- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيء قدير .
التقديم والتأخير .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يقول :
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
في الآية قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان ، هذا التقديم ، تقديم رتبي ، أي أن المنهج مقدم على الوجود .
﴿ عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ﴾
معنى البيان .
فكأن القرآن الكريم في كفة والكون في كفة .
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
لعل هذا البيان الذي امتن الله به علينا من أجل أن نفهم القرآن ، ولعل هذا البيان الذي امتن الله به علينا من أجل أن نعلم القرآن ، لأنه المنهج الذي يفضي إلى سعادتنا في الدنيا والآخرة . في القرآن الكريم استنباط دقيقة ، فتقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان يعني شيئاً مهماً ، وأن يأتي تعليم البيان عقب تعليم القرآن يعني شيئاً مهماً فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ))
هذا البيان ، هذا النطق ، هذا التعبير ، الذي امتاز به الإنسان ، الإنسان ينطق ، يعبر عن حاجاته ، يعبر عن أفكاره ، يعبر عن عواطفه ، يعبر عن معتقداته ، ينقل أحاسيسه ، ينقل مشاعره عبر البيان . موضوع الخطبة اليوم : هذا البيان ، هذه اللغة ، ذاك الكلام ، الذي امتن الله به علينا ، كيف أن هذا البيان يقود بعض الناس إلى أسفل السافلين ، ويقود بعضهم الآخر إلى أعلى عليين ، كيف أن هذا البيان معول عليه في استقامة الإيمان ، يقول الله تعالى :
﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ﴾
يجلس الناس في السهرات ، في النزهات ، في لقاءاتهم ، في ندواتهم ، في أفراحهم ، في أتراحهم ، ماذا يتكلمون ؟ ما موضوع حديثهم ؟ ما مضمون مناقشاتهم ؟ يقول الله عز وجل :
﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ﴾
غيبة ، نميمة ، تزين للدنيا ، تشجيع على الإقبال عليها فحش ، بذاءة خوض في أعراض الناس .
﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
إصلاح بين الناس .
﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾
قال تعالى :
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
العلماء قالوا : البر صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة . تعاونوا في لقاءاتكم ، في ندواتكم ، في مجالسكم ، في اجتماعاتكم .
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
على صلاح الدنيا ، على انتشار الفضيلة ، على انتشار السكينة .
﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
قال تعالى : لا خير في كثير من نجواهم ......................
﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾
سيدنا عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ يقول : والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان . وعبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنهما ، وبارك الله في العبادلة يقول : لا تتكلم فيما لا يعنيك ، فإنه فضل ، ولا أمنوا عليك الوزر ، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضع . قال بعضهم : ما كل ما يعلم يقال ، وما كل ما يقال له رجال أهل لسماعه ، ولا إذا وجد الرجال آن الأوان ، لا بد من أن تعرف ما ينبغي أن يقول ، وهذا الذي ينبغي أن يقال ، لمن يقال ، ويجب أن تعرف ثالثاً ، أن هذا الذي ينبغي أن يقال ، ولمن ينبغي أن يقال ، متى ينبغي له أن يقال ، لا بد من أن تعرف الموضوع المناسب ، والرجل المناسب ، والوقت المناسب ، لا تتكلم فيما لا يعنيك ، فإنه فضل ، ولا أمنوا عليك الوزر ، ولا تتكلم فيما يعنيك ، حتى تجد له موضعاً مناسباً ، في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ، وللشخص المناسب . فإن رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه ، فيعاب عليه ، ولا تماري حليماً ، ولا سفيهاً ، فإن الحليم يقليك ، يجافيك ، والسفيه يؤذيك ، واذكر أخاك إذا تغيب عنك ، بما تحب أن يذكرك به ، إذا غبت عنه ، واعف مما تحب أن يعفيك من ، وأعمل عمل رجل يرى أنه مجاز بالإحسان مأخوذ بالإجرام . أيها الإخوة المؤمنون ؛ ماذا يقول النبي العدنان ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( عليك بطول الصمت إلا في خير ، فإنه مطردة للشيطان ))
(( من كثر كلامه كثر سقطه ))
اللسان الذرب ، الثرثار ، حبل بيد الشيطان ، يرسله متى يشاء لمن يشاء ، عليك بطول الصمت ، نصيحة نبوية .
(( عليك بطول الصمت إلا في خير ، فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ))
يا رسول اللّه ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟
(( فقال : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ ))
عن عائشة رضي اللّه عنها قالتْ : قلتُ للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم حسبُك من صفيّة كذا وكذا ـ قال بعضُ الرواة : تعني قصيرة ـ فقال :
(( لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ))
قصيرة .
(( قذف المحصنة يهدم عمل مئة سنة ))
قد يتكلم الرجل بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفا ، لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( منْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيه ))
قال تعالى : ولا تجسسوا ......................
﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾
التجسس كما جاء عند علماء التفسير تتبع الأخبار السيئة .
﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾
والتحسس تتبع الأخبار الطيبة .
قال تعالى : والذين هم عن اللغو معرضون ......................
والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعرض عن اللغو بين فريضتين ، بين فريضة الصلاة ، وبين فريضة الزكاة ، في قوله تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾
يا رب ، رفع الله عز وجل من شأن استقامة اللسان حتى جعلها بين الصلاة والزكاة .
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾
أيها الإخوة الأكارم ؛ توفي رجل بعهد النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال رجل آخر ورسول الله يسمع ، أبشر بالجنة ، فقال عليه الصلاة والسلام : ومن أدراك ؟ لعله تكلم فيما لا يعنيه ، أو بخل فيما لا ينقصه ، ومن أدراك أنه من أهل الجنة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إن العبد ليقول الكلمة ، لا يقولها إلا ليضحك بها الناس يهوي بها أبعد مما بين السماء والأرض ))
من أجل أن يضحكهم ، على حساب فلان ، على حساب علان ، يجرح فلان ، يكشف عورة فلان ، يفضح فلان ، يغتاب فلان ، ينقل حديث فلان ، من أجل أن يضحك من في المجلس ، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض ، ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( وإنه ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه ))
عثرة القدم لا تميت ، ولكن عثرة اللسان قد تميت . احفظ لسانك أيها الإنســان لا يلدغنك إنه ثعبـــان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
قال تعالى : وقولوا للناس حسنا......................
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾
أمر إلهي " وقولوا للناس حسنا " انتق الكلمة الطيبة التي لا تجرح انتق الكلمة الحانية ، انتق الكلمة اللطيفة ، انتق الكلمة التي تزيد المودة وابتعد عن الكلمة التي تقيم الهوة بين الرجلين ، وقل لعبادي ، هؤلاء عبادي قل لهم ، أن يفعلوا كذا وكذا .
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً ﴾
كم في القضاء من دعاوى تفريق بسبب كلمة قاسية قالتها الزوجة وكم بين الشركاء من مشكلات انتهت إلى فسخ الشركة من كلمة قاسية قالها أحد الشريكين .
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً ﴾
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق ))
حتى أن الله عز وجل أخبرنا في كتابه العظيم أن الحرمان مع الأدب أفضل من البذاءة مع العطاء .
﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾
الحرمان مع الأدب خير من العطاء مع البذاءة ، ومع المن ، ومع الكلمة القاسية ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( يا أيُّهَا النَّاسُ أفْشُوا السَّلامَ ، وأطْعِمُوا الطَّعامَ ، وَصِلُوا الأرْحامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ ))
جاء رجل إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان سفيهاً ، سفيهاً ، شريراً ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال : بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه ـ السيدة عائشة استغربت هذين الموقفين المتناقضين ـ فلما انطلق الرجل قالت عائشة : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ؟ ـ يعني ما تفسير هذا ؟ ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ، متى عهدتني فحاشاً ـ أنا لست فاحشاً ، أنا أساير الناس ، ألاين الناس ، أباسط الناس ـ متى عهدتني فحاشاً ، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره . هذا الذي يبتعد عنه الناس مخافة شره ، مخافة أذاه ، مخافة فحشه مخافة بذاءته ، مخافة قوله القاسي ، هذا شر الناس عند الله يوم القيامة علمنا بهذا درساً ، أن داروا سفهاءكم ، السفيه لا تصطدم معه ، فيؤذيك داره ، تجنب أن تصطدم معه ، هذا درس بليغ ،يا عائشة ، متى عهدتني فحاشاً ، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره . لذلك ليفحص كل منكم نفسه وفق هذا الحديث ، إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .
ذكرى المولد .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ نحن على أبواب مجيء مناسبة عزيزة على كل مسلم ، مناسبة ذكرى مولد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وسوف نعالج هذا الموضوع إن شاء الله تعالى في خطب قادمة ، ولكن من باب التمهيد لهذه الذكرى العطرة أسوق لكم هذه القصة . سيدنا سعد بن الربيع رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عقب معركة أحد افتقده أصحاب رسول الله ، لما فرغ الناس لقتلاهم في أحد قال عليه الصلاة والسلام : من منكم رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع ، أين هو ، أفي الأحياء هو ، أم في الأموات ؟ فقال رجل من الأنصار أنا أبحث عنه يا رسول الله ، فانطلق هذا الرجل إلى ساحة المعركة ليراه أفي الأموات هو أم مع الأحياء ، لما وصل إلى ساحة المعركة وجده جريحاً بين القتلة ، وبه رمق ، يعني به بقية حياة ، فقال له إن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات ، فقال هذا الصحابي الجليل : أنا في الأموات ، يبدو أن جرحه بليغ ، وأنه مشارف على الموت فقال أنا في الأموات ، ولكن أبلغ رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني السلام ، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خيراً ما جزى نبياً عن أمته ، في أية سعادة هذا الإنسان ، وهو يودع الحياة ، كم هي حاله سعيدة ، لم يذكر قبل أن يموت إلا أن يبلغ النبي هذا السلام ، قل له جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ، وأبلغ قومك السلام عني ، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ، قال هذا الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : فلم أبرح حتى مات ، فجئت رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته خبره ، فبكى حتى أخضل لحيته . ماذا يستنبط من هذه القصة ، هي قصيرة ، هي ليست قصة إنما هي حدث واحد ، ماذا يستنبط منها ، هذا الصحابي وهو يودع الدنيا كم هو سعيد ، إذا اتبع سنة النبي عليه الصلاة والسلام وجاء ملك الموت وأنت على خير حال ، عندئذٍ تعرف قيمة هذه الدعوة ، عندئذٍ تعرف أن الدنيا لا قيمة لها عند الله ، لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ، عندئذٍ أن البطولة أن يأتيك ملك الموت وأنت على خير حال ، وأنت قد بذلت كل غال ورخيص ، وكل نفس ونفيس ، إذا نظرت إلى ماضيك ، وقد أفنيت شبابك في طاعة الله ، وأفنيت عمرك في خدمة الخلق ، عندئذٍ ترى مقامك عند الله ، يبدو أن هذا الصحابي الجليل رأى مقامه عند الله ، وفتحت له أبواب الجنة ، عندئذٍ ما وسعه إلا أن يقول أبلغ عني رسول الله السلام ، وقل جزاك عنا خير ما جزى نبياً عن أمته . أيها الإخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام رحمة مهداة ، ونعمة مجزاة ، اعرفوه قبل فوات الأوان ، طبقوا سنته قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال . أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الدم :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ كلنا جميعاً لابد من أن يرى نقطة من دمه تسيل ، لجرح طفيف أو لشيء آخر ، هل منكم من يصدق أن هذا الدم الذي يسيل عالم قائم بذاته قبل كل شيء ، الميليمتر المكعب من هذا الدم ، دقق على المسطرة كم هو ضلع الميليمتر مكعب ، في الميليمتر المكعب خمسة ملايين كرية حمراء خمس ملايين ، في دم الإنسان ما يزيد عن خمسة وعشرين مليوناً من الكريات الحمراء ، خمس وعشرين مليون مليون ، البليون ألف مليون ، أما مليون مليون يعني واحد أمامه ، خمسة وعشرين أمامها اثنى عشر صفر مليون مليون ، وقد وصف بعضهم الكرية الحمراء بأنها حمال لا يعرف التعب ، أبداً ، تجول في الجسم في اليوم الواحد ألفاً وخمسمائة دورة ، في اليوم الواحد ، كل كرية تجول في الجسم ألف وخمسمائة دورة في اليوم الواحد ، وتعمر هذه الكرية مئة وعشرين يوماً عمرها ، تقطع في هذا العمر من المسافات ما يزيد عن ألف ومئة وخمسين كيلو متر ، هذه الكرية الحمراء التي لا ترى إلا بالمجهر ، كل خمس ملايين كرية تساوي ربع نقطة من الدم ، هذه الكرية الحمراء الحمال الذي لا يعرف التعب تنقل من الأكسجين ما يزيد عن ستمئة لتر من الأكسجين إلى الخلايا والأنسجة والأعضاء ، والأجهزة من أجل أن تنقي الدم من غاز الفحم ، ومن أجل أن تمنحه مولد الحموضة ، من منا يصدق أن هذه الكرية الحمراء التي لا ترى بالعين إن خمسمئة وأربعة وسبعين حمضاً أمينياً يسهمون في تكوينه مكونة من خمسمئة وأربع وسبعين حمض أميني ، هذه الكرية الحمراء يتم صنعها في خمسة أيام وتنتج معامل الدم في نقي العظام اثنان ونصف مليون كرية في كل ثانية . اللنفاوية ، فقرات الظهر ، أضلاع الصدر ، عظم القص ، عظم الساق ، كل هذه الأماكن معامل لصنع الكريات الحمراء ، الشيء الخطير جداً أن في الجسم جهاز دقيق دقيق ، حساس حساس ، جهاز الرقابة فالرقابة على كمية الدم مستمرة ، وبحساسية بالغة ، وهذا الجهاز مهمته معرفة ما يطرأ على الدم من زيادة أو نقصان ، فإذا طرأ عليه نقصان أعطى هذا الجهاز إشارة إلى معامل نقي العظام كي تزيد من إنتاجها ، كي يعود الحجم إلى وضعه الطبيعي ، ومن هنا تأتي الحجامة التي هي سنة نبوية ، وهناك أحاديث صحيحة تؤكدها ، أن الحجامة هي في حقيقتها إنقاص للدم من الإنسان ، هذا الإنقاص يسبب تنشيطاً وحثاً لمعامل نقي العظام على زيادة إنتاجها لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( احتجموا لخمس عشرة ، أو لسبع عشرة ، أو لتسع عشرة ، أو إحدى وعشرين ، لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ الأحاديث النبوية التي فيها إرشادات صحية وطبية ، هي توجيهات إلهية ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو وحي يوحى ، فهذا الدم الذي يجري في عروقكم ، هذه بعض مواصفاته يعني اطلعت على كتاب يزيد عن ألفين صفحة عنوانه أمراض الدم فقط ، فالدم عالم قائم بذاته ، المصل ، الكريات الحمراء ، الكريات البيضاء ، الصفائح عددها ، تولدها ، موتها ، حركتها ، وظائفها شيء لا يصدق ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن نفكر في خلق السماوات والأرض ، وأقرب شيء لنا أجسادنا .
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت وبارك لنا فيمن أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك اللهم من جميع الذنوب ونتوب إليك ، اللهم اغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وخذ بيدنا إلى ما فيه رضاك يا رب العالمين ، اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء مولانا رب العالمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .