وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 1113 - الاستقامة1 ، استقامة السرائر1 - الدعوة إلى الله فرض عين.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

     الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

موقع الاستقامة من الدين موقع أساسي جداً :

     أيها الأخوة الكرام، من غرائب الصدف أن كل خطبة تكون استجابة لسؤال وردني خلال الأسبوع.
     في الأسبوع الماضي قال لي أخ كريم على الهاتف: إنك تتحدث عن الاستقامة كثيراً، وتعلق عليها كل النتائج، وتؤكد أن كل ثمار الدين لا تقطف إلا بالاستقامة، وكأنها حجر الأساس في الدين، فما الاستقامة ؟
     والله سؤال وجيه ودقيق، ولكن يحتاج إلى سلسلة خطب، وجدت أنه من المناسب أن نبدأ باستقامة السرائر.
     هناك استقامة الجوارح، وهناك استقامة السرائر.
     من استقامة السرائر: النية، الإخلاص، التقوى، محبة الله ورسوله، التوبة، جهاد النفس والهوى، الرضا، الصبر، التوكل، القناعة، الزهد، الخوف، الرجاء، هذه عنوانات استقامة السرائر، فإذا مررنا عليها بشكل معقول ننتقل إلى استقامة الجوارح.
     ومرة ثانية تصور مركبة المقاعد فيها وثيرة، الأبواب دقيقة، كل ما في هذه المركبة رائع لكن لا يوجد فيها محرك، هل هي سيارة ؟ الاستقامة من الدين كالمحرك من السيارة، إذا ألغي المحرك ألغيت السيارة، ولو كان شكلها جميل، و طلاؤها لامع، و مقاعدها وثيرة، و بلورها صاف، لكن لا يوجد محرك، هذه ليست سيارة هي وقافة، فينبغي أن تعلم أن موقع الاستقامة من الدين موقع أساسي جداً، فما لم نستقم على أمر الله لن نستطيع أن نقطف من ثمار الدين شيئاً.

من استقامة السرائر :

1 ـ النية:

               الآن الحديث في هذه الخطبة إن شاء الله وفي الخطبة القادمة إن شاء الله مرة ثانية عن استقامة السرائر.
     أولاً النية:

(( عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ))

[ متفق عليه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ]

               أي لم يتح له أن يعلمها، أحياناً حينما يرى من يعتدي على هذه الأمة والله هناك أناس يموتون بكاءً، ويتمنون أن يكونوا شهداء في هذه المعارك، صدقوا ولا أبالغ إن تمنيت الشهادة في سبيل الله كتبها الله لك ولو مت على فراشك:

(( فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ـ طبعاً الشيء البديهي لم يتح له أن يعملها، لم يتمكن أن يعملها، ما استطاع أن يعملها لكنه تمناها ـ كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ـ هذا من استقامة السرائر، بالداخل ـ فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ـ إن لم يعملها والله رب النوايا كتبها له حسنة كاملة، فإن عملها كتبها له عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة ـ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ـ خوفاً من الله، على وشك أن يعملها، غلق الأبواب ثم خاف من الواحد الديان، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ـ أية معصية اقتربت منها وفي آخر خطوة خفت من الله وقلت: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي، كتبها الله عنده حسنة كاملة ـ فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ))

[ متفق عليه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ]

               هذه قضية في الداخل، بالقلب، بالسريرة، لا أحد يعلمها إلا الله، هذا الحديث متفق عليه في أعلى درجات الصحة، رواه الإمام البخاري ومسلم معاً، أو في عبارة أخرى رواه الشيخان، أو متفق عليه، هذه استقامة النية.

ارتباط عمل الإنسان بنيته :

     وعند أئمة الحديث وصل هذا الحديث الذي سأتلوه على مسامعكم إلى حد التواتر المعنوي:

(( إِنما الأعمال بالنيات ))

[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ]

               لو أردت أن تقدم لإنسان طعاماً نفيساً، لكنك تعلم أنه يؤذيه، وتمنيت إيذاءه بهذا الطعام، كتبها الله لك سيئة كبيرة، وإن قدمت له دواء مراً، بنية شفائه ولم يشفَ به، كتبها الله لك حسنة كاملة، أي العمل مرتبط بالنية التي دفعتك.
     أوضح مثل قصة وقعت في هذا البلد، رجل يملك آلاف الدونمات: جاء من يقول له: إن تبرعت بأرض لبناء مسجد اضطرت البلدية إلى تنظيم هذه الأرض، وإذا نظمتها إلى مقاسم ارتفع سعرها أضعافاً مضاعفة، فقدم خمسة دونمات لبناء مسجد وهو في الأصل لا يصلي، كل من سمع بهذا الخبر أثنى عليه، يا أخي محسن كبير، ما شاء الله، وليس له من الأجر شيء:

(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))

[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ]

               امرأة بارعة الجمال اسمها أم قيس خطبها إنسان من مكة، هي هاجرت إلى المدينة فاشترطت عليه أن يهاجر إلى المدينة، وعندئذ تقبل به، فسمي هذا الإنسان: مهاجر أم قيس:

(( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))

[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ]

               والله هناك أعمال كالجبال، قال تعالى:

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾

( سورة الفرقان)

               أعمال كالجبال هدفها الشهرة، تعلمت العلم ليقال عنك عالم، وقد قيل، خذوه إلى النار.
     قاتلت في الحرب ليقال عنك شجاع، وقد قيل، خذوه إلى النار.
     تعلمت القرآن ليقال عنك قارئ وقد قيل.

2 ـ الإخلاص:

               شيء يقطع القلب، قضية النية خطيرة جداً، فإذا استمعت إلى كلمة استقامة فابدأ باستقامة الداخل، البطن، القلب، والإخلاص:

(( أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلا أشرك فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكَهُ ))

[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]

               أي من غرائب هذا العصر، إذا كان هناك عمل جيد يقال: من أجل الانتخابات، سقط عند الله، إذاً هذا العمل الجيد من أجل أن ينتخب الإنسان، هذه النية الدنيوية أسقطت العمل، قال تعالى:

﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ (5) ﴾

( سورة البينة)

               ليعبدوا الله بجوارحهم، هذه استقامة الظواهر:

﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ (5) ﴾

( سورة البينة)

               هذه استقامة السرائر، القلب له عبادة، عبادته الإخلاص لله تعالى:

﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾

( سورة الزمر الآية: 3 )

               قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما معاً.

 

من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً :

     قال تعالى يصف المؤمنين:

﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ (54) ﴾

( سورة المائدة )

               إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟

(( مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ ))

[ الترمذي عَن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

               إن أرضيت الناس بسخط الله سخط الله عليك، وسخط عليك الناس، من الجهتين، وإن أسخطهم برضاء الله رضي الله عنك، وأرضى عنك الناس، ما قولك ؟ أي من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً.

3 ـ التقوى:

               أيها الأخوة، التقوى ؛ الطاعة، الطاعة تبدأ برغبة من الداخل، هذه الرغبة من الداخل اسمها تقوى الله

(( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ))

[ الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَ]

               أي الطاعة موقف نفسي، نويت أن تطيع الله، نويت أن تؤثر رضاه على رضاء الناس، نويت أن تكون على منهج رسول الله، الآية الكريمة:

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) ﴾

( سورة آل عمران الآية: 102 )

حق التقوى أن تطيع الله فلا تعصيه و تشكره فلا تكفره :

     قال بعض العلماء: حق التقوى أن تطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره، وأن تذكره فلا تنساه.

﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾

( سورة الحج )

               والله أيها الأخوة الكرام، قريب لي يسكن في القاهرة، عندما أصاب القاهرة زلزال زوجته من شدة رعبها حملت وليدها الصغير، وانطلقت إلى الشارع، وفي الشارع وجدت أن وليدها الصغير هو حذاء زوجها، إلى متى يلتبس عليك الأمر بين الوليد وبين الحذاء ؟

﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾

( سورة الحج )

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1) ﴾

( سورة الأحزاب )

               وكل أمر موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام موجه حكماً إلى المؤمنين:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) ﴾

 

من استقامة القلب إرادة طاعة الله :

     أيها الأخوة الكرام، ويدعو الملائكة للمؤمنين كما يحكي لنا القرآن الكريم:

﴿ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ (9)﴾

( سورة غافر)

               اهدنا الصراط المستقيم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو فيقول:

(( اللَّهُمَّ إنّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ))

[ مسلم عن عبد الله بن مسعود]

               والآية تقول:

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (16) ﴾

( سورة التغابن )

والآية تقول:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)﴾

( سورة الأعراف )

               إرادة العمل الصالح من الداخل، خوف المعصية من الداخل، إرادة طاعة الله تبدأ من القلب، هذه من استقامة القلب.

4 ـ الشعور بحب الله و رسوله:

               ومن استقامة السرائر أن تشعر بحب لله ورسوله:

(( ثلاثٌ من كُنُّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

               أي أن يكون الله في قرآنه، ورسوله في سنته، حينما يتعارض النص القرآني أو النص النبوي أو كلاهما مع مصلحتك المادية القريبة المتوهمة، تضع مصلحتك تحت قدمك، وتؤثر طاعة الله ورسوله، عندئذ تستحق حلاوة الإيمان، ومن ذاق حلاوة الإيمان ذاق ما لا يوصف، صار بطلاً، صار شجاعاً، صار سخياً، صار مقداماً، صار جريئاً، صار عزيزاً.
     هؤلاء الصحابة العظام لماذا فتحوا الأرض شرقاً وغرباً ؟ لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان:

(( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

               وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، هذا الولاء والبراء، توالي المؤمنين ولو كانوا ضعافاً وفقراء، وتتبرأ من الكفار والمشركين ولو كانوا أقوياء وأغنياء، الولاء والبراء.
     أنت ممن ؟ أنت من أية أمة ؟ يذهب المسلم أحياناً إلى بلد غربي فإذا بولائه، ومحبته، وطاعته، واستسلامه، لمن يعادي المسلمين، وينظر إلى أمته نظرة ازدراء، هذا انتهى عند الله، هذا ولائه لغير المؤمنين.
     علامة إيمانك أنك توالي المؤمنين ولو كانوا ضعافاً وفقراء، ولو كانوا متخلفين، ولو كانوا يعانون ما يعانون، هم أمتك، هم أبناء دينك، هم أبناء جلدتك.

 

الحبّ شيء أساسي في استقامة الباطن :

     أيها الأخوة الكرام، الحب شيء أساسي في استقامة الباطن، يقول الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

( سورة المائدة )

 

علامة محبة الإنسان لله عز وجل اتباع منهج النبي الكريم :

     أيها الأخوة الكرام، كل يدّعي أنه يحب الله، لكن الله عز وجل ما قبل ادعاء محبته، بل طالب من يدعي محبته بالدليل، والدليل قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

(سورة آل عمران)

               علامة محبتك لله اتباعك لمنهج النبي عليه الصلاة والسلام، هذه علامة المحبة وما قَبِل الله محبته من دون دليل.

 

إذا تعارض الحكم الشرعي مع الانتماء إلى الله و رسوله فالطريق إلى الله ليس سالكاً :

     جواب آخر:

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

( سورة التوبة )

               أي بشكل دقيق جداً إذا كنت تؤثر أباك طامعاً بما عنده وتعصي الله، إذا آثرت أولادك وهم على معصية كي يبروك، إذا آثرت إخوانك وهم في وضع لا يرضي الله من أجل أن تستأنس بهم، إذا آثرت زوجتك غير المستقيمة لأن مصلحتك معها، إذا آثرت قومك وهم على خطأ، إذا آثرت مالاً وفيراً حصّلته من طريق مشبوه، إذا آثرت تجارة لا ترضي الله، بضاعة محرمة، أو التعامل محرم، أو طريقة الدفع محرمة، أو إذا آثرت مسكناً تسكنه والقانون معك وأنت لست بحاجة إلى أن يدعمك القانون، عندك بيت آخر، ومساكن ترضونها، إذا كانت هذه الأشياء الآباء، والأبناء، والأخوان، والزوجة، والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن، أحب إليكم من الله ورسوله عند التعارض، إذا تعارض الحكم الشرعي مع هذه التجارة، إذا تعارض الحكم الشرعي مع هذا الانتماء، مع هذا الولاء مع هذا البيت، مع هذه الأموال، فالطريق إلى الله ليس سالكاً:

﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

( سورة التوبة )

 

محبة الله من استقامة الباطن :

(( جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ " أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ ؟ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ عَمَلٍ، لَا صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

               القول الشائع يجب أن تكون عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً، الحب شيء أساسي، وقد قال الله عز وجل:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

( سورة البقرة الآية: 165 )

               محبة الله من استقامة الباطن، من استقامة السرائر.

5 ـ التوبة:

               أيها الأخوة الكرام، موضوع آخر هو التوبة، التوبة قرار داخلي، نويت أن تتوب، التوبة من استقامة السرائر:

(( اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

               يركب بعيره وعليه طعامه وشرابه:

(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))

[ مسلم عن أنس بن مالك]

               نطق بكلمة الكفر:

(( إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))

[ ورد في الأثر ]

التوبة قرار داخلي :

     أيها الأخوة الكرام:

﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

( سورة البقرة )

(( إِني لأستغفرُ الله في اليومِ مئة مَرة ))

[أبو داود عن الأغر المزني]

               سيدنا يونس:

﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

( سورة الأنبياء)

               التوبة قرار داخلي، والتقوى قرار داخلي، والحب قرار داخلي.

6 ـ جهاد النفس و الهوى:

               الحديث في هذه الخطبة عن استقامة السرائر وجهاد النفس والهوى:

(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ ))

[ الترمذي عن ابن عباس]

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾

( سورة العنكبوت الآية: 69 )

﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾

( سورة الطلاق )

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

( سورة الليل )

﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201) ﴾

( سورة الأعراف )

               اعملوا واتكلوا فكل ميسر لما خلق له.
     فالجهاد موقف داخلي، أن تتخذ قراراً بسلوك الطريق الصعب من أجل مرضاة الله عز وجل.

7 ـ الرضا:

               أيها الأخوة الكرام، من استقامة السرائر الرضا، أن ترضى عن الله.
     شخص يطوف حول الكعبة، قال: يا رب هل أنت راضٍ عني ؟ كان وراءه الإمام الشافعي، قال له: يا هذا هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال له: سبحان الله ! من أنت ـ يرحمك الله ـ ؟ قال له: أنا محمد بن إدريس، قال له: كيف أرضى عن الله وأنا أتمنى رضاه ؟ هذا الكلام ما فهمه، قال له: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله، قد تأتي مصيبة هل تقول من أعماق أعماق قلبك: يا ربي لك الحمد، أنت حكيم، وعليم، ورحيم، وعادل، وأنت رب العالمين تربيني، لعل هناك خطأ ارتكبته.
     والله مرة شهدت حريقاً في أحد أسواق دمشق، أحد الأخوة الكرام احترقت أشياء من محله بالملايين، التقيت به قال لي الكلمة التالية: لعلي في الثلاثين عاماً الماضية ارتكبت أخطاء جمعها الله لي في هذا الحريق يا رب لك الحمد.
     نال وسام الشرف، نجح بالامتحان، ملايين مملينة ضاعت في محله التجاري.
     بمستشفى في دمشق جاءهم مريض مصاب بالسرطان في الأمعاء، كلما دخل مَن يعوده يقول له: اشهد أنني راض عن الله، يا رب، لك الحمد، إذا قرع الجرس تتهافت الممرضات لخدمته، غرفة منورة، والآلام لا تحتمل، بقي أياماً معدودة وتوفاه الله، ولحكمة بالغة بالغة بالغة، جاء مريض آخر إلى الغرفة نفسها، والأطباء نفسهم، والممرضون نفسهم، لا يوجد نبي إلا و سبّه، رأى أهل المستشفى مريضين، أحدهما مؤمن، راض عن الله، والآلام لا تحتمل، وكلما دخل إنسان يعوده يقول له: اشهد إنني راض عن الله، يا رب لك الحمد، وبعد أيام توفاه الله بأجمل حالة، والثاني مات كافراً.

 

من كان راضياً كان أسعد الناس :

     الرضا عن الله من استقامة الباطن، راض عن نفسك، عن شكلك، عن دخلك، عن اختصاصك، عن زوجتك، عن أولادك، كلها اختيار الله عز وجل، هذه قسمة الله لك، إن كنت راضياً فأنت أسعد الناس.

(( إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ))

[ الترمذي عن أنس بن مالك]

(( ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ))

[ حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ]

               والله الذي لا إله إلا هو قد تجد إنساناً مؤمناً موظفاً، دخله محدود، قلبه ممتلئ رضا عن الله، وقد تجد إنساناً معه ملايين مملينة، معه ألوف الملايين، وهو ساخط عن الله:

(( ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، واجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس، وأدِّ ما افترضه الله عليك تكن من أعبد الناس، ولا تشكُ من هو أرحم بك إلى من لا يرحمك))

[ حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ]

               ويعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم:

(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))

[ أبو الشيخ عن أبي الدرداء ]

               سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أما بعد: " إن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
     أي الرضا أعلى من الصبر، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه.
     درجة عالية من الإيمان أن تأتي مصيبة تقول: يا رب لك الحمد، أنت اخترت هذه، وأنت الحكيم، وأنت الرحيم، وأنت العليم، وأنا المقصر المذنب، يا رب اجعلها تكفيراً لسيئاتي، هكذا المؤمن.

 

من اتكل إلى حُسْن اختيار الله له فهو راض :

     قيل للحسن بن علي: إن أبا ذر يقول: " الفقر أحبّ إليّ من الغنى، والسقم أحبّ إليّ من الصحة "، فقال الحسين رضي الله عنه: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: " من اتكل إلى حُسْن اختيار الله له و لم يتمنَ أنه في غير الحالة التي اختارها الله له فهو راض ".
     أي اختار الله لك عملاً محدوداً، كلما سمع عن شخص دخله غير محدود يحترق قلبه، أنت يمكن كمالك، واستقامتك سببها دخلك المحدود، لأن الله عز وجل علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، دققوا في الرابعة وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
     أنت على دخل محدود مستقيم من بيتك للجامع، لو جاءتك ملايين مملينة، والله أخت كريمة أرسلت لي رسالة زوجها سافر الذي إلى الخليج، كان فقيراً فاغتنى هناك، هي محجبة حجاباً كاملاً قال لها: عليك أن تأتيني و أنت تلبسين بنطالاً، وأريد بطنك أن يظهر، و إذا لم تأتِ هكذا فأنت طالق.
     لذلك: استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام من الغنى المطغي، والفقر المنسي:

(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنىً مُطْغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً، أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً، أَوْ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]

               سيدنا الحسين رضي الله عنه يقول: " من اتكل إلى حُسْن اختيار الله له و لم يتمنَ أنه في غير الحالة التي اختارها الله له فهو راض ".
     اختارك من أسرة فقيرة، كلما تكلم عن رفيقه الذي يملك والده الملايين يقول: لو كنت ابن الغني لكان معي ملايين مملينة، هذا كلام الشيطان:

(( فلاَ تَقُلْ: لَوْ أَني فَعَلْتُ كَذَا كانَ كَذَا وَكَذَا، وَ لَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ فإنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ ))

[مسلم عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه ]

               الجواب أيها الأخوة الكرام، والله الذي لا إله إلا هو يوم القيامة حينما يكشف الله لك عن حكمة ما ساقه إليك من شدائد إن لم تذب كالشمعة محبة لله فالدين باطل.

 

ليس الرضا أن تفرح بالمصيبة لكن الرضا أن تحسن الظن بالله مع المصيبة :

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 26 )

               المصائب خير، والعطاء خير، والأمطار الوفيرة خير، والجفاف خير، والاجتياح أحياناً نصحو به، نتّحد، الأحداث الكبرى ظاهرها مؤلم جداً، لكن والله هناك خيرات من باطنها لا يعلمها إلا الله، وحدتنا، أيقظتنا، عرفنا قيمة أنفسنا.
     قال أبو علي الدقاق: " ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء ".
     البلاء مؤلم، موت الابن صعب، الرضا ليس معناه أنك تفرح بموت ابنك، مستحيل أنت بشر، الألم لا يتناقض مع الرضا، لذلك: " ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، الفقر مؤلم، المرض مؤلم، موت الابن مؤلم، إنما الرضا ألا تعترض على الحكم والقضاء".
     فالإنسان يقول: يا رب لك الحمد، النبي بكى حينما مات ابنه إبراهيم، قيل له: أتبكي ؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إن القلب ليحزن، و إن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون"
     هذا الموقف الكامل ليس معنى الرضا أن تفرح بالمصيبة، لا، المصيبة مؤلمة جداً، والفقر مؤلم، موت الولد صعب، ليس الرضا أن تفرح بالمصيبة، الرضا أن تحسن الظن بالله مع المصيبة.

 

الرضا قبل القضاء والرضا بعد القضاء :

 

    وكان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: " اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء ".
     هناك رضا قبل القضاء ورضا بعد القضاء، أي أنت، يا رب لك الحمد.
     هذه التي قالت في حضرة رسول الله، وقد كان في زيارة أحد أصحابه وقد توفاه الله: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، لو أن النبي سكت لكان كلامها صحيحاً، هو نبي مرسل، معه تشريع، أقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وسكوته تشريع، فإذا سكت فكلامها صحيح، فقال النبي لها: " ومن أدراكِ أن الله أكرمه ؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه"، الفرق بين لقد أكرمك الله وبين أرجو الله أن يكرمك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي".
     هذا رضا قبل القضاء، كل واحد منا يا ترى يصاب بمرض ؟ يجوز، إن شاء الله يرضينا، يا ترى يفقد أحد أقربائه ؟ ممكن، الله يرضينا، هذا موقف المؤمن يرضى قبل القضاء، إذا وقع القضاء يرضى بعد القضاء.
     أيها الأخوة الكرام، مرة ثانية استقامة السرائر أخطر من استقامة الظواهر والجوارح، منها النية، الإخلاص، التقوى، الحب، التوبة، جهاد النفس والهوى، الرضا.
     وفي خطبة قادمة إن شاء الله تعالى نتابع استقامة السرائر، وبعدها ننتقل إلى استقامة الجوارح.
     أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

 

* * *

الخطبة الثانية :

     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :

     أيها الأخوة الكرام، مرة ومرة ومرة ومرة أتمنى عليكم أنكم إذا حضرتم خطبة هناك أشياء دقيقة وواضحة، وحاولتم في الأسبوع الذي يلي الخطبة أن تجهدوا في تطبيق ما سمعتم، وأن تتحدثوا لمن حولكم، لأهلكم، لأولادكم، لزملائكم في العمل، لأصدقائكم، لجيرانكم، بأي لقاء عن موضوع تأثرت به، إن فعلت هذا فأنت داعية من نوع خاص في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، وهذا تطبيق لقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( بلغوا عني ولو آية ))

[ البخاري عن ابن عمرو ]

     بلغ أصحابك، وأصدقاءك، وجيرانك، ومن تلتقي بهم في هذا الأسبوع، بسهرة، بنزهة، بلقاء، باجتماع، ذكرهم بحديث واحد:

(( بلغوا عني ولو آية ))

     لأن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم بدليلين قويين، الأول:

﴿ وَالْعَصْر (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾

( سورة العصر)

     الدعوة إلى الله كفرض عين من التواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
     والدليل الثاني:

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (108) ﴾

( سورة يوسف)

     فإن كنت متبعاً لرسول الله ينبغي أن تنفذ وصيته:

(( بلغوا عني ولو آية ))

[ البخاري عن ابن عمرو]

     فأنت بكل خطبة اكتب كلمتين، اكتب حديثاً واحداً، اكتب آية تأثرت بها، التقيت ببيت أختك مثلاً، سهرة، في غداء، في وليمة، في اجتماع، في لقاء لطيف، في جلسة أسبوعية متكررة، تكلم بهذا الحديث:

(( بلغوا عني ولو آية ))

[ البخاري عن ابن عمرو ]

     هذه الدعوة إلى الله كفرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف، وأما الدعوة إلى الله كفرض كفاية تحتاج إلى تبحر، وإلى تعمق، وإلى تفرغ، وإلى علم شمولي، تستطيع به أن ترد على كل شبهة.

 

الدعاء :

     اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور