنا كثيراً عن حق الجار، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾

[ سورة النساء: 36]

 عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

(( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ، قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ ]

 أرأيتم أيها الأخوة إلى هذا الترابط، بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين إكرام الجار، أي من لوازم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكرم جاره، أن يكرم جاره بأن يتصل به، بأن يزوره، بان يتفقد أحواله، بأن يمد له يد العون، بان يواسيه.

((... مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ..))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ ]

 الذي لا يكرم جاره في إيمانه خلل، لأن من لوازم الإيمان الحق بالله أولاً وباليوم الآخر أن تكرم جارك، والجار هنا مطلق، أي جار على الإطلاق.

 

الإحسان إلى الجار :

 وفي حديث آخر رواه ابن ماجة، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( أحسن إلى جارك تكن مؤمناً ))

[ ابن ماجه عن أبي هريرة]

 إذا كان الحديث الأول ربط الإيمان بالله واليوم الآخر بإكرام الجار، فالحديث الثاني ربط الإسلام بالإحسان إلى الجار.. فهذا الذي يسيء إلى جواره، يعتدي عليهم، ينغص حياتهم، يقلق معيشتهم، يخافون من شره، يتحسبون لحركته أي حساب، هذا ليس ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، وليس من الإسلام في شيء.
 وهناك حديث آخر ثالث متفق عليه عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ))

[ متفق عليه عَنْ عائشة]

التضامن على أساس الجوار :

 ما قيمة أن نؤدي العبادات إن لم نكن في المعاملات وفق ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام؟ ما معنى أن تكون أنت مسلماً؟ ما معنى أن تكون مؤمناً؟ إن لم تأتمر بما أمر النبي، وإن لم تنته عما نهى عنه النبي ما معنى أن تكون مؤمناً وأنت تتلو قوله تعالى:

﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾

[ سورة النساء: 36]

 وهناك حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به))

[ الطبراني عن أنس ]

 يقول لك: أنا لا أعلم، نقول له: من لم يتفقد أمور المسلمين فليس منهم، ينبغي أن تتفقد أحوال جيرانك، من أجل أن تعلم ما إذا كانوا بحاجة إلى شيء من مساعدتك :

(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به))

[ الطبراني عن أنس ]

 بل إن أهل الحي كلهم إذا قصروا في تفقد من في حيهم من الفقراء يأثمون جميعاً، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح:

(( مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى ))

[أحمد عن ابن عمر]

 عرصة: أي حي. برئت منهم ذمة الله: أي يأثمون جميعاً. هذا هو التضامن على أساس الجوار.

 

التضامن الجغرافي :

 في الأسبوع الماضي تحدثت عن التضامن على أساس القرابة، واليوم التضامن الجغرافي، أهل هذا الحي جيرانك، الأقربون، الأبعدون، يميناً، شمالاً، جنوباً. وقد ورد في رعاية الجار:

(( أتدرون ما حق الجار؟ إن استعانك أعنته، وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهةً فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك - رائحة طعامك- إلا أن تغرف له منها ))

[ شعب الإيمان عن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده]

 لا تستطيع أن تعطي ابنك فاكهة غالية الثمن يأكلها أمام أطفال الجيران، لا تستطيع أن تصنع طعاماً له رائحة فواحة، ولا تعطي جارك من هذا الطعام شيئاً، لا تستطيع أن تدخل بالفاكهة مكشوفة وبالحلويات مكشوفة أمام جيرانك دون أن تقدم لهم شيئاً، إذا اشتريت فاكهة فأهد لهم، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها.
 قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه:" أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم إذا طبخت فأكثر المرق، ثم انظر بعض أهل بيت من جيرانك فاغرف لهم منها" وهذه عادة طيبة جداً، كانت مطبقةً في بلاد الشام قبل سنوات وسنوات، كل جار يقدم إلى جاره شيئاً من طعامه.
 ليس الجار هو الذي يلاصق بيتك فحسب، كما يظن بعض الناس، روي في الآثار أن أربعين داراً جار، وفي آثر آخر: إن ستين داراً جار، وفسر بعضهم أن هذه الأربعين وتلك الستين من كل جهة، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، يُفهم من هذا أن سكان الحي هم جيران، سكان الحي الواحد، أربعون بيتاً يميناً، وأربعون بيتاً شمالاً، وأربعون بيتاً جنوباً، وأربعون بيتاً يساراً، وقد نضيف أربعين بيتاً نحو الأعلى، وقد نضيف أربعين بيتاً نحو الأسفل في الأبنية ذات الطوابق الأرضية، فكل من حولك، من كل الجهات الست، هؤلاء جيرانك، ولو أن كل أهل حي تفقدوا جيرانهم، تفقدوا من في هذا الحي، تفقدوا مريضهم، تفقدوا عائلهم، تفقدوا فقيرهم، مسكينهم، تفقدوا بيتاً لا رجل فيه، لكنا في حال غير هذا الحال، إذا كانت العلاقة الأسرية تقتضي التضامن، فعلاقة الجوار أيضاً تقتضي التضامن. السيدة عائشة تقول:" يا رسول الله، إن لي جارين، أحدهما مقبل عليّ ببابه، والآخر ناءٍ ببابه عني - جار قريب، وجار بعيد - وربما الذي كان عندي لا يسعهما - لا يكفيهما معاً - فأيهما أعظم حقاً عليّ؟ فقال عليه الصلاة السلام: المقبل عليك ببابه ".
 إذاً في مجال التمايز نبدأ بالجار الأقرب، والجار القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب. الإسلام يريد أن يجعل كل حي متكافلاً متضامناً متعاوناً على السراء والضراء، بحيث يحمل أهل هذا الحي ضعيفهم، ويطعمون جائعهم، ويكسون عاريهم، وإلا برئت منهم ذمة الله، وذمة رسوله، ولم يستحقوا الانتماء إلى مجموع المؤمنين.

 

ارتقاء الإيمان عند الناس يسهم بارتقاء العلاقة بين الجيران :

 من الجميل في آداب الإسلام أنه صلى الله عليه وسلم جعل للجار حقاً ولو كان غير مسلم، أي جار له حق عليك، يروى أن أبا حنيفة النعمان كان له جار مغنٍ، وقد أقلق راحته لسنوات وسنوات، وكانت أغنيته المشهورة: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا.. فمرةً لم يسمع صوته، فعلم أنه في مشكلة، سأل عنه فإذا هو في السجن، ذهب إلى مدير السجن وتوسط له، وفي طريق العودة إلى البيت قال له: يا فتى هل أضعناك ؟ تقول: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا.
 أنت لا تعلم أنك إذا أحسنت إلى جارك قد يكون هذا الإحسان سبب هدايته، وسبب توبته، وسبب إقباله على الإسلام، الجار مطلق الجار له حق عليك، كائناً من كان، من أية ملة، من أي دين، هذا جار، فإذا كان جاراً مسلماً فله عليك حقان، حق الجوار وحق الإسلام، وإذا كان جاراً مسلماً قريباً له عليك ثلاثة حقوق، حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة. كم من المشكلات في بلدتنا بين الجيران؟! كم من الخصومات بين الجيران؟! كم من المضايقات بين الجيران؟! كم من الظلم بين الجيران؟! كم من العدوان بين الجيران؟! أهذا هو الإسلام؟ أهذا هو الدين، أهذا هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أهكذا يحبنا الله ورسوله أن تكون الخصومة والعداوة والبغضاء والشحناء بين الجيران؟ قال مجاهد: كنت عند عبد الله بن عمر وغلام له يسلخ شاةً، فقال: يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا فلان- وهو غير مسلم- حتى قال ذلك مراراً، فقال له الغلام: كم تقول هذا؟ فقال:" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه".
 وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))

[ متفق عليه عَنْ أنس بن مالك]

 وكلما ارتقى الإيمان عند الناس ارتقت العلاقة بين الجيران، ولاسيما في هذه البيوت التي بعضها فوق بعض، لاسيما في هذه البيوت المتلاصقة، التي نوافذ بعضها على بعض، كلما اشتد القرب بين الجيران اشتدت الحاجة إلى الود بينهم، وإلى المعاونة، وإلى غض البصر، وإلى الإحسان.

((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ ...))

 يا أيها الأخوة الكلام خطير، ينفي النبي الإيمان عن الإنسان كلياً ..

(( ...حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))

[ متفق عليه عَنْ أنس بن مالك]

 و،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ))

[ أحمد عن عبد الله بن عمرو]

 المحسن العفو، المسامح الذي يتفقد جيرانه، الذي يرعى شؤونهم، الذي يعطف على أولادهم، الذي يحسن إليهم، هذا هو الأقرب عند الله عز وجل، وهذا هو الأفضل عند الله عز وجل.

((تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَــاةٍ ))

[ أحمد عن أبي هريرة ]

 البغضاء، الحقد، الحسد، تذهبها الهدية.

(( تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَــاةٍ ))

[ أحمد عن أبي هريرة ]

الإساءة للجار خطأ كبير يحاسب عليه الإنسان :

 وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ))

[ أحمد عن أبي هريرة ]

 يروى أن بعض الصالحين الأمراء في هذه البلدة الذين عاشوا فيها قبل مئة عام، له جار فقير، عرض بيته للبيع، دُفع له مبلغ قليل، فاستقلّ المبلغ، فقال: والله لا أبيع جوار الأمير بهذا المبلغ، فجاء من أوصل هذا الكلام إلى الأمير، فاستدعاه جاره الأمير وقال: خذ هذا المبلغ وابق جاراً لنا، إن كنت لا تبيع جوارنا بهذا المبلغ فنحن لا نبيعك إطلاقاً.
 هناك قصص أيها الأخوة الكرام من السلف الصالح شيء لا يُصدق، من الإكرام، أنت في جنة إذا كنت بين جيران مؤمنين، كل واحد يرعى حق الآخر، كل واحد يفكر كيف يكرم الآخر، كيف يعتني بأولاده. حدثني رجل قال: كنت مسافراً، وقد أصيب ابني بحادث، ماذا فعل جارنا؟ أخذ ابني إلى المشفى، وأسعفه، وضمد جراحه، واعتنى به، وأشرف على تمام التضميد، وأعاده إلى البيت، ولا يعلم بهذا أحد. أنت حينما تسافر، حينما تغادر البيت، لك جيران مؤمنون، محبون، صادقون، محسنون، أنت في بحبوحة، وأنت في جنة، لذلك من الخطأ الكبير، عد للمليون قبل أن تسئ لجارك.
 قال: أتعرفه ؟ قال: نعم، قال: هل سافرت معه ؟ قال: لا، قال: هل حاككته بالدرهم والدينار ؟ قال: لا، قال: هل جاورته ؟ قال: لا، قال: إذاً لا تعرفه، لا يعرفك إلا جارك.

((.. كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ))

[ أحمد عن أبي هريرة ]

 حديث خطير جداً رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك:

(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))

[ أحمد عن أنس ]

 هذا الجار الذي يخاف جيرانه منه، يخافون منه أن يشتكي عليهم، يخافون منه أن يسبب لهم إزعاجاً، هذا الجار المؤذي الذي يخافه جيرانه لا يدخل الجنة، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه. جارك، يجب أن يرتاح إليك، أن يطمئن إليك، ألا يخاف منك، أن يرتاح في غيبته إلى حسن جوارك.

 

صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار :

 عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا:

((إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ ))

[ متفق عليه عَنْ عائشة]

 حدثني أخٌ كريم: له قريب – تُوفي- له محل من كرم أخلاقه قال له أحد موظفينه: أتغضب إذا اشتريت محلاً إلى جنبك؟ قال: لا، قال: هل يمكن أن تتوسط لي في شراء هذا المحل؟ قال: نعم، فذهب إلى صاحب المحل، وفاوضه، ثم سأل هذا الموظف عنده: كم معك يا بني؟ قال: عشرون ألفاً، ثمن المحل تسعون، فأعطاه الباقي هديةً، وقال: خذ بضاعة من عندي وبعها، فإذا بعتها ادفع لي ثمنها، هذا الذي يفعل هذا مع موظفينه، مع جيرانه، مع أقرب الناس إليه، هذا في أعلى عليين.
 الآن تجد في قصر العدل آلاف مؤلفة من الدعاوى الكيدية، لسبب بسيط، لمخالفة بسيطة، يشتكي الجار على جاره، ويُهلكه، ويحبط عمله، فيكف يرضى الله عنا ؟ كيف يرضى الله عنا إن لم نتحابب ؟ إن لم نتعاون ؟ إن لم يعن بعضنا بعضاً.
 صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار. إن أردت أن تعيش في بحبوحة، وفي رفعة شأن بين الناس، وأن تعمر مديداً، وأن تلهم العمل الصالح الغزير، فأحسن إلى جارك وحسِّن خلقك، وصل رحمك. مما ورد في الأثر:" الجار قبل الدار، الرفيق قبل الطريق، والزاد قبل الرحيل" البيت يرخص الآن لجار سوء، ويغلو لجار طيب، وكم من جار نغص على أهل البناء حياتهم، جار واحد، نغص على كل من حوله حياتهم، لذلك البيت يغلو بحسن الجوار، ويرخص بسوء الجوار.

 

عبادة الله في حسن الجوار من أخطر العبادات :

 حرمة الجار على جاره كحرمة دمه.. جار الدار أحق بدار الجار حق الشفعة، قبل أن تبيع بيتك، لعل لهذا الجار مصلحة في هذا البيت، لعله يحب أن يوسع داره، أن يزوج ابنه إلى جانبه، في بعض المذاهب الفقهية يبطل البيع إن لم يعرض البائع على جاره حصته، يبطل البيع لأن الجار أحق بدار الجار. ثلاث خصال من سعادة المرء في الدنيا: الجار الصالح، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء، الجار الصالح من سعادة المرء في الدنيا.
 تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام، فإن الجار البادي يتحول عنك:" اللهم إني أعوذ بك من جار سوء إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه".
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 عبادة الله في حسن الجوار من أخطر العبادات، هذه عبادة، عبادة تعاملية، كما أنك تصلي، وتصوم، وتحج البيت، وتؤدي الزكاة، من العبادات التعاملية، أن تكون حسن الجوار، أن تُحسن إلى جارك، من أجل أن تكون مسلماً، ومؤمناً. هذا الكلام كلام سيد الأنام، فلا ينبغي إلا أن نأخذه على أنه وحي يُوحى، وعلى أنه توجيه إلهي، وعلى أنه منهج رباني، والإسلام لا يتفوق، والمسلمون لا يصلح حالهم إلا بطاعة نبيهم، والمسلمون في بحبوحة من عذاب الله، مادامت سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مطبقةً في حياتهم، وموضوع اليوم كان عن حسن الجوار، وأرجو الله تعالى أن تترجم هذه الخطبة إلى سلوك يومي، إلى مصالحة بين الجيران، إلى تقارب بين الجيران، إلى النصح بين الجيران، إلى المعاونة بين الجيران، إلى التآلف.
 سمعت عن بعض الأبنية يجتمعون كل أسبوع مرةً في بعض البيوت يلتقون، يتدارسون أمر البناء، يتعاونون، يتسامرون. سمعت عن أهل بناء آخر، يجتمعون جميعاً قبل صلاة الجمعة ليحضروا خطبةً في جامع واحد، مجتمعين. بعض الأبنية كانوا يجلسون مع بعضهم بعضاً كل يوم اثنين، ويدعون بعض الدعاة لإلقاء درس عليهم، ما أجمل أن تكون العلاقة بينك وبين جارك علاقةً مثمرةً، علاقةً طيبة. أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يلهمنا الخير.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

توجيهات النبي الصحيّة :

 أيها الأخوة الكرام:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: هُوَ أَمْرَأُ وَأَرْوَى ))

[ متفق عليه عن أنس ين مالك ٍ]

 أي إذا شرب كأس الماء، يشربه على ثلاث دفعات، يتنفس بين كل شربتين، إذاً يتنفس إذا شرب الإناء ثلاثاً، ويقول: إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ.. أروى: أشدّ رياً، وأبرأ: أقرب إلى العافية، وأمرأ: أسهل مروراً..

((وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى إلى فيه الإناء يقول: بسم الله فإذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثاً ))

[ابن ماحة عن أبي هريرة]

 وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((مصوا الماء مصاً، ولا تعبوا عباً فإن الكباد من العب ))

[ البيهقي عن عائشة]

 والعب: شرب الماء دفعة واحدة. والكباد: مرض في الكبد. الشيء الذي لا يصدق أن في الإنسان عصباً يُسمى العصب الحائر، هذا العصب يربط بين المعدة والقلب معاً، فلو جاء تنبيه عنيف لهذا العصب، والماء البارد الذي يُلقى في الجوف دُفعة واحدة، لا يُمص مصاً من التنبيهات الشديدة لهذا العصب الحائر، وهذا العصب الحائر ربما نبه القلب فأوقفه عن العمل، وهناك حالات كثيرة، حالات موت مفاجئ بسبب تنبيه شديد جداً لهذا العصب الحائر، سماه العلماء النهي العصبي الذي يؤدي إلى توقف القلب، وقد يحدث الموت فجأة. فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:

((مصوا الماء مصاً، ولا تعبوا عباً فإن الكباد من العب ))

[ البيهقي عن عائشة]

 هذا توجيه من قبل الله عز وجل، وهذا العصب الذي يربط بين المعدة والقلب، اسمه العصب المبهم، أو العصب الحائر، ربما أدى تنبيهه الشديد إلى نهي عصبي أدى إلى وفاة مفاجأة.
 شيء آخر: أن الإنسان حينما يكون في حالة حر شديد، في حالة جهد عالٍ جداً، الآلات المعدنية لو صببت عليها الماء لتفطرت ولانشقت فكيف الإنسان؟ قال تعالى:

﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 249]

 في حالات الحرِّ الشديد، وفي الجهد العالي، ينبغي أن تشرب الماء القليل، وأن تشربه مصاً، لا أن تعبه عباً. هذه بعضٌ من توجيهات النبي الصحية، أرجو الله تعالى أن ينفعنا بها.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك، ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين. اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور