- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
وبعد .
تمهيد :
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال بعض العارفين بالله : ما مِن يومٍ إلا والجليل سبحانه وتعالى ينادى فيقول :
عبدي : ما أنصفتني أذكرك وتنساني ، وأدعوك إليّ وتذهب إلى غيري ، وأذهب عنك البلايا وأنت معتكفٌ على الخطايا .
يا ابن آدم : ماذا تقول غداً إذاً جئتني ، خلقت الأشياء كلَّها مِن أجلك ، وخلقتك مِن أجلي ، فاشتغلت بما خلقته لك عني ، فإذا اشتغلت بالنعمة على المُنعم وبالعطايا عن المعطي ، فما أديَّت شكر نعمتي ، ولا رَعَيْت حُرمتي ، فكل نعمةٍ شغلتك عني فهي نقمة ، وكل عطيةٍ ألهتك عني فهي بليّة .
يا ربّ كيف أشكرك ؟ فقال الله عز وجل :
تذكرني ولا تنساني ، إنك إذا ذكرتني شكرتني ، وإذا نسيتني كفرتني .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ عودوا إلى الله قبل فوات الأوان ، تعرَّفوا عليه وأنتم في الرَخاء ، تعرفوا عليه وأنتم في صحة ، وأنتم في شباب ، وأنتم في قوّة ، وأنتم في غنى ، تعرفوا عليه وأنتم في الحياة ، لأنك إذا عرفته بعد الممات ، لا تنفعك هذه المعرفة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مادام القلب ينبض فالباب مفتوح ، مادام في الحياة بقيّة فباب التوبة مفتوح .
عبدي لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا ، غفرتها لك ولا أُبالي .
تابع الإسراء والمعراج :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وعدتكم في الخطبة السابقة ، أن أتابع الحديث عن الإسراء والمعراج ، فننتقل إلى سورة النَجم ، قال تعالى :
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾
هذا هو النبي الكريم ، هذا قدوتنا ، هذا أسوتنا ، هذا معلمنا ، هذا هادينا إلى الله ..
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾
وقف علماء التفسير عند كلمة " صاحبكم " ..
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾
لماذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾
لأنكم تعرفونه ؛ تعرفون أمانته ، تعرفون عفافه ، تعرفون صدقه ، تعرفون نَسَبَهُ ، تعرفونه حق المعرفة ، أم لم يعرفوا رسولهم ، أراد الله عزَّ وجل بكلمة :
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾
أن يقرعهم ، أهو غريبٌ عنكم ؟ أفي أخلاقه ثُلْمَة ؟ أفي أمانته تهمة ؟ أفي صدقه شك ؟
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾
ما ضلَّ عقله ، ولا غوت نفسه ، هو قدوة ، هو صفوة خلق الله ، هو حبيب الله ، هو أول خلق الله ، هو الهادي إلى الله ..
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾
ومن اتبع سنَّته ما ضل وما غوى ، ما المقصود مِن هذه الآية؟ ماذا نستفيد نحن منها ؟ يعني إذا اتبعتم سنَّته لا تضلون ، ولا تشقون ..
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾
فمن حاد عن سنَّته فقد ضل وقد غوى ، من حاد عن سنَّته فقد ضل وقد شقي ..
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾
ليس هذا القرآن مِن عند رسول الله ، وكأن الله عزَّ وجل بهذه الكلمة يبيّن أن مُعْظَم كلام البشر انطلاقٌ من الهوى ، يهوى فيتكلّم ، يتكلّم عن الهوى ، يتكلَّم عن الشهوة ، يتكلم عن المصلحة ، يتكلم عن نزوةٍ طارئة ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما يتلو هذا القرآن على قومه ..
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
هذا مِن عند الله ، هذا كلام الله ، هذا كلام ربّ العالمين ، هذا كلامُ خالق السماوات والأرض ، هذا كلام الذي لا يغفل عن عباده ..
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾
الله سبحانه وتعالى ، أرجح التفاسير : أن ذو القِوَى الله سبحانه وتعالى ، فإذا كان المُعَلِّم هو الله ، فما قولك بهذا العلم ؟
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾
لماذا علمه ؟ لماذا اصطفاه مِن دون خَلْقِهِ ؟ لماذا خصه بالرسالة ؟ لماذا ؟
﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾
أنتم في واد وهو في واد ، أنتم مع الخَلْق وهو مع الحق ، أنتم مع الشهوة ، وهو مع القيَم ، أنتم مع مصالحكم ، وهو مع هدايتكم ..
﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾
لأنه بالأفق الأعلى ..
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾
سورة النجم دقيقةٌ جداً ، لماذا اصطفاه على العالمين ؟ لأنه في الأفق الأعلى ، لماذا ..
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾
لأنه :
﴿ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾
الفائدة من هذه الآيات .
ماذا نستفيد نحن مِن هذه الآيات ؟
يعني أيها الإنسان اسم بنفسك ، ترفّع عن وحي البشر ، ترفَع عن خطايا البشر ، ترفَّع عن سفاسف الأمور، ترفع عن المغانم العاجلة ، ترفع عن الدُنيا الدنيّة ، ترفع عن حطامها ، ترفع عن مباهجها ، ترفع عن زينتها ، وانظر إلى الذي خَلَقَك مِن قبل ولم تكُ شيئاً ، وانظر إلى الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد ، وبنعمة الإمداد ، وبنعمة الإرشاد ، وانظر إلى من ستؤول إليه..
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
ما الذي يشغلك ؟! ما الذي يقلقك؟! ما الذي يهمّك ؟! .. دخلك ، رزقك ، صحتك ؟ وهذه الحياة الأبدية ، ألا ترجوها ؟ ألا تخشى أن تكون فيها من الخاسرين ؟ لا ترجو إلا الدنيا ؟
﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾
لو أنك بالأفق الأعلى لرأيت الطريق إلى الله مفتوحاً ، لو أنك بالأفق الأعلى لرأيت نفسك مِن الله قريباً ، لو أنك بالأفق الأعلى لذُقت طَعْمَ القُرب ، لو أنك بالأفق الأعلى لتجلّى الله على قلبك ..
﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
قال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها ))
ماذا عقلت مِن الصلاة ؟ وقفت بين يدي الله عزَّ وجل ، فماذا أفدت مِن الصلاة ؟ بماذا شعرت ؟ ما الذي فهمت ؟ ما الذي عقلت ؟
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
الفؤاد يرى .
هل لك رؤيةٌ قلبيةٌ أيها الأخُ المؤمن ؟
هل ترى ما لا يراه الناس ؟
هل لك رؤيةٌ تتميز بها ؟
هل ترى تفاهة الدنيا ، وعظمة الآخرة ؟
هل ترى أن رضوان الله عزّ وجل أثمن ما في الوجود ؟
هل ترى أن طاعة الله هي الفوز العظيم ، وليس الدرهم والدينار ؟
هل ترى أنك إذا عرفته وعبدته فقد حققت الهدف من وجودك ؟
﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾
أنت لم تر ما رأى ، فلِمَ تكذِّب ما رأى ؟!
﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾
استنبط علماء التفسير :
أن النبي عليه الصلاة والسلام بَلَغَ أعلى درجةٍ يبلغها إنسان ؛ سيد ولد آدم ، سيد المخلوقات جميعاً ، سيّد الإنس والجن ، العبدُّ الأول في الكون ..
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾
﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾
ما جنّتك أيها الأخ الكريم ؟ أتسعد بالمال ، أم تسعد بالقُرب ؟ أتسعد بالدنيا ، أم تسعد بالآخرة ؟ أتسعد بالناس ، أم تسعد بربّ الناس ؟
﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
يغشاها مِن التجليات ، يغشاها مِن العلوم ، يغشاها مِن المعارف ، يغشاها مِن الفهم ، يغشى ما يغشى ، قال علماء البلاغة :
إن هذا من الإيجاز الغَنِيّ ، الإيجاز الغني ؛ أن تكون الكلمات القليلة منطويةً على معانٍ كثيرة .
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
يعلمنا الله سبحانه وتعالى أدب النَظَر ، فزاغ النظر أي بعد عن مرماه ، وطغى أي تجاوز حده .
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام .
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾
والله الذي لا إله إلا هو ؛ المؤمن على إيمانه الذي ليس بشيءٍ إذا ما قيس بإيمان النبي عليه الصلاة والسلام ، المؤمن على إيمانه المتواضع ممتلئةٌ نفسه تعظيماً لآيات الله ، ممتلئةٌ نفسه إكباراً لقدرة الله، لذلك يذْكُر الله دائماً في كل أحيانه ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب .
أيها الإخوة الأكارم ؛ ينبغي أن نستفيد مِن هذه السورة ، ينبغي أن يكون لنا منها نَصيب ، ينبغي أن نعيش بالأُفُق الأعلى ، ينبغي أن نقترب مِن ذي العزة والجبروت ، ينبغي أن تسمو نفوسنا ، ينبغي أن تصح رؤيتنا ، ينبغي أن نكون أُناساً آخرين ، ينبغي أن نرى ما لا يراه الآخرون ، ينبغي أن نعرف حقيقة الدنيا ، ينبغي أن نعرف حقيقة الآخرة، ينبغي أن نذوق طعم القُرب ، ينبغي أن نذوق طعم الحُب .
أيها الإخوة الأكارم ؛ القرآن الكريم له خاصٌ وله عام ، فإذا وجِّهت آياتٌ بالذات إلى سيدنا رسول الله ، فهي موجهةٌ أيضاً إلى أتباعه مِن المؤمنين المسلمين ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام متبوعٌ ، هو قدوةٌ حُسْنى ، هو أسوة فُضْلى ، فلذلك تقرأ الآيات ، تعرف النبي ويجب أن تقتفي أثره ، ويجب أن تهتدي بهديه ، ويجب أن تتبع سُنَّته .
اليمين :
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ أخٌ كريم رجاني أن أُعالج بعض الموضوعات الفقهية التي تكثُر حاجة الناس إليها في حياتهم ، فبدأت بخطةٍ أن أعالج في كل خطبةٍ حكماً فقهياً واحداً تدور عليه حياتنا اليومية .
فاليمين كما تعرفون ؛ ما منا واحدٌ إلا ويحلف .
فأي اليمين لغوٌ ؟
وأي اليمين منعقدة ؟
وأي اليمين هو اليمين الغموس ؟
العلماء قالوا :
يمين اللغو :
اليمين اللغو هي اليمين مِن غير قَصْد اليمين ، فعن عائشة أم المؤمنين قالت : بعد أن تلت قوله تعالى :
﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾
قالت :
(( أنزلت هذه الآية في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله، وكلا والله ))
أي إذا قلت : لا والله ، أو إيه والله ، أو كلا والله ، جرياً على عادتك مِن دون أن تقص اليمين ، سَبْقُ لسان ، فهذه يمينٌ لاغية ، ومعنى اليمين اللاغية أنه لا كفارة لها ، ولا مؤاخذة عليها .
لكن الإمام مالك رضي الله عنه قال : لغو اليمين أن تحلف على شيءٍ تظنه صادقاً ، ثم يظهر لك خلافه .
على كلٍ ، لغو اليمين لا كفارة لها ، ولا مؤاخذة عليها ، ولكن الله في آخر الآية يقول :
﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾
لا تنزل إلى هذا المستوى ، لا تقل : لا والله ، وأنت لا تعني ما تقول ، لا تقل لا والله ، والموضوع أتفه مِن أن تحلف عليه ، كأن تقول : لا والله شبعان ، فهل موضوع الجوع والشبع يحتاج إلى يمين ؟ لست جائعاً ، أو إنني جائعٌ ..
﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾
أي وإن كانت هذه اليمين غير مقصودة ، ولا كفارة فيها ، ولا مؤاخذة عليها ، لكن ينبغي أن تحفظ لسانك مِن أن تحلف لموضوعاتٍ تافهةٍ لا معنى لها .
يمين المنعقدة :
وأما اليمين المُنعقدة ، فهي اليمين التي يقصدها الحالف ، ويصمم عليها ، ويتعمدها ويقصدها ، أو أن تحلف على أمرٍ في المستقبل ، أن أقول : والله لا أفعل هذا ، أو : والله أفعل هذا ، هذه اليمين المُنعقدة يؤاخذك الله عليها إذا حنثت بها ..
﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾
﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾
صمَّمت ، قصدت ، بالغت ، هذه اليمين تؤاخذ عليها ، وتحتاج إلى كفّارة ؛ والكفارة إطعام عشرة مساكين ، أو صيام ثلاثة أيامٍ لمن لا يجد .
يمين الغموس :
لكن اليمين الغموس هي : اليمين الكاذبة التي تهضم بها حقاً ، وتقصد بها الغِش والخيانة ، وهي مِن كبائر الإثم ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس ))
إلا أن هذه اليمين لا كفّارة فيها ، أهي لا قيمة لها ؟ قال العلماء : لا كفارة فيها لأنها تخرج صاحبها مِن الإسلام ، تخرجه مِن الإسلام كُلّياً ، لا يبقى مسلماً ، لو أنك حلفت على حقٍ اغتصبته مِن أحد ، إن هذه اليمين لا كفارة فيها ، تحتاج بعدها إلى أن تجدد إسلامك .
قال العلماء : إنها أعظم مِن أن تكفَّر ، وسمِّيت " غموساً " لأنها تغمس صاحبها في النار ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( لا تحلفوا بآبائكم ، لا تحلفوا بأمهاتكم ، ولا تحلفوا بالأنداد ـ أي بالأصنام ـ لا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا وإلا وأنتم صادقون ))
لا تحلف بغير الله ، وإذا حلفت بالله فاحلف صادقاً ، والأولى ألا تحلف .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُقِ العظيم ، اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين .
الحجامة :
أيها الإخوة المؤمنون ...
(( عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلإٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِلا أَمَرُوهُ أَنْ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ ))
وروى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال :
(( إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ ))
والعلماء المسلمون يتحدثون عن الحجامة وعن استطباباتها ، فيقولون : إن أول استطبابات الحجامة ، تبيُّغ الدم ، والتبيّغ هو التهيُّج ، وتبيغ الدم زيادته ، والمقصود بتهيج الدم وزيادته : ارتفاع الضغط ، أو ارتفاع التوتر الشرياني ، في المصطلح العلمي .
ومِن أعراض ارتفاع الضغط ، أو فرط التوتر الشرياني ؛ الصداع ، وحسُّ الامتلاء في الرأس ، والدوار ، وسرعة الانفعالات ، والاضطرابات البصرية ، هذه من أعراض ارتفاع الضغط .
وقد قلت لكم في خطبةٍ سابقة : إن بعض الأطباء ، يسمي ضغط الدم : ضغط الهمّ ، فإذا تهيَّج الدم ، وزادت كميّته ، ولا سيما في فصل الربيع ، مع قدوم الحرّ ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إذا اشتد الحر ، فاستعينوا بالحجامة ، لا يتبيغ الدم بأحدكم ، فيقتله ))
أيها الإخوة الأكارم ؛ أحد استطبابات الحجامة : تهيُّج الدم ، وارتفاع الضغط . واستطبابٌ آخر : الصداع ، وآلام الرأس ، فالصداع يرافق ارتفاع الضغط ، وهناك صداعٌ وعائي بسبب تضيُّق شرايين الدماغ .
أخرج أبو داود ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أنه :
(( مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إِلا قَالَ : احْتَجِمْ ))
استطبابٌ ثالث : مرض الشقيقة ، أخرج البخاري في صحيحه ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما :
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ ))
والله أيها الإخوة المؤمنون ؛ سمعت عن رجلٍ ، كان يشكو مِن مرض الشقيقة ، خمساً وعشرين سنةً ، ثم دلَّه أحدُّ أصحابه ، على الحجامة ، فلما احتجم ، زالت مِن رأسه هذه الشقيقة ، زالت من رأسه هذه الآلام ، التي تسمّى عند الأطباء شقيقة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هناك استطباباتٌ أخرى للحجامة ، ولكن الشيء الذي يلفت النظر ، أن الذي يصلِّي ، ويخفِض رأسه في الركوع مرّتين ، وفي السجود مرتين ، على مدار اليوم ، والأسبوع ، والسنة ، والشهر ، إن هذا الانخفاض ، والارتفاع في الرأس ، يسبب حالةً اسمها : مرونة الشرايين ، إذا خفض رأسه ، احتقن الدم في شرايين المُخ ، فإذا رفع رأسه ، هبط الضغط فجأةً ، مِن ارتفاع الضغط وهبوطه ينشأ في الشرايين ما يسمى بالمرونة ، ومرونة الشرايين تقي مِن تصلُّبها ، ومِن انفجارها .
والشيء الذي نسمعه كثيراً ، السكتة الدماغية ، أي انفجارٌ في أحد شرايين المخ ، لماذا الانفجار ؟ ارتفاع الضغط ، لماذا الانفجار مع ارتفاع الضغط ؟ تصلُّب الشرايين ، لكن الذي يصلي ، لو ارتفع ضغطه، فإن في شرايين مخِّه مرونةً كافيةً تقيهِ تصلبها وانفجارها .
شيءٌ آخر ، إن حسن تروية الدماغ ، شيءٌ أساسيٌ في الصحة ، وهذا الذي يصلي ويسجد ، طبيعة السجود تجعل الدم يتحرك وبتحركه يوسع الشرايين ، وإن أكثر الأمراض التي تصيب الرأس هي بسبب تضيُّق الشرايين ، فهذا الذي يسجد لله عزَّ وجل ، قد لا يدري ، أنه يصون شرايين الدماغ من التصلب ، والانفجار ، والتَلَف .
شيءٌ آخر ؛ قال العلماء : إن في الجسم معامل لكريات الدم الحمراء ، هذه المعامل موجودة في نَقي العظام ، كل أنواع العظام في داخلها فراغٌ ، هذا الفراغ فيه معامل كريات الدم الحمراء ، وهذه المعامل تصنع في الثانية الواحدة ، ما يزيد عن مليونين ونصف كرية حمراء ، في الثانية ، وزوَّد ربنا سبحانه وتعالى الجسم بمعامل احتياطية.
فالكبد ، والطحال ، معملان احتياطيان لكريات الدم الحمراء ، يعمل هذان المعملان عند توقف المعامل الأساسية .
مرضٌ خطير اسمه : فقر الدم اللامُصَنِّع ، وهو أن تتوقف هذه المعامل فجأة عن عملها بدون أن نعرف السبب .
ما الذي يصون هذه المعامل ؟ وما الذي ينشِّطها ؟ عرف العلماء أخيراً أن نقص كمية الدم في الشرايين يحثها على العمل ، وعلى الصيانة، وعلى زيادة إنتاجها ، مِن هنا تأتي الحجامة ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحيٌ يوحى .
من هنا تأتي الحجامة ، إذا قلَّت كميات الدم في الشرايين بفعل الحجامة ، فإن معامل كريات الدم الحمراء تُحَثُّ ، وتُصان ، ويزيد نشاطها ، بهذا النقص .
هذه رؤيةٌ أراها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ، فلذلك أحاديث كثيرة ، تزيد عن سبع عشرة حديثاً في الحجامة ، ووقت الحجامة في أول قدوم فصل الربيع ، مع اشتداد الحر ، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام:" احتجموا لا يتبيغ الدم بأحدكم ، فيقتله" .
والموضوع أطول من ذلك ، وأعقد من ذلك ، لكن المنبر لا يحتمل غير هذا .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا . واقسم لنا مِن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومِن طاعتك ما تبلغنا بها جنَّتك ، ومِن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبْلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم إنا نعوذ بك مِن الخوف إلا منك ، ومِن الفقر إلا إليك ، ومِن الذل إلا لك ، نعوذ بك مِن عُضال الداء ومِن شماتة العداء ، ومن السَلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .