وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0177 - الحكمة المتوخاة في الحج ؟ - زيارة النبي.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بربوبيته وإرغاما لمن جحد به و كفر، وأشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه و سلم رسول الله سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صل وسلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و أصحابه و على ذريته و من والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، و لا تعذبنا فإنك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، إنك على كل شيء قدير، اللهم علمنا ما ينفعنا، و انفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم إني أعوذ بك أن أتكلف شيئا يرضيك يشينني عندك يا رب العالمين، اللهم إني أعوذ أن يكون أحد مما علمتني مني، اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولا فيه رضاك ألتمس به أحدا سواك.

الله سبحانه شرع لنا العبادات من أجل أن نتقرب بها إليه :

 أيها الأخوة المؤمنون، ربنا سبحانه و تعالى في الحديث القدسي يقول: عبدي طهرت منظر الخلق سنين، أفلا طهرت منظري ساعة " منظر الخلق هيئتك، بيتك، مركبتك، لباسك، هندامك، أفلا طهرت منظري ساعة، منظر اله سبحانه و تعالى هو القلب، الله سبحانه و تعالى ينظر إلى قلب الإنسان، و لا ينظر إلى صورته، لذلك من حكمة ثياب لإحرام أنها ثياب غير مخيطة، يتساوى فيها الناسُ جميعا، غنيُّهم و فقيرهم، كبيرهم و صغيرهم، قويهم ضعيفهم " عبدي طهرت منظر الخلق سنين، أفلا طهرت منظري ساعة "

إلى متى أنت باللذات مشغول  وأنت عن كل ما قدَّمت مسؤول
***

1 ـ شرع الصلاة :

 أيها الأخوة الأكارم، الله سبحانه و تعالى شرع لنا في قرآنه العظيم عبادات من أجل أن نتقرب بها إليه، شرع الصلاة، فقال:

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾

[ سورة العنكبوت: 45 ]

 أي و لذكر الله أكبر ما في الصلاة، الصلاة من أجل أن تذكر الله سبحانه و تعالى، ربنا سبحانه و تعالى لحكمته البالغة أمرنا بالصلاة و بيَّن لنا حكمتها، قال تعالى:

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾

[ سورة العنكبوت: 45 ]

2 ـ شرع الصوم :

 أمرنا بالصوم و بين لنا حكمة الصوم، من أجل أن نقبل على العبادة و نحن قانعون أن فيها سعادتنا، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

 من أجل التقوى شُرع الصيام.

3 ـ شرع الزكاة :

 أمرنا بدفع زكاة أموالنا، قال تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

 الصلاة عبادة معللة، و الصوم عبادة معللة، و الزكاة عبادة معللة، لذلك قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: العبادات معللة في مصالح الخلق.

4 ـ شرع الحج :

 فما هي الحكمة المتوخاة في الحج؟ قال تعالى:

﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[سورة المائدة:97]

الحجُّ عبادة بدنية مالية روحية مكانية و زمانية :

 من أجل أن تعلم أن الله يعلم ما في السماوات و الأرض، إذا علمت أن الله يعلم حملك علمك على طاعة الله، و إذا حملك علمك على طاعة الله أقبلت عليه، إذا أقبلت عليه سعدت بقربه في الدنيا و الآخرة، و حققت الهدف الذي من أجله خُلقت، لذلك قال العلماء: الحجُّ عبادة بدنية مالية روحية مكانية زمانية " قال تعالى:

﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾

[ سورة المائدة: 97]

 أمر إلهي، قال تعالى:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

[ سورة محمد: 19 ]

إن دعوت مع الله إلها آخر عذبت نفسك :

 إذا علمت أنه لا إله إلا الله حُلت جميع المشكلات، وحَّدت الوجهة، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه: 124 ]

 وقال تعالى:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

[سورة الشعراء: 213]

 إن دعوت مع الله إلها آخر عذبت نفسك، أشقيتها في الدنيا و الآخرة،قال تعالى:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

[ سورة محمد: 19 ]

 و قال تعالى:

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾

[سورة فاطر: 2]

 لا إله إلا الله، لا رافع إلا الله، لا خافض إلا الله، لا معز إلا الله، لا مذل إلى الله، بيده ملكوت كل شيء، قال تعالى:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 و قال تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

[ سورة الزخرف: 84 ]

 و قال تعالى:

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾

[ سورة الحديد: 4 ]

إذا علمت أن الله يعلم حملك علمُك على طاعته :

 أيها الأخوة المؤمنون، إذا علمت أن الله يعلم و أن الله معك سميع لقولك، عليم بحالك، حملك علمُك على طاعته، و إذا حملك علمك على طاعته سعدت بطاعة في الدنيا و الآخرة، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الأنبياء: 25 ]

ملخص الدين كله أن تؤمن أن لا إله إلا الله :

 الله سبحانه و تعالى خاطب سيدنا موسى فقال:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾

[ سورة طه: 14]

 هذا هو الدين كله، أن تؤمن أن لا إله إلا الله، و أن تعبد الله.

ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد :

 أيها الأخوة الأكارم، القرآن الكريم لخصه الله كله في هذه الآية، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾

[سورة الكهف: 110]

 ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، إنك إذا أديت فريضة الحج من أجل أن تعلم أنه لا إله إلا الله، و أنه سميع لقولك، و أنه عليم بحالك، و أنه يعلم السر و أخفى، و أن الأمر كله بيده، و أنه لا رافع إلا هو، ولا خافض إلا هو ولا معز إلا هو، ولا معطي إلا هو ولا مانع إلا هو.
 أيها الأخوة الأكارم، إذا أيقنت يقينا قطعيا لا شك فيه أن أمرك كله بيده عز وجل، و عكفت على طاعته و طفت حول بيته، و ركعت له و سجدت له، وعرفت أن سر سعادتك بالإقبال عليه.

المؤمن ضمن هذه الآية داخل في الوعد الإلهي :

 قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[ سورة القصص: 61 ]

 المؤمن ضمن هذه الآية، داخل في الوعد الإلهي، لذلك ثقته بما عند الله من نعيم مقيم، ثقته بما أُعد له في الجنة مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، ثقته أن خالق السماوات و الأرض راضٍ عنه، ثقته أن رضاء الله عز وجل أعلى مرتبة ينالها الإنسان على وجه الأرض هذه المشاعر تكسبه عزة و أنفة و كرامة، لذلك قال عليه الصلاة و السلام:

(( عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ قَالُوا وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ ))

[ الترمذي عَنْ حُذَيْفَةَ]

(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))

[ البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]

العبادات معللة بمصالح العباد :

 يا أيها الأخوة المؤمنون، عود على بدء العبادات معللة بمصالح العباد الصلاة من أجل أن تنهانا عن الفحشاء و المنكر، الصيام من أجل أن نبلغ مرتبة التقوى، الصدقة من أجل تطهير النفس و تزكيتها و تحليتها بالكمال، الحج من أجل أن نعلم يعلم ما في السماوات و الأرض، إذا علمنا حُلت مشكلاتنا.

الفريضة هي الشيء الذي لا تقوم حياتك إلا بها :

 لذلك قال عليه الصلاة و السلام:

((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ))

[الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 أي على كل شخص مسلم، فريضة، و معنى الفرض أن الشيء الذي لا تقوم حياتك إلا به، تنفس الهواء فرض، شرب الماء فرض، تناول الطعام فرض، معرفة الله فرض، إذا كان تنفس الهواء و شرب الماء و تناول الطعام فرض لبقاء الجسم في الدنيا فإن معرفة الله عز وجل فرضٌ لسلامتك في الدنيا ولسعادتك في الآخرة.
 أيها الأخوة المؤمنون، العظمة تتبدى من خلق الله عز وجل، عظمة الله، جلاله، علمه، حكمته، رحمته، يتبدى كله من خلقه، من الكون الذي خلقه، قال تعالى:

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة يونس: 101 ]

 و قال تعالى:

 

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾

 

[سورة يوسف: 105]

 و عظمة الله أيضا و حكمته و علمه و رأفته و رحمته تتبدى كلها في أوامره، في عباداته، فلذلك ليس في الإسلام وقوف، في الإسلام عبادات و معنى العبادات أنها أوامر معللة من أجل إسعاد البشر.
 أيها الأخوة الأكارم، الله سبحانه و تعالى يقول:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 متى قال لك فاعبده؟ بعد أن طمأنك أن الأمر كله راجع إليه، قال تعالى:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

الحج يعطينا فكرة أن هذه الأقنعة نخلعها قبل أن تخلعنا :

 يا أيها الأخوة الأكارم، يُمكن أن نستشف هذه العظمة وهذه الحكمة من الأوامر من العبادات، من عبادة الحج العظيمة، الإنسان أيها الأخوة محاط في بلده بأقنعة مزيفة، لا بد من أن تُخلع عنه عند الموت، لا بد من أن يذهب عند الموت مالُه، لابد من أن يذهب جاهه، لا بد من أن يذهب من حوله، لا بد من أن تنقطع لذته، لأن الموت انقطاع مفاجئ لكل شيء مادي، لكل لذة حسية، لكل استغراق في الشهوات، لكل تقلب في المباهج و اللذائذ، لكن الحج يعطينا فكرة أن هذه الأقنعة اخلعها قبل أن تخلعك، اخلعها بإرادتك، الله سبحانه و تعالى أمرنا أن نترك أهلنا، و ديارنا ومكانتنا، و ما نُحاط به و أموالنا و بيوتنا و أن نذهب إليه، هناك من يذهب ليسيح في الأرض، هناك من يذهب يتاجر، وهذا الحج رحلة إلى الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾

[سورة الصافات:99]

 تعال إلي يا عبدي، تقول له: لبيك اللهم لبيك، كأنك ذاهب إلى الله، و بذهابك إليه انقطعت هموم بلدك، المشكلات، النقاط المعلقة، المتاعب المقلقات، أي شيء في بلدك يسبب لك المتاعب تركته مؤقتا لتتعرف إلى الله سبحانه و تعالى، قد يكون الابن مريضا، قد يكون العمل قليل المردود، قد تكون هناك المتاعب، وقد تكون هناك المشاكسات، دع كل هذا و تعالى إلي، إذا ذهبت إليه انقطعت عنك هموم الدنيا، و بذلت جهدا و مالا و عرقا و نصبا، هذا يشعرك أ، الله راض عنك، أتيته من دون أن يكون لك مقصد مادي، إذا تركت مشاغل الدنيا و أتيت بيته العتيق تجلى على قلبك، و آنسك بذكره، و أذاقك طعم قربه، و عرَّفك بذاته، عندئذ تعلم أن الله يعلم ما في السماوات و الأرض، لئلا تكون متعلقا بالدنيا اخلع عنك الثياب، ارتدِ إزارا و رداءً غير مخيط، و لا تحلق رأسك، لا تتطيب، هناك محظورات من أجل أن تنقطع عن الدنيا و زينتها و وزخرفها و نعيمها، لعلك تقبل عليه، لعلك تذوق حلاوة قربه، لعلك تعرف أن الله هو كل شيء.

ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ  و كل نعيم لا محالة زائلُ
***

الحج هي الرحلة قبل الأخيرة :

 أيها الأخوة المؤمنون، عبادة عظيمة شُرعت من أجل أن نعرفه، بل هي الرحلة قبل الأخيرة، الرحلة التي تسبق الرحلة الأخيرة، كيف أن الإنسان في رحلته الأخيرة يُنزع من كل شيء، و يذهب إلى الله عز وجل فردا، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾

[سورة الأنعام: 94]

عبادة الحج ينبغي أن تكون انسلاخاً كلياً من هموم الحياة :

 يا أيها الأخوة الأكارم، هكذا ينبغي أن تكون عبادة الحج، ينبغي أن تكون انسلاخا كليا من هموم الحياة، من مغرياتها، من لذائذها، من طموحاتها، و اتجاها كليا إلى الله و رسوله، إقبالا عليه، تذللا بين يديه، تمريغا لجبهتك في أعتابه، عهدا على التوبة النصوح، عهدا على طاعته عهدا على خدمة عباده، كأنك إذا قبلت الحجر فاوضت كف الرحمن:

(( عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي فَقَالَ يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ ))

[ابن ماجه عَنْ ابْنِ عُمَرَ]

مناسك الحج من دون أن يرافقها أحوالٌ نفسية لا معنى لها :

 أيها الأخوة المؤمنون، مناسك الحج من دون أن يرافقها أحوالٌ نفسية تعبر عن التوبة و عن الإقبال وعن التذلل وعن الخضوع وعن المحبة لا معنى لها، ليس في الدين الإسلامي طقوس إطلاقا، إنما هي عبادات.
 أيها الأخوة المؤمنون، الله سبحانه و تعالى يباهي الملائكة الذين جاؤوه شعثا غبرا يلتمسون مغفرته، و يلتمسون رضاه، و يشهد الله عز وجل و ملائكته أنه قد غفر لعباده من أهل الموقف، لذلك قال عليه الصلاة و السلام:

((عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))

[البخاري عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 وهل من أي شيء أطيب إلى نفسك من أن تُفتح لك صفحة بيضاء جديدة مع الله سبحانه و تعالى، هل من حالة تسعد المؤمنَ من الصلح مع الله، من أن يُعفى عنه فيما مضى، من أن يُغفر له ذنبُه السالف، و أن تُفتح صفحة جديدة بيضاء.

يعود الرجل من الحج إلى بلده في حالة خير من التي غادر فيها :

 لذلك أيها الأخوة المؤمنون، قال العلماء في الحج المبرور: هو الحج الذي يعود فيه الرجل إلى بلده في حالة خير من التي غادر فيها بلده، يعود إلى عبادة، إلى ذكر الله، اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك.
 شيء آخر يا إخوة الإيمان، في مناسك الحج الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾

[سورة البقرة: 197]

 لكن هناك في مناسك الحج أوامر و نواهي لا علاقة لها بالفسوق، لا ينبغي أن تقص شعرك، لا ينبغي أن ترتدي المخيط، لا ينبغي أن تتطيب، مع أن هذا مباح فيما سوى الحج، هذه المناسك أمرنا الله بها كي نتصور ساعة الحشر، وكيف يقوم الناس لرب العالمين، وكيف تنقطع لذائذ الدنيا.

الشكل الظاهري لا قيمة له في الحج :

 وشيء آخر أراد الله عز وجل أن يشعرنا أن شكلك الظاهري لا قيمة له، صورتك لا قيمة لها عند الله، القيمة لقلبك، لذلك تروي كتب الأدب أن الأحنف بن قيس كان قصير القامة أسمر اللون صغير العينين ناتئ الوجنتين أحنف الرجل، ضيق المنكبين، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، و كان مع ذلك سيد قومه، إذا غضِب غضب لغضبته مائة ألف، لا يسألونه فيما غضب.
 يا أيها الأخوة المؤمنون:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 أراد الله سبحانه و تعالى من الحج أن تعرف الحقيقة أن تعرف حجمك الحقيقي، أراد الله أن يحجمك كي تعرف الحقيقة، أن تعرف حجمك الحقيقي، أراد الله أن يحجِّم، هذا أنت فرد أشعث أغبر لا تملك شيئا، أنت و الآخرين سواء، لا فضل لواحد على آخر، لا الغني و لا الفقير، لا القوي و لا الضعيف، هكذا يوم القيامة، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾

[سورة الأنعام: 94]

تناسب في العظمة بين خلق الله و بين عباداته :

 يا أيها الأخوة المؤمنون، الكون خلقه و هذه العبادة أمره، و لابد من تناسب في العظمة بين خلق الله و بين عباداته.
 أيها الأخوة الأكارم، الحج كما أراده الله عز وجل تطهير للذنوب، ومن طهَّره الله من الذنوب سعد في الدنيا و الآخرة، إن أسعد ما تملكه أن يكون الطريق إلى الله سالكا، أن يكون الطريق إلى الله مفتوحا، إذا صليت أقبلت، و إذا قرأت القرآن تجلى الله على قلبك، إذا سعدت بقربه تهون عليك الدنيا وما فيها، تنتقل من قلبك إلى يديك.
 اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، و لا مبلغ علمنا يا رب العالمين، أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي و لكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.

* * *

الخطبة الثانية :
 الحمد لله رب العامين،وأفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

من نعم الله علينا أن مثوى النبي معروف باليقين القاطع :

 أيها الأخوة الأكارم، من نعمة الله العظمى على أمة النبي صلى الله عليه و سلم أن مثوى النبي معروف باليقين القاطع، لذلك تروي كتب السيرة أن العتبي كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فإذا بأعرابي يدخل الحرم النبوي الشريف، و يقف أمام حجرته الشريفة، و يقول هذا الأعرابي: يا رسول الله إني سمعت الله يقول:

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾

[سورة النساء: 64]

 وها أنا ذا قد جئت إليك أستغفر الله، فاستغفر لي ذنبي عند الله، تلا هذا الأعرابي بيتين من الشعر، قال:

يا خيرَ من دُفِنت في القاعِ أعظمُه  فطاب من طيبهن القاعُ و الأكمُ
نفسي الفداءُ لقبر أنت ساكنُـــه  فيه العفاف وفيه الجود و الكرمُ
***

 و خرج هذا الأعرابي من مسجد رسول الله، تروي كتب السيرة أن العتبي أخذته سنة من النوم، فأفاق و قد رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه السِنة من النوم، قال: يا عتبي الحق الأعرابي، و بلغه أن الله غفر له " العلماء يقولون: إن هذه الآية مطبقة في حياته و بعد مماته صلى الله عليه و سلم، قال تعالى:

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾

[سورة النساء: 64]

 من زار قبري بعد موتي فكأنما زاره في حياتي، ومن زائر قبري وجبت له شفاعتي، ومن وجد سعة ولم يزرني فقد جفاني.
 أيها الأخوة المؤمنون، إذا قدمت الحرم النبوي الشريف لا تشعر أن هذا النبي العظيم ميت، هذا الشعور لا يخالجك، تشعر أنه حي و أنه حي طريٌّ، أنا حي طري في قبري.
 أيها الأخوة المؤمنون، من زار قبري بعد موتي فكأنما زاره في حياتي ومن زائر قبري وجبت له شفاعتي، ومن وجد سعة ولم يزرني فقد جفاني " هكذا جاء في بعض الأحاديث الشريفة.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، و تولنا فيمن توليت، و بارك لنا فيما أعطيت، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي و لا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، و لا يعز من عاديت، تباركت ربنا و تعاليت، اللهم أعطنا و لا تحرمنا، و أكرمنا و لا تهنا، و آثرنا و لا تؤثر علينا، و ارضنا وارض عنا، واقسم لنا من خشيتك مت تحول به بيننا و بين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، و متعنا اللهم بأسماعنا و أبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، و اجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، و انصرنا على من عادانا، و لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، و لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحمنا، مولانا رب العالمين، اللهم بفضلك و رحمتك أعل كلمة الحق و الدين، وانصر الإسلام و أعز المسلمين، و خذ بيد ولاتهم إلى ما تحب و ترضى، إنه على ما تشاء قدير، و بالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور