- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
النّفس البشرية تتوق إلى الأفضل و الأجمل :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كان موضوع الخطبة السابقة أن الإنسان ينطوي على نفس فطرها الله فطرة عالية ، وهذه الفطرة تشتمل على قوانين ، على مسلمات ، على أسس ، على مبادئ ، وبينت في الخطبة السابقة بعضاً من هذه المبادئ ؛ كيف أن النفوس جبلت على حبّ من أحسن إليها ، وعلى بغض من أساء إليها ، كيف أن الإنسان خُلق ضعيفاً ، كيف أن الإنسان خُلق عجولاً ، كيف أن الإنسان خُلق هلوعاً . هذه المبادئ ، وهذه الخصائص ، وهذه السنن ، وتلك القوانين لصالحه ، لصالح معرفته بربه ، لصالح إيمانه ، لصالح سعادته في الدنيا والآخرة ، وبينت لكم أن من بين هذه القوانين أن النفس البشرية في جبلتها ، وفي طبيعتها ، ومن خصائصها أنها تتوق إلى الأكمل ، إلى الأجمل ، إلى الأحسن ، إلى الأقوى ، إلى الأعظم ، وفي شؤون الدنيا يختار الإنسان دائماً وأبداً الأفضل ، إن في شراء البيت ، وإن في اختيار العمل ، وإن في شراء المركبة ، وإن في البحث عن الأصدقاء ، دائماً تتوق النفس إلى الأكمل ، وقد تساءلت وعجبت ، كيف أن الإنسان في شؤون الدنيا يختار الأجمل ، والأفضل ، والأكمل ، والأحسن ، والأمتن ، والأقوى ، ولا يختار في شؤون دينه الذي هو عصمة أمره ، كيف لا يختار في شؤون دينه الذي هو لحمه ودمه ، كيف لا يختار في شؤون دينه الذي هو مصيره ، إما إلى جنة يدوم نعيمها ، وإما إلى نار لا ينفد عذابها ، لمَ لا يختار في شؤون دينه الأفضل ؟
أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ويطبقه ثم يعلمه أخاه المسلم :
كانت هذه المقدمة منطلقاً لشرح عدة أحاديث شريفة بدأها النبي عليه الصلاة والسلام بكلمة أفضل . . وقد شرحت الأسبوع الماضي قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت ))
وأفضل الدعاء أن تسأل ربك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ، وأفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة . . واليوم :
(( أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ثم يعلمه أخاه المسلم ))
لأنه من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً . . " أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ثم يعلمه أخاه المسلم " . وقد نقف وقفة عند ثم ، ثم : حرف عطف ، يفيد الترتيب على التراخي بينما الفاء هي حرف عطف يفيد الترتيب على التعقيب ، فلمَ قال النبي عليه الصلاة والسلام - وهو لا ينطق عن الهوى ، وهو الذي أوتي جوامع الكلم ، وهو الذي يُعد أفصح العرب، والذي يُعد كلامه أفصح كلام بعد القرآن - لمَ قال النبي العدنان :
(( أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً - ولم يقل فيعلمه ، ولم يقل ويعلمه ، قال - ثم يعلمه أخاه المسلم ))
شُرَّاح الحديث قالوا : إن بين تعلم العلم وتعليمه مرحلة ، هذه المرحلة إن لم تكن فلا جدوى من التعليم ، إنها مرحلة التطبيق ، تعلم وطبق وبعدها علم : " يا عيسى ابن مريم - كما ورد في بعض الكتب - عظ نفسك فإذا وعظتها فعظ غيرك وإلا فاستح مني ".
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : " أفضل الصدقة . ." لو أعطيت هذا الفقير مالاً فشبع أليست هذه صدقة ؟ نعم ، ولكن هذا الشبع ألا ينتهي عند الموت ؟ لو أطعمته إلى أن يموت ، لو تكفلت برزق فقير معدم أطعمته حتى الموت ، وجاء ملك الموت ، انتهت آثار هذا العمل ، لو كسوت فقيراً حتى الموت ، لو أسكنت فقيراً في منزل من أرقى مستوى حتى الموت ، كل هذه الأعمال على أنها جليلة ، وعلى أنها عظيمة ، وعلى أن الله يكافئ عليها أضعافاً كثيرة لكن هذه الأعمال تنتهي عند الموت ، ولكنك إذا علمت إنساناً ، عرَّفته بالله عز وجل ، وعرَّفته بمنهجه ، وحملته على تطبيق منهج الله ، وزكيت نفسه ، واعتنيت به ، إلى أن صار مؤمناً يرضى الله عنه ، إن هذا العمل لا ينتهي عن الموت ، بل يبدأ بعد الموت ، هذا العمل يسعد إلى أبد الآبدين ، فهذا الذي عناه المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما قال :
(( يا علي لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ))
(( خير لكَ من حُمْرِ النَّعَم ))
أن يتعلم المرء علماً ويطبقه ثم يعلمه أخاه المسلم ؛ لأن الناس أيها الأخوة لا يتعلمون بآذانهم ، لا والله ، يتعلمون بعيونهم .
لغة العمل أبلغ من لغة القول :
أيها الأخ الكريم ؛ كنت أقول دائماً : إنه بإمكانك أن تكون أكبر داعية في الأرض وأنت ساكت ، لأن لغة العمل أبلغ من لغة القول ، لأن موقفاً أخلاقياً أفضل من ألف محاضرة ، لأن عفة عن الحرام أبلغ من ألف درس تستمع إليه ، لأن المواقف أفضل من كل كتب الأخلاق ، موقف أخلاقي واحد ، موقف فيه نزاهة ، فيه احتقار للمادة ، وتعظيم للمبادئ ، هذا الموقف في فعله وتأثيره أبلغ من آلاف المحاضرات . لذلك قال بعض الحكماء : إن الكثيرين يستطيعون أن يتحدثوا عن الفضائل الخلقية ، ما من إنسان إلا ويتكلم بالأخلاق والأمانة والصدق وكذا ، وفلان كذا . ولكن القليلين هم الذين يعيشون مكارم الأخلاق . دائماً وأبداً كنت أضرب هذا المثل . أن تقول ألف مليون ، بينما أن تقولها بلسانك وليس في جيبك ليرة واحدة ، وبين أن تملكها ، شتان بين أن تقول هذا الرقم ، بين أن تلفظه أو بين أن تكتبه ، أو بين أن تقرأه ، وبين أن تملكه . فالحديث عن الفضائل كالحديث عن الأرقام الكبيرة ، لكن أن تعيش هذه الفضائل تماماً كأن تملك هذه المبالغ الكبيرة .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ أنت كأب الأبوة مسؤولية ، والأبوة الكاملة والحانية عمل يكفي لدخول الجنة ، أب ربى أولاده تربية إسلامية صحيحة ، وعطف عليهم ، وبذل من أجلهم كل شيء ، حتى أصبحوا عناصر مفيدة في المجتمع ، هذا العمل يكفي لدخول الجنة ، وأم رؤوم ربت بناتها تربية صالحة ، تربية أساسها العفة ، أساسها الحفظ ، أساسها الصدق ، أساسها معرفة حقوق الزوج ، هذه الأم بإمكانها أن تلقى الله بعلمها ، وأن تدخل بعملها الجنة . والبنوة الكاملة عمل يمكن أن تلقى الله به ، وأن تدخل الجنة . والحرفة إذا أتقنتها ، ونصحت المسلمين، ولم تكذب عليهم ، ولم تدلس ، ولم تستغل حاجتهم ، أردت نفع المسلمين ، وكفاية نفسك ، وخدمتهم ، ولم تلهك عن فريضة ، ولا عن مجلس علم ، كانت هذه الحرفة عبادة خالصة يمكن أن تلقى الله بها .
ما بال السلف الصالح كانوا إذا صنعوا شيئاً أو تاجروا يخافون الله في المسلمين الذين يتعاملون معهم ؟ حتى إنني سمعت أن السلف الصالح كان إذا فتح باب دكانه ، كان يقول: نويت خدمة المسلمين ، أين نوايا السلف الصالح من نوايا من هم معاصرون ؟ هدفه الربح فقط ، ليحيا هو وليمت أكثر الناس ، هدفه أن يبني ماله على فقر الناس ، أن يبني مجده على أنقاضهم ، أن ينبغي حياته على موتهم ، أن يبني أمنه على خوفهم .
أيها الأخوة الأكارم ؛ أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ثم .. بين يعمل وبين يعلم يوجد مرحلة ، إنها التطبيق . ولعمري لو أن أحدنا جلس في خطبة ، أو في مجلس علم ، واستمع إلى شيء قيم من كتاب الله ، أو من سنة رسوله ، وأراد أن يحفظ ، وكتب ، وسجل ، وذاكر ، ثم جلس في مجلس ، ووضح هذا الذي تعلمه ، لقد أفلح ، ولقد تصدق بأفضل صدقة ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام .
تعليم العلم أفضل من إنفاق المال :
في حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ما من صدقة أعظم عند الله من كلمة حق ))
لعل كلمة الحق ترد إنساناً تائهاً ، لعل كلمة الحق تهدي إنساناً ضالاً ، لعل كلمة الحق توقف معصية وبيلة ، لعل كلمة الحق تؤلف بين رجلين ، تؤلف بين زوجين ، تحيي أسرة طيبة ، كلمة الحق ، هذه الكلمة التي قال الله عنها :
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ))
فلذلك قد تستمع إلى خطبة ، وقد تحضر مجلس علم ، أثناء الخطبة وأثناء مجلس العلم ترتاح ، لأن الحق مريح ، لأنه كلام ربنا ، لأنها مائدة الله عز وجل ، ولكن هل جربت أن تعيد ما سمعت ؟ لابد من جهد ، لابد من مذاكرة ، فالذي يتمنى أن يطبق هذا الحديث ، أن يتعلم علماً ثم يعلمه أخاه المسلم إذا عاد إلى البيت ، لابد من أن يقول ماذا قيل اليوم ، وماذا قيل حول هذا الحديث ، وحول تفسيراته ، وحول مدلولاته ، وحول أبعاده ، وحول مضمونه ، وحول كلماته ، وماذا أراد النبي من هذا الحديث ، ولمَ كان تعليم العلم أفضل صدقة؟ لمَ يكون تعليم العلم أفضل من إنفاق المال ؟ لأن إنفاق المال على عظم شأنه ينتهي عند الأجل لكن تعليم العلم يستمر إلى أبد الآبدين .
((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ ؛ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ))
الإيمان بالله أساس الفضائل و لجام الرذائل :
حديثٌ آخر متعلق بكلمة أفضل كما بدأها النبي عليه الصلاة والسلام
حيث يقول :
((أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ...))
لأن الإيمان بالله أساس الفضائل ، لجام الرذائل ، قوام الضمائر ، سند النفس في العزائم ، جاء أحد أصحاب رسول الله أبو ذر الغفاري ، قال :
(( يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إيمان بالله ، فقال أبو ذر رضي الله عنه أمع الإيمان عمل ؟ قال : نعم ، أن ينفق مما رزقه الله ))
أن ينفق علمه ، أن ينفق ماله ، أن ينفق عضلاته ، أن ينفق خبرته ، أن ينفق وقته ، أن ينفق جاهه ، أن ينفق مكانته في سبيل الله . قال : فإن كان لا يستطيع أن ينفق . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( ليأمر بالمعروف ، ولينه عن المنكر . قال أبو ذر رضي الله عنه : فإن كان لا يستطيع أن يفعل . قال : ليعن الأخرق - ليعن الإنسان ضعيف الملكات - قال أبو ذر : فإن كان لا يستطيع ، قال : أما تريد أن تترك لصاحبك من خير ؟))
من هذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يؤمن ، ولا أن يعمل ، ولا أن ينفق ، ولا أن يأمر ؟! ليكف آذاه عن الناس . قال : أو إن فعل يدخل الجنة ؟ هنا الجواب ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما من عبد مسلم يأخذ خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة ))
أي في الإسلام طابع بالتعبير الحديث ديناميكي ، كل عمل صالح ينقلك إلى عمل أرقى ، وكل عمل أرقى ينقلك إلى أرقى وهكذا ، ما من عبد مسلم يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة . أنت إذا صممت على ألا تؤذي مخلوقاً ، هذه بداية طيبة ، لا بكلمة ، ولا بمزحة ، ولا بنظرة ، ولا بعدوان على مال ، أو عرض أبداً. إذا صممت ألا تؤذي مخلوقاً ، شعرت أن الله يحبك ، الآن تنتقل إلى مرحلة أعلى ، تبدأ بالإحسان ، تحسن إلى الناس بمالك ، ولكن إذا ارتقيت إلى هذا المستوى تنتقل إلى مرحلة أعلى ، فلذلك يقول النبي الكريم : " المغبون من تساوى يوماه " ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، دائماً حاسب نفسك ؛ يا ترى أنا هذا الشهر كالشهر السابق في صلاتي ؟ في تفكري ؟ في تلاوتي ؟ في فهمي لكلام الله ؟ في حجم عملي الصالح ؟ من لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، لأن الحياة تتحرك ، فإذا توقفت عند مرتبة واحدة كنت مسبوقاً ، سُبقت .
التودد إلى الناس من أفضل الأعمال :
أيها الأخوة الأكارم ؛
((أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ))
لأن الإيمان بالله عمل ، أما أن تظن أن الإيمان بالله كلمة تقولها ، هذه الكلمة التي تقولها لا تصمد أمام الشهوات ، وهذه الكلمة التي تقولها لا تصمد أمام الضغوط ، الضغوط والشهوات يحطمان كلمة قلتها بلا بحث ولا علم ، ولا تفكر ولا تدبر ، لذلك من أجل الأعمال أن تؤمن بالله ، إنك إن آمنت بالله صلح عملك ، وإذا صلح عملك استحققت دخول الجنة كما قال الله عز وجل :
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
(( أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس ))
لماذا ؟ لأن التودد إلى الناس يفتح لك قلوبهم ، لأن التودد إلى الناس يفتح لك عقولهم ، لأن الإنسان جُبل- كما قلت في مطلع الخطبة - على حب الإحسان . .
(( يا داود ذكر عبادي بإحساني فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها ))
فإذا توددت إلى الناس ، هنا قال العلماء : التودد شيء ، والمداهنة شيء آخر . التودد : بذل الدنيا من أجل الدين . أما المداهنة فبذل الدين من أجل الدنيا . أنت حينما تضحي بدينك ، عندما تضحي بعقيدتك ، حينما تضحي بصلاتك ، حينما تضحي بصيامك ، إرضاء لزيد ، أو عبيد فأنت أكبر مداهن . من هو المداهن ؟ الذي يبذل دينه ، مبدأه ، قيمَه من أجل الدنيا ، من أجل مكسبٍ ماديّ ، من أجل منصبٍ زائل . لكن المؤمن لا يداهن ولكن يُداري ما المداراة ؟ المداراة : بذل الدنيا من أجل الدين ، أي هذا الذي تحب أن تهديه إلى الله له مشكلات ، فإذا حللت بعض مشكلاته ، فقد مال نحوك ، فتح قلبه لك ، فتح عقله لك ، فتح أذنه لك ، ولن تفلح في تعليم الناس العلم إلا إذا توددت إليهم ، لن تفلح في تعليم الناس العلم إلا إذا خدمتهم ، لن تفلح في تعليم العلم إلا إذا داريَتهم ، أي بذلت دنياك من أجل دينهم ، ولربّ رجلٍ يهتدي بهذه الطريقة خيرٌ لك من الدنيا وما فيها . فلهذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس ))
أفضل المسلمين إسلاماً و إيماناً :
والآن يقول عليه الصلاة والسلام :
((أفضل المسلمين إسلاماً من سلم المسلمون من لسانه ويده ))
معنى هذا الحديث أن للمسلمين كياناً معنوياً ، للمسلمين سمعة ، للمسلمين مكانة عليّة ، فإذا أساء المسلم لغير المسلم فقد سبّب لسمعة المسلمين متاعب ، إذا أساء المسلم لغير المسلم فقد سبب لمكانة المسلمين اضطراباً ، فالمسلم الحق سفير الإسلام ، ويقف الموقف الكامل في عمله ، وفي وعده ، وفيس مزحه ، وفي جده ، وفي أخذه ، وفي عطائه يقف الموقف الكامل حتى لا يسبب لمجموع المسلمين ، ولا لكيانه المعنوي ، ولا لسمعتهم العطرة سمعةً سيئة، فالمسلم الحق دائماً يتمنى الناس أن يكونوا مثله ، المسلم الحق يتمنى من حوله أن يقتربوا إليه . أما هذا الذي ينفر الناس منه ، ويشمئزون من معاملته ، ومن إخلاف وعده ، ومن كذبه فهذا ليس مسلماً كما أراد الله عز وجل ، هو انتماءٌ شكليّ ، وليس انتماؤه حقيقياً . فلذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( أفضل المسلمين إسلاماً من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وأفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً - وفي رواية - من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم ))
أي الأمن شيء والسلامة شيء ، المسلم لابد من أن يسلم الناس منه لكن المؤمن لا يكتفى أن يسلم الناس منه ، يجب أن يطمئنوا له ، أن يعيشوا في أمن تجاهه ، لأن السلامة عدم حدوث المكروه ، والأمن عدم توقع المكروه ، والفرق كبير بينهما . أنت من خوف الفقر في فقر ، ومن خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها ، المؤمن لا يؤذي أحداً ، لكن المؤمن لا يتوقع الناس منه شيئاً ، ينامون مطمئني البال ، المسلم لا يؤذي ، لكن المؤمن لا يتوقع منه الأذى ، فالناس مع المسلم في سلام ، ومع المؤمن في أمان . لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه ))
أي جارك تخاف أن يشتكي عليك ، تخاف أن يوقع الأذى بك من طرفه ، هذا ليس مؤمناً ، إذا خفت من شخص ، خفت أن يقنصك ، أن يمد يده إليك - هو لم يفعل - لكن إذا خفت أن يفعل هو ليس مؤمناً ، لابد من أن تأمنه ، لابد من أن تشعر تجاهه بكل راحة .
((الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ))
((أفضل المؤمنين إيماناً من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم))
وأفضل المهاجرين ؛ الهجرة انتهت بين مكة والمدينة ، انتهت بفتح مكة ، ولكن الهجرة قائمة :
((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ))
أفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله عنه وأفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك :
لذلك ورد في الحديث :
(( عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي ))
هناك طرقات فيها نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، في مجتمع أكثر كسبه حرام ، في مجتمع متفلت ، في مجتمع المنكر فيه معروف ، والمعروف فيه منكر ، في مجتمع يؤمر بالمنكر فيه ، وينهى عن المعروف . هذا الذي عناه النبي حين قال :
(( اشتقت لأحبابي ، قالوا : أو لسنا أحبابك ؟ قال : أنتم أصحابي ، أحبابي الذين يأتون في آخر الزمان القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر ))
الحقيقة أن متاعب المؤمنين أحياناً من ذويهم ، من أسرهم ، من أقاربهم ، أي إذا أراد الشاب أن يطبق أمر الله وجد المعارضة من ذويه ، ومن جيرانه ، ومن أقربائه ، وممن حوله ، ومن زملائه ، يتهمونه بالخرق ، والانحراف .
(( كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؟ كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ ))
من حديث أبي أمامة قال :
(( كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبانكم وتركتم جهادكم ؟ قالوا : وإن ذلك لكائن يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون . قالوا : وما أشد منه يا رسول الله ؟ قال : كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر ؟ قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون . قالوا : وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؟ قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون . قالوا : وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون ، يقول الله تعالى : بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيراناً ))
وأفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله عنه . وأفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك .
أفضل الفضائل :
لا زلنا في كلمة أفضل والحديث الأخير الذي رواه الإمام الطبراني يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أفضل الفضائل أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن ظلمك))
هذه الفضائل الثلاث لا يستطيعها إلا رجل له باع طويل في الإيمان ، نفسه تحت قدمه ، لا يثأر لها ، ولا يتمشى مع حظوظها ، ولا يجبن عن مواجهة خصومه بالصفح والغفران . لذلك :
((أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن ظلمك))
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عدد الخلايا و أعمارها :
أيها الأخوة الكرام ؛ قبل أسبوعين تحدثت عن الخلية ، وقلت وقتها : إن عدد الخلايا في الجسم البشري يزيد عن مئة ألف ألف مليون أو يزيد عن مئة ألف بليون ، أو يزيد عن مئة ترليون ، أي يزيد عن مئة ألف ألف مليون ، هذه الخلية لا يمكن أن تراها بالعين المجردة إلا إذا كُبِّرت مئةً وأربعين مرة ، ووزن هذه الخلية واحد من ألف مليون من الغرام أي ألف مليون خلية ، إذا وضعت في ميزان تزن غراماً واحداً ، وأن الجسم يستهلك في كل ثانيةٍ مئة وخمسة وعشرين مليون خلية ، هذا تحدثنا عنه قبل أسبوعين .
ولكن الشيء الذي يلفت النظر في هذه الخطبة أن الخلية لها نواة - وتحدثنا عنها في خطبةٍ تابعة - عليها المورثات ، خمسة آلاف مليون معلومة ، اكتشف منها حتى الآن ثمانمئة ، العلم توصل إلى اكتشاف ثمانمئة مورثة ، أو معلومة على المورثات من أصل خمسة آلاف مليون . ونواة ، ونوية ، وهيولى ، الهيولى جسم الخلية ، وغشاء ، وللغشاء حديثٌ آخر ، أما الهيولى فجسم الخلية هو الذي حيَّر العلماء ، حتى إنهم صاحوا : إن الخلية ليست وحدة بناء بل وحدة وظيفة ، ليست أصغر جسمٍ يتألَّف منه الجسم ، ماذا في الخلية ؟ الشيء الذي لا يصدق أن في الخلية تُصنع البروتينات ، وفي الخلية مخازن تخزَّن بها بعض المواد ، وفي الخلية أجهزة تنظيف ، وفي الخلية أنابيب توصيل ، وفي الخلية مولِّدات طاقة ، كل هذا في هيولى الخلية ، إذاً ليست وحدة بناء ، بل هي وحدة وظيفية .
الشيء الذي لا يصدق أن الخلية تتفاوت أعمارها بحسب طبيعتها ، فخلايا البشرة لا تعيش أكثر من ثلاث ساعات ، عمر خلية البشرة ساعات ، كلما دخلت إلى الحمام ، وأردت أن تنظف نفسك ، شعرت أن شيئاً ينزاح عن جلدك ، إنها الخلايا الميتة ، لا تعيش أكثر من ساعات بينما خلايا الأمعاء الدقيقة الماصة لا تعيش أكثر من ثمانيةٍ أربعين ساعة ، أي يجب أن تعلم علم اليقين أن كل ثمان وأربعين ساعة تتجدد أمعاؤك الدقيقة ، وأن هناك من الخلايا ما يعيش سبعة أيام كخلايا التذُّوق ، وأن الكريات الحمراء تعيش مئة وخمسة وعشرين يوماً .
ولكنك إذا عشت خمس سنوات يجب أن تعلم علم اليقين أن كلَّ شيءٍ فيك قد تجدد ، إلا موضعين ، خلايا الدماغ والقلب ، لو أن خلايا الدماغ تجددت لنسيت كل معلوماتك، تعلَّم الطب ثم نسيه ، تعلم الهندسة ثم نسيها ، تنسى كلَّ المعلومات ، والخبرات ، والذكريات ، لذلك شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن تبقى خلايا الدماغ في الجنين حتى الموت ، وكذلك خلايا القلب ، لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل .
العلاقة بين إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل :
الآن الآية الكريمة ، يقول الله عزَّ وجل في بعض الأدعية القرآنية :
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
الحقيقة هناك شيء يلفت النظر ، ما العلاقة بين إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؟ وبين إدخال الحيِّ في الميت والميت في الحي ؟ قال بعض المفسرين : الليل يزداد طوله في الصيف ، ويقصر في الشتاء ، فكأن النهار أخذ من الليل في الصيف ، وكأن الليل أخذ من النهار في الشتاء ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾
أي اختلاف أطوال الليل والنهار بحسب تتابع الفصول ، هذا معنى .
المعنى الآخر . . كيف أن الليل وسط الظلام الشديد يبدأ الفجر ، ويتداخل من الشرق بضيائه شيئاً فشيئاً فشيئاً ، حتى يعمَّ ضياء الأرض ، هذا إيلاج ، وكيف أن الليل بعد غروب الشمس يدخل شيئاً فشيئاً فشيئاً حتى يزاح الضوء كله . الآن من هو الشاب ، الشاب فيه خلايا ميتة ، ولكن عوامل الحياة أقوى من عوامل الموت ، يدخل فيه الموت شيئاً فشيئاً ، لكن عوامل الحياة أقوى منه . من هو الكهل ؟ هو الذي تكافأت فيه عوامل الموت والحياة. من هو الشيخ ؟ هو الذي غلبت فيه عوامل الموت على عوامل الحياة ، فالخلايا لها عمر ، هناك خلايا ميتة تدخل شيئاً فشيئاً ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾
الخلايا الميتة ، تتوالد خلايا حية .
﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ العمر قصير ، والمهمة خطيرة ، والأبد طويل ، فلا بدَّ من أن نستغل الوقت ، لا بدَّ من أن نتعلم ، لا بدَّ من أن نتعرف على الله عزَّ وجل ، الموضوع أيها الأخوة أخطر بكثير من أن تحضر خطبة جمعة ، هذا موضوع مصيري يتعلَّق بمصيرك بعد الموت ، هذا موضوعٌ يتعلق بالحياة الدنيا .
الدعاء :
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصية ، وبفضلك عمن سواك . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين . اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تؤاخذنا بفعل المسيئين يا رب العالمين . اللهم ما رزقتنا مما نحب ، فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم ارزقنا حبك ، وحب من يحبك ، وحب عمل صالح يقربنا إلى حبك . اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .