- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الله عز وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرّمه أعظم تكريم :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زال الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحن في شهر مولده صلى الله عليه وسلم ، وقد كانت الخُطبة السابقة عن قوله تعالى :
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
واليوم الحديث عن آيةٍ أخرى وردت في سورة آل عمران ، وهي قوله تعالى :
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكرمه أعظم تكريم ، جعله المخلوق الأول ، وكلفه حمل الأمانة ، وأعطاه مقوِّماتِها ، كلفه حمل الأمانة وأعطاه مقوِّماتها ، منحه نعمة العقل ، وسخَّر له الكون ، وفطره فطرةً عالية ، ومنحه حريَّة الكَسب ، وأودع فيه الشهوات ليرقى إلى رب الأرض والسموات ، زوَّده بميزان العقل وميزان الفِطرة ، وفوق كلِّ ذلك ؛ فوق نعمة العقل التي كرَّم الله بها الإنسان ، وفوق نعمة التسخير الذي خَصَّ الله به الإنسان ، وفوق نعمة حرية الكَسْب ، التي تثمِّن عمل الإنسان ، وفوق نعمة الشهوة التي تدفعه إلى الواحد الديان ، وفوق كل هذه النِعَم مَنَّ الله على المؤمنين بنعمةٍ كبرى .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمة منَّ تعني العطاء العظيم ، قد تُعْطَى بيتاً تتركه عند الموت ، قد تُعْطَى صحةً ينتهي أثرها عند الموت ، أيّ شيءٍ يا أيها الأخوة ينتهي مع الموت ليس عطاء عظيماً ، لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ، أعطى قارون مالاً ، ما إن مفاتيح الكنوز ليعجز عن حَمْلِها أولو العصبة ، الرجل الأقوياء الأشداء .
﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾
العطاء الذي ينبغي أن نتنافس فيه و نحرص عليه :
يا أيها الأخ الكريم ؛ يجب أن تفرِّق بين عطاءٍ وعطاء ، قد يعطى الإنسان صحةً تامة ، قد يعطى ذكاء ، قد يعطى جمالاً ، قد يعطى قوةً ، قد يعطى عُمُرَاً مديداً ، قد يعطى ذريةً نَجِيبَةً ، ولكن ما العطاء الحقيقي ؟ ما العطاء الذي يستمر إلى ما بعد الموت ؟ ما العطاء الذي لا ينقضي بانقضاء الحياة ؟ ما العطاء الذي تسعد به إلى أبد الآبدين ؟ ما العطاء الذي سمَّاه الله عطاءً ؟ ما العطاء الذي ينبغي أن نتنافس فيه ؟
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
ما العطاء الذي يجب أن نَحْرَص عليه ؟ ما العطاء الذي ينبغي أن نَشُدَّ الرِحال إليه ؟ ربنا عز وجل يقول :
﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
قد يُعطي الله الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ، يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب ، يعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب ، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين مِن خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ، ينبغي أن نبحث عن عطاءٍ لا ينقضي بانقضاء الحياة ، لا تنقطع منفعته عند الموت ، يجب أن نبحث عن عطاءٍ تبدأ آثاره بعد الموت ، يجب أن نبحث عن عملٍ يدخل معنا إلى القبر .
﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
منّ في اللُّغة بمعنى أعطى ، بل هو العطاء الجزيل ، بل هو الخير الكثير ، إذا كان الله عز وجل قد وصف هذا العطاء بأنه عطاءٌ جزيل ، فهو العطاء الجزيل . قارون يا أيها الأخوة قال :
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
قال قومه :
﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
عطاء الله عز وجل ليس له حدود أو أمد :
إذا وقفنا عند كلمة " مَنَّ " أيْ أعطى ، وعطاء الله عز وجل ليس له حدود ، وليس له أمد ، كل شيءٍ ينتهي مع نهاية الحياة لا ينبغي أن تسميه عطاءً ، لكن العطاء الحقيقي هو العطاء الأبديُّ السَرْمَديّ .
﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
فوق نعمة العقل ، وفوق نعمة تسخير الكون ، وفوق نعمة حُرِّية الكسب ، وفوق نعمة إيداع الشهوات ، وفوق نعمة الفطرة . .
النبي بشر و تجري عليه كلّ خصائص البشر :
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ " من أنفسهم " ، من بني البشر ، لو أن النبي مَلَك لقال الناس : هذا مَلَك ، ليس فيه الشهوات التي أودعها الله فينا . جعله من بني البشر ، وجعل لسانه لساناً عربياً مبيناً ، وجعله يعيش بين ظهرانيهم ، يا أيها الملك - كما قال الإمام سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - حينما خاطب النجاشي قال : " يا أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونفعل الفواحش ، ونسيء الجوار ، ونقطع الرحم " . هذه الجاهلية ؛ الجاهلية لؤم ، وخِسَّةٌ ، وأنانيةٌ ، ودناءةٌ ، وشُحٌ ، وعداوةٌ ، وبغضاءٌ . لقد بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه ، هذا يفسر قوله تعالى :
﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
من بني جَلدتهم ، منَ بني البشر ، عربيٍ ينطق بلسانهم ، عاش بين ظهرانيهم ، رأوا أمانته ، رأوا عفَّته ، رأوا كَرَمَهُ ، رأوا استقامته ، رأوا صدقه ، رأوا تواضعه ، رأوا غيرته .
التفكُّر من أولى العبادات التي ترقى بها إلى رب الأرض والسموات :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما مُهِمَّة هذا النبي العظيم ؟ ماذا فعل هذا النبي في أصحابه ؟ إلى ماذا دعاهم ؟ كيف بيَّن لهم ؟ ربنا عز وجل يقول :
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾
كيف تعرف ؟ كيف تُطَبِّق أمر الله عز وجل إن لم تعرف الآمر؟ ربنا عز وجل يقول :
﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
إن النبي عليه الصلاة والسلام يتلو عليهم آياته ، آياته الدَّالة على عظمته ، الله سبحانه وتعالى لا يُرى بالعين ، ولكن آياته التي بثَّها في كل مكان تستطيع أن ترى أسماءه الحسنى وصفاته الفُضلى من خلالها . .
﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾
الطعامُ آية ، الماءُ آية ، ابنك آية ، النباتُ آية ، الحيوانُ آية ، الجبالُ آية ، فالقرآن الكريم طافِحٌ بالآيات الكونية ، أيْ إذا أردتم أن تعرفوا ربكم فتفكروا في آياته . .
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾
ما دام النبي عليه الصلاة والسلام يتلو على أصحابه آيات الله الدالَّة على عظمته، قد تُحْمل هذه الآية على الآيات الكونية ، وقد تحمل على الآيات القرآنية ، لأنه كما تتعَّرف إلى الله عز وجل من خلال آيات الكون ، تستطيع أن تتعرف إلى الله عز وجل من خلال آيات القرآن ، إنك تستطيع أن تستِشف عظمة الله عز وجل من خلقه ، ومن كلامه ، فقد تعني الآيات هنا آيات الكون ، وقد تعني آيات القرآن ، وقد تعنيهما معاً ، يتلو عليهم الآيات القرآنية الدالة على آياته الكونية . .
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾
هذا جانبٌ أيها الأخوة ؛ جانبٌ كبير من جوانب الدين ، لا تمرَّ هكذا ، تأمَّل في خَلْقِكَ ، تأمَّل في طعامك ، تأمل في شرابك ، تأمل فيمن حولك ، تأمل فيما حولك ، لا تمر على الآية مراً سريعاً ، لا تكن كالغافل ، كن واعياً ، " أمرني ربي بتسع : خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني - وموطن الشاهد- أن يكون صمتي فكراً " . تأمَّل في كل شيءٍ بثَّه الله من حولك ، إذا شربت كأس ماءٍ قل : بسم الله الرحمن الرحيم . هل عرفت نعمة الله في هذا الكأس من الماء ؟ لولا أن الله عز وجل مَنَّ علينا بنعمة المَطَر ما حالنا؟ كيف المصير؟
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾
إذا شربت كأس الماء تأمَّل عظمة الله من خلال هذا الكأس ، إذا تناولت رغيف الخُبز ، هذا القمح من خَلَقه ؟ مَن أنبته ؟ مَن هيَّأه ؟ مَن صممه ؟ مُن خَلَقَهُ على هذه الشاكلة ؟ هذا بابٌ كبير من أبواب الدين ، هذا العقل تلك الجوهرة الثمينة ، لا ينبغي أن تستعمله في غير ما خُلِقَ له ، لا ينبغي أن تُعَطِّله ، ولا ينبغي أن تستعمله لأشياء تافهة سخيفة ، هذا العقل وهبنا الله إيَّاه كي نعرف به خالق السموات والأرض . .
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾
هذا جانبٌ كبير من جوانب الدين ، يجب أن تعرف الآمر قبل الأمر ، يجب أن تعرف الله عز وجل من أجل أن تُطَبِّق أمره ، هناك عِلْمٌ بالله ، وهناك علمٌ بأمره ، وهناك علمٌ بخلقه ، العلم بالله إذا تفكرت في خلق السموات والأرض تعرفه ، وإذا اطلعت على أمر ونهيه من خلال الشرع الحنيف تعبده ، ولابد مِن أن تعرفه ، ولابد مِن أن تعبده ، وفي الإسلام عقيدةٌ وشريعة ، اعتقادٌ وعمل ، إدراكٌ وسلوك .
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾
هذا جانبٌ كبير ، لذلك عَدَّ بعض العلماء التفكُّرَ من أولى العبادات التي ترقى بها إلى رب الأرض والسموات .
تزكية النفس :
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
جوهر الدين أن تُزَكِّي هذه النَفس ؛ أن تجعلها صادقةً ، أن تجعلها أمينةً ، أن تجعلها عفيفةً ، أن تجعلها مستقيمةً ، الإيمان عفةٌ عن المحارم ، عفةٌ عن المطامع ، النبي عليه الصلاة والسلام كان مثلاً أعلى في مكارم الأخلاق ، وقد بيَّنت لكم في الأسبوع الماضي أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خُلُقاً ، إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، إن خير ما أوتي الإنسان خُلُقٌ حَسَن ، إن من أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً .
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
جانبٌ آخر ؛ جانب التفكُّرِ جانبٌ معرفي ، وجانب التزكية جانبٌ أخلاقي ، ومرتبة الإيمان مرتبةٌ عالية ، المؤمن شخصية فذَّة ، فيه جانب علمي معرفي إدراكي ، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه . وفيه جانبٌ أخلاقي ؛ الإيمان كلُّه خُلُقٌ حسن ، ينبغي أن تكون أخلاق المؤمن صارخةً ؛ يجب أن تعرف بأخلاقك ، باستقامتك ، بحديثك ، بوعدك ، بعطائك ، بمنعك ، بعفَّتك ، هكذا .
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾
ولكن كيف يزكِّيهم ؟ كما قال بعض العلماء : لابد من أن تتصل بالله عز وجل ، فمكارم الأخلاق كلُّها مخزونةٌ عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً مَنَحَهُ خُلُقاً حسناً ، أيْ إذا اتصلت بالله عز وجل مَنَّ الله عليك بالخُلُق الحَسن . الحلم له ثمنٌ وله إشراق ، إنما الحلم بالتحلُّم ، تتكلف الحلم حتى يتجلى الله على قلبك فتكون حليماً ، تتكلف الكرم حتى تتصل بالله فيتجلى على قلبك فتكون كريماً .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما من إنسان اتصل بالله عز وجل إلا اكتسب منه بعض الكمال الذي ينبغي أن يتصف به بين الناس .
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾
مؤمن كاذب مستحيل ، مؤمن لا يفي بوعده ، مؤمن مُتعال ، مؤمن يحبُّ ذاته ، هذا كله في عالم الإيمان من المُستحيلات ، ما الذي خَسِره المسلمون حينما ظنوا أن الدين صلاةٌ وصيام وحجٌ وزكاة ليس غير وانطلقوا في تعاملهم مع بعضهم بعضاً وفْقَ شهواتهم .
الدين نظام متكامل و متوازن :
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
لا بد من أن تتعلم هذا القرآن ؛ وما فيه من تشريعات ، وما فيه من أسرار ، قال بعض العلماء : الحِكْمَةُ هي السُنَّة التي بَّينت ، وفصلت ، ووجهت ، وقيَّدت ، وأطلقت . .
﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
أرأيتم أيها الأخوة كيف أن هذه الآية فيها مراكز ثلاثة ، مراكز ثقلٍ ثلاثة ؛ معرفة الله مِن خلال آياته ، وتطهير النفس وتزكيتها مِن خلال الاتصال بالله عز وجل ، ومعرفة شرع الله والحكمة مِنه كي تكون هذه الشرائع منهجاً لهذا الإنسان في تعامله مع الناس .
جانبٌ تشريعي ، وجانبٌ أخلاقي ، وجانبٌ معرفي ، هذه وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام ، ونحن نحتفل بعيد ميلاده صلى الله عليه وسلم .
لا ينبغي أن نأخذ الجانب التشريعي وحده ، ولا أن نأخذ الجانب الأخلاقي وحده، ولا ينبغي أن نأخذ الجانب المَعْرَفيّ وحده ، إن الآية الكريمة تقوم على هذه الدعائم الثلاث ؛ إن مهمة النبي عليه الصلاة والسلام أساسها هذه الدعائم الثلاث ، لابد من التوازن ، من السهل أن ينمو شيءٌ على حساب شيءٍ آخر ، أن تبالغ في جانب وأن تهمل جانباً ، عندئذٍ لا يؤتي الدين أُكُلَهُ التي أرادها النبي عليه الصلاة والسلام :
((إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه ))
لا يرعى هذا الدين إلا من أحاطه من كل جوانبه ، لابد مِن أن تكون متوازناً في هذه الدعائم الثلاث .
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
لو أدَّيت الصلاة ؛ وشعرت بحقدٍ ، وشعرت بضغينةٍ ، وشعرت بكِبْرٍ ، وشعرت بأنانيَّة ، وشعرت بموقف لا يرضي الله عز وجل ، يجب أن تعلم علم اليقين أن في دينك خللاً كبيراً ، يجب أن نفهم الدين على حقيقته ، يجب أن نفهم الدين نظاماً متكاملاً ، يجب أن نفهم الدين نظاماً متوازناً ، لا ينبغي أن نأخذ جانباً وندَعَ جانباً ، لا ينبغي أن ينمو فينا جانب على حساب جانب .
تحقيق دعائم ثلاث قبل الاحتفال بعيد المولد النبوي :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الله سبحانه وتعالى في آية قرآنية في سورة آل عمران يصف مهمة النبي ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين ، إذا أردنا إحياء سُنَّة النبي ، إذا أردنا أن نحتفل احتفالاً حقيقياً بعيد المولد النبوي الشريف فينبغي أن نحقق هذه الدعائم الثلاث التي وردت في هذه الآية ، تلاوة الآيات ، والتفكُّر في ملكوت السموات والأرض ، وتزكية النفس ، وتطهيرها مِن الدرن والدنس ، من الشك والشِرك ، من الحِقد والكراهية ، من الأنانية - إن صح التعبير - من كل نقيصةٍ لا ترضي الله عز وجل ، لأن الله طيبٌ ولا يقبل إلا طيِّباً ، وإن كل نقيصةٍ أخلاقية لتعذِّب صاحبها يوم القيامة عذاباً لا حدود له .
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
إذا عرفت الله عز وجل وأردت أن تتقرب إليه ، ما السبيل ؟ السبيل أن تعرف شريعته ، أن تعرف أمره ونهيه ، أن تعرف ما يرضيه وما لا يرضيه ، ما ينبغي وما لا ينبغي ، إذاً تفكر في خلق السموات والأرض ، وتعلَّم كتاب الله عز وجل ، وزكِّ نفسك ، إن فعلت ذلك فقد احتفلت احتفالاً حقيقياً بعيد المولد النبوي الشريف .
رسالة النبي رسالة إنسانيّة عمَّت الأرض بنورها وبفضائلها :
نقطةٌ أخيرة في هذه الآية :
﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
حينما يأتي الهدى على هدى شيء ، وحينما يأتي الهدى على ضلالٍ شيءٌ آخر، حينما تأكُل وأنت جائع شيء ، وحينما تأكل وأنت َشْبعان شيءٌ آخر ، مما يعظم نعمة الهدى أنها جاءت بعد جاهليةٍ جهْلاء ، جاءت بعد ضلالة عَمْياء ، جاءت بعد تمزقٍ وتشتت ، بعد انحراف ، بعد طُغيان ، لقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الرسالة الإنسانية التي عمَّت الأرض بنورها وبفضائلها .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا عز وجل يقول :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
معنى " وسطاً " أي وسطاء بين الله وبين خَلْقِهِ ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ ألا تحبون أن تسعدوا في دنياكم وآخرتكم ؟ تعرفوا إلى الله ، وتعرفوا إلى شريعته ، وزكوا أنفسكم بكثرة الذكر والإقبال على الله عز وجل تسعدوا في الدنيا والآخرة .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الزيتون آية من آيات الله الدالة على عظمته :
أيها الأخوة الأكارم ؛ حدثتكم في الخطبة السابقة أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾
أشار إلى عظم هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا . حدثتكم أن التين آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته ، كيف لا وقد وردت في نَصِّ القرآن الكريم . وأما الزيتون فهناك أحاديث نبويةٌ شريفةٌ كثيرة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ))
وسمَّاه ربنا سبحانه وتعالى وقوداً . .
﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾
ومعنى وقود ، أنه وقودٌ لهذا الجسم البشري . اكتشف العلماء أن كل غرامٍ واحدٍ من زيت الزيتون فيه ثماني حريرات- ثماني وحدات حرارية- فإذا تناول الإنسان مئة غرام ، فكأنما استمد طاقةً تزيد عن ثمانمئة حريرة ، أي عن نصف حاجته اليومية من الغذاء.
الشيء الذي يُلْفِت النظر أن الله سبحانه وتعالى جعل في هذا الزيت خاَّصةً ، وهي أنه مادةٌ دسمةٌ غير مُشْبَعة ، ومعنى أنها غير مشبعة أي أنها تلتهم ذارَّت الدُهن العالقة في الدم .
إن زيت الزيتون يمنع ترسب المواد الدهنية على جدران الشرايين . ويقول بعض الأطباء : إن عمر الإنسان من عمر شرايينه ، ومن الأمراض الخطيرة ، مرض تصلُّب الشرايين، وترسُّب المواد الدهنية على الجُدُر بحيث تضيق اللَّمعة ، ويجهد القلب .
والشيء الدقيق أن الله سبحانه وتعالى جعل في هذا الزيت مادةً مليِّنةً للشرايين، ومادةً مجرِّفةً للدهون التي تترسَّب على جدرانه ، وجعل في هذا الزيت مادةً دهنيةً غير مشبعةٍ . أما الزيوت الحيوانية المُشبعة فهي تبقى عالقةً في الدم ، ويمكن مع النوم الطويل المديد أن تترسَّب على جدران الشرايين ، مما يُسَبِّب ضيق الشرايين ، وتصلُّب الشرايين ، وما إلى ذلك من متاعب قلبيَّة خطيرة .