- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الوقوف بعرفة لقاء روحي بين العبد و ربه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نحن في أيامٍ مباركة ؛ نحن في أيام الحج ، ونحن في اليوم الثامن مِن ذي الحجة - يوم التروية - وفيها يتوجه الحاجُّ إلى مِنَى ، ليبيت فيها مؤدياً خمس صلواتٍ ، استعداداً ليوم اللقاء الأكبر - يوم عرفة - قال عليه الصلاة والسلام :
((الحج عرفة))
والإنسان في هذه الدنيا خُلِقَ ليعرف الله عزَّ وجل ، قال تعالى :
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
والعبادة طاعةٌ طوعيَّة ، تسبقها معرفةٌ يقينية ، تُفضي إلى سعادةٍ أبدية ، كيف تعبده قبل أن تعرفه ؟ كيف تستقيم على أمره وأنت لا تعرفه ؟ كيف ترجو ما عنده وأنت لا تعرفه؟ كيف تخافُ عقابه وأنت لا تعرفه ؟ كيف تشتاق إليه وأنت لا تعرفه ؟ أصل الدين معرفته.
أعرابيٌ جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال : " جئتك يا رسول الله لتعلمني من غرائب العلم . فقال عليه الصلاة والسلام : وماذا صنعت في أصل العلم ؟ - تريد غرائب العلم ماذا صنعت في أصل العلم ؟ - قال : وما أصل العلم ؟ قال : هل عرفت الرب ؟ " هل عرفته؟ هل عرفت ما عنده مِن نعيمٍ مقيم ؟ هل عرفت ما ينتظر العاصي من عذابٍ أليم ؟ هل ذقت طعم قربه ؟ هل ذُقت طعم التجلي الذي يتجلاه على قلبك ؟ الحجُّ يوم عرفة ، الحج عرفة ، مَن لم يقف في عرفة فلا حجَّ له ، ومَن لم يعرف الله عزَّ وجل فلا حج له ، مَن لم يغلب على ظنه أن الله غفر له حين يفيض مِن عرفات فلا حج له .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وبعد طلوع شمس يوم التاسع من ذي الحجة يتجه الحجاج إلى عرفات ؛ مُلَبّين ، مهللين ، مكبِّرين ، وقد أجمع العلماء- على اختلاف المذاهب -أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم ، ففيه يتمُّ اللقاء الروحي بين العبد وربه ، وفيها يتلَقّى المؤمن النَفَحات الربّانية التي تغسل قلبه مِن كل دَرَن ، وفيها تطهر نفسه مَن كل شائبة ، ويرتاح قلبه مَن كل هَمّ ، ويرقى فؤاده إلى أعلى عليين . ولا شيء يؤلم الحاج في عرفات ، وقد عرف طرفاً من كمال الله عزَّ وجل ، لا شيء يؤلمه إلا تلك الأيام التي مضت وقد أمضاها في سفاسف الأمور ، أمضاها في القيل والقال ، أمضاها في أهدافٍ خسيسة تنتهي في الدنيا .
النفحات القدسيّة التي يتلقَّاها الحاج في عرفات :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مَن عرف الله زَهِدَ فيما سواه ، هذا الحج ، هذا الفرض العظيم ؛ إنما فرضه الله علينا كَيّ نتفرَّغ مِن همومنا ، من هموم معاشنا ، من هموم علاقاتنا ، ونتجه بكليتنا إلى الله عزَّ وجل ، والموعد في عرفات ، ويوم اللقاء في عرفات ، وعرفات رُكن الحج الأعظم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه النفحات القدسية التي يتلقَّاها الحاج في عرفات ، على الرَغْمِ مِن المتاعب ، ومِن شدة الحر ، ومِن شدة الازدحام ، إنها لا تُنْسَى ، ما مِن يومٍ إلا ويذكر الحاج فيه هذا اللقاء الروحي الذي هو أسعد أيام حياته ، مِن هنا يَحِنّ الذي حجَّ سابقاً إلى أن يحجَّ كل عام ، طمعاً لما ينتظره مِن سعادة القُرب ، ولذَّة اللقاء .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا وقف الحاج في عرفات وقوفاً صحيحاً ، وقد خرج مِن بيته تائباً ، مخلصاً ، مطيعاً ، مُلَبِّياً ، عرف شيئاً مِن كمال الله عزَّ وجل ، عندئذٍ يرى أن الدنيا أقل من جناح بعوضة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ))
علامة الإيمان ؛ أن ترى أن الدنيا صغيرةً في عينيك ، وعلامة النفاق أن ترى أن الدنيا هي كل شيء ، لهذا ورد في الحديث الشريف أنه :
(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة ))
الوقوف في عرفات يُعرّف المؤمن بحقيقة الدنيا :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا وقف الحاج في عرفات ؛ عرف حقيقة الدنيا ، وكيف أنها مطيَّةٌ للآخرة ، وكيف أن الدنيا دار تكليف وأن الآخرة دار تشريف ، وأن خير ما في الدنيا طاعة الله سبحانه وتعالى ، إذا وقف الحاج في عرفات تذوَّق قوله تعالى :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
هذه السورة القصيرة التي نُكْثِر مِن قراءتها في الصلاة ، ربنا سبحانه وتعالى يقسم بالعصر ، بالزَمَن الذي هو أثمن شيءٍ في حياة الإنسان ، بل إن الإنسان بِضْعَة أيام ، هذا الزمن الذي يقسم الله به ، المُقْسَم عليه . .
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
إذا مضى اليوم ولم تزدد فيه إيماناً ، ولم تزدد فيه عملاً ، ولم تزدد فيه دعوةً إلى الله عزَّ وجل ، ولم تصبر على ما أصابك ، فهذا اليوم خسارةٌ في خسارة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا وقف الحاج في عرفات وقوفاً صحيحاً ، رأى أن الله سبحانه وتعالى هو كل شيء ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ ، إذا وقف الحاج في عرفات رأى أن الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيءٍ وكيل ، عندها يوَحِّد ، إذا وقف الحاج في عرفات وقوفاً صحيحاً تذوّق قوله تعالى :
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
إذا وقف الحاج في عرفات وقوفاً صحيحاً عرف أن كل المَتاعِب تأتي مِن الشِرْك.
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
إذا وقفت في عرفات وقوفاً صحيحاً ؛ كشف الله عن بصيرتك ، وعرفت سرّ وجودك في الدنيا ، وعرفت قيمة الدنيا ، وعرفت أثمن ما في الدنيا ، وعرفت أين كنت وإلى أين المصير ، هذه المعرفة سبب السعادة الأبدية . لذلك هذا الذي يذهب إلى الحج وليس في مستوى الحج ، ليس في مستوى هذا اللقاء العظيم ، ليس في مستوى هذا التجلّي الكبير ، ليس في مستوى هذا الإخلاص الشديد ، إنه قد ضيَّع وقته وماله سُدى .
طاعة الله هي علامة معرفته :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ معرفة الله هي كلّ شيء ، الإمام الغزالي رضي الله عنه يقول : " حيثما وردت كلمة العلم في الكتاب والسُنَّة فإنما تعني العلم بالله " . لأن الإنسان قد يعرف أشياء كثيرة ولا يعرف الله عزَّ وجل . علامة معرفة الله طاعته ، ومَن يعصِ الله فهو لا يعرفه ، لأن الصحابي الجليل سيدنا بلالاً رضي الله عنه يقول : "لا تنظر إلى صِغَر الذنب ولكن انظر على مَن اجترأت ".
((ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فِتُّك فاتك كل شيء ، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء ))
((خلقت السموات والأرض ولم أعيّ بخلقهن ، أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كل حين ؟ لي عليك فرضية ولك علي رزق فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك فيها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً))
الحج عرفة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ صدق النبي عليه الصلاة والسلام إذ يقول :
((الحج عرفة))
يؤكد هذا يا إخوة الإيمان قول الله عزَّ وجل :
﴿مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾
لقد هُدِيتم إليه في عرفات ، رأيتم الحقيقة العظمى ، رأيتم أن الله هو كل شيء ، وأنه لا إله إلا الله ، وأن الله سبحانه وتعالى سميعٌ بصير ، غنيٌ عظيم ، قديرٌ حكيم ، إذا وقفت وقوفاً صحيحاً ؛ تجلَّى الله على قلبك ، وعرفت طرفاً من هذه الأسماء الحسنى .
فرض الحج على من استطاع إليه سبيلاً :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى فرض على الناس الحج مَن استطاع إليه سبيلاً ، فقال ربنا سبحانه وتعالى في الحديث القدسي :
(( إنَّ عبداً أصححت له جسمه ، وأوسعت عليه في المعيشة ، فأتت عليه خمس حجج لم يأت إليَ فيهن لمحروم ))
ويقول عليه الصلاة والسلام : " من ملك زاداً وراحلةً تبلِّغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج ، فلا عليه أن يموت غير مسلم " ذلك أن الله يقول :
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾
والله سبحانه وتعالى فرض هذه الفريضة فقال عليه الصلاة والسلام :
(( ما حجوا - يتحدث عن الحجاج - ما حجوا حتى أذن الله لهم ، وما أذن لهم حتى غفر لهم ))
لو لم يأذن الله لهم لم يحجوا ، وما داموا قد حجوا ملبين ، طائعين ، مخلصين فقد غفر الله لهم . ويقول عليه الصلاة والسلام :
((من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ، ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))
ويا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
((العمرة إلى العمرة كفارةٌ لِما بينهما ، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة ))
وروى البخاري أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام :
((أفضل الجهاد حجٌ مبرور ))
والحج المبرور هو الحج الذي لا يخالطه إثم . وفي حديثٍ آخر رواه الإمام الطحاوي :
((الحج جهاد المرأة والضعيف ))
نوعٌ من الجهاد ، عبادةٌ بدنية .
للحاج دعوةٌ مُسْتجابة والنفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله :
وكان صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث يفيدنا حينما نستقبل حُجّاج بيت الله الحرام - يقول لمن يؤدِّي الفريضة - فريضة الحج - :
(( قَبِلَ الله حجك ، وغفر ذنبك ، وأخلف نفقتك))
والنبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر يقول :
((يغفر الله للحاج ولمن استغفر له الحاج))
للحاج دعوةٌ مُسْتجابة ، والنفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله ، بسبعمئة ضعف، أيْ أجر هذه النفقة بسبعمئة ضعف .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حجاً مبروراً ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفوراً ، وأن يتقبَّل حجنا ، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب الدعاء .
الحكمة من العبادات الاستقامة على أمر الله و السعادة بقربه :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كلمةٌ قصيرة ؛ هذه العبادات التي شَرَعَها الله لنا وراءها حِكَمٌ عظيمة ، إن لم نَفْقَه هذه الحكمة أُديت أداءً شكلياً ، وربما أديت أداءً على غير الذي أراده الله سبحانه وتعالى ، عندئذٍ يُصْبِح أداء هذه العبادات عبئاً على الإنسان ، وليس في مصلحة إيمانه ، مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً . ليست القضية أن تقف وتركع وتسجد ، القضية أن تُصلي ، ولن تصلي إلا إذا استقمت على أمر الله ، لن تتصل بالله إلا إذا كان العمل مستقيماً ، والقُرْب شديداً .
شيءٌ آخر : لن يقبل الله منك صومك إلا إذا نهاك هذا الصوم عن كل معصية ؛ " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه " . وكذلك الحج ، مَن عاد مِن الحج ولا يزال مقيماً على المعاصي فكأنه ما ذهبَ إلى بيت الله الحرام ، لأن الله سبحانه وتعالى أراد مِن الحج أن تعرفه ، فإذا عرفته عرفت كل شيء وإن فاتك فَاتك كل شيء.
وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ملوحة البحار :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مِن آيات الله الدالّة على عظمته هذه الملوحة التي نجدها في البحار ، يقول العلماء : إن في كل لترٍ واحدٍ من ماء البحر سبعةً وعشرين غراماً مِن المِلح، بل إن العالم بأسره يستهلك في السنة ما يزيد عن خمسين مليون طن مِن مِلح البحر ، وإن ملوحة مياه البحر نِسْبَتها ثلاثة ونصف بالمئة مِن مجموع مياه البحر ، بل إن في الكيلو المتر المكعَّب - الكيلو المتر المكعب ، هو مكعب ضلعه كيلو متر ، ألف متر - بل إن في الكيلو المتر المكعب من مياه البحر أربعة وثلاثين مليون طن من الملح . لو جفف المحتوى الملحيّ لمياه البحر ، وغُطيت به اليابسة لبلغ سمك الملح في كل مكانٍ في العالم مئة وثلاثة وخمسين متراً ، لو استخرج ملح البحار وجفف ، ووضع على اليابسة - على قارّاتها الخمس - لم نغادر مكاناً إلا وفرشنا عليه هذا الملح الذي استخرجناه مِن مياه البحار ، لبلَغ ارتفاع الملح المجفف على سطح اليابسة كلها مئة وثلاثة وخمسين متراً . السؤال الذي يُلفت النظر : من أين جاءت هذه الكمية الكبرى من ملح البحار الذي هو كلور الصوديوم ؟ سؤالٌ كبير ، يقول بعضهم : في البحار من الملح ما يساوي أربعة ملايين ونصف ميل مكعب ، هذه كلها أرقام دقيقة مستخلصة من كتبٍ علمية . فمن أين جاء هذا الملح ؟ كيف وضع في البحر ؟ هناك نظرياتٌ كثيرة ، هذه النظريات بعضها يقول : إن في قيعان البحار صخوراً ملحية تفتتت وذابت في هذا الماء ، وبعضهم يقول : إن السبب مياه الأنهار . كل هذه النظريات التي تحاول أن تفسِّر ملوحة مياه البحر ، تجد الطريق مسدوداً لسببٍ بسيط ، هو أن في الأرض عدداً كبيراً من البُحيرات العَذبة ، فإذا كانت مياه الأنهار وحدها كافيةً لتمليح مياه البحار ، فلماذا بقيت هذه البحيرات الضخمة - وهي أشبه ما تكون ببحارٍ صغيرة - مئات الملايين مِن السنين ، وهي عذبةٌ حلوة المذاق ؟ ما تفسير ذلك ؟ لا يزال سبب تشكُّل الملوحة في مياه البحر لغزاً كبيراً ، ولا يفسَّر إلا بالآيات التالية، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾
يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾
لن يصبح مالحاً ولو صبَّت عليه الأنهار ، ولو تفتتت فيه الصخور ، ولو كانت على مسير الأنهار جبالٌ من الملح ، تبقى البحيرة العذبة بحيرةً عذبة .
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾
وهذا الملح الأجاج مِن خَلْق الله ، ومِن تصميم الله ، ومِن إرادة الله عزَّ وجل ،
﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً﴾
لا يبغي هذا على هذا ، لو أن نهراً عذباً صبَّ في بحرٍ ، لسار عشرات بل مئات الكيلو مترات وبقي عذباً ، لأن بين البحرين برزخاً طبيعته لا زالت مجهولةً حتى الآن .
﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً ﴾
الحِجْر يمنع انتقال الأسماك ، أسماك المياه العذبة إلى المياه المالحة ، والعكس صحيح .
يا أيها الأخوة المؤمنون آيةٌ أخرى ، هذه البحار ما كان لها أن تكون ، لولا أن الله سبحانه وتعالى حينما صَمَّمَ الأرض ، جعل لها أحواضاً كبيرة ، يكفي أن بعض المحيطات يزيد عُمْقها عن عشرة كيلو مترات ، مَن خَلَقَ هذه الأحواض ؟ ففي سورة الواقعة :
﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾
أجاجاً كمياه البحر . . . أفلا تشكرون !!
﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾
آيةٌ ثالثة :
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ﴾
قصص كثيرة تتحدَّث عن موت ألوف الأشخاص في مياه البحر عطشاً . قد تغرق السفن وينجو بعض ركَّابها ، ويركبون سفينة النجاة ، لكنَّهم يموتون عطشاً وهم على ظهر البحر، إذاً :
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أحواض البحار آية ، ومياه البحار آية ، وملوحتها آية ، وما فيه مِن أسماكٍ آية ، وما فيه مِن أصدافٍ وحِليٍّ آية ، والله سبحانه وتعالى بَثَّ في الأرض آياتٍ كثيرة ، فقال تعالى :
﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .