وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0136 - الإيمان - الشقيقة وانقلاب الرحم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

  الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله .
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر .
 وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
 اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين .
 اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

جدّد إيمانك :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( يا أبا ذرّ جدّد السفينة فإنّ البحر عميق ، وأكثر الزاد فإنّ السّفر طويل ، وأخْلص العمل فإنّ الناقد بصير ، وخفّف الأثقال فإنّ في الطريق عقبةً كؤود لا يقطعها إلا المخفّون ))

[ رواه الإمام المقدسي والديلمي في الفردوس ]

(( يا أبا ذرّ جدّد السفينة ))

 بِمَعنى جدّد إيمانك ، فإيمانك سفينة النجاة من بحر الدنيا .

(( جدّد السفينة فإنّ البحر عميق ))

 الإيمان أيّها الإخوة المؤمنون أُسّ الفضائل ، ولزام الرذائل ، وهو قوّة تدفعُنا إلى العمل الصالح ، وتوقفنا عند حدود الله .

(( يا أبا ذرّ جدّد السفينة فإنّ البحر عميق ، وأكثر الزاد فإنّ السّفر طويل ))

 قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر الآيات : 1-3 ]

 قال تعالى :

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 132 ]

((وأكثر الزاد فإنّ السّفر طويل ))

 إنّ الذي يلقى الله عز وجل إما أن يكون في جنّة يدوم نعيمها ، أو في نارٍ لا ينفذ عذابها ، والذي نفسُ محمّد بيده ما بعد الدنيا من دار إما الجنّة أو النار .

(( وأخْلص العمل فإنّ الناقد بصير ))

 ركعتان من ورِعٍ خيرٌ من ألف ركعةٍ من مخلِّطٍ ، من لم يكن له ورعٌ يصدّه عن محارم الله إذا خلى لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله ، ودرهمٌ تنفقه في إخلاصٍ خيرٌ من مئة ألف درهمٍ ينفقُ في رياءٍ .

(( وخفّف الأثقال فإنّ في الطريق عقبةً كؤود لا يقطعها إلا المخفّون ))

 والحملُ هنا حِملُ الذّنوب ، والإخلاص هنا إخلاصُ العمل ، والزاد هنا العمل الصالح ، والسفينة هي الإيمان .

(( يا أبا ذرّ جدّد السفينة فإنّ البحر عميق ، وأكثر الزاد فإنّ السّفر طويل ، وأخْلص العمل فإنّ الناقد بصير ، وخفّف الأثقال فإنّ في الطريق عقبةً كؤود لا يقطعها إلا المخفّون ))

 قال أحدهم : كلُّ يومٍ يُقرِّبُ قدمَنا من باب القبر ، لأنّ رابعة العدويّة رحمها الله ، سئِلَتْ : ما الإنسان ؟ فقالت : هو بضْعة أيّام كلّما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منه ‍! وملكُ الموت يعرفنا كما يعرفُ أحدنا ولدهُ ، وقد وصف بعضهم الموت بعد أن مات ، فقد رآه ابنهُ في المنام ، فقال له : يا أبت لقد كنتَ تتمنّى وأنت حيّ أن يصفَ أحدٌ لك الموت ، وها قد مُتّ وذُقته ، فصِفْهُ لي؟
 قال : يا بنيّ ، رأيتني في سكرات الموت كأنّ السماء انطبقَت على الأرض وكأنّي أتنفَّسُ من ثُقب إبرة ، وكأنّي عُصفور في مقلاة زيت ، لا هو يطيرُ فيسْتريح ، ولا هو يموت فيسْتريح .
 النبي عليه الصلاة والسلام مرَّتْ به وبأصحابه جنازة ، فقال أحدهم : لقد استراحَ ، فغضبَ النبي عليه الصلاة والسلام وقال له : إنّما يستريحُ من غُفِر له ، وما أدراك أنّه قد استراحَ ؟! إنّما يستريحُ من غُفِر له .
 وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( الدنيا سجنُ المؤمن ، وجنّة الكافر ))

[ رواه مسلم ]

 فاتَّفَق أن رأى يهوديّ عالمًا جليلاً عليه هيئةٌ صالحة ، يركبُ فرسًا مطهّمةً ويرتدي ثيابًا جميلةً فقال هذا اليهوديّ لهذا العالم : أيُّ سِجنٍ أنت فيه ؟ وأيّ جنّة أنا فيها ؟!! فقال له العالم : إنّ حالتك التي أنت عليها إذا قيسَتْ بما ينتظرُ الكافر من عذاب النار ، فأنت في جنّة ، وإنّ الحالة التي أنا فيها إذا قيسَتْ بما ينتظر المؤمن من نعيمٌ مقيم فأنا في سِجن ؛ لأنّ المؤمن إذا مات ينتقلُ من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، كما ينتقل الجنين من ضيق الرّحِم إلى سعة الدّنيا .

التفكر بالموت .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ ورد في الأَثر أنّ ملَكَ الموت يقول للميّت وهو على خشبة الغُسْل :
 أين سمْعُكَ ؟ ما أصمَّك !
 أين صوتك الشجيّ ؟ ما أخرصك !
 أين ريحك الطيّب ؟ ما غيَّرك !
 أين مالك ؟ ما أفقرك !
 ويقول الميّت وقد حُمِلَ في النّعش ، ورفرفَتْ روحه فوق النعش ، يقول :
 يا أهلي ، يا ولدي لا تلعبنَّ بكم الدنيا كما لعِبَتْ بي ، جمعْتُ المال ممّا حلّ وحرُم ، فأنفقتُه في حلّه ، وفي غير حلّه ، فالهناء لكم ، والتَّبِعة عليّ !
 عبدي أعطيْتُكَ مالاً فماذا صنعتَ فيه ؟ قال : يا ربّ ، لمْ أُنفق منه شيئًا مخافة الفقر على أولادي من بعدي ! فيقول الله تعالى : ألَمْ تعلم بأنّي أنا الرزاق ذو القوّة المتين ؟ إنّ الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلتهُ بهم !! أي جعلتهم فقراء .
 ويقول :
 عبدي أعطيْتُكَ مالاً فماذا صنعتَ فيه ؟ قال : يا ربّ ، لقد أنفقته على كلّ محتاجٍ ومسكين لثِقَتي أنّك خيرٌ حافظًا وأنت أرحم الراحمين ، فيقول الله عز وجل : أنا الحافظ لأولادك من بعدك .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ عندما يموتُ ابن آدم يُصابُ بِمُصيبتَين اثنتين ؛ الأولى أنّه يترُك ماله كلّه ، والثانية أنّه يُحاسبُ عن ماله كلِّه ، فهو يتْرُكه ويُحاسبُ عليه .
 أردْت من هذه الأقوال والأحاديث أن أُذكّر الإخوة الأكارم ، إلى أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يضطجع بين سنّة الفجر ، وبين أداء الفرض متَّجِهًا نحو القبلة ، ويفكّر بالموت ، ولو فكّر الإنسان في الموت باليوم خمس دقائق لزالَتْ عنه هُموم لا يعلمها إلا الله تعالى ، هذا الذي يقلقه سوف يترُكهُ ، هذا الذي يسعى إليه سوف يتركُه ، وهذا الذي يخافُ منه سوف يترُكه ، كلُّ الهموم إذا عرضْت الموت عليها زالَتْ ، فإذا ضاقَت عليكم الصّدور فعليكم بِزِيارة القبور ، وليس معنى هذا أن ندَعَ العمل ، إذْ أنّ عُلوّ الهمّة من الإيمان ، ولكنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
 إنّ أكْيسَكُم أكثركم للموت ذكرًا ، وأحزمَكُم أشدّكم استِعدادًا له ، ألا وإنّ من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوّد لِسُكنى القبور ، والتأهّب لِيَوم النّشور .

آيات من سورة البقرة : المحاسبة .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ في سورة البقرة آياتٌ خُتِمَت بها ، والله سبحانه وتعالى في الآيات التي يختمُ بها السُّوَر كأنّ فيها ملخَّصًا دقيقًا لما في السورة ، فالله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 نحن في مُلكه ، وهذه اللام لامُ الاختصاص أي لامُ المُلكيّة ، فنحن مِلكٌ له خَلقًا ، وتصرُّفًا ، ومصيرًا ، قال تعالى :

﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 هذا الذي ينْطوي في نفس الإنسان من خيرٍ أو من شر ، ومن حقّ أو باطلٍ ، من إخلاص أو خيانةٍ ، من صلاحٍ أو فساد ، ومن نوايا طيّبة أو خبيثة ، هذا الذي ينطوي في صدر الإنسان ، يعلمهُ الله تعالى ، قال تعالى :

﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 لو كنت تسير في الطريق لوحدك ، راقِبْ نفسَك لا تسكُن ، وإنّ لها حديثًا طويلاً ، تحدّث نفسكَ بكذا ، وبكذا ، وبفلان ، وبعلاّن ، كيف تنفعهُ أو كيف تؤذيه ؟ كيف تخلصُ له ؟ أو كيف تحتالُ عليه ؟ كيف تصلُ إلى هذا ؟ أو كيف توقِعُ زيدًا أو عُبيْدًا ؟ حديث النفس مكشوفٌ عند الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 إنّ الله يعلمُ دبيب النملة السوداء على الصّخرة الصماء في الليلة الظلماء قال تعالى :

﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 59 ]

 إلى هذه الدرجة ، لو أنّك جلسْت تحت ظلّ شجرة في بستان ، وسقطَتْ ورقة فإنّ الله تعالى يعلمها ، قال تعالى :

﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء الآية : 47 ]

 قال تعالى :

﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 أي سواءٌ عليك أأَعْلَنْتَ أم أخْفَيْتَ ؟ أأظْهرْتَ أم لم تظهر ؟ هذا الذي في نفسك سوف تحاسبُ عليه ، والله سبحانه وتعالى يرسُم لنا أحد طريقين :
 الطريق الأوّل :
 هو طريق المغفرة ، وهو طريقٌ في سَلامٌ .
 والطريق الثاني :
 طريق العلاج مع التعذيب .

 

الإنسان مخير :

 فأنت في حريّة ؛ إمّا أن تختار استعمال الدواء أو أن تختار إجراء عمليّة .
 استعمال الدواء الخارجي ممكن في الوقت المناسب فإذا تفاقمَ المرض فلابدّ من إجراء عمليّة ، قال تعالى :

﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 أي إن عرفْتَ ذنبَكَ ، وتُبْتَ منه ، وأقْبلْتَ على الله تعالى ، وتجلّى الله على قلبك ، عندئذٍ غفر لك ، وإن أخفيْتهُ وأصررْتَ عليه ، ولم تتُبْ منه ، وغفلْتَ عن التوبة ، وعن الحساب فلابدّ من العذاب ، ويعذّب من يشاء ، قال تعالى :

﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 إما أن تعود إليه بالحُسنى ، وإما أن يُعيدك إليه ، إما أن تأتِيَهُ طائعًا ، وإما أن تأتيهُ مكرهًا .

(( كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلا من أبى ‍! قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنّة ، ومن عصاني فقد أبى ))

[ رواه مسلم ]

 وعجبَ ربّكم من قومٍ يساقون إلى الجنّة بالسلاسل ، أي أنت في خيارٍ ؛ إما أن تتوب من الذّنب وتُقلعَ عنه ، وتندمَ على ما فرَّطت ، وأن تتَّبع سبيل المؤمنين ، فالله سبحانه وتعالى يتجلّى على قلبك بِنُوره ، فيغفر هذه الذّنوب والآثام ، ويطهّرها من الأغيار ، فإذا غفلَ الإنسان عن التوبة ، وعن ربِّه ، واستمرّ على ذنبه ، هنا ويعذّب من يشاء ، فلابدّ من إجراء عمليّة ، وفتْح البطن عندئذٍ ، لو أنّك أخذْت هذا الدّواء في الوقت المناسب لكفاك أمر العمليّة ، فإذا أصررْت على متابعة عاداتك السيّئة فلابدّ من فتْح البطن عندئذٍ ، قال تعالى :

﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 حالتُكَ النفسيّة ظاهرةٌ لله عز وجل ، لا تخفى عليه خافيَة أأعْلنْت أو أسررْت ، أو أظهرْت أو أخفيْت ، وهذه الحالة النفسيّة لابدّ لها من معالجة فإما أن تعالج بِشَكلٍ سليم ، وإما أن تعالج بشكلٍ لا يرضيك ، قال تعالى :

﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 284 ]

 ثمّ يقول الله عز وجل في نهاية السورة :

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾

[ سورة البقرة الآية : 286 ]

 أيها الأخ الكريم ؛ إيّاك أن تظنّ أنّ أوامر الدِّين فوق طاقة الإنسان ، إنّ هذه الآية تكذّب هذا الزّعم ، الصلاة والصّيام والحجّ وغضّ البصر وتحرّي الحلال وطاعة الله عز وجل في كلّ الشّؤون ، هي ضمْن وُسْع الإنسان لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يكلّف نفسًا إلا وُسعها ، هذه ( لا ) نافية ، وهي تنفي الحُدوث من أصله ، أما الناهية تنهى عن العمل ، وقد يُقترفُ هذا العمل ، قال تعالى :

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 286 ]

 لماذا هنا كسبَت والثانية اكتسبَتْ ؟ لمَ لمْ يقل الله عز وجل : لها ما كسبَت وعليها ما كسبت ؟ أو لها ما اكتسبَت وعليها ما اكتسبَت ؟ لأنّ الزيادة في المبنى دليل الزيادة في المعنى ، فالله عز وجل لِكَرمه ورحمته جعل العمل الصالح يُسجَّلُ فورًا ، وأما العمل السيّئ فلا بدّ من نيّة سيّئة ، وإصرار عليه ، وتعنُّتٍ فيه ، ومتابعةٍ له ، إذا كان هذا كلّه ، عندئذٍ يُسجّل هذا العمل ، فكَسَبَتْ يعني أوّل عملٍ صالحٍ يُكتبُ لك حسنة ، أما العمل السيئ فلابدّ من توافر شُروط ، حتى يُسجّل في صحيفة الإنسان فالاكتسابُ أبلغُ من الكسْب ، لها ما كسبَت ، وعليها ما اكتسبَت .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى يضعنا أمام مسؤولياتنا ، قال تعالى :

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾

[ سورة فصلت الآية : 17 ]

 قال تعالى :

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[ سورة الإنسان الآية : 3 ]

 قال تعالى :

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 148]

 قال تعالى :

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 148]

 هذه عقيدة الجبْر هي عقيدة المشركين .
 يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ العُمْر قصير ، والدّنيا ساعة اجعلها طاعة ، والنّفس طمّاعة عوّدها القناعة ، أنت في الخيار .

 

زيد الخيل .

 صحابيّ جليل قبل إسلامه كان يُسمّى زيد الخيل ، وكان من أشهر الفرسان في الجاهليّة ، وقد وصفهُ الواصفون بأنّه من أجمَل الرّجال في الجاهليّة ، كان طويل القامة مستدير الوَجه ، أزهر اللّون ، هذا الرّجل بلغتْهُ أنباءُ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ، ماذا فعلَ ؟ وما الموقف الأخلاقي أو العلمي الذي يُمليه عليك عقلك ؟ جمعَ عَلِيَّة قومه ، وأجمعوا أن يتّجهوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيَرَوا هذه الدّعوة عن كثب ، ولِيَلتقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ويستمعوا منه ، لا أن يحكموا عليه غيابيًّا ، فهذه صفة المنافقين ، يحكمون على الأشخاص قبل الالتقاء بهم .
 زيدُ الخيل كما سمّاه النبي جمعَ عشيرته ووجهاءهم ، وقرّر أن يذهب بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيَتفحَّص حقيقة هذه الدعوة ، ولِيَرى بأُمّ عينيه مقالة النبي عليه الصلاة والسلام ، ليُشاهدهُ ولِيَستمع منه ، لِيَحكم عليه حكمًا صحيحًا ، صادف دخول هذا الوفْد وقت صلاة الجمعة ، والنبي عليه الصلاة والسلام يخطبُ ، فوقفَ زيد الخيل في آخر المسجد يستمع إلى الخطبة مع النّفر الذين اختارهم كي يلتقي معهم النبي عليه الصلاة والسلام .
 يبدو أنّ النبي عليه الصلاة والسلام رآهم حينما دخلوا المسجد ، ففي أثناء خطبته قال :
 أنا خيرٌ لكم من اللات والعزّى ، أنا خيرٌ لكم ممّا تعبدون ، أنا خير لكم من الجمل الأسوَد ، ويبدو أنّ هذا الجمل الأسْوَد كان بضاعةً نفيسةً جدًّا في الجاهليّة ، وما إن أتمّ النبي خطبته ، ونزل من على المنبر ، وصلّى بالمسلمين ، وانتهى .
 وقف زيدُ الخيل وهو اسمه في الجاهليّة ، وقال :
 يا محمّد ، أشهدُ أنّك رسول الله .
 من خلال هذه الخطبة عرفَ صدقهُ ، وإخلاصه ، وأنّ دعوته هي الحق ، وعرف كلّ هذا من خلال كلمات يسيرة .
 فقال النبي عليه الصلاة والسلام :
 من أنت ؟
 قال :
 أنا زيدُ الخيل .
 قال : بل أنت زيد الخير .
 بدَّل اسمه فورًا ، ثمّ قال النبي عليه الصلاة والسلام :
 الحمد لله الذي جاء بك من كلِّك وجدك ، ورقَّق قلبك للإسلام ، ويا زيد ، ما وُصِفَ لي رجلٌ إلا ورأيتهُ دون ما وُصف ، إلا أنت يا زيد ، لله درّك ، معهُ رجلٌ آخر اسمه زيد بن سدوس ، هذا الرّجل لمّا سمع خطاب النبي عليه الصلاة والسلام قال : إنِّي لأراه رجلاً يملكُ رقاب العرب ، والله لا أُمكّنه من أن يملك رقبتي ، فما كان منه إلا أن حلَقَ رأسه ، وتنصَّر ولحِقَ بالغساسنة .
 الإنسان مخيَّر ، فهذا استمع لهذه الخطبة فقال : يا محمّد ، أشهدُ أنّك رسول الله ، وهذا استمع إلى الخطبة ، فأكلتْهُ الغيرة ، ورأى النبي عليه الصلاة والسلام سيَمْلكُ رقاب العرب ، ولن يمكِّنَهُ من أن يملِكَ رقبتهُ ، عندئذٍ أخذ النبي عليه الصلاة والسلام زيد الخير إلى بيته ترحيبًا به ، وفي البيت أعطاهُ متَّكَأً ، فردَّ زيدٌ المتَّكأ ، أعطاه المتَّكَأ ثانيةً ، فأعطاه ثالثة فقال زيدُ : والله يا رسول الله لا أتَّكِأُ في حضْرتك ، هذا هو الأدب ، ما استرذَل الله عبدًا إلاّ حضَر عليه العلم والأدَب ، قد يُعطيه مالاً وفيرًا ، وجاهًا عريضًا وقوّة كبيرةً ، وقد يجعلهُ في نظر الناس كبيرًا ، ولكنّه يحضُر عنه العلم والأدَب ، قال تعالى :

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 22 ]

 هذه هي بضاعة الأنبياء ، الله سبحانه وتعالى أعطى فرعون الملك وهو لا يحبّه ، وأعطى قارون المال وهو لا يحبّه ، وأعطى أحبابه العلم والأدب فلينظُرْ كلٌّ منّا من أيّ نوعٍ عطاؤه ؟ إذا كان عطاؤهُ من الله عز وجل من نوع عطاء الأنبياء من العلم والحكمة فليحمد الله على ذلك كثيرًا ، من أخلصَ لله أربعين صباحًا تفجَّرَتْ ينابيع الحكمة في قلبه وأجراها الله على لسانه .
 أيها الإخوة المؤمنون ، ذكرتُ القصّة لأصلَ منها إلى أنّ الإنسان مخيَّر ، قال تعالى :

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾

[ سورة فصلت الآية : 17 ]

 قال تعالى :

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[ سورة الإنسان الآية : 3 ]

 قال تعالى :

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 148]

 أيها الإخوة المؤمنون ، حاسـبوا أنفسكم قبل أن تحاسـبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :
 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الشقيقة :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ امرأة كانت تشكو من مرض الشقيقة ، التقَت بِطَبيب قال لها :
 من أيّ بلدٍ أنت ؟
 قالَت له : من الشام .
 قال : أمُسلمةٌ أنت ؟
 قالتْ : نعم .
 قال لها : أتُصلّين ؟
 قالتْ : لا .
 فقال لها : علاجك في الصَّلاة ‍.
 انْزَعَجَتْ ، ركِبَتْ الطائرة ، ودفعَتْ الآلاف من أجل أن يقول لها الطبيب في هذا البلد الأجنبي علاجك في الصّلاة ، وما علاقة الصّلاة بالشقيقة ؟ أيَّة علاقة بينهما ؟
 قال لها عندئذٍ : حينما يسجدُ المسلمُ يتَّجِهُ الدَّم إلى رأسِهِ فتحتقِنُ الشرايين بالدَّم ، فإذا رفعَ تراجع الضّغط فجأةً من احتقانها وانخِفاض الضّغط فجأةً ، تمتلكُ الشرايين مرونةً تقيها التصلّب ومن أسباب الشقيقة تصلّب شرايين الرأس وضيقُ الشّعريات ، وعدم ترْوِيَة الدّماغ بالدّم .
 فالسّجود والرّفْع ، هذا يُسبّبُ مرونةً فائقةً في شرايين الدّماغ ، الصلاة نورٌ لا شكّ في هذا ، والصّلاة طهور ، وهي أمْرٌ إلهي ، وفريضةٌ في الإسلام ، أساسيّة ، ولا خير في دينٍ لا صلاة فيه ، والصلاة عماد الدّين ، من أقامها فقد أقام الدِّين ، ومن هدمها فقد هدم الدّين ، ولكن فوق كلّ ذلك لو درس العلماء الصلاة على أنّها تمريناتٌ تعالجُ بها أمراضٌ كثيرة علماء التربيَة الرّياضيّة في الدوَل المتقدّمة ، نظَّموا تمريناتٍ تحرّك كلّ عضلات الإنسان ، ولا ترهقُ قلبه ، ولا ترهقه بالجهد الكبير ، هذه التمرينات وجدوها متوافقةً مع حركات الصّلاة ، تمام التوافق ، بل إن هؤلاء العلماء قالوا : إنّ أفضَل التمرينات ما كان موزَّعًا في أوقات اليوم كلّ الرياضيّين يُجرون التمرينات صباحًا ، أو قبل أن يناموا ، أما لو أمْكنَ لهؤلاء الرّياضيّين أن يُجروا تمريناتهم خمسَ مرّات في اليوم لكان أجدى وأنْفع ، ولو أنّهم اتَّبعوا تمريناتٍ قاسيَة لأجهدوا قلوبهم ، ولكنّ التمرينات التي تحقّقها حركات الصلاة هي تمرينات معتدلة تليِّنُ كلّ العضلات ، حتى فقار الظّهر ، وأصابع القدمين ، تليِّنُها وتنشّطها ، وتقي الإنسان أمراضًا كثيرة أقلّها تصلّب الشرايين ، فإذا كان هذا التصلّب في الدّماغ ، كان من آثاره انفجار عروق الدّماغ فجأةً ، والشقيقة التي لا يحتملها بعض الناس .

انقلاب الرحم :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مرضٌ يُصيب النساء أيضًا وهو انقلاب الرّحم ، هذا الأخير علاجهُ تمريناتٌ تُشبه تمامًا حركات الصلاة ، الله سبحانه وتعالى أمرهُ يجمعُ آلاف الفوائد ، فضلاً عن أن الصّلاة اتّصال بالله عز وجل ، واستِنارةٌ بِنُور الله ، وشُعور بالسكينة بين يدي الله عز وجل ، إنّها صِحّة للقلب ، وللشرايين ، وللعضلات ، وللدّماغ ، الله سبحانه وتعالى أمرَنا بالصّلاة ، قال تعالى :

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾

[ سورة طه الآية : 14 ]

 وقال تعالى :

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ﴾

[ سورة الإسراء الآيات : 78-79]

الدعاء :

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور