وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0369 - أحاديث نبوية تبدأ بكلمة ( أفضل1 ..... ) - علم الوراثة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

قوانين النفس :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ثمن الجنة العمل ، بل مفتاحها العمل الصالح ، وأساس العمل الصالح العلم . يقول الإمام الشافعي : إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم . ويكاد العلم يكون الطريق الموصل إلى الله ، بل إن العلم هو الطريق الوحيد للوصول إلى الله عز وجل . والعلم أيها الأخوة هدفه الأكبر أن تصل منه إلى القوانين ، والقوانين هي العلاقات الثابتة بين المتغيرات لأن القانون يمكنك من التنبؤ .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ قوانين المادة يعرفها العلماء ، بينما قوانين النفس هي من اختصاص الحكماء ، ولو وقفنا وقفةً متأنيةً عند قوانين النفس هذه النفس التي بين جنبيك ، هذه النفس التي هي أقرب الأشياء إليك ، بين جوانحك ، هي أنت ، أليس لها قوانين وسنن وقواعد وخصائص ومبادئ ؟ هل من علمٍ يفوق أن تعرف مبادئ النفس وقوانين النفس ؟ طبيعة النفس ، خصائص النفس ، سنن النفس التي بين جنبيك ، التي تذوق الموت ولا تموت ، خُلقت لتبقى إلى أبد الآبدين ، إما في جنة يدوم نعيمها ، أو في نار لا ينفد عذابها ، لو أردنا أن نتبع هذه القوانين من خلال الكتاب والسنة ، يقول ربنا سبحانه وتعالى :

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾

[سورة المعارج: 19-22]

 هذه آية توضع بين أيدي الأخوة المؤمنين ، أحد قوانين النفس :

﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾

[سورة الإسراء: 11]

 قانون آخر ، خصيصة أخرى ، مبدأ ثابت من مبادئ النفس . خلق الإنسان عجولاً ، وخُلق الإنسان ضعيفاً . فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الفطرة النقية التي فطر الناس عليها أساسها حبّ الكمال ، أن تحب الكمال شيء ، وأن تكون كاملاً شيء آخر ، أن تحب الكمال هذه فطرة ، أما أن تكون كاملاً فهذه صبغة .

(( يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جبلت على حبّ من أحسن إليها ))

[ حديث قدسي رواه البيهقي عن عمير بن وهب ]

 أنا أعرض عليكم بعضاً من قوانين النفس كما وردت في القرآن الكريم ؛ أنت ضعيف وخُلق الإنسان ضعيفاً ، وخُلقت ضعيفاً لمصلحتك ؛ كي تفتقر بضعفك ، فتسعد بافتقارك ، ولو خُلقت قوياً لاستغنيت بقوتك ، وشقيت باستغنائك ، خُلقت هلوعاً لتندفع بهلعك إلى الله ، إلى باب الله كي تسعد بقرب الله ، ولو لم تُخلق هلوعاً لاستغنيت عن الله فشقيت باستغنائك . جُبلت على حبّ الإحسان ، لأنك مغمور بإحسان الله ، فلو تأملت قليلاً بما أنت فيه من نعم لمال قلبك إلى ربك منشئ هذه النعم .

 

الإنسان مفطور على حبّ الأكمل و الأفضل و الأحسن :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ليس محور خطبة الحديث عن قوانين النفس ، ولكن الحديث عن قوانين النفس مقدمة إلى موضوع الخطبة .
 نختار من هذه القوانين أن الإنسان مفطور على حبّ الأكمل ، على حبّ الأحسن ، حبّ الأفضل ، حبّ الأكثر ، حبّ الأمتن ، حبّ الأقوى ، حبّ الأجمل ، هذه طبيعة النفس ، ولو خيرت بين فتاتين تختار الأجمل ، ولو خيرت بين منزلين تختار الأوسع ، ولو خيرت بين عملين تختار الأكثر مردوداً ، والأقل جهداً ، ولو خيرت بين مركبتين تختار الأحدث والأمتن ، والأقوى . هذه طبيعة النفس ، بل إن الإنسان أحياناً ينزعج لا من خلل يصيب حياته بل من خلل يؤذي عينه ، فلو ركب لك عامل كهرباء مفتاح الكهرباء مائلاً ، لماذا تنزعج ؟ وماذا يؤثر هذا في حياتك ؟ المفتاح يعمل بفاعلية عالية ، ولكنه مُركب مائلاً . فلماذا تنزعج من بلاط بلط لك البيت بألوان ليست متناسبة ؟ لأنك مفطور على حب الأمتن ، على حب الأجمل، على حب الأمتن ، على حب الأقوى ، على حب الأطول ، وهكذا . لا أريد أن أستفيض في هذا الموضوع فهو موضوع بديهي .
 العجب العجاب . . لماذا يختار الإنسان الأفضل في حياته الدنيا ولا يختار الأفضل في حياته الآخرة ؟ لماذا يريد البيت الأقوى الذي يفني مئة جيل ؟ لماذا يختار المركبة الأقوى التي تفني عشرة أشخاص من بعده ؟ لماذا يختار الأفضل في دنياه ولا يختار الأفضل في آخرته ؟ لأن الدنيا قصيرة ، تمر سريعاً ، تغر ، وتضر ، وتمر ، والذي يعيش عشرات السنين ، بل الذي يعيش ثمانين عاماً حينما يُسأل يوم القيامة كم لبثت في الدنيا يقول : لبثت يوماً أو بعض يوم . والنبي عليه الصلاة والسلام حينا قال :

(( يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ))

[الديلمي عن ابن عمر]

 لماذا ترضى بمرتبة دنيا في الآخرة - هذا إذا كنت مؤمناً ، ومستقيماً وفي المباحات ، لا في المعاصي والآثام - لماذا ترضى بمرتبة دنيا في الآخرة ولا ترضى إلا أفضل شيء في الدنيا إذا كنت غنياً ؟ لماذا لا ترضى إلا الأكمل ، والأفضل ، والأجمل ، والأقوى ، والأمتن والأطول عمراً ؟ لماذا ؟ هو هذا السؤال الخطير الذي بدأ به موضوع الخطبة ، نقص العلم يجعلك تؤثر الدنيا على الآخرة ، ضعف التأمل في حقيقة الدنيا يجعل الدنيا بين يديك ، والآخرة غائبة عنك ، إذا اخترت في الدنيا الأفضل ولم تختر في الآخرة الأفضل فهذا من ضعف اليقين ، وضعف التفكير ، وهذا من خلل العقل ، ومن عدم متابعة دروس العلم ، وهذا من الجهل .

 

أفضل أنواع الإيمان أن ترى أن الله معك :

 والآن موضوع الخطبة مجموعة أحاديث شريفة تبدأ كلها بكلمة أفضل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ وفق طبيعة النفس ، ووفق جبلتها ، وسننها ، وخصائصها ، ومبادئها ينبغي أن تتجه نحو الأفضل لا في دنياك ، بل في أخراك . يقول عليه والسلام :

(( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت ))

[أبو نعيم عن عبادة بن الصامت]

 هذا أفضل أنواع الإيمان ، هذا عبّر عنه النبي العدنان بمرتبة الإحسان . أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . هذا الذي يستشفُّ من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام : اللّهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك ، أسعدنا بلقياك ، لا تشقنا بالبعد عنك ـ
 أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمةٌ دقيقة ، وخطيرة . كلّ يدّعي الإيمان ، وما من مخلوقٍ على وجه الأرض يعتقد أن لهذا الكون إلهاً خالقاً عليماً حكيماً إلى آخره إلاّ وهو مؤمن . ولكن السؤال الدقيق هل يكفي هذا الإيمان للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة ؟ هنا السؤال ، أي لا بد لكي تدخل إلى هذا المكان من ألف ليرة ، من ألف ليرة من المال ، وأنت معك مال ، ولكن معك ليرةً واحدة ، إذا كان معك ليرةً واحدة ، هل تكفي هذه الليرة لتصل بها إلى هذا المكان الرائع ؟ إلى هذا القصر المنيف ؟ المشكلة أن كل من يعتقد أن لهذا الكون إلهاً ، يظنّ أنه مؤمن إيماناً كافياً . لا والله ، لا والله ، لا والله .
 إذا أردت أن أمثل لكم هذا بمثال . لو أن الإيمان رُمِز إليه بوحدة وزن ، مثلاً الغرام ، ولو أن الشهوات رمز إليها بوحدة وزن مثلاً الكيلو ، فلو وضعت في كفةٍ عشرة غرام فيها إيمانك ، وفي كفةٍ أخرى خمسة كيلو فيها شهواتك ، أيمكن لهذه الغرامات من الإيمان أن تقف في وجه هذه الشهوات ؟ لا والله ، ولا عشرين غراماً ، ولا ثلاثين ، ولا خمسين ، ولا مئة ، ولا مئتين ، ولا كيلو ، ولا أربع كيلو . إلى أن يصبح حجم إيمانك- إذا رمز للإيمان بوحدات وزن - خمسة كيلو ، عندئذٍ يبدأ الصراع ، تقول : لا أفعل ، أفعل ، لا يجوز ، يجوز . متى تبدأ تُحجِم عن المعصية ؟ متى تتردّد في فعل المعصية ؟ متى تقول هذه معصية ؟ متى تقول كيف أواجه ربي عند الموت ؟ هنا تقريباً صار حجم إيمانك ، أو وزن إيمانك ، بوزن شهواتك .

 

الإيمان المنجي أن تشهد أنه لا إله إلا الله :

 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ أن تعتقد أن لهذا الكون خالقاً دون أن تسعى إليه ، أن تعتقد أن لهذا الكون ربّاً كريماً دون أن تتعرّف إليه ، أن تعتقد أن لهذا الكون مسيّراً حكيماً دون أن تبحث عن منهجه ، دون أن تسير إليه ، أن تعتقد أن الله عز وجل رحمن رحيم دون أن تتصل به ، أن تعتقد أن الله سبحانه وتعالى عفوٌّ كريم دون أن تذوق حلاوة قُربه .
 والله الذي لا إله إلاّ هو هذا الإيمان بهذا المستوى لا يُنجي ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة .
 ألم يقل إبليس اللعين لرب العالمين : ربّ فبِعِزتّك لأغوِينّهم أجمعين . ألم يعترف بأنه الخالق ، وبأنه الرّب ، وبأنه العزيز . وهو إبليس ، وهو الشيطان الرجيم ، وهو الذي عليه اللعنة إلى يوم الدين ؟
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ لماذا ترى أن نيل درجةٍ علميةٍ ، كاللسانس ، والدكتوراه، يحتاج إلى بذل جهدٍ كبير ، وإلى سهرٍ طويل ، وإلى مطالعاتٍ كثيفة ، وإلى ذهنٍ متّقد ، وإلى انصرافٍ كليّ إلى العلم ، وإلى ترك الملهيات ، وترك السهرات والندوات والحفلات ؟ أمن أجل شهادةٍ أمدها قصير تسعى لها هذا السعي الحثيث ؟ ومن أجل جنةٍ عرضها السموات والأرض تقعد عن طلبها وترضى منها باليسير ؟ فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق . . ))

[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة]

 هذا مصداق هذا التوجيه . أدناها أن تُميط الأذى عن الطريق ، أي إذا رأيت حجراً في الطريق وأزحته إلى جانب الطريق ، لو حلّلنا هذا العمل بماذا يفسّر ؟ يفسر أنك أردت أن تفعل خيراً لعلّ الله يرحمك بهذا الخير . هذا إيمان إذاً ، لو أمطت قشرةً من الفاكهة عن وسط الطريق إلى طرف الطريق ، أن تميط الأذى عن الطريق مستوىً من مستويات الإيمان ، ولكنه لا ينجي ، وأعلاها أن تشهد أنه لا إله إلاّ الله . لا أن تقول أن تشهد . أي هل يرضى القاضي من الشاهد أن يقول : يا سيّدي والله سمعت أن فلاناً قتل فلاناً ؟ هل يسمّى هذا شاهداً؟ لا ، يقول له : هل رأيت بعينك ؟ فأعلاها أن تشهد أنه لا إله إلا الله ، فهل شهدت أنه لا إله إلا الله ؟ هل شهدت أن الله سبحانه وتعالى وحده المتصرّف ؟ هل رأيت الله فوق أيديهم ؟ هل رأيت أنه ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها ؟ هل رأيت أنه له الخلق والأمر ؟ هل رأيت أن الله خالق كلّ شيء ، وهو على كل شيءٍ وكيل ؟ هل رأيت أنه لا يشرك في حكمه أحداً ؟ هل رأيت ؟ هذه آيات تقرؤها ، تقرؤها عشرات المرات ، هل رأيت حقيقتها ؟ هل عشتها ؟ هذا هو الإيمان الذي ينجّي . لذلك ورد في بعض الأحاديث :

((لاإله إلا الله لا يسبقها عمل ولا تترك ذنباً ))

[ ابن ماجه عن أم هانئ]

 لا يسبقها عمل صالح لأنه يوجد شِرك . قال صلى الله عليه وسلم :

((أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ))

[الإمام أحمد عن شداد بن أوس ]

 ما الشرك الخفي ؟ شهوةٌ خفيّة ، وأعمالٌ لغير الله . أما إذا حصلت فلا تترك ذنباً.

 

نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ قال العلماء : نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى . أي أعلى مرتبة علمية أنه تشهد أن لا إله إلا الله ، وهذه الكلمة شعار الإسلام ، وأعلى مرتبة في العمل أن تنضبط وفق أمر الله ، ونهيه .
 نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى . ولا تعجبوا ، فالله سبحانه وتعالى ضغط الأديان التي أنزلها على أنبيائه كلها في كلمتين ، ليس الإسلام فقط ، الأديان كلها . قال:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

[سورة الأنبياء: 25]

 إذا شهدت أنه لا إله إلا الله ، لا يوجد رافع ولا خافض ، ولا مُعِز ولا مُذِل، ولا معطي ولا مانع ، ولا نافع ولا ضار ، ولا قابض ولا باسط ، ولا غني ، ولا قدير ، ولا حكيم . إلا الله . أنت عندما تدخل لمكان ، وتعرف أن الأمر كله بيد فلان ، تُعرض عن كل الموظفين الآخرين . التوقيع لا يوقعه لك إلا فلان ، وما سواه لا يقدمون ولا يؤخرون ، هل تلتفت إليهم ؟ هل تتوسل إليهم ؟ هل تبشّ في وجههم ؟ علاقتك مع فلان ، فإذا أيقنت أن الأمر كله بيد الله ، إليه يُرجع الأمر كله ، أمر صحتك ، أمر قلبك ، أمر شرايينك ، أمر كليتيك ، أمر عضلاتك ، أمر أعصابك ، أمر دماغك ، أمر معدتك ، أمر الغدد الصم ، وغير الصم ، والخلايا ، ونمو الخلايا بيد الله . وأمر أهلك ، وأولادك ، وجيرانك ، ومن حولك ، ومن فوقك ، ومن تحتك ، ورزقك ، وتجارتك ، وصناعتك ، وزراعتك ، والمطر ، والإنبات . إذا أيقنت أن الأمر كله بيد الله ، علاقتك أصبحت مع الله ، لذلك تنصرف عن الخلق إلى الحق . الإيمان أن تنصرف عن الخلق إلى الحق ، والشرك الخفي أن تنصرف عن الحق إلى الخلق هذا هو الأمر كله .

 

أفضل الدعاء أن تسأل ربك العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة :

 لازِلت في كلمة أفضل . وأفضل الدعاء أن تسأل ربك العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة . لذلك كان أكثر دعاءٍ يدعوه النبي عليه الصلاة والسلام : " اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة " العفو ، والعافية ، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة . يؤكد هذا دعاء النبي : " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصمَة أمرنا " يؤكد هذا قول سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أصبته مصيبة قال :" الحمد لله ثلاثاً ، الحمد لله إذ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها " ، لو دعوت الله بالشفاء ، هذا الدعاء للمرضى ، لو دعوت الله بأن تكون غنياً ، هذا الدعاء للفقراء . أما الدعاء الذي ينطبق على الناس كلهم لا ينجو منه إنسان فهو هذا الدعاء : " اللهم ما رزقتني مما أُحب - تحب المال ، جاءك المال . تحب زوجةً تملأُ عينيك منها ، جاءتك زوجة تملأ عينيك منها . تحب بيتاً مريحاً ، جاءك البيت المريح . تحب رزقاً وفيراً ، جاءك الرزق الوفير - فاجعله قوةً لي فيما تحب - أي يا رب اجعلني أوظف هذا المال لمرضاتك ، أنفع به الناس ، أمسح به دموع البائسين ، أحلّ به مشكلة الشباب ، أُدخل السرور على بيت الأرامل ، والأيتام ، أعالج مريضاً ذا مرضٍ عضال - اللهم ما رزقتني مما أحب ، فاجعله قوة لي فيما تحب ، وما زويت عني ما أحب " شيءٌ تحبه ولم تصل إليه وهذا واقع ، ما منا واحد إلا وقد وصل إلى بعض ما يشتهي ، ويتمنى ، وزُوِي عنه بعض ما يشتهي ، وما يتمنى ، فالذي وصلت إليه ليكن يا ربي موظفاً في خدمتك ، وخدمة عبادك ، وخدمة دينك ، وخدمة الدعوة إليك ، وخدمة أحبابك. فالذي فاتني يا رب وزويته عني لحكمةٍ تعلمها ، ولمحبة لي . كما قال عليه الصلاة والسلام :

((إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام ))

[ الترمذي عن قتادة بن النعمان ]

 والذي فاتني يا رب ، والذي زويته عني ، والذي حرمتني منه فيما يبدو . وقد قال ابن عطاء الله السكندريّ : ربما كان المنع عطاءً ، و ربما كان العطاء منعاً .

﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾

[سورة آل عمران : 196-197]

 دعاء سيدنا إبراهيم في القرآن :

﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾

[سورة البقرة : 126 ]

 لكن سيدنا إبراهيم قال : من آمن منهم فقط بالله واليوم الآخر . فقال الله عز وجل: ومن كفر . أنا أرزق المؤمن والكافر .

﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾

[سورة البقرة : 126 ]

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾

[سورة محمد: 12]

(( لي عليك فريضة ، ولك عليك رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك))

[ورد في الأثر]

أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أول حديث : أفضل الإيمان . . والثاني : أفضل الدعاء.
 الثالث : أن تشبع كبد جائع ، أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة . قال عليه الصلاة والسلام:

(( يا أيها الناس ، أطعموا الطعام ، وأفشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ))

[الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه]

 لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

((بئس الطعام طعام الوليمة - لماذا ؟- يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين))

[مسلم عن أبي هريرة]

 أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة . . لذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يجيب المتباريين . من هم المتباريان ؟ من يتنافسان في تقديم أطيب الأطعمة . أي الهدف أن تظهر الذوق الرفيع ، والألوان الملونة ، والأطعمة الطيبة ، هذه أذواقك ، وهذا مستواك ، وهذه مكانتك الاجتماعية . كان عليه الصلاة والسلام لا يجيب المتباريين . أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة . .

 

أعظم صدقة تفعلها أن تتعلم ثم تعلّم :

 أيها الأخوة الكرام : الحديث التالي وحده لو عقلناه لغير مجرى حياتنا .

((أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ثم يعلمه أخاه المسلم ))

[ابن ماجة عن أبي هريرة]

 أي أعظم صدقة تفعلها أن تحضر مجلس علم ، وأن تفقه تفسير هذه الآية ، وتفسير هذا الحديث ، وأبعاد هذه السيرة ، وأن تنقل هذا العلم الرفيع إلى إخوانك ، وأصدقائك ، وجيرانك ، وبناتك ، ومن حولك .

((أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ثم يعلمه أخاه المسلم ))

[ابن ماجة عن أبي هريرة]

على الإنسان أن يختار الأفضل في الآخرة كما يختار الأفضل في الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام : هناك أحاديث كثيرة أرجو الله سبحانه وتعالى أن أوضحها في خطبة قادمة .

(( أفضل الأعمال بعد الإيمان التودد إلى الناس ))

[الطبراني في الكبير في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة]

(( أفضل العيادة أجراً سرعة القيام عند المريض ))

[الديلمي في مسند الفردوس عن جابر]

(( أفضل المسلمين إسلاماً من سلم المسلمون من لسانه ويده ))

[ابن النجار عن ابن عمر]

 إلى آخر الأحاديث .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ محور موضوع الخطبة ؛ كما أنك تختار الأفضل في الدنيا لعمر قصير ولحياة فانية ، ينبغي أن تختار الأفضل في الآخرة ، وهذه بعض أنواع الأفضل . أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت . يجب أن تصل إلى هذا المستوى حتى تنجو بإيمانك من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

علم الوراثة :

 أيها الأخوة المؤمنون : موضوع طويل لا حاجة لنا بتفصيلاته ، قوانين الوراثة ، قانون مندل في الوراثة ، لكن الشيء الذي لا أقول لا يصدق ينبغي أن يصدق . لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى . ينطق عن وحيٍ يوحى ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام في بضع من الأحاديث الشريفة قرر النتائج العملية لقوانين الوراثة ، فكلكم يعلم أن الحوين والبويضة خلية لها نويّة عليها مورثات . وقد ذكرت لكم من قبل أن عدد هذه المعلومات التي تحتويها المورثات يزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة ، حتى الآن عرف من هذه المورثات ثمانمئة موّرث فقط ، هذه المورثات في الحوين تتفاعل مع المورثات في البويضة ، وتنشأ البويضة الملقحة ، من مورثات الحوين ، ومورثات البويضة . وهذا ما عناه ربنا سبحانه وتعالى حينما قال :

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾

[سورة الإنسان: 2]

 يقول علماء الوراثة : إن التزاوج بين الأقارب من الدرجة الأولى الأخطاء في المورثات ، أو الضعف ، أو الأمراض ، أو العاهات ، تنتقل إلى الأجيال بنسبة خمسين بالمئة. من الدرجة الثانية تنتقل بنسبة اثني عشر بالمئة . من الدرجة الثالثة ستة بالمئة . هذا التفسير العلمي وراء قوله تعالى :

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾

[سورة النساء : 23]

 أما القرابة من الدرجة الثالثة التي يمكن أن ينحدر من خلالها العاهات والأمراض فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام :

(( اغتربوا لا تضووا ))

[قال ابن الصلاح : لم أجد له أصلاً معتمداً . قلت : إنما يعرف من قول عمر أنه قال لآل السائب "قد أضويتم فأنكحوا في النوابغ" رواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث ، وقال معناه تزوجوا الغرائب قال : ويقال : اغربوا لا تضووا]

 كلما ابتعدت في اختيار الزوجة جاء الّنسل قوياً . ويقول عمر رضي الله عنه : " لا تنكحوا قرابة القريبة ، فإن الولد يُخلق ضاوياً " أي ضعيفاً . أي ستة بالمئة . ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن ))

[ابن عدي في الكامل وابن عساكر عن عائشة تصحيح السيوطي : ضعيف]

 والعوام تقول الطفل كخاله أو كخالته . ويقول عليه الصلاة والسلام :

((اطلبوا مواضع الأكفاء لنطفكم فإن الرجل ربما أشبه أخواله ))

[رواه أبو نعيم عن أنس بلفظ تخيروا لنطفكم واجتنبوا هذا السواد فإنه لون مشوه ، قال ابن الجوزي في سنده مجاهيل وقال الخطيب كل طرقه ضعيفة ، وفي التحفة والنهاية تخيروا لنطفكم ، ولا تضعوها فيغير الأكفاء صححه الحاكم ، واعترض]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء ، وأنكحوا إليهم ))

[ ابن ماجة والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن عائشة تصحيح السيوطي : صحيح]

 وهذا الذي يُعد من أرقى علوم الوراثة تحسين النسل . تحسين النسل يعني أن يأتيَ جيلٌ يتمتع بقدرات عقليّة عالية ، وبنية جسمية فائقة ، وبنفسية متفتحة ، غير متشائمة ، غير مريضة . هذا الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام . لذلك ابنك لك عليه واجبات كثيرة جداً ، وله عليك واجب ، له عليك حق ، هذا الحق أن تحسن اختيار أمه . أن تحسن اختيار أمه هذا أول حقٍ من حقوق أولادك عليك قبل أن يأتوا إلى الدنيا ، ويستطيع الأب الذي اختار أمّهم ، اختار زوجته اختياراً أساسه التقوى ، والصلاح ، والعفّة ، والذكاء ، والخلق ، أن يقول لأبنائه : يا أبنائي لقد أحسنت إليكم قبل أن تأتوا إلى الدنيا ، حينما اخترت لكم أماً صالحة .
 الإنسان قبل أن يختار زوجته ، أمّ أولاده ، شريكة حياته يجب أن يقف عند هذا الاختيار طويلاً ، ليطبق السّنة النبوية .

(( من تزوج المرأة لجمالها أذلّه الله ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، فعليك بذات الدين تربت يداك ))

[ صحيح عن أبي هريرة]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .

 

تحميل النص

إخفاء الصور