وضع داكن
28-03-2024
Logo
الندوة : 17 - الهجرة- ندوة مع المذيع علاء الدين الأيوبي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة المذيع الأستاذ عللاء الدين:

 أيها السادة المشاهدون، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وكل عام وأنتم جميعاً بألف خير، نحييكم أجمل تحية في بداية هذه الندوة الخاصة التي تأتيكم بمناسبة الهجرة النبوية المباركة الشريفة، واستقبالنا عاماً هجرياً جديداً، ووداعنا لعام هجري قد مضى.
 في مثل هذا اليوم ومنذ 1427 عاماً هاجر النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة، وهي أحب أرض الله إليه، إلى يثرب، إلى المدينة التي تنورت بمقدمه، لتكون هذه الهجرة بداية تأسيس الدولة، وبداية تأسيس المدينة، وبداية تأسيس العاصمة، التي كانت ركزاً للقانون والنظام، ركزاً للإتلاف والتآلف، وركزاً ينطلق منها شعاع النور ليبدد العتمة في كل الأرجاء، من هذا الركز، ومن هذا اللواء الذي انطلق فيما بعد تحررت الدنيا، وأعيد بهائها، وانتشر العلم، وانتشر التكافل، وعم العدل، وعمت المساواة، كل ذلك كان ثمرة من ثمار الهجرة النوبية المباركة من مكة إلى يثرب، إلى المدينة المنورة.
 بالأمس ودّعنا العام السابع والعشرين بعد الأربعة مئة والألف، واليوم نستقبل العام الثامن والعشرين والأربعة مئة والألف، لنأخذ منه الدروس والعبر، ولنرتشف من خلال هذا الحدث التاريخي الهام الذي حصل في جزيرة العرب العبرَ والدروس والحِكم التي ما زالت بين ظهرانينا إن تمسكنا بمؤداها، وإن تمسكنا بفحواها فلن نضل أبداً، وإن تركنا لوائها عمت الفرقة، وسادت كما نعاين على أرض الواقع.
 يسعدنا في هذا الحدث المبارك الهام أن نستضيف الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق ، والأستاذ الباحث أحمد المفتي أستاذ الحضارات في جامعة دمشق.
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكما في هذه الندوة الخاصة بمناسبة الهجرة النبوية.
 اسمحوا لي أن أبدأ من عند الأستاذ أحمد المفتي ليحدثنا عن الهجرة، تأريخاً، متى كانت ؟ وكيف حصلت ؟ وبالطبع بشيء من الاختصار، كيف استند إليها التأريخ الزمني التأريخ الهجري.
الأستاذ أحمد المفتي:

 

الهجرة تأريخًا:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد:
 حينما نبدأ بتاريخ السنة الهجرية لا بد لنا أن نتساءل: لماذا أخذ التاريخ الهجري، ولم يؤخذ تاريخ ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يؤخذ أيضاً تاريخ نزول القرآن الكريم، حيث أرّخ في هذا الحدث العظيم، ولم يؤخذ أيضاً تاريخ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
عمر بن الخطاب وتأريخ الهجرة:
 لو عُدنا إلى السنة السابعة عشرة للهجرة أيام خلاقة سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وخاصة في شهر جمادى الآخرة، حينما ورد خطاب إلى أبي موسى الأشعري مؤرخًّا في شعبان، فأرسل إلى عمر رضي الله يقول: يا أمير المؤمنين، تأتينا الكتب، وقد أرِّخ بها في شعبان، ولا ندري أي شعبان هذا، هل هو في السنة الماضية ؟ أم في السنة الحالية ؟ لذلك جمع عمر رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم، وبحث هذا الشأن وهذا الموضوع، وكل واحد منهم طرح فكرة خاصة، فأحدهم قال: نأخذ بتاريخ مولد الرسول، والآخر قال: نأخذ بتاريخ وفاته، إلا أن الصحابة أجمعوا فيما بعد على أن أهم حدث بتأريخ الدولة الإسلامية هو تأريخ الهجرة.
 فلذلك اتخذ سيدنا عمر باستشارة سيدنا عثمان رضي الله عنه، وسيدنا علي كرم الله وجهه، ورضي عنه أيضاً اتخذوا هذا الحدث الهام جداً بداية التأريخ للأمة العربية الإسلامية جمعاء، وكان هذا في سنة 622، أي بداية محرم تبدأ في السنة الثانية والعشرين وستة مئة ميلادية، وبدأ التأريخ بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ذلك التاريخ.
المذيع:
الأستاذ علاء، البداية في محرم لأن محرم لأنه الشهر الأول في السنة عند العرب ؟.
الأستاذ أحمد:
 تماماً، لأن العرب كانوا يؤرخون في الماضي بأسماء مغايرة عن هذه الأشهر، ولكن فيما بعد اتخذوا هذه الأسماء، كل شهر من الأشهر له معنى من المعاني، فمحرم بالطبع بداية السنة الهجرية، ونحن حينما نقول مثلاً: إن القتال محرم، وهذه الأشهر الثلاثة التي تأتي وراء بعضها، حينما نقول: ذو القعدة فالعرب كانت تمتنع عن القتال، وذو الحجة أيضاً محرم فيه القتال، ويأتي بعد ذلك محرم، وقد حرِّم فيه القتال.
إلا أن الشهر الرابع، ونسميه رجب الفرد، لأنه يبتعد كثيراً عن هذه الأشهر الثلاثة، لم يأت متواليا، فنقول: رجب الفرد، وهو من الأشهر الحرم أيضاً.
 فحينما نقول: رمضان، لأن الفترة الزمنية التي أرّخ بها هذه الأشهر أرّخت رمضان، لأن الحر شديد في هذا الشهر، وهو مشتق مِن الرمضاء، ومحرم حُرم فيه القتال، ورجب كان أيضاً الشهر العظيم، وشعبان وصفر كانت تصفر الأرض، وربيع وربيع الأول والثاني كان يخرج به الربيع، وجمادى تجمد الأرض، وجمادى الأولى، وجمادى الثانية، وهذه الأشهر لكل شهر اسمه ومعناه.
المذيع
 الأستاذ علاء، إذاً: من هنا أهمية الهجرة جاء التأريخ الهجرة، جاء التأريخ بالهجرة بداية، ولم يكن بمولد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن بنزول الوحي، أو بنزول القرآن ولم يكن بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، هنالك مقاصد من وراء التأريخ للهجرة.
الأستاذ أحمد المفتي:

 

 

من مقاصد التأريخ الهجري :

 

المقصد الأول: بناء الدولة الأسلامية:

 هذا التأريخ الهجري المقصد الأول هو بناء الدولة الإسلامية، قبل الهجرة النبوية كان المسلمون لم يشكلوا دولتهم بعد، ولكن حينما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طابا، إلى طيبة، إلى المدينة المنورة، إلى يثرب، وأنشأ الدولة الإسلامية، ونحن لا بد لنا أن ننظر هنا أيضاً في بداية هذا اللقاء إلى أن الناحية الأولى ليدخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، أو حينما وصل إلى قباء، وهذا لا شك بأن الدكتور الأستاذ الشيخ راتب سيحدثنا عن هذه القضية، أو هذه الضرورة، حينما يدخل الرسول ليبني المسجد، ولذلك اُتخذت الدولة قاعدة، لأن بناء الدولة الإسلامية يعتمد على المسجد، والمسجد معماري لكل المدن الإسلامية التي أنشأت فيما بعد، كل المدن كان المسلمون يبتدئون ببناء المسجد، وهو بناء بداية الدولة الإسلامية.
فلذلك حينما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة كانت الخطوة الأولى بأنه اشترى تلك الأرض من اليتيمين، وبنى ذلك المسجد ليبني الدولة، وأسس الدولة بإضافة إلى الوثيقة الهامة التي كتبت لأسس الدولة الإسلامية.
الأستاذ علاء:
 نعود إلى كتابة الوثيقة لأُسس الدولة، ولأول مرة يعرف التاريخ هذه الوثيقة، أنتقل إليك دكتور راتب إذا سمحت لي، كيف نقرأ مجموعة من الدروس، دروس الهجرة هي دروس كثيرة وكثيرة، والوقت لا يتسع في الحقيقة، لكن أول ملمح من ملامح كلمة الهجرة ماذا يمكن أن نستقي درساً منها ؟
الدكتور راتب النابلسي:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

 

من ملامح الهجرة:

 

1- الهجرة حركة:

 أول ملمح في الهجرة أنها انتقال من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، إذاً: هي حركة وليس في الإسلام سكون، بل هو حركة، وحيوية، والتزام، أن تعطي لله، وأن تمنع لله، وأن تصل لله، وأن تقطع لله، وأن تغضب لله، وأن ترضى لله.

 

﴿ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

 

( سورة الأنفال الآية: 72 )

 يجب أن تأخذ موقفاً، يجب أن تلتزم بمنهج، يجب أن تعتنق مبدأ، يجب أن تنضبط بقيم، يجب أن تتحرك، هي انتقال من مكة المكرمة إلى يثرب، ثم سميت المدينة المنورة، لكن يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ))

 

[ متفق عليه عن ابن عباس ]

 الانتقال الآن من مكة إلى المدينة لا يسمى هجرة، ولكن الهجرة قائمة إلى يوم القيامة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة.
الأستاذ علاء:
يعني في كل مدينتين تحملان نفس الحالة.
الدكتور راتب:

 

علة خلق الإنسان عبادة الله:

 ذلك أن علة وجود الإنسان علة وجوده أن يعبد الله، فإذا أرسلت ابنك إلى بلد غربي لينال الدكتوراه، فعلة وجوده الوحيدة في هذا البلد أن ينال الشهادة، فإذا لم يسمح له أن ينتسب إلى جامعتها العتيدة يجب أن يغادرها إلى بلد آخر، لأنّ بقاءه هناك لا معنى له، فعلّة وجودنا العبادة، قال تعالى:

 

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

 

( سورة الذاريات )

والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، في هذا التعريف جانب سلوكي، هو التزام، افعل ولا تفعل، هذا حرام ، وهذا حلال، وهذا فرض، وهذا واجب، وهذا مستحب، وهذا مكروه.
 في حياة المؤمن منظومة واسعة جداً من الأوامر والنواهي، إذاً: ما لم يلتزم المؤمن فقد أنقص جانبا من الطاعة، وليس عندنا إسلام سكوني، الإعجاب بالإسلام سلبي، ما أعظم هذا الدين ! ما أعظم ها النبي الكريم ! هذا لا يقدم ولا يؤخر، وليس له أية قيمة في مدارج السالكين إلى الله.
 إذاً: الهجرة حركة، ما لم تعط لله، ما لم تمنع، لله، ما لم تغضب لله، ما لم ترضى لله، ما تصل لله، ما لم تقطع لله، ما لم تأخذ موقفاً، ما لم تتحرك، ما لم تنصر الحق، ما لم تعين على نوائب الدهر كما فعل النبي الكريم، ما لم تحمل هم هذه الأمة، ما لم تخفف من متاعبها، ما لم تنتصر لها، فلست من هؤلاء الذين وعدهم الله بالجنة.
الأستاذ علاء:
 سيدي، أن نفهم من هنا هذا الملمح عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ))

[ متفق عليه عن ابن عباس ]

الدكتور راتب:
 لذلك:

 

(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))

 

[ رواه مسلم عن معقل بن يسار ]

 حينما تقِيم أمر الله في الزمن الصعب، في زمن الفتن، في زمن التطرف، في زمن الانحراف، في زمن الشبهات، في زمن الشهوات، في زمن أن يؤمر بالمنكر وينهى عن المعروف، في زمن أن يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، في هذا الزمن الصعب إذا عبدت الله عز وجل في هذا الزمن فهو هجرة خالصة إلى الله عز وجل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
هناك مهاجر أم قيس، امرأة حسناء خطبها رجل من قريش في مكة، اشترطت عليه أن يهاجر إلى المدينة، فهاجر من أجلها، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلّ امرىءٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أَوِ امْرأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُه إلى ما هَاجَرَ إلَيْه ))

 

[ متفق عليه ]

فكان هذا يسمى عند الناس مهاجر أم قيس.
الأستاذ علاء:
 سيدي قبل أن ننتقل إلى الأستاذ أحمد ليحدثنا عن الوثيقة التي كتبها النبي عليه الصلاة والسلام والتي عرفت المواطنة لأول في تاريخ الإنسانية، أود أن أتوقف عند مسألة النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر من مكة إلى يثرب هل كانت هجرته هكذا، اسمح لي أن أستخدم يعني كلمات العوام على السبحانية، على التجلي، أم كان النبي عليه الصلاة والسلام قد أخذ بكل الأسباب، بكل الأسباب قبل أن يبدأ الرحلة العصيبة بين مكة والمدينة.
الدكتور راتب:
 أستاذ علاء جزاك الله خيراً على هذا السؤال، ما من درس من دروس الهجرة يحتاجه المسلمين اليوم كهذا الدرس، أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، من أخذ بالأسباب واعتمد عليها ونسي الله وقع في الشرك، ومن لم يأخذ بها وقع في المعصية، البطولة أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، الدليل:
 هل في الأرض كلها إنسان أكثر استحقاقاً بنصرة الله من رسول الله ؟ هو أسرى به بلمح البصر إلى بيت المقدس، لمَ لم ينقله إلى المدينة بهذه الطريقة ؟ أراد أن يعلمنا أولاً هيأ من يمحو آثار حركته على الرمال، هيأ من يأتيه بالأخبار، هيأ من يأتيه بالزاد، سار مساحلاً بعكس قصده، كمن في غار ثور ليخف الطلب عليه، ثم استأجر خبيراً في الطريق غلّب خبرته على الولاء.
أحياناً المسلم بحاجة إلى خبرة عالية جداً، يجب أن يأخذها ولو من غير المسلم.
الأستاذ أحمد:
بالرغم من أن الخبير كان مشركاً.
الدكتور راتب:

2- الأخذ بالأسباب والتوكل على الله:

 هناك ملمح رائع جداً، مع أنه أخذ بالأسباب كلها، ولم يدع ثغرة إلا وأغلقها، وكأن الأسباب هي كل شيء، لكن شاءت حكمة الله أن يصلوا إليه، ما الذي نستفيده من وصولهم إليه ؟ لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان اعتماده على الأسباب لانهارت قواه، لأنها لم تنجح، وصلوا إليه، ولكن لأنه أخذ بها تعبداً لله، واعتماده على الله، فلما قال له أبو بكر رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ ))

 

[ متفق عليه ]

 في رواية أخرى: لقد رأونا، قال: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:

 

﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾

 

( سورة الأعراف )

إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب، وماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك.
أستاذ علاء، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب، وأن تتوكل عليها، وأن تنسى ربك، كما يفعل الغربيين، والأسهل أن لا تأخذ بها إطلاقاً كما يفعل الشرقيون، توكل ساذج، تواكل، سيدنا عمر رأى أناساً يتكففون الناس في الحج فقال لهم: << مَن أنتم، قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض، ثم توكل على الله >>.

﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)﴾

( سورة الكهف )

 يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْز ))

 

[ رواه أبو داود عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه ]

 أن أستسلم، انتهينا، أن أستسلم لعدوان، أن استسلم لاحتلال.

 

(( إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ ))

 فإما أن تخطط، وإما أن يخطط لك، لا ينبغي أن تكون أفعالك ردود فعل، ينبغي أن تكون أفعالاً، وعلى الآخرين أن يكون عندهم ردُّ فعل، ينبغي أن نعمل، من أخذ بالأسباب، واعتمد عليها فقد وقع في وادي الشرك، ومن لم يأخذ بها فقد وقع في وادي المعصية، لكن النبي الكريم يقول:

 

 

(( إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْز ))

 أن تستسلم، انتهينا، هذا ترتيب ربنا، هذا كلام فارغ، هذا توحيد مشوه.

 

 

(( وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ، فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ ))

 أنا لا أقبل من ابني ألا يدرس، ثم يقول: هكذا مشيئة الله، أنا أعاقبه على هذه الكلمة، ولكن لو جاءه مرض خطير حال بينه وبين الامتحان أقول له: يا بني، قل: حسبي الله ونعم الوكيل.
هذا الدرس الأول الذي يحتاجه المسلمون الآن، يجب أن نأخذ بالأسباب، يجب أن نعد لهم، لقد أعدوا لنا ولم نعد لهم.

 

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾

 

( سورة الأنفال الآية: 60 )

 ويجب أن نعد لهم ما نستطيع، وعلى الله الباقي، والله ما كلفنا أن نعد القوة المكافئة ، وقد يكون هذا مستحيلاً، كلفنا أن نعد القوة المتاحة، لذلك درس الهجرة أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
لما وصولوا إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان متوكلاً على الله، فأعطانا الله عز وجل هذا الدرس بشقين، كيف أخذ بالأسباب، وكيف توكل على الله.
الأستاذ علاء:

 

﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾

 

( سورة التوبة الآية: 40 )

الأستاذ أحمد:

 

حب الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام:

 لذلك أعقّب على كلام الأستاذ الدكتور بأن المهاجرين الأوائل الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الهجرة كانوا يحملون في نفوسهم الحب العظيم جداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك نسوا الدنيا بكاملها، وخلفوها وراء ظهورهم، ثم انطلقوا إلى المدينة المنورة إلى دار الهجرة، لو أخذنا مثلاً صهيب الرومي، صيب الرومي حينما انطلق إلى الهجرة، حينما هاجر قبل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يملك مالاً كثير جداً، فجاءه رجال من قريش فقالوا: جئتنا صعلوكاً، وأنت الآن تملك مالاً كثيراً، فكيف يمكن أن تأخذ هذا المال ؟ ونحن اليوم بإسقاطاتنا نعيش حالة اقتصادية مرعبة، لأن أمريكة تتحكم باقتصاد العالم، وأمريكا تتحكم بهذه البنوك التي تنتشر عبر هذه الدول الكبيرة جداً.
لذلك أستاذ علاء، التفت صهيب الرومي وقال لهم: هذه هي الأموال خذوها، ثم انطلق إلى دار هجرته إلى المدينة المنورة.
 لو أخذنا مثالاً آخر: حينما هاجر أول المهاجرين كان أول من هاجر إلى المدينة المنورة هو أبو سلمة بن أسد، فذلك بهجرته حينما انطلق ببعيره، وركبت أم سلمة أيضاً معه، وابنهم سلمة، وانطلق إلى المدينة، في البداية أمسكوا بخطام الناقة، وقالوا له: إلى أين ؟ أنت تذهب، وتأخذ معك أم سلمة ؟ فبنو مخزوم لم يسمحوا له أن يأخذ زوجته، فنزلت الزوجة، وهاجر بنفسه إلى المدينة المنورة، وأيضاً الولد حينما جاء قوم أبو سلمة، فأخذوا الولد من أم سلمة، حتى خُلعت يده وهم يتجاذبونه، وبقيت أم سلمة سنة بكاملها وهي تخرج إلى البطحاء تبكي كل يوم، وهي تتذكر ابنها عند بني أسد، وتتذكر زوجها وهو في المدينة المنورة، حتى جاء رجل شهم، وقال: دعوها فلتهاجر.
 وهنا لا بد أن أقف أيضاً على ما قاله الدكتور، حتى إن الإنسان العربي كان يحمل في نفسه بذور الخير، حتى ولو أنه كان مشركاً، حينما سافرت، أو حينما حاولت أن تهاجر أم سلمة رآها في الطريق عثمان بن طلحة، فقال لها: إلى أين ؟ فقالت: إنني أريد الهجرة إلى المدينة المنورة، إلى يثرب، فقال: من معك في هذا الطريق الطويل ؟ فقالت: لا أحد، أنا وابني، وأخذت ابنها معها، فقال: لا بد لي أن أوصلك إلى دار زوجك، فأخذ بخطام هذه الناقة، وكانت تقول: ما رأيت رجلاً في العرب أكرم من عثمان، وهذا قبل أن يسلم عثمان بن طلحة، كان يسير بالناقة، ثم حينما يصل إلى مكان فكان ينيخ الناقة، ثم يبتعد قليلاً حتى تنزل، وينام تحت الشجرة بعد أن يربط الناقة.
هذه الأخلاق الرائعة لا بد أن نقف عندها مطولاً في دروسنا القادمة.
الأستاذ علاء:
 من هنا أستاذنا الكريم هناك نموذجان يبرزان، الصحبةَ الصحبة، الذي صحب النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيدنا أبو بكر، واختاره صاحباً، وانتخاب سيد علي بن أبي طالب لينام في فراشه، وليرد كرائم أموال المشركين الأمانات الموجودة لديه، كيف نقرأ الصورتين ؟.

 

 

صورتان مهمتان: اختيار الصحبة وإنابة من يرد الأمانات:

الأستاذ أحمد:
 لا شك حينما نتحدث عن الإسقاطات هذه في الهجرة النبوية لا بد لنا أن نقف أيضاً مطول عند هذا الاقتصاد، قريش بأموالها تدعها عند رجل يترك دينها، وهي تقاتله وتحاربه، وأموالها موجودة عند هذا الرجل عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
الأستاذ علاء:
 إذًا هناك إجماع على أنه لا يوجد كأمانته صلى الله عليه وسلم.
الأستاذ أحمد:
 إجماع على الأمانة، ومن ثَم ترك سيدنا علي كرم الله وجهه ليعيد هذه الأموال لأصحابها.
الأستاذ علاء:
 إذاً: الأمانة ليس لها علاقة بحالة الشجار.
الدكتور راتب:

 

 

رد الأمانات ولو كانت لمشرك كافر:

 المال لا يستحل إلا بالحرب فقط، أما أن تقول هذا ليس مسلماً خذ ماله، هذا درس بليغ، الأموال لا تستحل إلا في أثناء الحرب، كغنائم، أما في أثناء السلم فأن تقول: فلان ليس مسلماً فآخذ ماله، هذا مرفوض بهذه القصة.
الأستاذ علاء:
 الآن نعود إلى قضية هي هامة جداً، عندما وصل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وكان في المدينة المنورة أطياف متعددة، ومشارف متعددة، وكان في المدينة المنورة الأوس والخزرج، ثم جاء المهاجرون المسلمون، وهناك غير المسلمين من اليهود الذين ساكنوا في المدينة، والوثنيون، في هذه الأثناء كان عبد الله بن أُبي يشك له الخرز على تاجه لتتويجه مالكاً على يثرب، قبل مجيء النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد اشتعلت حرب بين الأوس والخزرج لـ120 عاماً، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء إلى مكونات المجتمع المدني، وأول وثيقة مدنية حقوقية تعرف المواطنة، وتعترف بالآخر، بواجباته وبحقوقه تلك الوثيقة التي كتبها النبي عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة، كيف نقرأها أستاذ أحمد ؟ وأيضاً نقرأها مع الأستاذ الدكتور راتب.

 

 

أطياف المجتمع المدني وموقف النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك:

الأستاذ أحمد:
 بداية لا بد لي أن أمهد لأستاذنا الدكتور راتب، لأنه ما شاء الله بحر من العلوم، ولا بد لي أن أشير بداية تاريخياً بأن اليهود حينما ذهبوا إلى يثرب، واستوطنوا هذه الأرض أيضاً هم فروا من الإمبراطور الروماني، ولأنه كانت بينهم وبينه مجموعة من الثورات التي قاموا بها، وخاصة حينما طردوا من بلاد الشام، وأيضاً طردوا من مواطنهم من مناطق أواسط آسيا، فذهبوا، وقطنوا في المدينة المنورة، كان منهم هؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد من بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، وبعد ذلك جاء الأوس والخزرج إلى المدينة المنورة، وتكوّن هذا المجتمع، اليهود بالذات هم جشعون منذ عصرهم، متعطشون للمال، دائماً وأبداً، فلذلك بحثوا عن المناطق التي وجد فيها المياه في يثرب، وبحثوا عن الزراعة أيضاً، وعن النخيل، وعن الصناعات، واستوطنوا في هذه المناطق.
 هناك قضية مهمة جداً، نحن نتحدث، ونقول: ما مهنة فلان، المهنة من الإهانة، ذلك أن العرب كانوا يعتبرون كل إنسان يعمل في ميدان الصناعة هو مهان، لأن اليونان قديما كانوا يتخذون الأرقاء والعبيد في عمل الصناعات فهم مهانون، ولا يترفعون إلى طبقة الشرفاء، لذلك اليهود كانوا دائماً وأبداً يأخذون بقضايا الاقتصاد، وكانوا يأخذون الأموال، وتوطنوا في هذه الأرض التي كان فيها الأوس والخزرج أيضاً، وبدأ المجتمع العربي في هذه المدينة في يثرب ـ كما قلت أستاذ علاء ـ يتوطن ما بين الأوس والخزرج، وكان اليهود يثيرون الفتن دائماً ما بين الأوس والخزرج بعملية الاستغلال الاقتصادي، في بيعهم أيضاً الأسلحة، وفي بيعهم المواد الصناعية، والمواد الزراعية كاقتصاد كانوا دائماً وأبداً يثيرون الفتن.
 لذلك لما كان يوم بُعاث، وهو الحرب الطاحنة التي كانت بين الأوس والخزرج، قبل الهجرة بخمس سنوات كان يوم بُعاث، فلذلك كان في تلك الفترة يقف على الحياد عبد الله ابن أبي ابن سلول، ولم يشترك في الحرب بالرغم من أنه من الخزرج، والخزرج كانوا أضعف من الأوس، وكانت أيضاً بيعت العقبة كانت مع الخزرج، وجاء الأوس أيضاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعتي العقبة.
 فلذلك نحن لا بد أن ننظر إلى أن هذا الإنسان الذي وقف على الحياد، وعد الأوس والخزرج لتتويج، بالإضافة إلى اليهود أيضاً لتتويج عبد الله ملكاً على المدينة المنورة لا بد من أن ننظر إلى النوازع النفسية التي تحدث عنها فيما بعد القرآن الكريم، وظهرت طائفة جديدة عند المسلمين وهي المنافقون.
 فلذلك كانت هناك رحلة الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ومكوثه في المدينة، وكان البدء في البداية إيداع وثيقة لتنظم العلاقات ما بين المسلمين وبين اليهود وبين الوثنين كما تحدث الدكتور راتب.
الأستاذ علاء:
هذه الوثيقة الخالدة التي لم تعرفها الحضارات من قبل، هذه الوثيقة التي عرفت المواطنة كيف نقرأ بعضاً منها.
الدكتور راتب:

 

 

وثيقة تنظيم العلاقات بين المسلمين وسكان يثرب:

 من بنود الوثيقة:
جاء في مقدمتها:
ـ أهل يثرب أمة واحدة، مصالحهم واحدة.
وجاء في ثنيات هذه الوثيقة:
 ـ أن المؤمنين حربهم واحدة، وسلمهم واحدة، ولا يجوز لطيف من الأطياف أن يعقد صلحاً انفرادياَ مع العدو، ولا أن يحارب وحده العدو، المؤمنون سلمهم واحدة وحربهم واحدة وأهل يثرب أمة واحدة، وهذا شيء يرفع الرأس، المواطنة أصل في الإسلام، والآية الكريمة تقول:

 

 

﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾

 

( سورة التوبة الآية: 7 )

﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾

( سورة الممتحنة الآية: 8 )

 هذا المفهوم مفهوم المواطنة أصيل في الدين، والذي يطالعنا من حين لآخر لرفض الآخر هذا ليس من المواطنة في شيء، فهذه وثيقة تعد مفخرة لهذا الدين القويم منهج رب العالمين.
الأستاذ علاء:
والمواطنة أصل كما تفضلت، والولاء للأوطان.
الدكتور راتب:

 

مفهوم المواطنة:

 شيء آخر، كيف أقنع الطرف الآخر أنني على حق ؟ مِن أخلاقي، مِن وسطيتي، من تسامحي ، إن لم تظهر أخلاق المؤمنين الناصعة، كيف نغري الآخرين كي يكونوا معنا ؟
الأستاذ علاء:
 هناك قائل يقول: يا أخي، هذه الوثيقة نعم هي موجودة، وهذه العهدة موجودة، وهذا الميثاق الذي اعترف بالأطياف والمشارف، لكن فيما بعد جرى معركة أو إجلاء اليهود بني النضير وبني قينقاع، كيف يتسق هذا مع الوقت الحاضر ؟.
الدكتور راتب:
 هذا النظام أنا حينما أخالفه أستحق العقوبة، هذه القصة كلها، أي هناك رادع، الآن أي قانون بلا مؤيد قانوني لا قيمة له، قانون السير مثلاً بلا عقوبات لا قيمة له إطلاقاً، مفهوم المواطنة له مؤيد قانوني، فلو خرج هذا الإنسان عن الإجماع، وانفرد بشيء، وأساء إلى المجموع يعاقب.
الأستاذ علاء:
 إذاً: هو المؤيد القانوني لهذه النقاط التي اتفق عليها النبي عليه الصلاة والسلام مع كل الأطياف، فمن خرج عن هذا الاتفاق يستحق أن يعاقب.
الأستاذ أحمد:

 

 

المؤيد القانوني لمفهوم المواطنة:

 كما هي الحال اليوم أستاذ علاء فينا ننظر إلى أي دولة في العالم حينما يتصرف فرد وليست طائفة، وليس مجموعة حينما يتصرف فرد بأعمال تسيء إلى دولته تسقط عنه حقوق المواطنة.
الدكتور راتب:
 أريد أن أؤكد حقيقة مهمة جداً، وهي أن هناك فرقاً كبيراً بين أصل الدين والممارسات الخاطئة للمسلمين، لذلك العقلاء لا يفهمون الدين من ممارسات اتباعه الخاطئة ، بل يفهمون الدين من أصوله الراسخة ومنابعه.
الأستاذ علاء:
 سيدي، هنالك قول يقول: كل ما حدث من أحداث في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان لحكمة بالغة، كيف نقرأ هذا القول ؟ وكيف ينجر هذا القول على الهجرة، وما قبل، وما بعد الهجرة ؟.
الدكتور راتب:

 

 

سنة النبي عليه الصلاة والسلام تعبير واقعي للقرأن:

 الحقيقة أن سنة النبي تعني أقواله أولاً، وتعني أفعاله ثانياً، وتعني إقراره ثالثاً، لكن الذي يلفت النظر أن أفعاله أدق في التعبير عن فهمه لكتاب الله من أقواله، لأن أقواله تحتمل التأويل، بينما أفعاله حدية، لذلك نحن نعد كلام النبي منهجاً لنا، ونعد سلوك النبي منهجاً لنا، إذاً: كل ما حدث في حياة النبي حدث لحكمة بالغةٍ بالغةٍ بالغة، ليكون موقفه من هذا الذي حدث تشريعاً لنا، فنحن كأمة عربية إسلامية في أمسّ الحاجة إلى مواقفه في موضوع الهجرة ، إلى أخذ بالأسباب، إلى توكله على الله، إلى المواطنة، إلى التعايش، هذا كله لا بد منه دروس لنا جميعاً، والآية الكريمة تقول:

 

 

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾

 

( سورة الأنفال الآية: 33 )

سنة النبي عليه الصلاة والسلام منهج كامل للحياة:

 ما دام منهجك قائماً في حياتهم، في علاقاتهم، في كسب أموالهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في كل نشاطاتهم، هم في مأمن من عذاب الله، وهم آمنون أيضاً إذَا استغفروا.

 

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

 

( سورة الأنفال )

 فنحن حينما نقرأ سيرة النبي نقرأ الدروس العبر البليغة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، لكن لا بد من أن أنوه أن معرفة سنة النبي القولية والعملية فرض عين على كل مسلم، طالبني بالدليل: لا يجرؤ إنسان على وجه الأرض أن يقول في الدين برأيه، الدين توقيفي، عندنا قاعدة أصولية، " ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض "، أرأيت إلى الوضوء ؟ إنه فرض، إن الصلاة وهي فرض لا تتم إلا به، فإذا قال الله تعالى:

 

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

 

( سورة الحشر )

 كيف نأخذ ما آتانا، وننتهي عما عنه نهانا إن لم نعرف ما الذي آتانا، وما الذي عنه نهانا،: إذاً معرفة سنة النبي القولية فرض عين، وإذا قال الله عز وجل:

 

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)﴾

 

( سورة الأحزاب )

 كيف أتخذه أسوة حسنة في بيته، مع زوجته، مع أولاده، مع إخوانه، في السلم، في الحرب، في الفقر، في الغنى، في النصر، في القهر، وقف الموقف الكامل حينما انتصر دخل مكة مطأطأ الرأس.

 

(( ما ترون إني فاعل فيكم ؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم ))

 

[ رواه ابن أبي شيبة عن صفية بنت شيبة ]

 وقف الموقف الرائع، في القهر في الطائف، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، وقف موقفاً رائعاً في الفقر، أعندكم شيء ؟ قالوا: لا، قال: فإني صائم، وقف الموقف الرائع حينما أصبح غنياً، لمن هذا الوادي ؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي ؟ قال: لا والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، وقف الموقف الرائع في موت ابنه:

 

(( إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))

 

[ رواه البخاري عن أنس رضي اتلله عنه ]

 وقف الموقف الكامل من تطليق ابنتيه، من انتقاله من بلد إلى بلد، الهجرة اقتلاع للجذور.
 مرة جاء رجل من مكة وصف بطاح مكة في الربيع، فقال: يا قصي، لا تشوقنا ، انتقل من بلده مسقط رأسه، فالنبي لولا أنه قدوة لنا في كل شؤون الحياة لما أُمرنا أن نجعله قدوة لنا:

 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾

 أنا لي شخصية أكونها، ولي شخصية أتمنى أن أكونها، ولي شخصية أكره، أن أكونها، وما لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام الشخصية التي أتمنى أن أكون على خطاها فلست متبعا له.
الأستاذ علاء:

 

 

موقف النبي من محاولة اليهود زعزعة الأستقرار في المدينة:

 من هنا من الأسوة الحسنة، ومن تعاليم القرآن الكريم، ومما أرساه النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن هذه القصة التي نختم بها جاءت في آخر ندوتنا، ولم يبقَ في ندوتنا إلا دقائق معدودات، عندما استتب أمر المؤمنين في مكة، وكلهم توجه إلى الله، صارت الوحدة والتكافل والمساواة بين أوس وخزرج، وبين المسلمين، وغير المسلمين، والمهاجرين والأنصار، وحالة الإيثار، وحالة العطاء، فأصبحت المدينة المنورة بأطيافها لا تعرف هذا من هذا، لأنهم لوحة واحدة ملونة من أجمل التلاوين، هذا المشهد ساء شاس ابن قيس ذلك اليهودي الذي عُمر، ويقال: سقط حاجباه من كثرة ما عُمر من الزمن، فبعث بشاب ينشد بين الأوس والخزرج قصائد شعرية تذكرهم بيوم بُعاث لاقتتالهم بثأرهم، فقامت السيوف إلى بعضها فعلم النبي، فخرج النبي في موقف رائع حاسم، كيف نقرأ موقف النبي وقوله ؟ وكيف نجره على ما نعيشه في دنيا العروبة والإسلام، وما تعيشه أبناء الأمة الواحدة في العراق وفي أماكن عدة ؟.
الدكتور راتب:
 أتختلفون وأنا بين أظهركم ؟! أجاهلية أخرى ؟! يكفينا أن الله عز وجل قال:

 

 

﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾

 

( سورة آل عمران الآية: 101 )

 سما الله خالق السماوات والأرض الاختلاف بين المؤمنين كفراً.

 

﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾

 

( سورة آل عمران الآية: 101 )

 أنا قلت البارحة، أو قبل يومين: إن أعدائنا يتعاونون، وبينهم من القواسم المشتركة 10 %، ويبحثون كل يوم عن عوامل تقربهم من بعضهم، والذين حولنا يتقاتلون، وبينهم من القواسم المشتركة 90%، ويبحثون كل يوم عن عوامل تفرقهم، هذه وصمة عار بحق الأمة واحدة، وقد سمى الله هذا الاقتتال كفراً:

 

﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾

 

الأختلاف بين المذموم والتنوع:

 لذلك هناك اختلاف أساسه نقص المعلومات، صاحبه معذور، وهناك اختلاف أساسه الحسد والبغي والهوى.

 

﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾

 

( سورة آل عمران الآية: 19 )

 وهناك اختلاف التنافس وهذا محمود، اختلاف الجهل أصحابه معذورون، اختلاف الهوى والحسد والغيرة هذا اختلاف قذر، وفي اختلاف المنافسة صاحبه محمود.
الأستاذ علاء:
 قال: أجاهلية، وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة، فنرى لواء الجاهلية يعاد، ويحرض بين أبناء الأمة الواحدة، يحرك من آلاف الأميال لكي نقتتل، شاس يعود من جديد شاس بن قيس يعود من جديد، ويلوح بالتفرقة، ونقتتل، وأنهار من الدماء، وإمكانيات تهدر ، وتمزيق الممزق، وتجزيء المجزأ، لتضعف الأمة، وتسلب هويتها وتاريخها.
الدكتور راتب:

 

شأن الطغاة: التفريق والقتل والتدمير والفتنة والطائفية:

 هذا أستاذ علاء جزاك الله خيراً، هذا شأن الطغاة عبر التاريخ في البشرية، الطاغية الأول فرعون وصفه الله فقال:

 

 

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾

 

( سورة القصص الآية: 4 )

 وطاغية العصر قال وزير خارجيته: أنا لا يعجبني أن يكون العالم 200 دولة: أتمناها 5000 دولة، الورقة الرابحة الوحيدة بأيدي الطغاة هي الفتن الطائفية، ونحن بعودتنا إلى الله واستقامتنا على أمره، ووعينا، وإخلاصنا، وحل مشكلاتنا نستطيع أن نسقط هذه الورقة الرابحة من يده، وأن نبني شرق أوسط جديد، ليؤكد وحدتنا تماسكنا ومبادئنا وقيمنا .
الأستاذ علاء:
 ما استقيناه من مفهوم الهجرة، وما أسس له النبي عليه الصلاة والسلام، هل من كلمة أخرى أستاذ أحمد ؟.
الأستاذ أحمد:
ملخص الندوة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
 لا بد من أن أقول في نهاية هذه الحلقة كما قال الأستاذ الدكتور:

 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

 فلنتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله، وأفعاله لنبني وطناً جديداً، وأمة جديدة، ونعود إلى جذورنا.
الأستاذ علاء:

 

 

﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾

 

( سورة الفتح الآية: 29 )

الدكتور راتب:
مكانة المرأة في المجتمع المسلم:
 لي كلمة أخيرة: حينما فتح النبي الكريم مكة المكرمة ركز لواء النصر أمام قبرها، ليعلم العالم أجمع أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر، هذه مكانة المرأة في الإسلام، شريكة الرجل، السيدة خديجة ما بدله الله خير منها، صدقتني حين كذبني الناس، وآوتني حينما شردني الناس، وأعطتني مالها حينما منعي الناس.
الأستاذ علاء:
 فكيف لا يحفظ لها هذا، وهو سيد الأوفياء ؟ صلى الله عليه وسلم.

 

خاتمة وتوديع:

كنا نود أن نستمر في هذا الروض، وأن ننهل من هذا المعين الشيء الكثير لكن الوقت أدركنا.
 باسمكم جميعاً أشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كلية الشريعة وأصول الدين بدمشق، والأستاذ أحمد المفتي الباحث في التاريخ الإسلامي، وأستاذ الحضارات في جامعة دمشق، شكراً لكما، وكل عام وأنتم بألف خير، وشعبنا بخير، ووطنا وقائدنا بألف خير.
أعاد الله هذه المناسبة بالخير واليمن والبركة ووحدة الصف، ووحدة الكلمة في دنيا العروبة والإسلام، شكراً لكم وإلى اللقاء.

 

 

 

 

 

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور