- محفوظات
- /
- ٠5مقدمات الكتب
طلب مني أن أراجع قصة ، وأن أكتب مقدمة لها ؛ عنوانها (امرأة تائبة ) ، وقد استلهمت من العنوان نفسه ، موضوعين ؛ المرأة وتثمينها العالي في الإسلام ، فالنساء شقائق الرجال ، والمرأة مساوية للرجل تماماً ، من حيث أنها مكلفة كالرجل بالعقائد والعبادات والمعاملات ، والأخلاق ، ومساوية له من حيث استحقها الثواب والعقاب ، وأنها مساوية له تماماً في التشريف والتكريم لهذا قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع :
" اتقوا الله بالنساء ، واستوصوا بهن خيراً "
وقد ورد في الأدب المفرد للبخاري قول النبي عليه الصلاة والسلام :
أول من يمسك بحلق الجنة أنا فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي ، قلت من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم"
وفي حديث آخر يخاطب فيه النبي كلّ النساء ، يقول :
اعلمي أيتها المرأة وأعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله "
وأما قوله تعالى :
" وليس الذكر كالأنثى "
فيعني أن لكل من المرأة والرجل خصائص فكرية ، ونفسية ، واجتماعية ، وجسمية هي أكمل ما يكون لمهمتها التي خلقت لها ، فالمرأة والرجل متكاملان ؛ بمعنى أن كلاً منهما يسكن إلى صاحبه لأنه يكمل نقصه به ، قال تعالى :
" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة "
وقد شكت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها فقالت : إن زوجي تزوجني وأنا شابة ذات أهل ومال وجمال ، فلما كبرت سني ونثر بطني وتفرق أهلي وذهب مالي قال أنت علي كظهر أمي ، ولي منه أولاد إن تركتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ... فبكى النبي رحمة بها " مهمتها تربية الأولاد ، ومهمته كسب الرزق
* * * *
والموضوع الثاني : التوبة ، والتوبة في حقيقتها مخرج النجاة للإنسان حينما تحيط به خطيئته ، وهي صمام الأمان حينما تضغط عليه سيئاته ، وهي تصحيح للمسار حينما تضله أهواؤه ، وهي حبل الله المتين حينما تغرقه زلاته ، وهي الصراط المستقيم حينما تنحرف به شهواته ،
فالله يريد أن يتوب على عبادة المذنبين ، وأنه ما أمرنا أن نتوب إليه إلى ليتوب علينا ، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا ، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليجيبنا ، وما أمرنا أن نستعين به إلا ليعيننا ، وأنه يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار
وإذا كان الثلث الأخير من الليل نزل ربكم إلى السماء الدنيا فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ، هل من طالب حاجة فأقضيها له ، هل من مستغفر فأغفر له ، هل من سائل فأعطيه حتى ينفجر الفجر
والتوبة النصوح ـ كما قال بعض العلماء ـ ؛ الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب .
كيف لا وفي الحديث القدسي عن أنس بن مالك علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" قال الله : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً ، لأتيتك بقرابها مغفرة "
إنه شرط واحد : ألا تشرك به .
كيف لا ؟...والنبي الكريم يقول :
لله أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الضال والواجد
كيف لا ؟... والنبي الكريم يقول :
إذا تاب العبد توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه ، وجوارحه ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه " .
كيف لا ؟ ... والحق جل وعلا يقول في الحديث القدسي الذي رواه البيهقي عن أبي الدرداء :
أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب .." .
كيف لا ؟ ... وإذا رجع العبد العاصي إلى الله ، نادى منادٍ في السماوات والأرض أن أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله
والتوبة : علم وحال وفعل .. فهي علم لأنها معرفة ضرر الذنوب ، وكيف أنها حجاب بين العبد وبين المحبوب ، وهذا العلم يولد حالة نفسية هي الشعور بالندم ، على ما اقترف من الذنوب ، وعلى ما فاته من الخيرات ، وهذه الحالة من الندم تولد إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال ، وبالماضي ، وبالاستقبال .
فالتائب يترك الذنب الذي كان متلبساً به في الحال ، والتائب يعزم بقلبه على ألا يعود إليه في الاستقبال ، والتائب يسعى لإصلاح ما كان في الماضي ، وقد لخص الني صلى الله عليه وسلم هذه المراحل الثلاث بالندم ، فقال فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك :
" الندم توبة "
حيث لا يخلو الندم من علم أوجبه ، ومن عمل أثمره .
وقد بين الإمام الغزالي رحمه الله ، ما تعظم به صغائر الذنوب فأدرج منها الإصرار والمواظبة ، إذ لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ، ومنها استصغار الذنب فالذنب كلما استعظمه العبد في نفسه صغر عند الله ، وكلما استصغره العبد في نفسه كبر عند الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري :
" إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه ، يخاف أن يقع عليه ، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره " .
ومنها أن يظهر الذنب ويتهاون بستر الله عليه وحلمه عنه وإمهاله إياه ، وقد قيل :
لا تنظر إلى صغر الذنب ، بـــل انظر على من اجترأت ..
وإذا صح أن المعاصي والمخالفات ، عقبات كؤود على الطريق إلى الله وأن التوبة النصوح إزالة لهذه العقبات ، بحيث يصبح الطريق إلى الله سالكاً وآمناً
لقد فُطر الإنسان فطرةً عالية ، وكيف لا تكون عالية وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فإذا حاد الإنسان عن مبادئ فطرته ، وخرق حدود إنسانيته بالإثم والعدوان اختل توازنه النفسي ، وأحس بكآبة مدمره لصحته النفسية ، وهذا ما يسمى عند علماء النفس بالشدة النفسية ، التي هو سبب رئيسي لكثير من الأمراض التي تصيب العضوية ، كتسرع ضربات القلب واضطراها ، وتضيق الشرايين الاختلاجي ، وارتفاع ضغط الدم ذي المنشأ العصبي ، الذي هو في حقيقته ارتفاع لضغط الهم ، وتقرحات الجهاز الهضمي ، وأمراض الحساسية ، وأمراض الأعصاب ، والشلل العضوي ذي المنشأ النفسي ، وحينما يصطلح الإنسان مع الله فيتوب من ذنوبه ، ويستقيم على أمر ربه ، ويعمل الصالحات تقرباً إليه ؛ عندئذ يشعر بأنه قد أزيح عن صدره كابوس ضاغط كأنه جبل جاثم ، وإن ظلمات بعضها فوق بعض ، قد تبددت من أمامه ، وأن مشاعر الكآبة والضيق قد اختفت إلى غير رجعة ، وعندئذ يشعر أن في قلبه من الطمأنينة والسعادة ما لو وُزعت على أهل بلد لأسعدتهم جميعاً ، وعندها تتأثر العضوية بهذه الصحة النفسية ، تأثراً إيجابياً ، فتزول أعراض أكثر الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي .
التوبة والعمل الصالح ، أساس الصحة النفسية ، والصحة النفسية أساس صحة الجسد ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
" استقيموا ولن تحصوا " .
وقد وضح الإمام المناوي في شرحه لهذا الحديث أنه إذا استقمتم فلن تحصوا الخيرات التي تجنونها من الاستقامة .
* * *
وبعد قراءة القصة ... وجدتها قصة بالغة التأثير ، لأن فيها صدقاً في المشاعر، وعمقاً في التجربة ، وكما قال عليه الصلاة والسلام : إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ..
فكاتبة القصة ـ فيما يتضح ـ أخت كريمة... شردت عن منهج الله حقبة من الزمن ، ثم اصطلحت مع الله ، فوصفت ـ بدقة متناهية ـ مشاعر المرأة حينما تكون على غير ما خلقت له ، وكأن وصفها لهذه الفترة شرح لقوله تعالى : " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " ثم بينت ببلاغة ؛ أساسها الصدق والندم ، الحالة النفسية المتوهجة ، التي غمرت قلبها ، بعد سارت على المنهج القويم والصراط المستقيم
وإن تجربة صاحبة القصة درس بليغ لكل شارد عن الله ، ذكراً كان أو أنثى ، يستشف منه أن حياة طيبة تنتظره إذا اصطلح مــــع الله :
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
وأن الله لا يستوي عنده المحسن والمسيء ، ولا الصادق والكاذب ، ولا المؤمن والفاجر ، ولا المستقيم والمنحرف ، وأن استواء هؤلاء مع هؤلاء ؛ لا يتناقض مع عدالة الله فحسب ، بل مع وجوده قال تعالى:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
أرجو الله أن يجعل هذه القصة في ميزان حسنات مؤلفتها يوم القيامة ، وأن ينفع بها كل فتاة انبهرت بالغرب ، وتفلتت من منهج الله ، فتعود إلى دينها القويم ، وإلى طاعة ربها الرحيم ، من دون أن تدفع الثمن باهظاً
محمد راتب النابلسي
14/4/1999