- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
من نسي الله أنساه الله نفسه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في سورة الحشر يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ كان من الممكن أن يقول الله سبحانه وتعالى : ولا تنسوا ربكم فينسيكم أنفسكم . ولكن الله سبحانه وتعالى ساق هذه الحقيقة على شكل سُنَّةٍ ثابتة ، على شكل قانون :
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾
يقول بعض علماء التفسير : إن نسيان الله ، هو الذي أنساهم أنفسهم ، إن نسيان الله :
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ ﴾
هؤلاء الذين نسوا الله من خلال غفلتهم عن آيات الكون ، غفلوا عن الآيات التي بثَّها الله في السموات والأرض ، ما نظروا في طعامهم ، ما نظروا في شرابهم ، ما نظروا فيما حولهم ، ما نظروا فيمَن حولهم ، ما نظروا إلى السماء كيف رفعت ، ولا إلى الأرض كيف سُطِحَت ، ما نظروا في أنفسهم . حينما غفلوا عن النظر في آيات الله التي بثّها في السموات والأرض ، ما عرفوا أن هذا الكون مسخرٌ لهم ، ما عرفوا أنهم مكرّمون عند الله ، ما عرفوا أن الإنسان هو المخلوق الأول ، ما عرفوا أن الله سبحانه وتعالى سَخَّر ما في السموات والأرض لهذا الإنسان . حينما نسوا الله من خلال غفلتهم عن الآيات الكونية ، التي جعلها الله دليلاً عليه وجعلها دليلاً على إكرامه لهم ، حينما غفلوا عن التفكر في السموات والأرض ، غفلوا عن قيمة أنفسهم ، غفلوا عن أنهم مكرّمون ، غفلوا عن أن الإنسان هو المخلوق الأول ، غفلوا عن إكرام الله لهم ، غفلوا عن أن الكون كلّه مسخرٌ لهم .
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ ﴾
من نسي الله حرم حظوظ نفسه مِن ربّ السموات والأرض :
شيءٌ آخر . . يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حينما نسي هؤلاء ربهم مِن خلال غفلتهم عن أمره ، مِن خلال نسيانهم أمره ؛ أمرهم بالصلاة فلم يصلوا ، حرموا أنفسهم هذه السعادة الكُبرى ، حرموا نفسهم هذا الإقبال على الله عز وجل ، حرموا أنفسهم هذا النور الذي يقذف في قلوبهم من خلال الصلاة ، حرموا أنفسهم أن يستنيروا بنور الله . نسوا الله من خلال غفلتهم عن أمره ، فنسوا أنفسهم من الخيرات ، حرموها من الخيرات ، حرموها مِن الإقبال على الله رب الأرض والسموات . .
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ﴾
نسوا أمره ؛ لم يطبقوا أمره ، لم يتصلوا به ، لم يقفوا عند الحلال والحرام ، لم يغضوا أبصارهم عن الحرام ، عندئذٍ حرموا أنفسهم تلك السعادة التي يُحِسّها المؤمن إذا أطاع الله سبحانه وتعالى ، نسوا الله فأنساهم حظوظ أنفسهم منه ، نسوا الله فأنساهم حظوظ أنفسهم مِن ربّ السموات والأرض .
من غفل عن نهي الله دمّر و شقي في الدنيا و الآخرة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وقد نسوا الله أيضاً من خلال غفلتهم عن نهيه ؛ وقعوا في المحرمات ، وقعوا في المخالفات ، وقعوا في المعاصي ، أكلوا مالاً حراماً ، اعتدوا على بعضهم بعضاً ، اعتدوا على أموال بعضهم ، أكلوا أموالهم بينهم بالباطل ، اعتدوا على أعراض أنفسهم ، فماذا حَلَّ بهم ؟ حلّ بهم الهلاك ، دمَّر الله أموالهم ، جعلهم في شقاءٍ ما بعده شقاء . .
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
غَفَلْتَ عن التفكّر في آيات الكون ؛ فما عرفت قيمتك ، ولا عرفت مَن أنت ، ولا عرفت أنك المكرّم ، ولا عرفت أنك المخلوق الأول ، ولا عرفت أن الكون كله مسخرٌ لك . غفلت عن تنفيذ أمره ، فحرمت نفسك السعادة التي كانت تنتظرك فيما لو أطعت ربك . غفلت عن نهيه؛ نهاك عن أكل أموال الناس بالباطل ، نهاك عن العدوان ، بأوسع ما في هذه الكلمة من المعاني ، فأهلكت نفسك مِن حيث لا تدري ، نسيت حظها مِن السلامة حينما نسيت نهي الله عز وجل ، نسيت حظها مِن السعادة حينما نسيت أمر الله عز وجل ، نسيت حظها مِن التكريم حينما غفلت عن آيات الكون . .
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ ﴾
نسيانهم لله أنفسهم .
من نسي الله فلم يعتمد عليه يريه الله ضَعْفَهُ وضَعْفَ مَن حوله :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نسوا الله فلم يعتمدوا عليه ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله ، إذا أردت أن تكون أغنى الناس ، فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله ، نسوا الله فلم يَتَّكِلوا عليه ، فلم يعتمدوا عليه ، اعتمدوا على المال ، اعتمدوا على القوة ، اعتمدوا على مخلوقٍ مثلهم .
(( ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده السموات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السموات بين يديه ))
نسوا الله ؛ فلم يتكلوا عليه ، لم يلجؤوا إليه ، لم يحتموا بحماه .
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾
اعتمدوا على نفسهم وهي ضعيفة ، اعتمدوا عليها وهي لا تقوى على أن تصون نفسها مِن الأخطار ، من اتكل على نفسه أوكله الله إيّاها ، نسي أنها ضعيفة ، نسي أنها مفتقرة، نسي أنها لا تقوى على الاستمرار لحظةً مِن دون معونة الله عز وجل .
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ﴾
فلم يعتمدوا عليه . .
﴿ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾
ظنوا أنهم بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً ، وهم أَضْعَف خلق الله سبحانه وتعالى .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا هو المعنى الرابع : نسي الله فلم يعتمد عليه ؛ اعتمد على ماله ، اعتمد على قوته ، اعتمد على صحته ، اعتمد على شبابه ، اعتمد على أهله ، اعتمد على أولاده ، فأراه الله سبحانه وتعالى ضَعْفَهُ وضَعْفَ مَن حوله . .
من نسي حق الله أنساه الله حق نفسه :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ والمعنى الخامس :
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ﴾
نسوا حق الله عز وجل ، فأنساهم حق أنفسهم مِنْه ، نسي أن له عند الله مكانةً كُبرى ، نسي أن الله خلقه ليُسعده ، نسي أن الله خلقه ليعرفه . . " ابن آدم خلقت لك ما في السموات والأرض ، فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك ، عما افترضته عليك" . .
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾
نسي أنه مُكرَّم ، نسي حظّه من الله عز وجل ، لماذا خُلِقْتَ في هذه الدنيا ؟ من أجل أن تعرفه ، من أجل أن تعبده ، من أجل أن تسعد بقربه ، من أجل أن تدخل جنةً عرضها السموات والأرض ، خالداً مُخَلَّداً في نَعيم الله عز وجل ، نسيت حق الله ، فنسيت حق نفسك ..
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾
من نسي الله عند الذنوب أنساه الله نفسه عند التوبة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وهناك معنىً سادس : نسوا الله عند الذنوب ، فنسوا أنفسهم عند التوبة . حينما ما عرفوا مغفرته ، وما عرفوا رحمته ، وما عرفوا أن بابه مفتوحٌ لكل عاصٍ ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى مُناد في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، والظمآن الوارد .
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾
نسوا الله عند الذنوب ، فنسوا أنفسهم عند التوبة ، ما عرفوا أن الباب مفتوح ، وأن الإنسان لو جاء ربه بملء السموات والأرض ذنوباً غفرها الله له ولا يبالي ، هذا ما عرفوه .
من نسي الله في الرّخاء نسيه الله في الشّدة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ والمعنى السابع لهذه الآية : أنهم نسوا ربَّهم عند الرخاء ، فنسيهم عند الشدة . ابن آدم اعرفني عند الرخاء أعرفك حين الشدة ؛ حينما كان في بحبوحة ، حينما كان شاباً ، حينما كان قوياً ، حينما كان غنياً ، حينما كان مُتَفَرِّغاً ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( اغتنم خمساً قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وغناك قبل فقرك ، وحياتك قبل موتك ))
هلك المسوّفون ؛ هؤلاء الذين يسوّفون التوبة ، يقولون : غداً وبعد غدٍ ، وهل الدهر كله إلا غداً أو بعد غدٍ ؟
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ نسوا الله في الرخاء فنسيهم في الشدة ، اعرفه في الرخاء، اعرفه وأنت معافى ، اعرف حقه ، اعرف أمره ، اعرف نهيه ، اسع إلى مرضاته وأنت صحيحٌ معافى ، تعمل كل أجهزتك على ما يرام ، حتى يعرفك عند الشدة .
من نسي الله بالشهوات المادية حُجب عن جوهر نفسه و حقيقتها النورانية :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال بعض علماء التفسير في تفسير هذه الآية :
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾
نسوا الله باحتجابهم عنه بالشهوات ، الشهوات حجاب ، تعلُّقهم بالدنيا ، انغماسهم في ملذّاتها ، هذه الشهوات كانت حجاباً بينهم وبين الله ، نسوا الله باحتجابهم عنه بالشهوات المادية ، والاشتغال باللذات النفسية ، فأنساهم أنفسهم ، فَذَهِلوا عن جَوْهَرها المقدس ، وفطرتها النورانية ، حجبوا أنفسهم عن ربهم بالشهوات ، فحجبهم عن جوهرها المُقدس ، وعن حقيقتها النورانية .
من ترك أداء حق الله الذي أوجبه عليه حرم نفسه من الخيرات :
أيها الأخوة الأكارم ؛ والمعنى التاسع لهذه الآية : نسوا الله فتركوا أداء حقه الذي أوجبه عليهم ، فأنساهم حظوظ أنفسهم مِن الخيرات . كما جاء في بعض التفاسير الأخرى . .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ينبغي أن تكون هذه الآية ماثلةً في أذهانكم :
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾
تعليل سبب نسيان الإنسان ربه :
لماذا نسوا ربَّهم ؟ جاء التعليل :
﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
حينما فسقوا ، حينما عصوا ، حينما خرجوا عن الحدود التي رسمها الله ، كان الفِسْقُ سبباً لنسيان ربهم ، وكان نسيانهم ربهم سبباً لنسيان أنفسهم ، وكان نسيان أنفسهم سبباً لشقائهم في الدنيا والآخرة ، لذلك :
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
الموازنة بين المؤمن و الفاسق :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ وتأتي بعدها الآيات فتقول :
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾
لا يستويان ، هذا في النعيم المُقيم ، وهذا في النار التي تَشوي القلوب ، وتشوي الجلود . .
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ﴾
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾
﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾
﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
أعطاه الله مِن الدنيا ما يشاء ؛ أعطاه مالها ، ولذاتها ، ووجاهتها .
﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
هل يستويان ؟ هل يستوي إنسان مُتِّعَ سنوات معدودة متعةً غير كاملة ، لأن الدنيا مُرَكَّبَةٌ على النقص ، وضيّع مِن أجل هذه المُتَع الرخيصة سعادةً أبدية ؟!
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
مجموعة الآيات تبيّن هذه التوازن ، وهذه الموازنة . .
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
ربنا سبحانه وتعالى ، ربُّ السموات والأرض ، مَن بيده ملكوت كل شيء ، يقول لك: لا يستوي مَن يعلم ومَن لا يعلم ، فاسعَ إلى العلم ، اطلب العِلم ، طلب العلم فريضة ، طلب العلم فرض عين على كل مسلم ، مِن أجل أن تعرف الحلال من الحرام ، وما ينبغي وما لا ينبغي ، وما يجوز وما لا يجوز ، لماذا أنت على وجه الأرض ؟ لماذا أنت هنا ؟ وأين كنت؟ وإلى أين المصير ؟ وما الشيء الذي إذا فعلته كنت فالحاً ، أو كنت فائزاً ، أو كنت ناجحاً ؟ ما الذي يرفعك عند الله ؟
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾
هؤلاء الذين انصاعوا إلى ربهم ، وطبّقوا أمره في كل شؤون حياتهم . .
﴿ كَالْمُجْرِمِينَ﴾
في حق أنفسهم ؟
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً﴾
انظر إليه ؛ انظر إلى أخلاقه ، انظر إلى سَمْتِه ، انظر إلى صفاته ، انظر إلى إتقان عمله ، انظر إلى صدقه ، انظر إلى أمانته ، انظر إلى حيائه ، انظر إلى ورعه . .
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً﴾
كما ينبغي طبعاً . .
﴿كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً﴾
متفلتاً مِن كل قيمَة ، من كل مبدأ ، من كل نظام . .
﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَات﴾
فعلوا ما يشتهون ، اعتدوا على من يشاؤون ، أكلوا ما ليس لهم .
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ﴾
حياة المؤمن كحياة غير المؤمن ؟ سعادته في بيته كسعادة غير المؤمن ؟ توفيقه في عمله كعمل غير المؤمن ؟
﴿سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾
ألا تحب الفوز ؟ ألا تحب النجاح ؟ ألا تحب الفلاح ؟ ألا تحب سلامة الدنيا والآخرة ؟ ألا تحب أن تكون ناجياً والناس هلكى يوم القيامة؟ ألا تحب أن تكون مقرباً إلى الله عز وجل ؟ ألا تحب أن تكون في مقعد صدقٍ عند مَليكٍ مقتدر ؟ ألا تحب أن تنظر إلى وجه الله يوم القيامة ؟ ألا تحب أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ؟ ألا تحب أن تكون مع هؤلاء ؟ أم تحب أن تكون مع أهل الدنيا ؛ من الكفرة الفجرة ، الذين باؤوا بغضبٍ من الله وسخط ؟
أبواب رحمة الله مُفَتَّحة و طريق السعادة بيِّن واضح :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أبواب رحمة الله مُفَتَّحة ، باب التوبة مفتوح ، طريق الحق واضح ، طريق السعادة بيِّن ، فما عليك إلا أن تشمّر ، شمروا فإن الأمر جد ، وتأهبوا فإن السفر قريب ، وتزوّدوا فإن السفر بعيد ، وخففوا أثقالكم فإن في الطريق عقبةً كؤوداً لا يجتازها إلا المخفون ، أخلصوا النية فإن الناقد بصير ، يا أبا ذر جدد السفينة فإن البحر عميق ، هذا الأمر خطير ، هذا الأمر مصيريّ ، هذا الأمر يتعلّق بسعادتكم في الدنيا والآخرة ، ليس هذا الأمر من باب موضوعٌ سمعناه وانتهى ، لا ، هذا الأمر يتعلّق بسعادتكم في الدنيا والآخر . .
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كلّ مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، الليل مهما طال فلابد مِن طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أثر التدخين في القلب و الشرايين :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ تحدثتُّ في الأسبوعِ الماضي عن أنَّ الدّخان أكبرّ وباءٍ عالمي ، وبيَّنتُّ أخطاره من خلالِ بعض التقارير التي أصدرتها منظمة الصحة الدولية . واليوم أتابع هذا الموضوع ، فأبيِّن إن شاء الله تعالى أثر التدخين في القلب والشرايين - موضوع محدد- وقبل أن أوضح أثر التدخين في القلب والشرايين ، لابدَّ من تمهيدٍ قصير .
ربنا سبحانه وتعالى إكراماً لهذا الإنسان ، جعل له مجموعةَ أجهزة ، هذه الأجهزة تُعينه على مواجهة الأخطار ، فلو أن إنساناً كان يمشي في مكانٍ ما ، ورأى أفعى ، ما الذي يحدث ؟ يحدث ما يلي : إن منظر الأفعى يرتسم على شبكية العَين ، وهذا هو الإحساس ، الإحساس البصري ، ومنظر الأفعى الذي على شبكية العين ينتقل إلى مركز الإدراك في المخ ، والمخ - أي الدماغ - لما فيه من مفهومات ، جاءت من خلال التجربة والتعليم ، يعرف أن هذه الأفعى خطرة على حياته ، إذاً هو يواجه خطراً ، يعطي الدماغ أمراً لمَلِكَة الجهاز الهرموني - الغدة النخامية - أنَّ هناك خطراً ، فعليكِ أن تتصرفي ، تأمر الغدة النخامية الكَظَر ، وهما غدتان فوق الكليتين ، ويعطي الكظر الأوامر الخمسة التالية ؛ الأمر الأول يكون إلى كافَّة الأوعية بتضييق لَمْعَتِها ، توفيراً للدم ، الدم يجب أن يبذلَّ في العَضلات ، لأن الأمر خطير ، لذلك تضيق لمعة الشرايين كلِّها حينما يأتي أمرٌ مِن الكظر إلى جميع الأوردة والشرايين ، أو إلى جميع الأوعية ، فالخائف يصفرُّ لونه ، وما اصفرار لونه إلا إشارة إلى ضيق الأوعية الدموية في الجسم . ويأتي أمرٌ آخر إلى القلب فيزيد من ضرباته ، والقلب ينبض في الأحوال الاعتيادية ثمانين نبضة ، قد يرتفع النَبض إلى مئةٍ وثمانين نبضة ليواجه الخطر ويرسل الدم سريعاً إلى العضلات. ويأتي أمرٌ ثالث إلى الرئتين بأن تزيد من وجيبهما ، فالخائف يلهث . وأمرٌ رابع إلى الكبد بإطلاق كميةٍ من السكر في الدم ، كي تواجه الخطر . وأمرٌ آخر إلى الصُفَيْحات الدموية ، التي خلقها الله لتسدَّ أيّ خللٍ أو خَرق في الشرايين إذا أصيب الإنسان بجرح فيزداد عددها في الدم . هذا أمرٌ طبيعي ، إذا واجه الإنسان خطراً ينبض قلبه بسرعةٍ أكبر ، ورئتاه تخفقان بسرعةٍ أكبر ، ويصفرُّ لونه لضيق لمعة الأوردة والشرايين ، وتزداد نسبة السكر في الدم، وتزداد الصُفيحات الدموية المجهَّزة لإغلاق كل فتحةٍ طارئة .
ماذا يفعل الدخان في الإنسان ؟ في الدخان مادةٌ سامة ، اسمها النيكوتين ، تزيد هذه المادة مِن إفراز الأدرينالين ، والأدرينالين هو الذي يزيد ضربات القلب ويضيِّق الشرايين ، فشرايين المُدَخِّن ضيِّقة اللمعة دائماً ، لذلك يغلب اللون الأصفر على المدخنين ، ودائماً ضربات قلبه مرتفعة ، وقلبه مجهود . لأن هذه المادة السّامة تزيد مِن إفراز هذا الهرمون الذي يحثُّ على رفع ضربات القلب ، وعلى تضييق الشرايين . أين الخطر ؟ الخطر أن هذا الضيق الدائمَّ في الشرايين قد يسبب انسداداً في شرايين القلب ، فتكونُ الذبحة الصدرية ، أو تكون الجلطة ، أو يسبب انسداداً في شرايين المخ ، فتكون السَكتة الدماغية ، أو يسبب انسداداً في شرايين الساقَيْن، فتكون الغرغرين ، ولابدَّ من قطع الساق يومئذٍ . هذا الخطر - خطر التدخين - كامنٌ في أنه يبقي الأوعيةَ الدموية بحالةٍ من التوتُّر والضيق ، ماذا يفعل ضيق الأوردة والشرايين ؟ يرفع الضغط ، هذه أشياء أصبحت مقطوعاً بها ، لذلك كل الشركات التي تصنع الدخان في كل أنحاء العالم ملزمةٌ أن تكتب عليه : " إنه يسبب أضراراً كبيرة في القلب ، والأوعيةَ الدموية " .
أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر : جهَّز ربنا سبحانه وتعالى العضوية بالدورة الدموية ، والكرياتُ الحمراء وفيها خضاب الدم . الذي يحمل الأوكسجين من الرئتين ويطرحه في الخلايا ، كي تحترق المواد السكرية ، فتنشأ الطاقة في الإنسان ، إن خضاب الدم يتَّحد مع أول أكسيد الكربون الناتج عن التدخين ، فخمسة عشر بالمئة مِن خضاب الدم تعَطَّل في الإنسان ، فإذا رفع نسبة التدخين ، تُصبح ثُلُث الكريات الدم ، أو ثلث ما فيها مِن خضاب معطَّلة عن نقل الأوكسجين من الرئتين إلى الخلايا ، هذا هو الأثر الثاني من آثار التدخين في القلب ، والأوردة، والشرايين .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كان من النادر في الخمسينات أن يصاب الإنسان بمرضٍ في أوعيته الدموية ، قبل سِنِّ الخمسين ، وفي الستينات ، والسبعينات ، أصبح أُناسٌ كثيرون يُصابون في سن الأربعين ، وأحدثُّ تقريرٍ يتعلَّق بهذا الموضوع أن هناك حالاتٍ كثيرة يُصاب فيها الإنسان بأمراض القلب ، والأوعية ، في سن الخامسة والعشرين بسبب التدخين .
ليس هناك مبالغة في هذه الكلمات ، واللهِ الذي لا إله إلا هو ، لو يعلم الإنسان ما في الدخان من أخطار لأقلع عنه من تَوِّه ، وهأنذا أُعلمكم ، ولا أريد أن أدخل في متاهة أنه حرامٌ أو مكروهٌ ، هذه الحقائق العلمية أضعها بين أيديكم . حينما لم يكن خطر الدخان معلوماً ، اختلف الفُقهاء بين مُحَرِّمٍ ومكرِّهٍ له ، أما اليوم فهذه الحقائق بين أيديكم .
أيها الأخوة الأكارم ؛ من علامة المؤمن أنه يعرف قدر نفسه ، يعرف قيمة الحياة ، يعرف قيمة الصحة ، هذه الحياة زاده إلى الآخرة ، هذه الحياة الدنيا وما فيها جسرٌ له إلى الجنة، لذلك يجب أن يسعى سَعْياً حثيثاً إلى الحفاظ على صحته ، لأنها رأس ماله ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
آخر كلمة في هذا الموضوع : يساعد أول أكسيد الكربون الناتج عن التدخين على ترسيب الكوليسترول في جدران الشرايين والأوردة ، وترسيب الكوليسترول في الأوردة والشرايين يضيِّق لمعتها ، ويرفع الضغط ، ويصيب القلب بالإجهاد .
شيءٌ آخر : إنَّ احتمال إصابة المدخنين بأمراض القلب والشرايين يزيد خمسة عشر ضعفاً عن غير المدخنين ، قد يقول قائل : ألا يصاب غير المدخنين ؟ نعم يصابون ، ولكن احتمال الإصابة عند المدخنين تزيدُّ خمسة عشر ضعفاً عن غير المدخنين . هذه الحقائق أضعها بين أيديكم ، كي تضعوها بين أيدي من حولكم ممن يدخن ، عافانا الله وإياكم من هذا الوباء الخطير .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .