- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
فضل قراءة القرآن .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أوحى الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام :
(( أن يا موسى أتحب أن أسكن معك بيتك ؟ فخرَّ لله ساجداً ، قال : يا رب وكيف ذلك ؟ قال : يا موسى أما علمتُ أنني جليس من ذكرني ، وحيثما التمسني عبدي وجدني ))
ومن ذكر الله عزَّ وجل قراءة القرآن ، والنبي عليه الصلاة والسلام مما أًثِرَ عنه في رمضان أنه كان يُكثر قراءة القرآن .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ القرآن الكريم منهجٌ قويم ..
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
قُدِّم تعليم القرآن على خَلْق الإنسان ، بياناً لأن الإنسان من دون القرآن لا معنى لوجوده ، لا معنى لقطارٍ من دون خطٍ حديدي ، ولا معنى لسيارةٍ من دون طريقٍ مُعَبَّد ، ولا معنى لطائرةٍ مِن دون طريقٍ جوي يقيها الاصطدام بطائراتٍ أخرى ، ولا معنى لوجود الإنسان من دون منهجٍ يسيرُ عليه ، يُحِلُّ له الحلال ، يحرّم عليه الحرام ، يحسِّن له الحسن ، يقبِّح له القبيح ، يدلُّه على طريق الخيرات ، يهديه للتي هي أقوم ..
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
هنا مُطلقةٌ ، في كل مناحي الحياة ..
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
أي في علاقاتك كلها ، في تجارتك ، في صحَّتك ، في شتَّى مناحي حياتك ، في علاقتك ببيتك وبأولادك ..
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
في علاقتك بربك ، في علاقتك بمستقبلك ..
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
يشفيهم ويرحمهم ، يُخَلِّيهم ويحلّيهم ، التخلية أولاً والتحلية ثانياً ، يعيدكم إلى فطرتكم ، ويصبغكم بصبغة الله عزَّ وجل ..
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
أفضل وقت لقراءة القرآن .
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾
أفضل أوقاتٍ يُتلى فيها القرآن وقتَ الفَجر ، وبعض العلماء فهم مِن هذه الآية أن القرآن الذي يُتلى في صلاة الفجر ..
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾
والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾
يجب أن تتحقّق باليقين القطعيّ ، والبراهين أمامك كثيرة على أن هذا الكتاب مِن عند الله سبحانه وتعالى ، مِن عند خالق السماوات والأرض ، مِن عند مَن إليه المَصير ، مَن عند من بيده ..
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾
وإذا قرأت القرآن فالله سبحانه وتعالى يُراقبك ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ﴾
﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾
إذا جلست لتقرأ القرآن ؛ فالله سبحانه وتعالى مطلعٌ عليك ، وقد سُجِّل هذا لك في صحيفتك ، وهذا مِن ذِكر الله ..
(( أتحب أن أسكن معك بيتك ؟ فخرَّ موسى لله ساجداً وقال : يا رب وكيف ذلك ؟ قال : يا موسى أما علمت أنني جليس من ذكرني وحيثما التمسني عبدي وجدني ))
ومِن ذكر الله قراءة القرآن .
الإصغاء لقراءة القرآن .
شيءٌ آخر : ربنا سبحانه وتعالى يأمرنا أنه إذا قُرأ القرآن أن نُصغي إليه الآذان ، وأن نتأدَّب في حضرته ..
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
لعل الله عزَّ وجل يتجلَّى على قلوبكم بالرَحْمة .
التدبر والتأمل والتفحص لقراءة القرآن .
ولكن قراءة القرآن لا ينبغي أن تكون هكذا تلاوةٌ وكفى مِن دون فهمٍ ، ولا تدبرٍ ، ولا تأملٍ ، ولا تفحُّصٍ ، ولا إدراكٍ لما تقرأ .
هذه آيةٌ فيها أمر ؛ هل أنت عند الأمر ؟
وهذه آيةٌ فيها نهيٌ ؛ هل أنت عند النهي ؟
وهذه آيةٌ كونيةٌ فيها موعظةٌ ؛ هل أنت عند الموعظة ؟
وهذه قصةٌ تاريخيةٌ فيها عبرةٌ ؛ هل أخذت منها العِبْرة ؟
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾
وردت هذه الآية مرتين في سورة محمد وسورة النساء :
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾
لكان التناقض ، لكانت المبالغة ، لكان البُعْد عن الحقيقة ..
﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ﴾
كأن القرآن الكريم يَعْدِلُ خَلْقَ السماوات والأرض ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾
أيها الإخوة المُؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى أثنى على أولئك الذين يتلونه حق تلاوته ، ومِن حق تلاوة إتقان النُطق به ، معرفة مخارج الحروف وأماكن الوقوف ، مِن حق تلاوته أن تقرأه وأنت متوضّئ ، مِن حق تلاوته ألا تمسَّه إلا وأنت متوضّئ ، مِن حق تلاوته التفكّر في معانيه ، مِن حق تلاوته تطبيق أمره ، والبُعد عن نهيه ، والاتّعاظ بقصصه ، والاعتبار بعبَره ، والتأمُّل في آياته ، هذا مِن حق تلاوته ..
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾
وفي آيةٍ أخرى :
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾
مِن هجر القرآن هجر تلاوته ، ومِن هجر القرآن هجر تدبُّره ، ومِن هجر القرآن هجر العمل به .
الخشوع في قراءة القرآن .
أيها الإخوة المؤمنون :
﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾
الجبل يخشع له ، الصخر الجلمود يخشع له ، فما لقلب هذا الإنسان أهو أشد قساوةً مِن الصخر ؟! .
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾
ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾
﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( من قرأ القرآن ثم رأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي ، فقد استصغر ما عظَّمه الله ))
و..
(( ما من شفيعٍ أفضل منزلةً عند الله تعالى من القرآن الكريم ))
و..
(( لو كان القرآن في إهابٍ ـ أي في جلدٍ ـ ما مسَّته النار ))
و..
(( أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن ))
و..
(( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ))
و..
(( من شغله القرآن عن دعائي ومسألتي ، أعطيته أفضل ثواب الشاكرين ))
و..
(( ثلاثةٌ يوم القيامة على كثيبٍ مِن مسكٍ أسود لا يهولنّهم الفزع الأكبر ، ولا ينالهم الحساب ؛ رجلٌ قرأ القرآن ابتغاء وجه الله تعالى ، ورجلٌ أمَّ قوماً وهم به راضون ))
و..
(( أهل القرآن أهل الله وخاصَّته ))
و..
(( إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ، فقيل : يا رسول الله وما جلاؤها ؟ فقال : تلاوة القرآن وذكر الموت ))
(( إن القلوب لتصدأ ))
أي أحياناً تنقبض ، أحياناً تحسُّ أن نفسك لا تسعها الأرض ، تضيق عليك الأرض بما رَحُبَت ، تحس أن الأمور المتعلّقة بك ليست على ما يرام ، تحسُّ أنك متضايق ، هذا هو صدأ القلوب .
(( إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ، فقيل : يا رسول الله وما جلاؤها ؟ فقال : تلاوة القرآن وذكر الموت ))
لأن الموت يضع حداً لكل الطُموحات ، ويضع حداً لكل المشكلات ، ينهي الطموحات وينهي المشكلات ، فإذا كنت من أهل القُرُبات سعدت في روضات الجنات .
أيها الإخوة المؤمنون ... من الأحاديث الدقيقة قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
كيف يحزن والأمر كله لله ؟
كيف يحزن وهو الغني ؟
كيف أخشى الفقر وأنا عبد الغني ؟
كيف تخشى عدوك وأنت عبد القوي ؟
كيف تخشى تقلُّبات الزمان وأنت عبد الله ؟
وعبد الله سبحانه وتعالى يدافع الله عنه ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
و..
(( من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))
لا يمكن أن يصاب قارئ القرآن بالخَرَف . إذا أردت شيخوخةً كالشباب فتعلم كتاب الله عزَّ وجل ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( القرآن غنىً لا فقر بعده ولا غنىً دونه ))
وقد مرَّ سيدنا عمر ، رضي الله عن عمر ، برجلٍ عاطلٍ عن العمل ، كَلٍ على الناس يقرأ القرآن في النهار ، فقال رضي الله عنه :
(( إنما أُنزل هذا القرآن ليعمل به ، أفتخذت قراءته عملاً ؟ لأن اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى ))
وسيدنا أبو هريرة يقول :
(( إن البيت الذي يتلى فيه القرآن اتسع بأهله ، وكثر خيره ، وحضرته الملائكة ، وخرجت منه الشياطين ، وإن البيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله ، وقلَّ خيره ، وخرجت منه الملائكة ، وحضرته الشياطين ))
أعيد عليكم هذا الحديث فلعله شفاءٌ لما في البيوت ، البيوت التي تشكو الخصام ، المشاحنة ، البَغْضاء ، ضيق الأفق ، عنف القَوْل ، الغضب الشديد ، هذه البيوت خرجت منها الملائكة ودخلتها الشياطبن ، فإذا أردت أن تخرج الشياطين وتدخل الملائكة فاقرأ القرآن في بيتك ، ولا تجعل البيت كالقبر ؛ للطعام والشراب والنوم فقط .
(( إن البيت الذي يتلى فيه القرآنُ اتسع بأهله ، وكثر خيره ، وحضرته الملائكة ، وخرجت منه الشياطين ، وإن البيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله ، وقلَّ خيره ، وخرجت منه الملائكة ، وحضرته الشياطين ))
وسيدنا عمرو بن العاص يقول :
(( كل آيةٍ في القرآن درجةٌ في الجنة ، ومصباحٌ في البيت ))
أفتحب يا أخي المؤمن أن يكون بيتك مظلماً ؟
وسيدنا عمرو بن العاص أيضاً قال :
(( من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه ، إلا أنه لا يوحى إليه ))
وسيدنا الحسن قال :
(( واللهِ ما دون القرآن مِن غنىً ولا بعده من فاقة ))
والفُضَيْل بن عياض ـ دققوا في هذا القول ـ يقول :
(( ينبغي لحامل القرآن ألا يكون له إلى أحدٍ حاجة ، فينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه ، وحامل القرآن حامل راية الإسلام ، لا ينبغي أن يلهو مع مَن يلهو ، ولا أن يسهو مع مَن يسهو ، ولا أن يلغو مع مَن يلغو تعظيماً لحق القرآن ))
والإمام العُكْبَرِيّ الذي ألَّف كتاباً في إعراب القرآن يقول :
(( تؤخذ ألفاظه من حفَّاظه ، وتؤخذ معانيه ممَّن يعانيه ))
والإمام الباهليّ يقول :
(( لا يعذب الله قلباً هو وعاء القرآن ))
وقيل لبعض النُسَّاك وقد دخلوا عليه ، فرأوه وحيداً فقيل له : ألا أحدٌ هنا نستأنس به ؟ ، ألا أحدٌ في بيتك نستأنس به ؟ نتكلم معه ؟ فمدَّ يده إلى المصحف ووضعه في حجره . استأنس بهذا الكتاب ، ليكن رفيقك في السفر ، وفي الحَضَر ، وفي كل أطوار حياتك .
أيها الإخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمداً المبعوث رحمةً للعالمين .
السمكة الممرضة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أحد علماء البحار كان يركب مركبة أبحاثٍ تحت سطح البحر ، لفت نظره أن سمكةً كبيرةً خرجت مِن سربها، واتجهت إلى سمكةٍ صغيرة ، فتصوَّر كما هي العادة أن هذه السمكة الكبيرة توجَّهت إلى الصغيرة لتأكلها ، ولكنه وجد أنها وقفت إلى جانبها ، وبدأت السمكة الصغيرة تأكل مِن حراشف الكبيرة ، سجَّل عنده هذه الظاهرة .
بعد عشرة أعوامٍ تقريباً ، اكتشفت حقيقةٌ مُذْهِلَة وهي : أن هذه السمكة الصغيرة مُتَخَصّصةٌ في علاج أمراض الأسماك كلِّها ، وكأن عهداً وميثاقاً غير مكتوبٍ بين أسماك البحر ، يقرر أن هذه السمكة الصغيرة ، المتخصّصة بمداواة أمراض السَمَك الخارجيّة ، لا ينبغي أن تؤكَل ، لذلك أجريت بحوثٌ كثيرة ، وتتبع العلماء مواطن هذا السمك ، الذي أعطوه اسماً خاصاً ، هذا السمك جعل الله عز وجل غذاءه على التقرّحات والإنتانات والطفيليات والفطريات التي تتوضع على حراشف الأسماك الكبيرة . فالأسماك الكبيرة تتجه إليها لتعالجها من أمراضها ، وكأن هناك عُرفاً وامتناناً .
بل إن بعض الحالات الغريبة ، التي سجِّلت وصورت ، أن سمكةً كبيرة كانت تشكو قرحةً في فَمِها ، فتحت لها فمها ، ودخلت هذه السمكة الممرضة آمنةً مطمئنةً ، لتعالجها مِن هذه القروح ، وفي الوقت نفسه هاجمت هذه السمكة ـ التي تُعالَج ـ سمكةً أكبر منها لتأكلها ، فما كان منها إلا أن أخرجت مِن فمها هذه السمكة التي تمرِّضها ، وولت هاربةً .
ما هذا العُرف ؟ وما هذا العَقد ؟ وما هذا الميثاق ؟ وما هذا القانون الذي هو مُطبقٌ في كل أنحاء البحار ؟ أن هذه السمكة التي خلقها الله ، مزوّدةً بمنقارٍ دقيقً دقيق يصل إلى أدقّ الثنايا ، وأن هذه السمكة جهازها الهضمي يتقبَّل الفطريّات ، والتقرّحات ، والإنتانات ، وما شاكل ذلك ، وهو غذاءٌ لها ، وأن هذه الأسماك الكبيرة تتجه إليها حينما تشكوا مِن تقرحاتٍ ، بسبب ما يحدث بين الأسماك مِن احتكاك ، أو من معارك أحياناً .
الشيء الذي يلفت النظر ، أنه إذا كثُرت هذه الأسماك أمام السمكة الصغيرة ، صفَّت وراء بعضها بعضا ، وكأنها مجتمعٌ متحضر ؛ ليس هناك ازدحام ، ولا تزاحم ، ولا تدافع ، ولا سُباب ، وقفت هذه الأسماك الكبيرة ، وقد سجِّلت هذه الصورة بضعة عشرات مِن الأسماك ، تقف وراء بعضها بعضاً ، تنتظر دَوْرها في المعالجة ، وقد تستغرق المعالجة دقيقةٌ أو أكثر ، وتنصرف إلى حال سبيلها .
يا أيها الإخوة المؤمنون ... هذا خلق الله ، فأروني ماذا خلق الذين من دونه ، مليون نوع مِن السِمك ، مِن أعلمهم جميعاً أن هذه لا تؤكل ، هذه لا يعتدى عليها ، هذه تقوم بمهمةٍ إنسانية ، من أعلمها ؟ هل هذه الأسماك عاقلة ؟
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ تفكروا في خلق السماوات والأرض ، فهو باب كبير تتعرفون إلى الله من خلاله ، تفكَّروا ، دققوا ، لا يأكل أحدنا الطعام كما يأكل عامة الناس ، فكِّر في طعامك ، فكِّر في شرابك، فكر في حاجاتك ، مَن سخرها لك ؟ مَن جعلها متوافرةً أمامك ؟ اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تُهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
واقسم لنا مِن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومِن طاعتك ما تبلغنا بها جنَّتك ، ومِن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ، ولا مبْلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، واحسن خلاصنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين .
اللهم أعنا على الصيام والقيام ، وغض البصر وحفظ اللسان ، وأدخلنا الجنة بسلام .
اللهم بارك لنا في شهر رمضان وأعنا فيه على الصيام والقيام، وغض البصر وحفظ اللسان ، وأدخلنا الجنة بسلام ، مولانا رب العالمين.
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .