- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
قال تعالى في سورة الكهف : وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ...
أيها الإخوة الأكارم ؛ في سورة الكهف الذي سَنَّ لنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نقرأها في كل يوم جمعة ، في سورة الكهف آيةٌ وهي قوله تعالى :
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾
حوارٌ جرى بين أصحاب الكهف ، وبعضهم يقول : إنه خطابٌ مِن الله عز وجل موَجَّهٌ إليهم . على كلٍ في الآية تقريرٌ لحقيقةٍ الناس في أمسِّ الحاجة إليها ..
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾
مَن هم ؟ على مَن يعود هذا الضَمير ؟ يعود على أهل الكفر ، وعلى أهل الضلال ، وعلى أهل الفسق والفجور والعصيان ، يعود على مَن إذا صاحبته فَتَنَك ، مَن إذا خالطَّته حملك على المعصية ، يعود على إنسانٍ إذا لازمته أرداك وأشقاك .
الله سبحانه وتعالى يقول في هذه السورة الكريمة ، وفي هذه الآية بالذّات :
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾
ما يعبدون عطفٌ على هم ..
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾
أي يجب أن تعتزل الفاسق وما يعبده ، يعبد ماذا ؟ قال عليه الصلاة والسلام :
(( تعِسَ عبدُ الدِّينار ، وعَبْدُ الدِّرهم ، وعَبْدُ الخميصة ))
فهذا الذي يعبد المال يجب أن تعتزله ، تعس عبد الخميصة .
(( تعس عبد البطن ، تعس عبد الفرج ))
تعس عبدٌ يعبد ما سوى الله سبحانه وتعالى ، إما أن تكون عبداً لله وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم .
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾
أي حينما تعتزلونَهم ..
﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾
حينما يشيع الفساد في الأرض ، حينما تَسْتَعِرُ الفِتَن ، حينما ترى في الطريق نساءً كاسيات عاريات ، مائلاتٍ مُميلات ، يجب أن تبتعد عن مواطن الفساد ، يجب أن تبتعد عن مواطن الفِتْنَة ، يجب أن تبتعد عن كل اختلاطٍ يُرديك ويشقيك ..
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾
اعتزل الكافر وما يعبُد ، إن كان يعبد المال ، أو كان يعبد الشهوات ، أو كان يعبُد ما سوى الله اعتزله حتى تستحق رحمة الله سبحانه وتعالى ، انفصل عنه ، تميَّز عنه ، لأنك إذا خالطته أرداك وأشقاك ..
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾
الهدف من هذه القصص.
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ إن جاء في القرآن الكريم قصصٌ ، فالقصص يدور مع الناس في كل أوقات زمانهم ، في كل بيئاتهم ، في كل عصورهم ، في كل مجتمعاتهم ، لأن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ ، إنما هو كتاب هدايةٍ للبَشَر ..
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾
إذا زرت أقرباء لك ، وأحرجوك عن أن تنظر إلى مَن لا يحل لك ، فأنت مأمور أن تعتزل هؤلاء ، إذا دُعيت إلى وليمة أو إلى حفلة ، ونحن على أبواب أعياد رأس الميلاد ـ رأس العام الميلادي ـ إذا دعيت إلى حفلة ، أو إلى نُزهة ، أو إلى وليمة ، أو إلى سهرة ، وفيها ما يغضب الله سبحانه وتعالى اعتزلهم ، ابتعد عن هذه المجتمعات المَوْبوءة، مجتمعات الاختلاط ، مجتمعات الفسق والفجور ، مجتمعات المعصية ، مجتمعات الاستخفاف بالدين ، وبأوامر الدين .
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾
هذه التقاليد التي يعبدونها مِن دون الله ، هذه التقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان ، طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة ، هذه بدعة ؛ أن يذهب الناس إلى الفنادق ، إلى أماكن اللهو ، النساء بأبهى زينة ، يفعلون المُنكرات ، هذه بدعةٌ وصلتنا من الغرب .
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾
اعتزل الكافر ، واعتزل عاداته ، وتقاليدَهُ ، وأعمالَهُ ، ومَن يعبد ، لكن في الآية استثناءً ..
﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾
فإذا عبدوا الله عز وجل فلا تعتزلهم ، لم يأمر الإسلام المؤمنين بالعُزلة إطلاقاً ، ولكنه أمرهم بها مُقَيَّدَةً بعبادة غير الله ، فإذا كنت في مجتمعٍ يعبد الله وحده فإيّاك أن تعتزل هذا المجتمع ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الوحدة خيرٌ مِن الجليس السوء ، ولكن الجليس الصالح خيرٌ مِن الوحدة ))
الله سبحانه وتعالى يقول في آياتٍ كثيرة :
﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾
إيّاك أن تعتزل هؤلاء ، إياك أن تنزوي في بيتك وتدع مجالس العلم ، إياك أن تنزوي في بيتك وتدع إخوانك المؤمنين ، اتصل بهم ، تعامل معهم ، حاككهم بالدرهم والدينار ، إنهم يزيدونك محبةً لله عز وجل ، يزيدونك إيماناً بأحقية هذا الدين ، الاعتزال الذي أمرنا الله به بشكلٍ غير مباشر في كتاب الله ؛ اعتزال أهل الكُفر والضلال ، أهل الفسق والفجور ، أهل المعصية والانحراف .
فأووا إلى الكهف ...
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾
الآية حوارٌ فيما بين أصحاب الكهف ، أو أمرٌ موجهٌ مِن الله سبحانه وتعالى إليهم بطريقٍ أو بآخر .
وكهف المؤمن بيته ، وكهف المؤمن مسجده ، وكهف المؤمن أهلُه ، لذلك :
(( إذا رأيتم شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه ، فالزم بيتك ، وامسك لسانك ، وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة ))
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾
ماذا يوجد في الكهف ؟ ماذا يوجد في بيتك ؟ في مُصَلاَّك ؟ ماذا يوجد في مسجدك ؟ ..
ينشر لكم ربكم من رحمته ...
﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
يتجلى عليكم ، يسعدكم ، تطمئنون ، ينزِّل السكينة على قلوبكم ، ترتاحون ، تستسلمون ، تسعدون ، إذا دخل الرجل المسجد يُسَنُّ له أن يدعو بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول :
(( رب افتح لي أبواب رحمتك ))
(( من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر ))
بماذا يكرمنا الله سبحانه وتعالى ؟ .
﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
تخرج مِن المسجد وكأنك مَلَكْتَ الدنيا وما فيها ، أي شعورٍ أعلى وأسمى مِن أن تحس أن الله سبحانه وتعالى راضٍ عنك ، إنه دعاك فلبَّيته ، دعاك إلى بيته فلبيته ، إنك ذاهبٌ إلى الله لتستمع كلامه ، لتستمع أمره ونهيه ..
ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ...
﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾
تُيَسَّر الأمور ، تُحَلّ المعضلات ..
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾
يقضي الله لك بالخير ، ييسر لك أمورك ، تحلُّ العُقَد في حياتك ، مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ..
﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾
أي تحلُّ العُقَد ، تيسَّر الأعمال ، يتيسر الزواج ، يتيسر البيت ، يتيسر الدخل ..
﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾
هذا أوجه تفسيرٍ لهذه الآية .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ويسن للرجل إذا خرج مِن المسجد أن يقول :
(( رب افتح لي أبواب فضلك ))
إذا دخلت إلى المسجد اسأل الله عز وجل أن يفتح لك أبواب رحمته ، وإذا خرجت مِن المسجد اسأل الله عز وجل أن يفتح لك أبواب فضله .
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
أقوال حول تفسير هذه الآية .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ جاء في بعض التفاسير : أنه زعم قومٌ أن هذه الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقاً . وهذا خطأ ، هكذا جاء في التفسير هذا خطأ ، إنما تشير إلى التأسِّي بأهل الكهف في الاعتزال ، إذا أكرهت على الشِرْك ، أو إذا اضطهدت في دينك ، أو إذا خفت على نفسك مِن الفتنة والانجراف في طريق المعصية ، في هذه الحالات الخاصّة ، يجب أن تؤثر العزلة على الاختلاط .
والغزالي رضي الله عنه يقول في معرض هذه الآية : لم يعتزل أهل الكهف بعضهم بعضاً وهم مؤمنون ، إنما اعتزلوا الكفار ، ولا ريب في مشروعية العزلة فراراً مِن الفتن .
فلو في هذه الحفلة منكرات ، يجب أن تعتزلها ، في هذه النزهة معاصي ، يجب أن تعتزلها ، في زيارة هذا الرجل فتنة ، يجب أن تعتزله .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وقد حَمَلَ بعضهم هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى :
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾
بعض المُفَسِّرين حمل هذه الآية على أنها تفيد اعتزال أهل الكفر والفسق والفجور والعصيان في كل أحوال الإنسان .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ لابد للمؤمن مِن صفاء ، لابد للمؤمن من طهرٍ ونقاء ، كيف يكون الصفاء في مجتمعات الشرك ؟! كيف يكون الطهر والنقاء في الفتن المستعرة ، في الشهوات التي تستحوذ على الناس ؟! مَن خاف على دينه فر مِن شاهقٍ إلى شاهق .
أحاديث شريفة تؤيد هذه الآية وتغنيها:
ماذا في السُنَّة مِن أحاديث تؤيّد هذه الآية وتغنيها ؟ عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(( إن الله تعالى يحب العبد التقي الخفي الغني ))
قال مفسرو هذا الحديث : معنى " الخفي " العبد خامل الذِكْر ، لا يعرفه الناس ، وقد استقبل سيدنا عمر رضي الله عن عمر ، استقبل أحد الذين يبلغونه أنباء المعارك فقال :
يا أمير المؤمنين مات خلقٌ كثير .
قال : من هم ؟
قال : إنك لا تعرفهم .
فبكى عمر رضي الله عنه وقال :
وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم .
ما ضرك يا أخي أن الناس لا يعرفونك إذا كان الله يعرفك ، ما ضرّك يا أخي إن لم تكن مشهوراً إذا كنت علماً في السماوات والأرض ، ما ضرك ألا يعرفك الناس ؟ الخفي خامل الذِكر لا يعرفه الناس ، إذا حضر لا يعرفوه ، وإذا غاب لا يفتقدوه .
قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح :
(( إن الله يحب العبد التقي الخفي الغني ))
ومعنى : الغني " أبداً لا يذهبن بكم الظن على أن الغنى بمفهوم الناس ، ولكن الغني في هذا الحديث غني النفس الذي استغنى بما عند الله عما عند الناس ، الذي استغنى بوعد الله عز وجل عن جمع حُطام الدنيا .
(( إن الله يحب العبد التقي الخفي الغني ))
وعن أبي سعيد الخُدْريّ رضي الله عنه ، قال رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الناس أفضل يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
(( مؤمنٌ مجاهدٌ بنفسه وماله في سبيل الله ))
ثم قال : مَن ؟ قال :
(( رجلٌ معتزلٌ في شعبٍ من الشعاب يعبد ربه ))
وفي روايةٍ :
(( يتقي الله ويدع الناس من شره ))
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وهو متفقٌ عليه .
يعتزل الناس إذا فسد الناس ، إذا فسق الناس ، إذا شاعت الفَحْشاء، إذا أمر الناس بالمنكر ونهوا عن المعروف ، إذا صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، إذا كذِّب الصادق وصدق الكاذب ، و اؤتمن الخائن ، وخون الأمين ، إذا بلغ الأمر بالناس هكذا ، إذا جاريتهم في معاصيهم رفعوك ، وإذا ابتعدت عنهم ذَمّوك ، هذه مِن علامات آخر الزمان ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( رجلٌ معتزلٌ في شعبٍ من الشعاب يعبد ربه ))
وفي روايةٍ :
(( يتقي الله ويدع الناس من شره ))
وعنه رضي الله عنه أيضاً ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال عليه الصلاة والسلام :
(( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يرعى به شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه مِن الفتن ))
و" شعف الجبال " أعلاها ، لماذا ؟ لأن مكاسب الناس تلوَّثت بالحرام ، ولأن مَن لم يأكل الربا أصابه غُباره ، يوشك أن يأتي على أمتي زمان ، لشيوع الربا ، شيوع الغش ، شيوع الكذب بين الناس ، شيوع المكاسب المحرَّمة ..
(( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يرعى به شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ))
الخلاصة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ الذي أريد أن أقوله لكم : إن ترك مجتمع الكفر والفسق والفجور واجب ، ولكن حضور مجالس العلم ، والاختلاط بالمؤمنين الصادقين ، والتعاون معهم على أمر الدين والدنيا ، هذا فرضٌ أيضاً لقوله تعالى :
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾
إن كان لك عمل ، فأنت بهذا العمل تحقق عبادة الله بشكلٍ أو بآخر ، إذا كان لك عمل ؛ تنفع به الناس ، تنفع به المسلمين فهنيئاً لك هذا العمل ، لم تؤمر أن تعتزل الناس حباً بالاعتزال ، ولكنك أمرت أن تعتزل الناس خوفاً على دينك من الفتنة فقط ، فإذا خالطت المؤمنين وعاملتهم ، وبعتهم واشتريت منهم ، وجلست إليهم ، واستمعت إلى مجالس العلم ، فهذا اختلاطٌ مأمورٌ به ، أي أنت مأمور بالاختلاط فيما يعود عليك بالنَفْع على دينك ودنياك ، ومأمورٌ بالاعتزال فيما يعود عليك بالفتنة والضر والمعصية في دينك ودنياك .
أيها الإخوة المؤمنون :
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾
الحكمة : أن تعرف متى يجب أن تعتزل الناس ، ومتى يجب أن تُخالطهم .
متى يجب أن تعتزلهم ؟ إذا خفت على دينك ، إذا خفت أن تزل قدمك إلى معصية ، إلى عملٍ لا يرضي الله ، إلى فتنةٍ تحطّم حياتك الداخلية ، إلى اختلاطٍ يقلِب حياتك جحيماً ، إذا خفت على دينك هذا فاعتزل ، وإذا رأيت في اجتماعك مع إخوانك المؤمنين إذا حضرت مجلس علم ، إذا كنت إيجابياً في الحياة ، إذا كان لك عملٌ تحقق به ذاتك، وتؤدي واجبك تجاه الإنسانية وتجاه أبناء وطنك ، إن هذا العمل يُباركه الدين وكل دين .
ويقول سيدنا عمر : إني أرى الرجل لا عمل فيسقط من عيني .
هذا هو الذي أريد أن أقول : لا يفهم مِن كلامي هذا أنني أنهى عن أن يكون لك عملٌ في المجتمع ، بل على أن تكون مواطناً صالحاً ، على أن تساهم في بناء وطنك ، وفي بناء أمتك ، ولكن لا على حساب دينك ، ولا على حساب استقامتك ، ولا على حساب طُهْرِك ولا على حساب صفائك .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ عن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم عليه السلام . قال :
(( كانت أمثالاً كلها ، أيها المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت مِن كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على أمره أن يكون له ساعات ؛ ساعةٌ يناجي فيها ربه ، وساعةٌ يحاسب فيها نفسه ، وساعةٌ يتفكّر فيها في صُنع الله ، وساعةٌ يخلو فيها لحاجته مِن المطعم والمشرب ، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً ـ أي مسافراً ـ إلا إلى ثلاث ؛ تزود لمعاد ـ رحلةٍ في طلب العلم ـ أو شغلٍ لمعاش ، أو لذةٍ في غير محرم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، ومَن حَسَبَ كلامه مِن عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه ))
قلت : يا رسول الله هذه صحف إبراهيم ، فما كانت صحف موسى عليه السلام ؟
﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾
هذا الصحابي الجليل سأل النبي عليه الصلاة والسلام : ماذا كانت صحف إبراهيم ؟ فلما انتهى النبي مِن إعطاء نبذةٍ عن صحف إبراهيم ، قال : يا رسول الله فما كانت صحف موسى عليه السلام ؟ قال :
(( كانت عِبَراً كلها ؛ عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ؟!! ـ ما الذي يفرحه ـ وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ؟! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يَنْصَب ؟! ـ أي يتعب ـ وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلُّبها كيف يطمئن إليها ؟! وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً كيف لا يعمل ؟! ))
قلت : يا رسول الله أوصني ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( يا أبا ذر ، أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس الأمر كله ))
قلت : يا رسول الله زدني . قال :
(( عليك بتلاوة القرآن وذكر الله ، فإنه ذكر لك في السماء ونورٌ لك في الأرض ))
قلت : يا رسول الله زدني . قال :
(( إياك وكثرة الضحك ، فإنه يميت القلب ، ويَذْهَب بنور الوجه ))
قلت : يا رسول الله زدني . قال :
(( عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي ))
قلت : يا رسول الله زدني . قال :
(( أحب المساكين وجالسهم ))
قلت : يا رسول الله زدني . قال :
(( انظر إلى مَن هو تحتك ))
في الدنيا ، أما في الآخرة انظر إلى من هو فوقك كي تصل إليه .
(( ولا تنظر إلى مَن هو فوقك ، فإنه أجدر ألا تزدري نعمة الله عليه ))
قلت : يا رسول الله زدني . قال :
(( قل الحق وإن كان مراً ))
قلت : يا رسول الله زدني . قال :
(( ليرُدَّك عن الناس ما تعلمه مِن نفسك ، ولا تجد عليهم ـ أي تلومهم ـ فيما تأتي ، وكفى بك عيباً أن تعرف مِن الناس ما تجهله مِن نفسك ))
ثم ضرب بيده على صدري وقال :
(( يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكَف ، ولا حُسن كحُسن الخُلُق ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم .
النحل :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مِن آيات الله الدالة على عظمته "النحل " . قال تعالى :
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي ﴾
هذه الياء ، ياء المؤنثة المخاطبة ، وكأن الآية منصبةٌ على الإناث :
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
أيها الإخوة الأكارم ؛ النحل ، هو الحشرة الوحيدة التي تستطيع تخزين رحيق الأزهار ، مِن أجل الغذاء ، وهي فضلاً عن بنائها لخلاياها ، وتصنيعها للشّمع والعسل ، فهي تقوم بعملٍ جليل ، وهو تلقيح الأزهار ، ومن دون تدخُّل النحل ، فإن عدداً كبيراً مِن النباتات لا يثمر .
والنحل مِن الخلايا الاجتماعية ، ذات النظام الاجتماعي الدقيق ، الذي تعجز عن تقليده المجتمعات البشرية .
تزور النحلة ما يزيد عن ألف زهرة لكي تحصل على قطرةٍ من الرحيق ، تحتاج القطرة الواحدة من الرحيق ، إلى أن تحط النحلة على ألف زهرة ، أو أكثر ، ومِن أجل أن تجمع النحلة مئة غرام من الرحيق ، مئة غرام فقط ، تحتاج إلى مليون زهرة .
وسرعة النحلة في طيرانها ، تزيد عن خمسٍ وستين كيلو متر في الساعة ، تقارب سرعتها سرعة السيارة ، فإذا كانت محمّلةً برحيق الأزهار ، تهبط سرعتها إلى ثلاثين كيلو متر في الساعة ، ولا تنسوا أيها الإخوة ، أن حمولة النحلة من رحيق الأزهار يعادل ثلثي وزنها ، ثلثا وزنها رحيق ، ووزنها الثلث ، ويحتاج الكيلو الواحد مِن العسل إلى طيرانٍ يعادل أربعمئة ألف كيلو متر تقريباً ، يحتاج الكيلو الواحد من العسل إلى عشر دوراتٍ حول الأرض في خط الاستواء .
ويطرأ على الرحيق في أثناء الطيران ، تبدلٌ كيميائي .
حدثني بعض الأصدقاء : أن بعض الدول المتقدِّمة في الصناعة ، تأخذ المواد الأولية مِن قارة ، وفي طريقها إلى المصانع ، تجري على هذه المواد عملياتٌ كثيرة في الباخرة نفسها ، كسباً للوقت ، وتوفيراً للجهد ، فإذا ابتدع هؤلاء هذه الطريقة ؛ يأخذون بعض الفلزات من قارة ، وفي طريقها إلى بلد التصنيع ، تجري على هذه المواد عملياتٌ معقدة ، كسباً للوقت ، وتوفيراً للجهد ، فإن النحلة ، سبقتهم في هذا أشواطاً كثيرة ، إنها أثناء طيرانها ، تجري على الرحيق تبدُّلاتٍ كيماوية كثيرة .
وإذا كان موسم الأزهار غزيراً ، فإنها تعطي حمولتها لنحلةٍ أخرى ، وتعود سريعاً لكسب الوقت ، وجني رحيق الأزهار ، وإذا كانت الغزارة قليلةً ، فإنها تدخل بها إلى داخل الخليّة ، وتضعها في المكان المناسب .
أما الملكة فهي أكبر حجماً ، وتضع كل يومٍ من ألفٍ إلى ألفي بيضة ، والذي يأخذ بالألباب ، أن هذه الملكة ، تضع الملكات في مكان ، والذكور في مكان ، والإناث في مكان ، وكأنها تعرف نوع المولود قبل الولادة ، وهذا يعجز عنه البشر .
لو أن امرأةً درست الطب ، وتخصّصت في الأمراض النسائية ، وفي الولادة ، وتزوَّجت ، وحملت ، هل تعرف ما في بطنها ؟ إن ملكة النحل تعرف أن في بطنها ذكراً ، أو أنثى ، أو ملكة ، حينما تأتي لتضع البيض ، تضعه في المكان المناسب .
والعاملات منهن ما يأتينً بالطعام الخاص بالملكة ، ويسمي علماء النحل هذه النحلات بالوصيفات .
وإذا ماتت الملكة تضطرب الخلية ، ويلاحظ الإنسان هذا التبدُّل ، وحُمة الملكة لا تلدغ الإنسان ، بل تلدغ ملكةً أخرى تنافسها على منصبها ، لذلك : الذكور مهمتها تلقيح الملكات ، والإناث عاملات ، والملكة مهمتها الولادة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه آيةٌ من آيات الله عزَّ وجل ، آيةٌ دالةٌ على عظمته .
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
الحديث عن العسل طويل ، العسل إلى أن يكون دواءً أقرب منه إلى أن يكون غذاءً ، إنه صيدليةٌ مُجَمَّعَةٌ في هذا الشراب .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ التفكُّر في آلاء الله سبحانه وتعالى ، بابٌ كبيرٌ مِن أبواب المعرفة ، فلا تغلقوا هذا الباب ، اجعلوه مفتوحاً على مصارعه ، والآيات التي بثّها الله سبحانه وتعالى لا تعدُّ ولا تحصى .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
اللهم إنا نعوذ بك مِن الخوف إلا منك ، ومِن الفقر إلا إليك ، ومِن الذل إلا لك ، نعوذ بك مِن عُضال الداء ومِن شماتة العداء ، ومن السَلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا مِن القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا مِن القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا مِن القانطين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .