وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0318 - سنة الابتلاء -إعجاز القرآن.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الله عز وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرّمه أعظم تكريم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زال الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحن في شهر مولده صلى الله عليه وسلم ، وقد كانت الخُطبة السابقة عن قوله تعالى :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب : 21]

 واليوم الحديث عن آيةٍ أخرى وردت في سورة آل عمران ، وهي قوله تعالى :

﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكرمه أعظم تكريم ، جعله المخلوق الأول ، وكلفه حمل الأمانة ، وأعطاه مقوِّماتِها ، كلفه حمل الأمانة وأعطاه مقوِّماتها ، منحه نعمة العقل ، وسخَّر له الكون ، وفطره فطرةً عالية ، ومنحه حريَّة الكَسب ، وأودع فيه الشهوات ليرقى إلى رب الأرض والسموات ، زوَّده بميزان العقل وميزان الفِطرة ، وفوق كلِّ ذلك ؛ فوق نعمة العقل التي كرَّم الله بها الإنسان ، وفوق نعمة التسخير الذي خَصَّ الله به الإنسان ، وفوق نعمة حرية الكَسْب ، التي تثمِّن عمل الإنسان ، وفوق نعمة الشهوة التي تدفعه إلى الواحد الديان ، وفوق كل هذه النِعَم مَنَّ الله على المؤمنين بنعمةٍ كبرى .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمة منَّ تعني العطاء العظيم ، قد تُعْطَى بيتاً تتركه عند الموت ، قد تُعْطَى صحةً ينتهي أثرها عند الموت ، أيّ شيءٍ يا أيها الأخوة ينتهي مع الموت ليس عطاء عظيماً ، لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ، أعطى قارون مالاً ، ما إن مفاتيح الكنوز ليعجز عن حَمْلِها أولو العصبة ، الرجل الأقوياء الأشداء .

﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾

[ سورة القصص : 76]

العطاء الذي ينبغي أن نتنافس فيه و نحرص عليه :

 يا أيها الأخ الكريم ؛ يجب أن تفرِّق بين عطاءٍ وعطاء ، قد يعطى الإنسان صحةً تامة ، قد يعطى ذكاء ، قد يعطى جمالاً ، قد يعطى قوةً ، قد يعطى عُمُرَاً مديداً ، قد يعطى ذريةً نَجِيبَةً ، ولكن ما العطاء الحقيقي ؟ ما العطاء الذي يستمر إلى ما بعد الموت ؟ ما العطاء الذي لا ينقضي بانقضاء الحياة ؟ ما العطاء الذي تسعد به إلى أبد الآبدين ؟ ما العطاء الذي سمَّاه الله عطاءً ؟ ما العطاء الذي ينبغي أن نتنافس فيه ؟

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[ سورة المطففين : 26]

 ما العطاء الذي يجب أن نَحْرَص عليه ؟ ما العطاء الذي ينبغي أن نَشُدَّ الرِحال إليه ؟ ربنا عز وجل يقول :

﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 قد يُعطي الله الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ، يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب ، يعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب ، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين مِن خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ، ينبغي أن نبحث عن عطاءٍ لا ينقضي بانقضاء الحياة ، لا تنقطع منفعته عند الموت ، يجب أن نبحث عن عطاءٍ تبدأ آثاره بعد الموت ، يجب أن نبحث عن عملٍ يدخل معنا إلى القبر .

﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 منّ في اللُّغة بمعنى أعطى ، بل هو العطاء الجزيل ، بل هو الخير الكثير ، إذا كان الله عز وجل قد وصف هذا العطاء بأنه عطاءٌ جزيل ، فهو العطاء الجزيل . قارون يا أيها الأخوة قال :

﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾

[ سورة القصص : 78]

 قال قومه :

﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾

[ سورة القصص : 76-77]

عطاء الله عز وجل ليس له حدود أو أمد :

 إذا وقفنا عند كلمة " مَنَّ " أيْ أعطى ، وعطاء الله عز وجل ليس له حدود ، وليس له أمد ، كل شيءٍ ينتهي مع نهاية الحياة لا ينبغي أن تسميه عطاءً ، لكن العطاء الحقيقي هو العطاء الأبديُّ السَرْمَديّ .

﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 فوق نعمة العقل ، وفوق نعمة تسخير الكون ، وفوق نعمة حُرِّية الكسب ، وفوق نعمة إيداع الشهوات ، وفوق نعمة الفطرة . .

 

النبي بشر و تجري عليه كلّ خصائص البشر :

﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ " من أنفسهم " ، من بني البشر ، لو أن النبي مَلَك لقال الناس : هذا مَلَك ، ليس فيه الشهوات التي أودعها الله فينا . جعله من بني البشر ، وجعل لسانه لساناً عربياً مبيناً ، وجعله يعيش بين ظهرانيهم ، يا أيها الملك - كما قال الإمام سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - حينما خاطب النجاشي قال : " يا أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونفعل الفواحش ، ونسيء الجوار ، ونقطع الرحم " . هذه الجاهلية ؛ الجاهلية لؤم ، وخِسَّةٌ ، وأنانيةٌ ، ودناءةٌ ، وشُحٌ ، وعداوةٌ ، وبغضاءٌ . لقد بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه ، هذا يفسر قوله تعالى :

﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 من بني جَلدتهم ، منَ بني البشر ، عربيٍ ينطق بلسانهم ، عاش بين ظهرانيهم ، رأوا أمانته ، رأوا عفَّته ، رأوا كَرَمَهُ ، رأوا استقامته ، رأوا صدقه ، رأوا تواضعه ، رأوا غيرته .

 

التفكُّر من أولى العبادات التي ترقى بها إلى رب الأرض والسموات :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما مُهِمَّة هذا النبي العظيم ؟ ماذا فعل هذا النبي في أصحابه ؟ إلى ماذا دعاهم ؟ كيف بيَّن لهم ؟ ربنا عز وجل يقول :

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 كيف تعرف ؟ كيف تُطَبِّق أمر الله عز وجل إن لم تعرف الآمر؟ ربنا عز وجل يقول :

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة يونس : 101 ]

 إن النبي عليه الصلاة والسلام يتلو عليهم آياته ، آياته الدَّالة على عظمته ، الله سبحانه وتعالى لا يُرى بالعين ، ولكن آياته التي بثَّها في كل مكان تستطيع أن ترى أسماءه الحسنى وصفاته الفُضلى من خلالها . .

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة يونس : 101]

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾

[ سورة يوسف : 105]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾

[ سورة عبس : 24-32]

 الطعامُ آية ، الماءُ آية ، ابنك آية ، النباتُ آية ، الحيوانُ آية ، الجبالُ آية ، فالقرآن الكريم طافِحٌ بالآيات الكونية ، أيْ إذا أردتم أن تعرفوا ربكم فتفكروا في آياته . .

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 ما دام النبي عليه الصلاة والسلام يتلو على أصحابه آيات الله الدالَّة على عظمته، قد تُحْمل هذه الآية على الآيات الكونية ، وقد تحمل على الآيات القرآنية ، لأنه كما تتعَّرف إلى الله عز وجل من خلال آيات الكون ، تستطيع أن تتعرف إلى الله عز وجل من خلال آيات القرآن ، إنك تستطيع أن تستِشف عظمة الله عز وجل من خلقه ، ومن كلامه ، فقد تعني الآيات هنا آيات الكون ، وقد تعني آيات القرآن ، وقد تعنيهما معاً ، يتلو عليهم الآيات القرآنية الدالة على آياته الكونية . .

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 هذا جانبٌ أيها الأخوة ؛ جانبٌ كبير من جوانب الدين ، لا تمرَّ هكذا ، تأمَّل في خَلْقِكَ ، تأمَّل في طعامك ، تأمل في شرابك ، تأمل فيمن حولك ، تأمل فيما حولك ، لا تمر على الآية مراً سريعاً ، لا تكن كالغافل ، كن واعياً ، " أمرني ربي بتسع : خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني - وموطن الشاهد- أن يكون صمتي فكراً " . تأمَّل في كل شيءٍ بثَّه الله من حولك ، إذا شربت كأس ماءٍ قل : بسم الله الرحمن الرحيم . هل عرفت نعمة الله في هذا الكأس من الماء ؟ لولا أن الله عز وجل مَنَّ علينا بنعمة المَطَر ما حالنا؟ كيف المصير؟

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾

[ سورة الملك : 30]

 إذا شربت كأس الماء تأمَّل عظمة الله من خلال هذا الكأس ، إذا تناولت رغيف الخُبز ، هذا القمح من خَلَقه ؟ مَن أنبته ؟ مَن هيَّأه ؟ مَن صممه ؟ مُن خَلَقَهُ على هذه الشاكلة ؟ هذا بابٌ كبير من أبواب الدين ، هذا العقل تلك الجوهرة الثمينة ، لا ينبغي أن تستعمله في غير ما خُلِقَ له ، لا ينبغي أن تُعَطِّله ، ولا ينبغي أن تستعمله لأشياء تافهة سخيفة ، هذا العقل وهبنا الله إيَّاه كي نعرف به خالق السموات والأرض . .

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 هذا جانبٌ كبير من جوانب الدين ، يجب أن تعرف الآمر قبل الأمر ، يجب أن تعرف الله عز وجل من أجل أن تُطَبِّق أمره ، هناك عِلْمٌ بالله ، وهناك علمٌ بأمره ، وهناك علمٌ بخلقه ، العلم بالله إذا تفكرت في خلق السموات والأرض تعرفه ، وإذا اطلعت على أمر ونهيه من خلال الشرع الحنيف تعبده ، ولابد مِن أن تعرفه ، ولابد مِن أن تعبده ، وفي الإسلام عقيدةٌ وشريعة ، اعتقادٌ وعمل ، إدراكٌ وسلوك .

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 هذا جانبٌ كبير ، لذلك عَدَّ بعض العلماء التفكُّرَ من أولى العبادات التي ترقى بها إلى رب الأرض والسموات .

 

تزكية النفس :

﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾

[ سورة الأعلى:14-15]

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس : 9]

 جوهر الدين أن تُزَكِّي هذه النَفس ؛ أن تجعلها صادقةً ، أن تجعلها أمينةً ، أن تجعلها عفيفةً ، أن تجعلها مستقيمةً ، الإيمان عفةٌ عن المحارم ، عفةٌ عن المطامع ، النبي عليه الصلاة والسلام كان مثلاً أعلى في مكارم الأخلاق ، وقد بيَّنت لكم في الأسبوع الماضي أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خُلُقاً ، إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، إن خير ما أوتي الإنسان خُلُقٌ حَسَن ، إن من أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً .

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس : 9]

 جانبٌ آخر ؛ جانب التفكُّرِ جانبٌ معرفي ، وجانب التزكية جانبٌ أخلاقي ، ومرتبة الإيمان مرتبةٌ عالية ، المؤمن شخصية فذَّة ، فيه جانب علمي معرفي إدراكي ، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه . وفيه جانبٌ أخلاقي ؛ الإيمان كلُّه خُلُقٌ حسن ، ينبغي أن تكون أخلاق المؤمن صارخةً ؛ يجب أن تعرف بأخلاقك ، باستقامتك ، بحديثك ، بوعدك ، بعطائك ، بمنعك ، بعفَّتك ، هكذا .

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 ولكن كيف يزكِّيهم ؟ كما قال بعض العلماء : لابد من أن تتصل بالله عز وجل ، فمكارم الأخلاق كلُّها مخزونةٌ عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً مَنَحَهُ خُلُقاً حسناً ، أيْ إذا اتصلت بالله عز وجل مَنَّ الله عليك بالخُلُق الحَسن . الحلم له ثمنٌ وله إشراق ، إنما الحلم بالتحلُّم ، تتكلف الحلم حتى يتجلى الله على قلبك فتكون حليماً ، تتكلف الكرم حتى تتصل بالله فيتجلى على قلبك فتكون كريماً .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما من إنسان اتصل بالله عز وجل إلا اكتسب منه بعض الكمال الذي ينبغي أن يتصف به بين الناس .

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 مؤمن كاذب مستحيل ، مؤمن لا يفي بوعده ، مؤمن مُتعال ، مؤمن يحبُّ ذاته ، هذا كله في عالم الإيمان من المُستحيلات ، ما الذي خَسِره المسلمون حينما ظنوا أن الدين صلاةٌ وصيام وحجٌ وزكاة ليس غير وانطلقوا في تعاملهم مع بعضهم بعضاً وفْقَ شهواتهم .

 

الدين نظام متكامل و متوازن :

 أيها الأخوة الأكارم ؛

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 لا بد من أن تتعلم هذا القرآن ؛ وما فيه من تشريعات ، وما فيه من أسرار ، قال بعض العلماء : الحِكْمَةُ هي السُنَّة التي بَّينت ، وفصلت ، ووجهت ، وقيَّدت ، وأطلقت . .

﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 أرأيتم أيها الأخوة كيف أن هذه الآية فيها مراكز ثلاثة ، مراكز ثقلٍ ثلاثة ؛ معرفة الله مِن خلال آياته ، وتطهير النفس وتزكيتها مِن خلال الاتصال بالله عز وجل ، ومعرفة شرع الله والحكمة مِنه كي تكون هذه الشرائع منهجاً لهذا الإنسان في تعامله مع الناس .
 جانبٌ تشريعي ، وجانبٌ أخلاقي ، وجانبٌ معرفي ، هذه وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام ، ونحن نحتفل بعيد ميلاده صلى الله عليه وسلم .
 لا ينبغي أن نأخذ الجانب التشريعي وحده ، ولا أن نأخذ الجانب الأخلاقي وحده، ولا ينبغي أن نأخذ الجانب المَعْرَفيّ وحده ، إن الآية الكريمة تقوم على هذه الدعائم الثلاث ؛ إن مهمة النبي عليه الصلاة والسلام أساسها هذه الدعائم الثلاث ، لابد من التوازن ، من السهل أن ينمو شيءٌ على حساب شيءٍ آخر ، أن تبالغ في جانب وأن تهمل جانباً ، عندئذٍ لا يؤتي الدين أُكُلَهُ التي أرادها النبي عليه الصلاة والسلام :

((إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه ))

[ الدر المنثور في التفسير المأثور عن جابر بن عبد الله]

 لا يرعى هذا الدين إلا من أحاطه من كل جوانبه ، لابد مِن أن تكون متوازناً في هذه الدعائم الثلاث .

﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾

[ سورة آل عمران : 164]

 لو أدَّيت الصلاة ؛ وشعرت بحقدٍ ، وشعرت بضغينةٍ ، وشعرت بكِبْرٍ ، وشعرت بأنانيَّة ، وشعرت بموقف لا يرضي الله عز وجل ، يجب أن تعلم علم اليقين أن في دينك خللاً كبيراً ، يجب أن نفهم الدين على حقيقته ، يجب أن نفهم الدين نظاماً متكاملاً ، يجب أن نفهم الدين نظاماً متوازناً ، لا ينبغي أن نأخذ جانباً وندَعَ جانباً ، لا ينبغي أن ينمو فينا جانب على حساب جانب .

 

تحقيق دعائم ثلاث قبل الاحتفال بعيد المولد النبوي :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ الله سبحانه وتعالى في آية قرآنية في سورة آل عمران يصف مهمة النبي ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين ، إذا أردنا إحياء سُنَّة النبي ، إذا أردنا أن نحتفل احتفالاً حقيقياً بعيد المولد النبوي الشريف فينبغي أن نحقق هذه الدعائم الثلاث التي وردت في هذه الآية ، تلاوة الآيات ، والتفكُّر في ملكوت السموات والأرض ، وتزكية النفس ، وتطهيرها مِن الدرن والدنس ، من الشك والشِرك ، من الحِقد والكراهية ، من الأنانية - إن صح التعبير - من كل نقيصةٍ لا ترضي الله عز وجل ، لأن الله طيبٌ ولا يقبل إلا طيِّباً ، وإن كل نقيصةٍ أخلاقية لتعذِّب صاحبها يوم القيامة عذاباً لا حدود له .
 أيها الأخوة الأكارم ؛

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 إذا عرفت الله عز وجل وأردت أن تتقرب إليه ، ما السبيل ؟ السبيل أن تعرف شريعته ، أن تعرف أمره ونهيه ، أن تعرف ما يرضيه وما لا يرضيه ، ما ينبغي وما لا ينبغي ، إذاً تفكر في خلق السموات والأرض ، وتعلَّم كتاب الله عز وجل ، وزكِّ نفسك ، إن فعلت ذلك فقد احتفلت احتفالاً حقيقياً بعيد المولد النبوي الشريف .

 

رسالة النبي رسالة إنسانيّة عمَّت الأرض بنورها وبفضائلها :

 نقطةٌ أخيرة في هذه الآية :

﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

[ سورة آل عمران: 164]

 حينما يأتي الهدى على هدى شيء ، وحينما يأتي الهدى على ضلالٍ شيءٌ آخر، حينما تأكُل وأنت جائع شيء ، وحينما تأكل وأنت َشْبعان شيءٌ آخر ، مما يعظم نعمة الهدى أنها جاءت بعد جاهليةٍ جهْلاء ، جاءت بعد ضلالة عَمْياء ، جاءت بعد تمزقٍ وتشتت ، بعد انحراف ، بعد طُغيان ، لقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الرسالة الإنسانية التي عمَّت الأرض بنورها وبفضائلها .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا عز وجل يقول :

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾

[ سورة البقرة : 143 ]

 معنى " وسطاً " أي وسطاء بين الله وبين خَلْقِهِ ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ ألا تحبون أن تسعدوا في دنياكم وآخرتكم ؟ تعرفوا إلى الله ، وتعرفوا إلى شريعته ، وزكوا أنفسكم بكثرة الذكر والإقبال على الله عز وجل تسعدوا في الدنيا والآخرة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الزيتون آية من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حدثتكم في الخطبة السابقة أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾

[ سورة التين : 1]

 أشار إلى عظم هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا . حدثتكم أن التين آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته ، كيف لا وقد وردت في نَصِّ القرآن الكريم . وأما الزيتون فهناك أحاديث نبويةٌ شريفةٌ كثيرة ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ))

[رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب ]

 وسمَّاه ربنا سبحانه وتعالى وقوداً . .

﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾

[ سورة النور : 35]

 ومعنى وقود ، أنه وقودٌ لهذا الجسم البشري . اكتشف العلماء أن كل غرامٍ واحدٍ من زيت الزيتون فيه ثماني حريرات- ثماني وحدات حرارية- فإذا تناول الإنسان مئة غرام ، فكأنما استمد طاقةً تزيد عن ثمانمئة حريرة ، أي عن نصف حاجته اليومية من الغذاء.
 الشيء الذي يُلْفِت النظر أن الله سبحانه وتعالى جعل في هذا الزيت خاَّصةً ، وهي أنه مادةٌ دسمةٌ غير مُشْبَعة ، ومعنى أنها غير مشبعة أي أنها تلتهم ذارَّت الدُهن العالقة في الدم .
 إن زيت الزيتون يمنع ترسب المواد الدهنية على جدران الشرايين . ويقول بعض الأطباء : إن عمر الإنسان من عمر شرايينه ، ومن الأمراض الخطيرة ، مرض تصلُّب الشرايين، وترسُّب المواد الدهنية على الجُدُر بحيث تضيق اللَّمعة ، ويجهد القلب .
 والشيء الدقيق أن الله سبحانه وتعالى جعل في هذا الزيت مادةً مليِّنةً للشرايين، ومادةً مجرِّفةً للدهون التي تترسَّب على جدرانه ، وجعل في هذا الزيت مادةً دهنيةً غير مشبعةٍ . أما الزيوت الحيوانية المُشبعة فهي تبقى عالقةً في الدم ، ويمكن مع النوم الطويل المديد أن تترسَّب على جدران الشرايين ، مما يُسَبِّب ضيق الشرايين ، وتصلُّب الشرايين ، وما إلى ذلك من متاعب قلبيَّة خطيرة .

 

تحميل النص

إخفاء الصور