وضع داكن
28-03-2024
Logo
علم القلوب - الدرس : 19 - الحكمة 15 - الحكمة هي الحال وليس القال
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الحكيم الصادق موعظته رؤيته وآدابه أفعاله :

أيها الأخوة الكرام, لا زلنا في موضوع الحكمة:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[سورة البقرة الآية:269]

قال ذو النون المصري لبعض تلاميذه, وهو يوصيه: جالس من تكلمك صفته, ولا تجالس من يكلمك لسانه.
هناك قال, وهناك حال. الإنسان حينما يخطب ود الله عز وجل له حال, وحال إنسان صادق في ألف خير من ألف إنسان في واحد؛ أي: ألف رجل يتكلم بلا حال في واحد, لا يساوي إنسان له حال مع الله يتكلم بألف؛ لأنك حينما تخطب ود الله عز وجل يلقي الله في قلبك نوراً, إلا أن الحال مضبوط بالعلم.
الإنسان حينما يحقق هدفه يتألق, قد يكون الهدف خسيساً, وقد تكون الوسيلة غير مشروعة, أما حينما يكون منضبطاً بمنهج الله عز وجل, ويتصل بالله اتصالاً حقيقياً, الآن له حال, هذا الحال أبلغ من ألف قال.
لذلك يقول هذا العارف بالله: جالس من تكلمك صفته, ولا تجالس من يكلمك لسانه, فقيل: من هو؟ قال: هو الحكيم الصادق؛ موعظته رؤيته, وآدابه أفعاله, وقد أغناك مشهده عن مخبره.

 

من يتصل بالله عز وجل يلقي في قلبه حالاً هذا الحال يؤثر في الناس :


الشيء الذي يلفت النظر أن أصحاب رسول الله, وهم قلة؛ ملؤوا الأرض حكمة, ملؤوا الأرض هداية, ملؤوا الأرض سعادة, وتجد الآن مليار ومئتي مليون مقهورين, كلمتهم ليست هي العليا؛ لأن انتماءهم للدين شكلي, أما حينما تتصل بالله, يلقي الله في قلبك نوراً؛ فهذا تسميه: زخم نوري, تسميه: قوة تأثير.
لماذا الإنسان إذا التقى مع رسول الله يشعر أنه يطير من السعادة؟ قالوا: محمد سحر أصحابه بحال.
فحال إنسان في ألف خير من ألف لسان في واحد؛ كل إنسان بإمكانه أن يتكلم بفضائل الأخلاق, أما ليس كل إنسان يعيشها, فالذي يعيشها له حال.
يقول بعضهم: الحكمة إذا خرجت من فم الحكيم, صعدت إلى السماء, فصارت تحت العرش, ولها دوي كدوي النحل, تذكر صاحبها, وتثني عليه.
لذلك: الآية التي لا ننتبه إليها وقد نفهمها فهماً آخر:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾

[سورة النحل الآية:125]

أي كلام يفهم باعتدال.
وأنت حينما تطبق, وحينما تتصل بالله عز وجل, يلقي ربك في قلبك حالاً, هذا الحال هو الذي يؤثر في الناس:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾

[سورة النحل الآية:125]

طبق من أجل أن تتصل, من أجل أن تتألق, من أجل أن تؤثر.

 

التأثير في الناس يتأتى من الاتصال بالله عز وجل و الاشتقاق منه :

فقد تجد إنساناً, معلوماته محدودة, ومتواضعة, لكن تأثيره كبير, وقد تجد إنساناً معلوماته دائرة معارف, وتأثيره محدود؛ فالتأثير لا يتأتى من فصاحة العبارة, ولا من كثرة الأفكار, ولا من دقة الشواهد, ولا من عمق التحليل, التأثير يتأتى من اتصالك بالله عز وجل, واشتقاقك منه.
هذا الحال يعطي الكلام قوة تأثيرية عجيبة, أن تطبق ما تقول؛ إن طبقت ما تقول اتصلت بالله عز وجل, هذا الاتصال أصبح في كلامك روحانية.
الآن: انظر إلى وردة بلاستيكية كبيرة, وحمراء, لا يوجد إنسان وضع في بيته وردة بلاستيكية إلا بعد حين يمل منها, ويرميها, أما ضع وردة حقيقية, ليس هناك مجال للموازنة بينهما؛ الوردة الحقيقية فيها حياة, فيها رائحة, فيها جمال, فيها قوة تأثير, أما الوردة الصناعية فلا تؤثر.
فمهما كان في العبارة فصاحة, وفي الأفكار دقة, وفي التحليل عمق, لا تؤثر؛ إلا إذا كان لك مع الله حال.
الذي يلقي الكلام على الناس, في أمس الحاجة إلى أن يكون له مع الله حال حتى يؤثر.
سيدنا الصديق كان في الطريق, رأى حنظلة يبكي, قال له: ما لك تبكي؟ قال له: نافق حنظلة, قال له: كيف ذلك؟ قال: نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين, فإذا عافسنا الأهل ننسى, سيدنا الصديق قال له: أنا كذلك يا أخي, انطلق بنا إلى رسول الله, -بينا للنبي هذه المشكلة- فقال: أما نحن معاشر الأنبياء, تنام أعيننا, ولا تنام قلوبنا, أما أنتم يا أخي, فساعة, وساعة, لو بقيتم على الحال الذي أنتم عليها عندي, لصافحتكم الملائكة, ولزارتكم في بيوتكم.
معنى هذا أن الصحابي له حال, وهو عند رسول الله, إذا جاء إلى البيت, قد يفقد هذا الحال؛ تسميه الوميض, تسميه التجلي, تسميه السكينة, تسميه التألق, تسميه الزخم الروحي, سمه ما شئت, الطاعة لها قوة تأثير, المسلمون بحاجة إلى رجال, لهم أحوال تؤثر فيهم أي:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾

[سورة النحل الآية:125]

الفرق بين العالم والحكيم :


الفرق بين العالم والحكيم؛ العالم معه معلومات دقيقة جداً, الحكيم طبق هذه المعلومات فتألق, الحكيم معه الحقيقة والبرهان عليها, العالم قد يحدثك عن الصبر, أو عن الشكر حديثاً طويلاً, دقيقاً, عجيباً, ولكن الحكيم صابر, وشاكر؛ فبين أن تتحدث عن الصبر وبين أن تكون صادقاً, وبين أن تتحدث عن الشكر وبين أن تكون شاكراً، مسافة كبيرة.
أهم كلمة في هذا الدرس: حال واحد في ألف خير من ألف قال في واحد, ألف إنسان متكلم لا يهزون واحداً, وإنسان متصل بالله يهز ألفاً.
قال بعضهم: وكيف تحب أن تُدعى حكيماً وأنت لكل ما تهوى وتجوب تضحك دائماً ظهراً لبطن، وتذكر ما جنيت فلا تذوب؟.
قال بعضهم: لو أن رجلاً بين جبلين, أحدهما من ذهب, والآخر من فضة, ثم جعل يتصدق من هذا, ومن هذا, ورجل حبيس ينطق بالحكمة, لكان صاحب الحكمة أعظم أجراً عند الله؛ لأنه:

﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾

[سورة المائدة الآية:32]

الناس لا تصدق إلا ما تشاهد, أما ما تسمع فلا يؤثر فيها, والحقيقة الناس يتعلمون بعيونهم, لا بآذانهم.

 

جهاد النفس والهوى أعلى جهاد على الإطلاق :

الآن: الأب القدوة له تأثير مذهل في أولاده, أما الأب الذي عنده ثقافة واسعة, ويلقي على أولاده مواعظ, ويدخن فرضاً, لمجرد أن يدخن الأب انتهى؛ معنى هذا أنه ضعيف الإرادة أمام نفسه, معنى هذا أن هذه الدخينة مسيطرة عليه, معنى ذلك أنه انهزم أمام نفسه, فالمهزوم لا يؤثر.

>لذلك قالوا: جهاد النفس والهوى أعلى جهاد؛ لأنك أنت عندما انتصرت على نفسك, الآن ممكن أن تعمل جولة مع الخصوم, أما إذا كنت مهزوماً مع نفسك فأنت منتهٍ، والجهاد الدعوي يأتي بعده, وفي الدرجة الثالثة الجهاد القتالي.
أما الجهاد الدعوي فالله عز وجل قال:

﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾

[سورة الفرقان الآية:52]

وقال بعضهم: مثل الجوع كمثل السحاب, ومثل الزهد كمثل الرعد, ومثل القناعة كمثل البرق, والحكمة كالمطر.
أي السحاب مع الرعد مع البرق في النهاية يشكل المطر التي هي الحكمة.
وقال بعضهم: أمر الله تعالى نبيه أن يدعو هذه الأمة بدعوتين, فقال:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾

[سورة النحل الآية:125]

علاقة الإخلاص بالتوحيد علاقة وطيدة :

أنا أقول هذه الكلمة: طبق, وأخلص, وتكلم بأي لغة, بأي طريقة, بأي أسلوب, يصبح لكلامك قوة تأثير, لأنك أنت تنطق بالحكمة, والحكمة فيها علم, وفيها دليل, الدليل: أنت.
وأخلص، الإخلاص له علاقة بالتوحيد, وأنت بقدر توحيدك مخلص, إذا كان بحياتك أشخاص ترجوهم, أو تخافهم, أصبح إخلاصك ضعيفاً لله عز وجل, أما إن لم ترَ مع الله أحداً, ترى أن يد الله تعمل وحدها:

﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾

[سورة الفتح الآية:10]

﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾

[سورة الكهف الآية:26]

إذا وحدت الله حقيقة اتجهت إليه وحده, كما قال عليه الصلاة والسلام: يا علي, لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها.

 

هداية الإنسان ليس من مقوماتها المعلومات فقط بل الاتصال القوي بالله مع الإخلاص :

هداية الإنسان ليس من مقوماتها المعلومات فقط, الآن هناك زخم في المعلومات يفوق حدّ الخيال, أينما ذهبت هناك كثافة في الكتب, والأشرطة, والمحاضرات, والمؤتمرات, والمكتبة الإسلامية طافحة بالمعلومات, لكن لا يوجد رجال لهم اتصال قوي بالله يهز المجتمع، والناس دائماً نقاد, إذا الإنسان نافق انتهى عند الناس؛ إذا أكل مالاً حراماً انتهى, إذا كذب انتهى, أما إذا كان الإنسان مظنة صلاح, يجهد في أن يطبق ما يقول, هذا له قوة تأثير؛ وقد تكون معلوماته وسط, وقد تكون معلوماته ليست واسعة جداً؛ معلومات محدودة, مع إخلاص, وتطبيق, أفضل ألف مرة من معلومات كثيفة جداً مع عدم تطبيق.
قيل للإمام الغزالي: فلان حفظ كتاب الأم للشافعي, فتبسم و قال: زادت نسخة.
أي حال إنسان صادق في ألف خير من لسان ألف في واحد, ألف متكلم من دون صدق لا يؤثرون في واحد, وواحد صادق يؤثر في ألف.

حاجة المسلمين اليوم إلى الدعاة الصادقين :

استفدنا في هذا الدرس من قوله تعالى:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾

[سورة النحل الآية:125]

أي كن عالماً مطبقاً حتى تكون حكيماً, حتى تكون داعية إلى الله عز وجل.
والمسلمون الآن في أمس الحاجة للدعاة إلى الله, و حاجتهم إلى الدعاة أضعاف حاجتهم إلى العلماء.
كل إنسان درس, وتبحر, وتعمق, وألّف, وصنف, هذا عالم لا شك, لكن ضعيف التأثير.
العالم عمله مخبري, يجوز أن يكون شخصاً متفوقاً في المواريث تفوقاً عجيباً, كل دمشق تحتاج إلى إنسان في المواريث, كلما مات شخص عنده مسألة يحلها، لكن الناس الشاردين يحتاجون إلى دعاة صادقين, إلى إنسان مسلم متحرك.
من أدق التعريفات, قالوا: القرآن كون ناطق, والكون قرآن صامت, والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي.

 

الحال علاقته بالعلم لا بالاستقامة :


لآن: نحن بحاجة إلى إنسان مسلم, صادق, أمين, متواضع, ورع, ضابط دخله, وإنفاقه, هذا الإنسان المنضبط المسلمون في أمس الحاجة إليه, هذا الذي يلفت النظر.
كيف أن هناك ألواناً صارخة موجتها واسعة جداً؛ اللون الأصفر الفاقع, اللون البرتقالي, هذا لون صارخ, لأن موجته عالية جداً, ترى من بعيد المركبات في المطارات جميعها لونها أصفر, أو برتقالي؛ لأنه لو كان لونها حديدياً كلون الزفت لا يراه الطيار, نريد لوناً صارخاً.
والمؤمن الذي له حال بسبب طاعته لله هذا لون صارخ؛ لكن كل إنسان يدّعي الحال, مستحيل وألف مستحيل أن يلقي الله عز وجل نوره في قلب إنسان فاسق, دعوة الحال سهلة جداً:

كل يدّعي وصلاً بليلى و ليلى لا تقر لهم بذاكا
***

والحال يجب أن يضبطه العلم.
أحياناً إنسان يحقق مبلغاً كبيراً جداً غير مشروع, يتألق, الحال ليس له علاقة بالاستقامة.
بشكل عام الإنسان إذا وصل إلى هدفه يتألق, ما الذي يضبط الحال؟ العلم؛ قد يكون الحال شيطانياً, أما الحال إذا كان نابعاً عن طاعة لله عز وجل فهذا الذي نتحدث عنه في هذا الدرس. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور