وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0165 - الإسراء والمعراج - الحجامة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
 وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
 اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
 وبعد .

تمهيد :

 فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال بعض العارفين بالله : ما مِن يومٍ إلا والجليل سبحانه وتعالى ينادى فيقول :
 عبدي : ما أنصفتني أذكرك وتنساني ، وأدعوك إليّ وتذهب إلى غيري ، وأذهب عنك البلايا وأنت معتكفٌ على الخطايا .
 يا ابن آدم : ماذا تقول غداً إذاً جئتني ، خلقت الأشياء كلَّها مِن أجلك ، وخلقتك مِن أجلي ، فاشتغلت بما خلقته لك عني ، فإذا اشتغلت بالنعمة على المُنعم وبالعطايا عن المعطي ، فما أديَّت شكر نعمتي ، ولا رَعَيْت حُرمتي ، فكل نعمةٍ شغلتك عني فهي نقمة ، وكل عطيةٍ ألهتك عني فهي بليّة .
 يا ربّ كيف أشكرك ؟ فقال الله عز وجل :
 تذكرني ولا تنساني ، إنك إذا ذكرتني شكرتني ، وإذا نسيتني كفرتني .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ عودوا إلى الله قبل فوات الأوان ، تعرَّفوا عليه وأنتم في الرَخاء ، تعرفوا عليه وأنتم في صحة ، وأنتم في شباب ، وأنتم في قوّة ، وأنتم في غنى ، تعرفوا عليه وأنتم في الحياة ، لأنك إذا عرفته بعد الممات ، لا تنفعك هذه المعرفة .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مادام القلب ينبض فالباب مفتوح ، مادام في الحياة بقيّة فباب التوبة مفتوح .
 عبدي لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا ، غفرتها لك ولا أُبالي .

تابع الإسراء والمعراج :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ وعدتكم في الخطبة السابقة ، أن أتابع الحديث عن الإسراء والمعراج ، فننتقل إلى سورة النَجم ، قال تعالى :

﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 1-2 ]

 هذا هو النبي الكريم ، هذا قدوتنا ، هذا أسوتنا ، هذا معلمنا ، هذا هادينا إلى الله ..

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 2]

 وقف علماء التفسير عند كلمة " صاحبكم " ..

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾

[ سورة النجم الآية : 2]

 لماذا قال الله عزَّ وجل :

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾

[ سورة النجم الآية : 2]

 لأنكم تعرفونه ؛ تعرفون أمانته ، تعرفون عفافه ، تعرفون صدقه ، تعرفون نَسَبَهُ ، تعرفونه حق المعرفة ، أم لم يعرفوا رسولهم ، أراد الله عزَّ وجل بكلمة :

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾

[ سورة النجم الآية : 2]

 أن يقرعهم ، أهو غريبٌ عنكم ؟ أفي أخلاقه ثُلْمَة ؟ أفي أمانته تهمة ؟ أفي صدقه شك ؟

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 2]

 ما ضلَّ عقله ، ولا غوت نفسه ، هو قدوة ، هو صفوة خلق الله ، هو حبيب الله ، هو أول خلق الله ، هو الهادي إلى الله ..

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 2]

 ومن اتبع سنَّته ما ضل وما غوى ، ما المقصود مِن هذه الآية؟ ماذا نستفيد نحن منها ؟ يعني إذا اتبعتم سنَّته لا تضلون ، ولا تشقون ..

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

[ سورة الحشر الآية : 7 ]

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 2]

 فمن حاد عن سنَّته فقد ضل وقد غوى ، من حاد عن سنَّته فقد ضل وقد شقي ..

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 2-3]

 ليس هذا القرآن مِن عند رسول الله ، وكأن الله عزَّ وجل بهذه الكلمة يبيّن أن مُعْظَم كلام البشر انطلاقٌ من الهوى ، يهوى فيتكلّم ، يتكلّم عن الهوى ، يتكلَّم عن الشهوة ، يتكلم عن المصلحة ، يتكلم عن نزوةٍ طارئة ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما يتلو هذا القرآن على قومه ..

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 3-4]

 هذا مِن عند الله ، هذا كلام الله ، هذا كلام ربّ العالمين ، هذا كلامُ خالق السماوات والأرض ، هذا كلام الذي لا يغفل عن عباده ..

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾

[ سورة النجم ]

 الله سبحانه وتعالى ، أرجح التفاسير : أن ذو القِوَى الله سبحانه وتعالى ، فإذا كان المُعَلِّم هو الله ، فما قولك بهذا العلم ؟

﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 5-6 ]

 لماذا علمه ؟ لماذا اصطفاه مِن دون خَلْقِهِ ؟ لماذا خصه بالرسالة ؟ لماذا ؟

﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 7 ]

 أنتم في واد وهو في واد ، أنتم مع الخَلْق وهو مع الحق ، أنتم مع الشهوة ، وهو مع القيَم ، أنتم مع مصالحكم ، وهو مع هدايتكم ..

﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 7 ]

 لأنه بالأفق الأعلى ..

﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾

[ سورة النجم الآية : 8 ]

 سورة النجم دقيقةٌ جداً ، لماذا اصطفاه على العالمين ؟ لأنه في الأفق الأعلى ، لماذا ..

﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾

[ سورة النجم الآية : 8 ]

 لأنه :

﴿ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 7 ]

الفائدة من هذه الآيات .

 ماذا نستفيد نحن مِن هذه الآيات ؟
 يعني أيها الإنسان اسم بنفسك ، ترفّع عن وحي البشر ، ترفَع عن خطايا البشر ، ترفَّع عن سفاسف الأمور، ترفع عن المغانم العاجلة ، ترفع عن الدُنيا الدنيّة ، ترفع عن حطامها ، ترفع عن مباهجها ، ترفع عن زينتها ، وانظر إلى الذي خَلَقَك مِن قبل ولم تكُ شيئاً ، وانظر إلى الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد ، وبنعمة الإمداد ، وبنعمة الإرشاد ، وانظر إلى من ستؤول إليه..

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾

[ سورة الغاشية الآيات : 25-26]

 ما الذي يشغلك ؟! ما الذي يقلقك؟! ما الذي يهمّك ؟! .. دخلك ، رزقك ، صحتك ؟ وهذه الحياة الأبدية ، ألا ترجوها ؟ ألا تخشى أن تكون فيها من الخاسرين ؟ لا ترجو إلا الدنيا ؟

﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 7-8 ]

 لو أنك بالأفق الأعلى لرأيت الطريق إلى الله مفتوحاً ، لو أنك بالأفق الأعلى لرأيت نفسك مِن الله قريباً ، لو أنك بالأفق الأعلى لذُقت طَعْمَ القُرب ، لو أنك بالأفق الأعلى لتجلّى الله على قلبك ..

﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 7-10]

 قال عليه الصلاة والسلام :

(( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها ))

[ تخريج أحاديث الإحياء ]

 ماذا عقلت مِن الصلاة ؟ وقفت بين يدي الله عزَّ وجل ، فماذا أفدت مِن الصلاة ؟ بماذا شعرت ؟ ما الذي فهمت ؟ ما الذي عقلت ؟

﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 8-11]

 الفؤاد يرى .
 هل لك رؤيةٌ قلبيةٌ أيها الأخُ المؤمن ؟
 هل ترى ما لا يراه الناس ؟
 هل لك رؤيةٌ تتميز بها ؟
 هل ترى تفاهة الدنيا ، وعظمة الآخرة ؟
 هل ترى أن رضوان الله عزّ وجل أثمن ما في الوجود ؟
 هل ترى أن طاعة الله هي الفوز العظيم ، وليس الدرهم والدينار ؟
 هل ترى أنك إذا عرفته وعبدته فقد حققت الهدف من وجودك ؟

﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 11-12]

 أنت لم تر ما رأى ، فلِمَ تكذِّب ما رأى ؟!

﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 12-14]

 استنبط علماء التفسير :
 أن النبي عليه الصلاة والسلام بَلَغَ أعلى درجةٍ يبلغها إنسان ؛ سيد ولد آدم ، سيد المخلوقات جميعاً ، سيّد الإنس والجن ، العبدُّ الأول في الكون ..

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾

[ سورة الزخرف الآية : 81 ]

﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 14-15]

 ما جنّتك أيها الأخ الكريم ؟ أتسعد بالمال ، أم تسعد بالقُرب ؟ أتسعد بالدنيا ، أم تسعد بالآخرة ؟ أتسعد بالناس ، أم تسعد بربّ الناس ؟

﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾

[ سورة النجم الآيات : 15-17]

 يغشاها مِن التجليات ، يغشاها مِن العلوم ، يغشاها مِن المعارف ، يغشاها مِن الفهم ، يغشى ما يغشى ، قال علماء البلاغة :
 إن هذا من الإيجاز الغَنِيّ ، الإيجاز الغني ؛ أن تكون الكلمات القليلة منطويةً على معانٍ كثيرة .

﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 17]

 يعلمنا الله سبحانه وتعالى أدب النَظَر ، فزاغ النظر أي بعد عن مرماه ، وطغى أي تجاوز حده .

﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 17]

 هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام .

﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 18]

 والله الذي لا إله إلا هو ؛ المؤمن على إيمانه الذي ليس بشيءٍ إذا ما قيس بإيمان النبي عليه الصلاة والسلام ، المؤمن على إيمانه المتواضع ممتلئةٌ نفسه تعظيماً لآيات الله ، ممتلئةٌ نفسه إكباراً لقدرة الله، لذلك يذْكُر الله دائماً في كل أحيانه ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ ينبغي أن نستفيد مِن هذه السورة ، ينبغي أن يكون لنا منها نَصيب ، ينبغي أن نعيش بالأُفُق الأعلى ، ينبغي أن نقترب مِن ذي العزة والجبروت ، ينبغي أن تسمو نفوسنا ، ينبغي أن تصح رؤيتنا ، ينبغي أن نكون أُناساً آخرين ، ينبغي أن نرى ما لا يراه الآخرون ، ينبغي أن نعرف حقيقة الدنيا ، ينبغي أن نعرف حقيقة الآخرة، ينبغي أن نذوق طعم القُرب ، ينبغي أن نذوق طعم الحُب .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ القرآن الكريم له خاصٌ وله عام ، فإذا وجِّهت آياتٌ بالذات إلى سيدنا رسول الله ، فهي موجهةٌ أيضاً إلى أتباعه مِن المؤمنين المسلمين ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام متبوعٌ ، هو قدوةٌ حُسْنى ، هو أسوة فُضْلى ، فلذلك تقرأ الآيات ، تعرف النبي ويجب أن تقتفي أثره ، ويجب أن تهتدي بهديه ، ويجب أن تتبع سُنَّته .

 

اليمين :

 يا أيها الإخوة الأكارم ؛ أخٌ كريم رجاني أن أُعالج بعض الموضوعات الفقهية التي تكثُر حاجة الناس إليها في حياتهم ، فبدأت بخطةٍ أن أعالج في كل خطبةٍ حكماً فقهياً واحداً تدور عليه حياتنا اليومية .
 فاليمين كما تعرفون ؛ ما منا واحدٌ إلا ويحلف .
 فأي اليمين لغوٌ ؟
 وأي اليمين منعقدة ؟
 وأي اليمين هو اليمين الغموس ؟
 العلماء قالوا :

يمين اللغو :

 اليمين اللغو هي اليمين مِن غير قَصْد اليمين ، فعن عائشة أم المؤمنين قالت : بعد أن تلت قوله تعالى :

﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 89 ]

 قالت :

(( أنزلت هذه الآية في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله، وكلا والله ))

[ رواه البخاري ومسلم ]

 أي إذا قلت : لا والله ، أو إيه والله ، أو كلا والله ، جرياً على عادتك مِن دون أن تقص اليمين ، سَبْقُ لسان ، فهذه يمينٌ لاغية ، ومعنى اليمين اللاغية أنه لا كفارة لها ، ولا مؤاخذة عليها .
 لكن الإمام مالك رضي الله عنه قال : لغو اليمين أن تحلف على شيءٍ تظنه صادقاً ، ثم يظهر لك خلافه .
 على كلٍ ، لغو اليمين لا كفارة لها ، ولا مؤاخذة عليها ، ولكن الله في آخر الآية يقول :

﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 89 ]

 لا تنزل إلى هذا المستوى ، لا تقل : لا والله ، وأنت لا تعني ما تقول ، لا تقل لا والله ، والموضوع أتفه مِن أن تحلف عليه ، كأن تقول : لا والله شبعان ، فهل موضوع الجوع والشبع يحتاج إلى يمين ؟ لست جائعاً ، أو إنني جائعٌ ..

﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 89 ]

 أي وإن كانت هذه اليمين غير مقصودة ، ولا كفارة فيها ، ولا مؤاخذة عليها ، لكن ينبغي أن تحفظ لسانك مِن أن تحلف لموضوعاتٍ تافهةٍ لا معنى لها .

 

يمين المنعقدة :

 وأما اليمين المُنعقدة ، فهي اليمين التي يقصدها الحالف ، ويصمم عليها ، ويتعمدها ويقصدها ، أو أن تحلف على أمرٍ في المستقبل ، أن أقول : والله لا أفعل هذا ، أو : والله أفعل هذا ، هذه اليمين المُنعقدة يؤاخذك الله عليها إذا حنثت بها ..

﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 225 ]

﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾

[ سورة المائدة الآية : 89 ]

 صمَّمت ، قصدت ، بالغت ، هذه اليمين تؤاخذ عليها ، وتحتاج إلى كفّارة ؛ والكفارة إطعام عشرة مساكين ، أو صيام ثلاثة أيامٍ لمن لا يجد .

 

يمين الغموس :

 لكن اليمين الغموس هي : اليمين الكاذبة التي تهضم بها حقاً ، وتقصد بها الغِش والخيانة ، وهي مِن كبائر الإثم ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس ))

[سنن الترمذي ]

 إلا أن هذه اليمين لا كفّارة فيها ، أهي لا قيمة لها ؟ قال العلماء : لا كفارة فيها لأنها تخرج صاحبها مِن الإسلام ، تخرجه مِن الإسلام كُلّياً ، لا يبقى مسلماً ، لو أنك حلفت على حقٍ اغتصبته مِن أحد ، إن هذه اليمين لا كفارة فيها ، تحتاج بعدها إلى أن تجدد إسلامك .
 قال العلماء : إنها أعظم مِن أن تكفَّر ، وسمِّيت " غموساً " لأنها تغمس صاحبها في النار ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( لا تحلفوا بآبائكم ، لا تحلفوا بأمهاتكم ، ولا تحلفوا بالأنداد ـ أي بالأصنام ـ لا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا وإلا وأنتم صادقون ))

[ الجامع لأحكام القرآن ]

 لا تحلف بغير الله ، وإذا حلفت بالله فاحلف صادقاً ، والأولى ألا تحلف .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُقِ العظيم ، اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين .

الحجامة :

 أيها الإخوة المؤمنون ...

(( عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلإٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِلا أَمَرُوهُ أَنْ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ ))

[ أخرجه الترمذي وقال هذا حديثٌ حسن ]

 وروى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال :

(( إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ ))

 والعلماء المسلمون يتحدثون عن الحجامة وعن استطباباتها ، فيقولون : إن أول استطبابات الحجامة ، تبيُّغ الدم ، والتبيّغ هو التهيُّج ، وتبيغ الدم زيادته ، والمقصود بتهيج الدم وزيادته : ارتفاع الضغط ، أو ارتفاع التوتر الشرياني ، في المصطلح العلمي .
 ومِن أعراض ارتفاع الضغط ، أو فرط التوتر الشرياني ؛ الصداع ، وحسُّ الامتلاء في الرأس ، والدوار ، وسرعة الانفعالات ، والاضطرابات البصرية ، هذه من أعراض ارتفاع الضغط .
 وقد قلت لكم في خطبةٍ سابقة : إن بعض الأطباء ، يسمي ضغط الدم : ضغط الهمّ ، فإذا تهيَّج الدم ، وزادت كميّته ، ولا سيما في فصل الربيع ، مع قدوم الحرّ ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إذا اشتد الحر ، فاستعينوا بالحجامة ، لا يتبيغ الدم بأحدكم ، فيقتله ))

 أيها الإخوة الأكارم ؛ أحد استطبابات الحجامة : تهيُّج الدم ، وارتفاع الضغط . واستطبابٌ آخر : الصداع ، وآلام الرأس ، فالصداع يرافق ارتفاع الضغط ، وهناك صداعٌ وعائي بسبب تضيُّق شرايين الدماغ .
 أخرج أبو داود ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أنه :

(( مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إِلا قَالَ : احْتَجِمْ ))

 استطبابٌ ثالث : مرض الشقيقة ، أخرج البخاري في صحيحه ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ ))

 والله أيها الإخوة المؤمنون ؛ سمعت عن رجلٍ ، كان يشكو مِن مرض الشقيقة ، خمساً وعشرين سنةً ، ثم دلَّه أحدُّ أصحابه ، على الحجامة ، فلما احتجم ، زالت مِن رأسه هذه الشقيقة ، زالت من رأسه هذه الآلام ، التي تسمّى عند الأطباء شقيقة .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هناك استطباباتٌ أخرى للحجامة ، ولكن الشيء الذي يلفت النظر ، أن الذي يصلِّي ، ويخفِض رأسه في الركوع مرّتين ، وفي السجود مرتين ، على مدار اليوم ، والأسبوع ، والسنة ، والشهر ، إن هذا الانخفاض ، والارتفاع في الرأس ، يسبب حالةً اسمها : مرونة الشرايين ، إذا خفض رأسه ، احتقن الدم في شرايين المُخ ، فإذا رفع رأسه ، هبط الضغط فجأةً ، مِن ارتفاع الضغط وهبوطه ينشأ في الشرايين ما يسمى بالمرونة ، ومرونة الشرايين تقي مِن تصلُّبها ، ومِن انفجارها .
 والشيء الذي نسمعه كثيراً ، السكتة الدماغية ، أي انفجارٌ في أحد شرايين المخ ، لماذا الانفجار ؟ ارتفاع الضغط ، لماذا الانفجار مع ارتفاع الضغط ؟ تصلُّب الشرايين ، لكن الذي يصلي ، لو ارتفع ضغطه، فإن في شرايين مخِّه مرونةً كافيةً تقيهِ تصلبها وانفجارها .
 شيءٌ آخر ، إن حسن تروية الدماغ ، شيءٌ أساسيٌ في الصحة ، وهذا الذي يصلي ويسجد ، طبيعة السجود تجعل الدم يتحرك وبتحركه يوسع الشرايين ، وإن أكثر الأمراض التي تصيب الرأس هي بسبب تضيُّق الشرايين ، فهذا الذي يسجد لله عزَّ وجل ، قد لا يدري ، أنه يصون شرايين الدماغ من التصلب ، والانفجار ، والتَلَف .
 شيءٌ آخر ؛ قال العلماء : إن في الجسم معامل لكريات الدم الحمراء ، هذه المعامل موجودة في نَقي العظام ، كل أنواع العظام في داخلها فراغٌ ، هذا الفراغ فيه معامل كريات الدم الحمراء ، وهذه المعامل تصنع في الثانية الواحدة ، ما يزيد عن مليونين ونصف كرية حمراء ، في الثانية ، وزوَّد ربنا سبحانه وتعالى الجسم بمعامل احتياطية.
 فالكبد ، والطحال ، معملان احتياطيان لكريات الدم الحمراء ، يعمل هذان المعملان عند توقف المعامل الأساسية .
 مرضٌ خطير اسمه : فقر الدم اللامُصَنِّع ، وهو أن تتوقف هذه المعامل فجأة عن عملها بدون أن نعرف السبب .
 ما الذي يصون هذه المعامل ؟ وما الذي ينشِّطها ؟ عرف العلماء أخيراً أن نقص كمية الدم في الشرايين يحثها على العمل ، وعلى الصيانة، وعلى زيادة إنتاجها ، مِن هنا تأتي الحجامة ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحيٌ يوحى .
 من هنا تأتي الحجامة ، إذا قلَّت كميات الدم في الشرايين بفعل الحجامة ، فإن معامل كريات الدم الحمراء تُحَثُّ ، وتُصان ، ويزيد نشاطها ، بهذا النقص .
 هذه رؤيةٌ أراها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ، فلذلك أحاديث كثيرة ، تزيد عن سبع عشرة حديثاً في الحجامة ، ووقت الحجامة في أول قدوم فصل الربيع ، مع اشتداد الحر ، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام:" احتجموا لا يتبيغ الدم بأحدكم ، فيقتله" .
 والموضوع أطول من ذلك ، وأعقد من ذلك ، لكن المنبر لا يحتمل غير هذا .

 

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا . واقسم لنا مِن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومِن طاعتك ما تبلغنا بها جنَّتك ، ومِن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبْلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين .
 اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا.
 اللهم إنا نعوذ بك مِن الخوف إلا منك ، ومِن الفقر إلا إليك ، ومِن الذل إلا لك ، نعوذ بك مِن عُضال الداء ومِن شماتة العداء ، ومن السَلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
 اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور