وضع داكن
26-04-2024
Logo
الخطبة : 0480 - الحسد1 ، الحسد المشروع - الأمراض ذات المنشأ النفسي .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الحسد :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع من أدق الموضوعات الاجتماعية التي توقع بين المسلمين العداوة والبغضاء ، والتي تفتتهم ، والتي تضعفهم كلياً أمام أعدائهم ، إنه موضوع أشار القرآن إليه في آيات كثيرة ، وحدثنا النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة عنه ، إنه موضوع الحسد ، فالحسد أيها الأخوة من الرذائل الخلقية ، هناك في الإنسان فضائل خلقية ، وفي الإنسان رذائل خلقية ، هذه الرذائل الخلقية لها نتائج نفسية ، واجتماعية ، على مستوى الفرد ، وعلى مستوى المجتمع ، خطيرة جداً ، وسيئة جداً ، وربما كانت داءً وبيلاً ، ومرضاً مستعصياً أشقى الناس جميعاً .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا أصاب الحسد النفس الإنسانية أضناها ، وأشقاها ، وجعلها مصدر أذى للآخرين ، شقيت ، وتعذبت ، وعذبت ، وأتعبت ، تعبت وأتعبت .

 

أنواع المعاصي :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لا يخفى عليكم أن المعاصي على أنواع ، منها ما هي معاص تتعلق بالجوارح ، فإطلاق البصر معصية تتعلق بالعين ، ورد في الحديث الشريف أن زنا العين النظر ، هناك معصية تتعلق بالأذن ، الاستماع إلى ما لا يرضي الله ، من غناء ، وغيبة ، ونميمة ، وفحش ، وما إلى ذلك ، هناك معاصٍ متعلقة باللسان ، هناك معاصٍ متعلقة باليد ، هناك معاصٍ متعلقة بالرجل ، هذه المعاصي كلها يجمعها محور واحد وهو أنها تتعلق بالجوارح ، ولكن لا تنسوا أيها الأخوة أن هناك من المعاصي ما يتعلق بالقلب ، سماها العلماء معاصي القلب ، ومعاصي القلب كما يرى بعض العلماء أشد إثماً ، وأشد فتكاً بالإنسان من معاصي الجوارح ، نظراً إلى آثارها الخطيرة في الفرد والجماعة .

الحسد أحد معاصي القلوب :

 إن الحسد أحد معاصي القلوب ، ومرةً ثانية معاصي القلب أشدّ إثماً وفتكاً وأطول أمداً من معاصي الجوارح ، العلماء الأجلاء لهم في تعليل هذه الظاهرة رأي دقيق ، وهو أن الحاسد لا يحسد إلا إذا كان ضعيف الإيمان بكمال حكمة الله تعالى ، لو أن الإنسان آمن بكمال حكمة الله تعالى لما انساق إلى الحسد ، يرى أن الله سبحانه وتعالى يعطي كل إنسانٍ استحقاقاً أو حكمة ، ويرى أن يد الله جل جلاله فوق أيدي الناس ، كما قال الله في الآية الكريمة :

﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾

[ سورة الفتح : 10 ]

 ويرى أن الله هو وحده المعطي ، وهو المانع ، وهو القابض ، وهو الباسط ، وهو المعز ، وهو المذل ، ويرى أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد يكون عطاؤه حرماناً ، وقد يكون حرمانه عين العطاء ، ويرى أيضاً أن قول الله عز وجل :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 216]

 هذه المنطلقات الإيمانية الثابتة هذه تبعده عن الحسد ، إذاً من الذي يحسد ؟ الذي يحسد هو الذي ضعف إيمانه ، ضعف إيمانه بأن الله سبحانه وتعالى إله في السماء وإله في الأرض ، ضعف إيمانه بأن الله سبحانه وتعالى بيده الخلق والأمر ، ضعف إيمانه بأن الله سبحانه وتعالى إليه يرجع الأمر كله ، ضعف إيمانه بحكمة الله تعالى ، ضعف إيمانه بعدالة الله تعالى ، ضعف إيمانه بأن الدنيا لا شيء ، وأن الآخرة هي كل شيء ، فالحاسد إذا رأى إنساناً آتاه الله مالاً يرى الدنيا كل شيء ، إذاً هو حصل الدنيا وحصل معها كل شيء ، لكن إذا أيقن أن الحياة الدنيا ليست بشيء أمام الآخرة لا يحسد أحداً آتاه الله حظاً من حظوظها لا بد من تركها عما قريب .

 

تحليلات دقيقة لظاهرة الحسد :

 أيها الأخوة الكرام ؛ للعلماء الأجلاء تحليلات دقيقة لظاهرة الحسد ، إنها تنطلق من ضعف الإيمان ، من ضعف التوحيد ، من ضعف الإيمان بكمال حكمة الله تعالى ، يضاف إلى ضعف الإيمان إفراط في حب الذات ، إفراط في الأثرة أو بالتعبير الشائع الأنانية ، ضعف في الإيمان ، ضعف في إيمان الإنسان بكمال حكمة الله ، مضاف إلى هذا الضعف إفراط في حب الذات ، هذان السببان يقودان إلى ظاهرة تعد من أقبح رذائل النفس ، وتعد من معاصي القلوب وهي أشدّ فتكاً وأوقع في الأذى من أية معصية أخرى .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الحسد داء قديم ، فقد روى الترمذي عن الزبير عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال :

((دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ، هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ))

[الترمذي عن الزبير]

 أرأيتم أيها الأخوة إلى دقة حديث رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف أن الحسد يحلق الدين كله ؟ كيف أن الحسد يمكن أن يهلك مجتمع المسلمين بأكمله ، إنه ينطلق من ضعف الإيمان ، وينطلق أيضاً من الإفراط في حب الذات .

 

حسد الغبطة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ موضوع الحسد طويل ، ربما احتاج إلى عدة خطب ، ولكن نقتصر في هذه الخطبة على موضوع في الحسد ، لأنه كما قلت قبل قليل منازل ودركات ، بعضها أحط من بعض ، ولكن أهون أنواع الحسد وهو الحسد المأذون به شرعاً ، وقد تعجبون لهذه الكلمة ، هناك حسد مأذون به شرعاً ، مسموحٌ في الشرع أن تحسد ، ما هذا الحسد الذي يعد أهون أنواع الحسد ؟ بل إن فطرة الإنسان التي فطر عليها تدعوه إلى هذا النوع من الحسد ، بل إن بنية النفس الدقيقة التي بنيت على الغيرة ، فإذا رأيت إنساناً تفوق في شيء تحب أن تكون مثله ، وما فطر الله النفس البشرية هذه الفطرة إلا من أجل أن يكون هذا النوع من الفطرة باعثاً للنفس البشرية على التقدم في مراقي الفلاح ، أهون أنواع الحسد المأذون به شرعاً هو حسد الغبطة ، أن يرى الإنسان المؤمن نعمة حقيقية على أخيه ، فيتمنى لنفسه مثلها ، دققوا في كلمة حقيقية ، أن ترى نعمة حقيقية على أخيك المؤمن فتتمنى لنفسك مثلها ، أن ترى أخاً لك يحفظ كتاب الله ، أن ترى أخاً لك أتاه الله علماً ، أن ترى أخاً لك أجرى الله على يديه الخير ، أن ترى أخاً لك متمتعاً بمكارم الأخلاق ، أن ترى أخاً ينفق مالاً كثيراً في طاعة الله ، أن ترى أخاً كريماً وظف اختصاصه في خدمة المسلمين ، أن ترى أخاً كريماً له سبق في مدارج السالكين ، إذا رأيت أخاً كريماً يتمتع بنعمة حقيقية وتمنيت أن يكون لك مثلها من دون أن تزول عن أخيك فهذا الحسد المأذون به شرعاً ، فهذا الحسد الذي لا إثم فيه ، ولا تحاسب عليه ، لأنه جزء من فطرتك ، جزء من طبيعتك النفسية ، هذا الحسد أيها الأخوة ضروري ، لأن الغيرة نوع فطري في الإنسان ، وما بني الإنسان هذا البناء إلا لتكون الغيرة أو الغبطة ، أو الحسد المأذون باعثاً له على التفوق في مدارج السالكين ، وفي مدارج الكاملين.
 أيها الأخوة الكرام ؛ أن ترى على أخيك نعمةً حقيقية فتتمنى لنفسك مثلها من دون أن تريد أن تزول عن أخيك ، ضابطان دقيقان ، دائماً أيها الأخوة نحن إذا ذكرنا شيئاً في حقائق الدين ينبغي أن نذكر معه المقياس ، لأن هناك من يحسد الحسد المذموم ، ويدعي أنه غبطة ، هناك من يقع في شر أنواع الحسد وهو يسميه غبطة ، لكن هذه الغبطة ، أو هذا الحسد المسموح به شرعاً ، أو تلك الغيرة - إن صح التعبير - الإيجابية ، هذه الظاهرة سليمة ، وتعبر عن سلامة النفس ، وعن صحتها ، وهي جزء من فطرتها ، فالحسد المأذون به لا شيء عليه ، ولا يحاسب الإنسان عنه ، بل ما فطر الإنسان هذه الفطرة إلا لتكون باعثاً له على التفوق .

مقياس الحسد المسموح به :

 أيها الأخوة ؛ هذا الحسد المسموح به معه مقياس دقيق ، ما هذا المقياس ؟ قال : أن تكون النعمة المحسود فيها ليست من النعم التي اصطفى الله بها بعض خلقه ، لا بالتكوين الفطري ، ولا بالمنح الخاصة التي لا تأتي عن طريق السعي والكسب ، فلو أن إنساناً مثلاً -والمثال حاد جداً - حسد نبياً على مقام النبوة ، هذا المقام ليس مقاماً كسبياً بإمكانك أن تصل إليه ، فلو حسد الإنسان إنساناً على نعمة لا تأتيه بالكسب ، ولكن هي من المنح الإلهية التي يصطفي الله بها بعض خلقه ، ولا تأتي بالكسب ، هذا الحسد مذموم لأن الطريق مسدود ، ما الذي يحصل ؟ من شغل فكره بهذا فقد ضيع وقته ، الحسد بهذه الطريقة مضيعة للوقت ، مقتلة للعمر ، مجلبة للحسرات ، مزلق من المزالق ، تفسد على الإنسان حياته ، تجعله يعيش في أحلام اليقظة ، تنقله من إنسان كادح عامل إلى إنسان ساهم ، حالم ، خامل ، كسول ، يعيش في أحلامه على صهوات النجوم ، بينما هو في واقعه في الأوحال وتحت الرجوم .
 يجب أن تكون النعمة التي تغبط أخاك عليها نعمة تحصل بالكسب هذا أول ضابط ، وأول مقياس للغبطة ، يجب أن تكون النعمة التي تغبط أخاك عليها نعمة قابلة للتحصيل ، من طبيعتها أنها تكتسب ، أما النعمة التي لا تكتسب فالحسد فيها مذموم ولو كان في الأصل مشروعاً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الحسد لنعمة ليست من طبيعة التكسب بل من طبيعة المنح الإلهية هذا الحسد ربما قاد الإنسان إلى التعويض ، والتعويض مرض نفسي مصنف مع الأمراض النفسية ، كيف يعوض الإنسان ؟ لو أن إنساناً افتقر إلى ميزة راقية ، وعنده ميزة أخرى ماذا يفعل ؟ يتباهى ، ويتكبر ، ويبالغ ، ويسرف ، تعويضاً عن شعوره بالنقص من هذه الصفة ، لو أن إنساناً حسد أخاه على نعمة لا تحصل بالكسب قد يقوده هذا الحسد إلى التعويض ، والتعويض سلوك مذموم ربما قاد الإنسان إلى قبائح خلقية لم تكن في الحسبان .
 من أنواع التعويض ادعاء الولاية ، من أنواع التعويض المبالغة في الكرامات ، من أنواع التعويض أن يشطح به الخيال شطحات ليست في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، هذا كله تعويض عن غبطة غير مشروعة ، عن غبطة منحة إلهية لا تتأتى بالكسب ، هناك أوضح من ذلك ، لو أنك غبطت إنساناً على وسامته ، والوسامة لا تكتسب ، لو غبطت إنساناً على ذكائه، أو فصاحة لسانه ، ما الذي يحصل في التعويض ؟ يأتي الاستكبار بالمال ليغطي الشعور بالنقص ، يأتي الاستكبار بالجاه ، يأتي الاستكبار بالحسد ، وبالنسب ، يأتي الاستكبار بأساليب لا ترضي الله عز وجل ، إذاً هذا الذي يحسد على نعمة لا تكتسب سواء أكانت مادية أو معنوية، هذا الإنسان يعيش في أحلام يصبح عمره تافهاً ، يضيع وقته ، يقتل عمره ، يكرب نفسه ، وفي النهاية قد يقوده هذا الحسد إلى نوع من التعويض المذموم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا هو الضابط الأول ، أن تكون النعمة من النعم التي تكتسب ، فإذا غبطت إنساناً على علم نافع تعلمه ، باب العلم مفتوح ، إذا غبطت إنساناً على قرآن حفظه باب الحفظ مفتوح ، إذا غبطت إنساناً على مالٍ أنفقه في سبيل الله باب كسب المال مفتوح ، وباب إنفاقه مفتوح ، إذا غبطت إنساناً على خلق كريم ، التخلق بالخلق الكريم بابه مفتوح ، إنما الحلم بالتحلم ، وإنما الكرم بالتكرم ، وإنما العلم بالتعلم ، هذا في الحديث الصحيح، إذا غبطت أخاً كريماً على نعمة حقيقية يتمتع بها تحصل بالكسب ، فهذه غبطة مشروعة ومحمودة ، وينبغي أن تكون كذلك ، والذي لا يغار من أخيه المؤمن الذي سبقه ، الذي لا يغار من أخٍ تحلى بكمالات الأخلاق ، الذي لا يغار من أخ أطلق الله لسانه في الحق ، الذي لا يغار من أخٍ ارتقى في سلم مدارج السالكين ، فليس من طبيعة البشر ، لأن الغيرة خصيصة خصّ الله بها النفس البشرية لتكون دافعاً لها إلى طوق العلياء .

الغبطة الباطلة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ بقي موضوع دقيق جداً في الغبطة ، أولاً : إذا غبطت أخاك على نعمة ليس لها آثار في الآخرة فهذه الغبطة باطلة ، لو أنك غبطت إنساناً على مالٍ وفير أتاه الله إياه ، لكن هذا المال لا ينفق في طاعة الله ، إذاً هذه الغبطة باطلة ، لأن هذا الإنسان الغني خير له لو كان فقيراً مستقيماً على أمر الله من أن يكون غنياً متفلتاً من منهج الله ، فغبطة الإنسان الغني غير المستقيم غبطة باطلة ، لأن هذا المال ليس نعمة إنما هو نقمة ، وكلكم يعلم أن حظوظ الدنيا إنما هي درجات نرقى بها ، أو دركات نهوي بها ، فما معنى أن تغبط أخاً على مالٍ وفير لا يستخدمه في طاعة الله ؟ لا معنى أن تغبط أخاً على مالٍ وفير لا ينفقه في مرضاة الله ، لا معنى أن تغبط أخاً على مالٍ وفير لا تعرف من أين اكتسبه ، ولا كيف ينفقه ، هذا المال عبء عليه .

﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾

[ سورة الحاقة : 28 ـ 31]

 أيها الأخوة الكرام ؛ لا معنى أن تغبط ذكياً على ذكائه اللماح ، إذا كان ذكاؤه لا يستعمله في معرفة الله والدعوة إليه ، أي لا يستعمله في الحق ، لو أن الإنسان استعمل ذكاءه في الباطل لا يغبط على هذه النعمة ، إنها نقمة وليست نعمة ، إنها دركات تهوي به وليست درجات ترقى به ، خير له أن يكون محدود التفكير ، مستقيماً على أمر الله ، من أن يكون لماح الذكاء ، منحرفاً في متاهات الباطل .
 شيء آخر : لو غبطت إنساناً على وسامته ، أو على صباحة وجهه ، وليس هذا الإنسان مستقيماً ، هذه الوسامة مصيرها إلى النار ، لكنك إذا رأيت إنساناً متأدباً بآداب الإسلام مهما تكن صورته إنها صورة تمضي وتزول عند الموت ويبقى طهر العمل ، ونقاء الروح ، فالدمامة مع الطاعة خير من الوسامة مع المعصية ، والمحدودية في التفكير مع الطاعة خير من طلاقة الفكر مع الانحراف ، والفقر مع الطاعة خير من الغني مع المعصية والذي له زوجة في أعلى مستويات الكمال والجمال لو لم تكن دينة مؤمنة محجبة طاهرة هذا الإنسان لا يغبط على هذه الزوجة لأنها قد تكون وسيلته إلى النار ، لأنه عصى الله في إرضائها ، إذاً لا يغبط عليها ، والأولاد الذين يتمتعون بأرقى مكانة اجتماعية إن لم يكونوا مستقيمين على أمر الله لا يغبط عليهم أبوهم ، الولد البار المؤمن الصالح الذي ينفع الناس من بعد أبيه هو الولد الذي يغبط عليه الأب لا الولد التائه الشارد المنحرف .
 أيها الأخوة الكرام ؛ وكذلك القوة ، هذه القوة إذا لم تستخدم في إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، إن لم تكن هذه القوة دعماً للحق وأهله فلا خير في هذه القوة ، لأن تكون ضعيفاً مستضعفاً منضبطاً بأمر الله ونهيه أفضل من أن تكون قوياً تستخدم القوة فيما لا يرضي الله عز وجل ، لذلك قال الله عز وجل :

﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ﴾

[ سورة التوبة : 85 ]

 أي هؤلاء الذين يتمتعون بمظاهر صارخة هذه المظاهر لا قيمة لها عند الله .

﴿صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾

[ سورة الأنعام : 124 ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ روى الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

((لا حسد إلا في اثنتين ، رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق ، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها))

[ متفق عليه عن عبد الله بن مسعود]

 والحسد هنا في هذا الحديث الصحيح يعني الغبطة . وفي حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر :

((لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله القرآن ، فهو يقوم فيه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار ))

[ متفق عليه عن ابن عمر]

 حديثان صحيحان لك أن تغبط أخاً أتاه الله مالاً ، ينفق هذا المال في وجوه الخير، ولك أن تغبط أخاً أتاه الله علماً ينفق هذا العلم ، يعلمه للناس ويرقى به عند الله ، لا حسد إلا في اثنتين ، أي لا غبطة إلا في اثنتين ، ولو عدنا إلى الآية الكريمة في سورة النساء :

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 يفهم من هذا المقطع من الآية أن الناس متفاوتون .

﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾

[ سورة الإسراء : 21 ]

 في كل حرفة ، في كل حقل ، في كل نشاط بشري ، هناك درجات ، أي حتى في الحرف الراقية هناك تفاوت كبير .

 

عطاء الله عز وجل وفق عدالة تامة :

 إذاً :

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 هناك نهي عن أن تقول : ليتني مثل فلان ، أو ليتني مثل فلان .

﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 يفهم من هذا المقطع الثاني أن عطاء الله عز وجل وفق معيار دقيق وفق عدالة تامة .

﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 دعك مما في أيدي الناس ، وتوجه إلى خالق الناس ، دعك مما حولك ، وانظر إلى ربك ، اسأل ربك من فضله .

لا تسألن بني آدم حاجة  واسأل الذي أبوابه لا تُحجب
***

 الإنسان يغضب إن سألته ، لكن الله عز وجل يغضب إن لم تسأله :

الله يغضب إن تركت سؤاله  وبني آدم حينما يسأل يغضب
***

 فأراد الله سبحانه وتعالى بهذه الآية أن يبعدك عن الناس ، دعك من الناس ، دعك ممن تجاوزك ، دعك ممن تفضل عليك ، دعك ممن تفوق عليك .

﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 هناك تفضيل فطري ، فلان أشدّ وسامة ، فلان أشدّ إدراكاً ، فلان أطول قامةً ، دعك مما فضل الله الناس عليك .

﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

الخلق كلهم عند الله سواسية ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له :

 يحضرني هنا في هذه الآية قول سيدنا عمر لسيدنا سعد بن أبي وقاص وكان حب رسول الله ، وكان خاله ، يقول : أروني خالاً مثل خالي ، وكان عليه الصلاة والسلام يفديه بأمه وأبيه ، كان يقول :

(( ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي ))

[ أخرجه الشيخان عن علي بن أبي طالب ]

 ارمِ سعد فداك أبي وأمي ، قال له عمر عملاق الإسلام:" يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل : خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له "

﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 إذا كان ثلث الليل الأخير كما ورد في الحديث الصحيح :

(( إذا مضى ثلث الليل أو نصف الليل نزل إلى السماء الدنيا جلّ و عزّ فقال : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من داع فأجيبه ؟ ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة ]

 تتضعضع أمام الغني ، لا تبذل ماء وجهك أمام القوي ، اسأل الله من فضله .

 

الله تعالى يعطي باستحقاق دقيق أو بحكمة بالغة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يجب أن تؤمن أن الله سبحانه وتعالى يعطي ، إما باستحقاق دقيق أو بحكمة بالغة ، إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلح إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه ، إما أنه يعطي باستحقاق دقيق .

﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 أو بحكمة بالغة تتكشف هذه الحكمة بعد حين .
 أيها الأخوة الكرام ؛ قال الله تعالى :

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[ سورة آل عمران : 26]

 أي العطاء والمنع ، الإعزاز والإذلال ، هذا محض خير لقوله تعالى :

﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾

[ سورة آل عمران : 26]

 لم يقل بيدك الخير والشر .

 

توظيف الحظوظ في الدنيا في طريق الحق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ معنا قصة قصيرة وردت في سورة القصص ، قال تعالى :

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾

[ سورة القصص : 76 ]

 كان على شاكلة قوم موسى من الانحراف والمعصية ، وبغى عليهم متكبراً .

﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾

[ سورة القصص : 76 ]

 لا تفرح بالدنيا لأنها زائلة ، افرح بما عند الله لأنه باقٍ .

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾

[ سورة القصص : 77 ]

 ينبغي أن توظف حظوظك من الدنيا في طريق الحق ، كما قالت امرأة عمران :

﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾

[ سورة آل عمران : 35 ]

 وظف اختصاصك في سبيل الله ، وظف علمك ، وظف مالك ، وظف خبرتك ، كل شيء تتميز به اجعله في سبيل الحق :

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾

[ سورة القصص : 77 ]

 قال بعضهم : لا تنس المهمة التي جئت من أجلها إلى الدنيا ، وهي أن تعرف الله ، وأن تتحرى منهجه ، وأن تطيعه .

﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾

[ سورة القصص : 77 ]

 وهذا سر وجودك في الدنيا .

 

الابتعاد عن العلو و الفساد في الأرض :

﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾

[ سورة القصص : 77 ]

 لا تفسد حياة الناس بأن تظهر في زينتك ، هؤلاء الذين يظهرون أمام الأطراف الأخرى بأموالهم ، بمتاعهم ، بمركباتهم ، هؤلاء الذين يفعلون ذلك ربما أفسدوا حياة بقية الناس :

﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾

[ سورة القصص : 77 ـ 79 ]

 هنا محط الشاهد ، هنا بيت القصيد ، من أجل هذه الآية سقت هذه القصة .

﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القصص : 79 ]

 إذا أنت حينما تتمنى متاع الحياة الدنيا ، أنت ممن تريد الدنيا ، حينما تتمنى متاع الحياة الدنيا لا تعرف قيمة الآخرة :

﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾

[ سورة القصص :79-80 ]

 أنت إذا نظرت إلى الآخرة فأنت من أهل العلم ، أنت إذا نقلت اهتماماتك إلى الآخرة فأنت من أهل العلم ، أنت إذا غبطت مؤمناً على تفوقه في الآخرة فأنت من أهل العلم .

﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ﴾

[ سورة القصص :81-83 ]

 لا يتبجحون في أموالهم ، ولا ببيوتهم ، ولا بمركباتهم ، ولا بدخلهم الكبير ، ولا بهذا الترف الذي يستعلون به على الناس ، هؤلاء الذين يريدون أن يظهروا بالغنى الفاحش والترف الذي لا حدود له ، يريدون أن يفسدوا حياة الناس ، هؤلاء يريدون علواً في الأرض

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ﴾

  ما معنى أن يكلف عرس عشرين مليون ليرة ؟ أن يكلف عرس عشرة ملايين ليرة ؟ كم شاب يزوج بهذه الملايين ؟ كم شاب يتمنى غرفة في رأس الجبل يسكنها ؟ لذلك قال الله عز وجل .

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة القصص :83 ]

رحمة الله هي أثمن عطاء في الدنيا والآخرة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ موضوع الخطبة اليوم حسد مشروع أي غبطة ، أي غيرة ، ولكن في شيئين ، في نعمة تكتسب ، ونعمة حقيقية ، وليست دنيوية ، الضابطان اللذان تضبط بهما هذه الغبطة من أن تكون حسداً أن يكون الحسد في نعمة يمكن أن تكتسب ، نعمة العلم ، العلم يحصل ، نعمة الدعوة إلى الله هذه تحصل ، نعمة فهم القرآن هذه تحصل ، يجب أن تغبط أخاك على نعمة تحصل بالكسب ، وأن تكون هذه النعمة حقيقيةً ممتدة إلى الآخرة ، فإن كانت نعمة متعلقة بالدنيا فقط فالحسد فيها غير مشروع ، ومحور الخطبة كلها هي قوله تعالى :

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾

[ سورة النساء : 32 ]

 من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، لا تنظر إلى الخلق وانظر إلى الحق ، أنت عبد له ، والله سبحانه وتعالى يتعامل مع عباده بقواعد ثابتة ، ليس بينك وبين الله حجاب .

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 انتهى الأمر .

﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الأعراف : 56]

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

[ سورة الحجرات : 10 ]

﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

[ سورة النور : 56]

 لو دققت في رحمة الله التي هي أثمن عطاء في الدنيا والآخرة لرأيت طريقها بين يديك ، مبذول بين يديك ، فإذا أردت أن تصل إلى الله فدعك من الخلق ، والتفت إلى الحق ، ولا تنظر إلى ما في أيدي الناس ، لا تنظر إلى ما في أيدي الناس ، انظر إلى ما عند الله من خير ، وما عند الله أيها الأخوة من خيري الدنيا والآخرة لا ينال إلا بطاعته ، والذي عند الله من عذاب أليم ، وعذاب مهين ، وعذاب عظيم في الدنيا والآخرة سببه المعصية ، ما عند الله لا ينال إلا بطاعته .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الأمراض ذات المنشأ النفسي :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إن الشدة النفسية التي أساسها الاضطراب ، أساسها القلق ، أساسها الخوف ، أساسها الحسد ، لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله ، هذه الشدة النفسية تسبب أمراضاً وبيلة وخطيرة وعضالة ، الآن أذكر لكم الأمراض ذات المنشأ النفسي فقط ، إنسان يتمتع بأعلى درجات الصحة العضوية ، إذا به يصاب بمرض عضال في عضويته لأسباب نفسية فقط ، فكلما ارتقى الإنسان في معرفة الله ، شفي من أمراضه النفسية ، شفي من الحسد ، شفي من القلق ، شفي من الهم ، من الحزن ، من الاضطراب ، تسرع ضربات القلب الاشتدادي ، مرض أساسه أزمة نفسية ، اضطراب نظم القلب ، مرض سببه أزمة نفسية ، الشدة النفسية تضيق الشرايين ، ارتفاع ضغط الدم ذو المنشأ العصبي ، مرض سببه الشدة النفسية ، تقرحات الجهاز الهضمي مرض سببه الشدة النفسية ، أمراض الحساسية في الجلد لأسباب نفسية، أمراض الأعصاب ، الشلل العضوي ذو المنشأ النفسي ، شلل عضوي ليس له أي سبب عضوي ، سببه نفسي ، وأخيراً الأورام الخبيثة في أحدث البحوث العلمية ذات منشأ نفسي ، اضطراب النفس يضعف جهاز المناعة ، وضعف جهاز المناعة يسبب الأورام الخبيثة ، فالإنسان إذا لاذ بالله عز وجل ، وأقبل عليه ، وترك الناس ، واصطلح مع الله ، وكان ربانياً ، أحسن العلاقة فيما بينه وبين الله ، عن طريق التوبة والطاعة ، إن هذه التوبة ، وتلك الطاعة ، وهذا الإيمان ، وذاك الإقبال ، صحة نفسية وأية صحة ، لذلك هناك أمراض وبيلة جداً ، المؤمنون الطيبون معافون منها لأن التوحيد أراحهم ، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، لأن المؤمن أمره كله بيد الله ، لا يتطلع إلى غير الله ، ليس عنده حقد دفين ، ولا قهر ، ولا شعور بالظلم ، ولا إحباط ، هذه كلها مشاعر الشرك .
 فيا أيها الأخوة الكرام ؛ إذا اصطلحنا مع ربنا ، وأنبنا إليه ، وتبنا إليه ، كسبنا صحتنا في الدنيا ، كسبنا صحتنا التي هي رأس مالنا في الحياة ، التي هي رأس مال حياتنا ، ما من نعمة بعد نعمة الهدى أثمن من نعمة الصحة ، وهذه الصحة في البدن أساسها طهر القلب ، واستقامته ، وعلاقته الطيبة بالله عز وجل .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور