وضع داكن
28-03-2024
Logo
طريق الهدى - الحلقة : 23 - أسباب ضعف الإيمان1 - الابتعاد عن الأجواء الإيمانية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع:
 الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يتجدد اللقاء بحمد الله تعالى ضمن برنامجنا طريق الهدى، يسرني أن أجدد اللقاء كذلك، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أهلاً ومرحباً بكم معنا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ بعد أن استعرضنا ما أمكننا استعراضه من مظاهر ضعف الإيمان، وقلنا: إنها كثيرة، وقد تكون لا تحصى، الآن ننتقل للحديث عن أسباب ضعف الإيمان كي نحاول أن نتجنبها، فهل هي كثيرة ولا تحصى ؟
 هي كثيرة، ولكن يمكن أن تعود إلى زمر كبيرة، ولعل من أبرز أسباب ضعف الإيمان أن يبتعد المسلم عن الأجواء الإيمانية، نحن في آخر الزمان كما أنبأ النبي عليه الصلاة والسلام ففي الحديث الصحيح عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))

[ مسلم، الترمذي، أحمد ]

 وفي بعض الآثار النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى أحبابه، فقال أصحابه: أو لسنا أحبابك ؟ قال: لا، أنتم أصحابي، أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان، القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر، أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم ؟ قال: منكم، لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون.
 طبيعة الحياة المعاصرة أن كل شيء في الحياة يدعو إلى المعصية، النساء في الطريق كاسيات عاريات، مائلات مميلات، هناك رغبة شديدة في كسب المال دون النظر إلى طريقة كسبه، ولعل من أبرز مظاهر الفساد في المجتمع حرية في كسب الأموال من دون ضابط، وحرية في ممارسة الشهوات من دون ضابط.
 لو حللت مجتمعاً فاسداً في أي مكان في العالم، وأردت أن ترجع فساده إلى أسباب كبرى فلا تجد إلا هذين السببين، حرية مطلقة من دون ضوابط، من دون مكابح، من دون منهج، من دون قواعد، من دون منظومة قيم في كسب الأموال، وحرية مثلها في ممارسة الشهوات.
 لكن الله عز وجل حينما أودع فينا حب المال رسم لنا قناة نظيفةً لكسبه المشروع، وحينما أودع فينا حب النساء أيضاً رسم لنا قناةً نظيفةً لممارسة هذه الشهوة، وأكبر دليل على ذلك أن الله عز وجل يقول:

 

﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾

 

[ سورة القصص: الآية 50]

 المعنى المخالف الذي يؤكده علماء الأصول أنه من اتبع هواه وفق هدى الله فلا شيء عليه، الإسلام هو الحياة، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، ولعل هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى:

 

﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾

 

[ سورة هود: الآية 86]

 كأن الشهوة فرجار يمكن أن يفتح مئةً وثمانين درجة، لكن منهج الله عز وجل سمح لك بثمانين درجة فقط، في أي موضوع هناك شيء مشروع، هناك شيء حلال، هناك شيء يرضي الله، هناك شيء مباح تفعله، ولا شيء عليك، تفعله ولا تشعر أنك ابتعدت عن الله، تفعله وبإمكانك أن تصلي صلاةً متقنةً بعده، لأنه ضمن المنهج.
 نحن بنظرة واقعية شئنا أم أبينا يتضح لنا أن هناك فساداً عريضاً في المجتمعات المعاصرة، ليس في بلادنا، بل في كل البلاد، ذلك أن الأرض كلها أصبحت كما كانوا يقولون: قريةً صغيرةً، ثم قالوا: بيتاً، وأنا أقول الآن: غرفةً، فكل مظاهر الفساد في العالم عممت في كل بقاع العالم، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذه الحقائق المخيفة في آخر الزمان، فذكر أن المسلم عليه أن يفر بدينه إلى شاهق، أن يبتعد عن أماكن الفساد، أن يأوي إلى بيت الله، أن يأوي إلى بيته، أن يكون نقياً طاهراً بعيداً عن دنس الشهوات، ومن أجمل الأدعية التي أدعو بها أحياناً: اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، وأخرجنا من وحول الشهوات إلى جنات القربات.
 فلعل من أكبر أسباب ضعف الإيمان أن المسلم يعيش في أجواء غير إيمانية تدعوه إلى المعصية، تغريه بالمعصية، تسهل له المعصية، تحثه على المعصية، ولعل النبي عليه الصلاة والسلام أصاب كبد الحقيقة حينما قال:

(( كيف بكم إن لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر ! قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه ؟ قال: كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً ؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه ؟ قال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ))

 هذا من أشد ما يعانيه المسلم، فالمسلم حينما يعيش في أجواء لا يرضي الله، النساء كاسيات عاريات، المال الحرام سهل جداً كسبه، المال الحلال يصعب كسبه في أجواء فاسدة، فكلما اندمج المسلم في هذه الأجواء الفاسدة انعكس على إيمانه، وضعف إيمانه، بل انطفأت شعلة الإيمان في قلبه، فلا بد للمؤمن أن يكون حكيم نفسه، لابد من أن يشحن نفسه من حين إلى آخر، لا تكفي خطبة الجمعة، لابد من أن يختار مسجداً ينتفع من خطيبه، ولابد من لقاء مع أخ مؤمن، لابد من مذاكرة كتابٍ علميٍ، لابد من تلاوة قرآن، لابد من تفهم حديث، لابد من أن يقرأ عن تاريخ الأبطال المسلمين، عن بطولاتهم، عن ورعهم، عن رحمتهم، عن شجاعتهم، أما أن يعيش بمثل ساقطة فهذه مشكلة كبيرة جداً.
 في حياة المسلم دائماً شخصية يتمنى أن يكونها، وشخصية يكره أن يكونها، وشخصية يكونها، قل لي من هي الشخصية التي تتمنى أن تكونها أقل لك من أنت، فإذا كانوا كما يسمونهم نجوم المجتمع فليسوا على هدى، يقولون: المثل الأعلى لفلان ما، إذا كان نجوم المجتمع أناساً غير منضبطين بالشرع، متفلتين، بل لعل من وجوه بطولتهم أنهم متفلتون، بل لعل مظهرهم يغري، لكن حديثهم وقيمهم ومثلهم لا ترضي الله عز وجل، إذا كان هؤلاء هم القدوة فالمشكلة كبيرة جداً.
 فالمسلم عندما يبتعد عن الأجواء الإيمانية، الأجواء الإيمانية يجدها في المسجد، الأجواء الإيمانية يجدها في إخوانه المؤمنين، الأجواء الإيمانية يجدها عند الصالحين، عند الرجال الذين تقربوا إلى الله، الذين عرفوا الله، الذين انضبطوا بمنهج الله، الذين اصطبغت نفوسهم بالكمال البشري، هؤلاء إن عاشرتهم اقتبست من فكرهم النير، ومن أخلاقهم العالية، ومن قلبهم المفعم بالرحمة والإحسان، والتواضع والعطف، وما إلى ذلك، فأي ابتعاد عن الأجواء الإيمانية يسبب ضعف الإيمان.
 شيء في الإنسان دقيق جداً، أنا لا أقول لك: إن كل الناس هكذا، ولكن أقول: ألا ترون معي أن هناك استثناءات كثيرة ؟
 لكن الخط العريض في المجتمع هكذا، الاستثناءات كثيرة جداً، لأنه يوجد في كل عصر أناس عرفوا ربهم، وابتعدوا عن هذه الأجواء، وزهدوا في هذه الدنيا التي تبعد عن الله عز وجل، ولكن هؤلاء قلة، في آخر المؤمنون الصادقون قلة، والدليل قوله تعالى:

 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾

 

[ سورة الأنعام: الآية 116]

 الأكثرية مبتعدون عن الله فالبطولة أن تكون مع الأقلية الملتزمة، مع الأقلية المتفهمة، مع الأقلية العارفة ربها، مع الأقلية الطائعة له مع الأقلية المتألقة حينما تعتصم بربها.
 النقطة الدقيقة هي أن الإنسان ابن بيئته، الخط العريض في المجتمع، الإنسان تحركه معطيات البيئة، لكن قلة من الناس بدل أن يتأثروا بالبيئة يؤثرون بها.
 حدثنا أستاذ في الجامعة مرةً، وهو أستاذ علم النفس، قال: إذا صح أنّ الإنسان هو ابن بيئته، وابن محيطه، وابن وراثته، وابن أبويه، وابن ثقافته، وابن... وعدد أكثر المعطيات التي تؤثر في شخصيته، فإنه يصح أيضاً أنه ابن نفسه، المتفوقون لا يتأثرون، بل يؤثرون، وعظماء العالم ماذا فعلوا ؟ غيروا ملامح البيئة، الأنبياء ماذا فعلوا ؟ في ربع قرن تغير وجه الأرض بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.
 مثلا: امرأة مات أخوها في الجاهلية، الخنساء، ملأت الدنيا بكاءً، وكل شعرها شعر رثاء لأخيها صخر، بعد أن أسلمت، وعرفت ربها مات أربعة من أولادها، فما زادت على أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو أن ألتقي بهم في مستقر رحمته.
 الإسلام يبدل الإنسان تبديلاً جوهرياً، لأن لولا هذا التبديل لما كان هناك من قيمة لهذا الدين إطلاقاً، وأنا أقسم بالله لو أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فهموا الدين كما يفهمه بعض المسلمين اليوم والله ما خرج الدين من مكة، ولم ينتشر في الآفاق.
 الذي أتمناه على الإخوة المستمعين أن هذا المسلم مادام مع كل شيء متفلت، مع كل شيء فيه معصية، مع كل بعد عن الله، يعيش هذه الأجواء، ويندمج معها، وينسجم معها، ويحبها، ويؤثرها على طاعة الله، نقول له: الطريق إلى الله غير سالك ما دمت هكذا، لن تكون الطريق سالكةً إلا إذا ابتعدت عن هذه الأجواء الموبوءة، والتحقت بالمؤمنين الأطهار.
 هنا نتحدث عن علاج هذا السبب من أسباب ضعف الإيمان، سنتطرق لهذا بالتفصيل بإذن الله، إذاً من أبرز أسباب ضعف الإيمان الابتعاد عن الأجواء الإيمانية، فما قولك بالذي هاجر إلى ديار غير ديار الإسلام، وهناك تمسك أكثر فأكثر بالإسلام ؟
 هذه حالات لا أقول: إنها حالات طبيعية حالات نادرة، إلا أن هذه الحالات سببها كما يلي، وأنا أفسر هذا الأمر كابن عاق لأبيه، هو يسيء لأبيه، لكنه سمع من بعض خصوم والده كلاماً عن أبيه، لن يحتمله، أصبح عنده ردة فعل عنيفة جداً، فكان هذا الذي استفزه، وتحدى أباه سبباً في عودته إلى طاعة أبيه، قد تجد افتراءات على الإسلام لا تحتمل، وقد تجد تفلتاً لا يحتمل كل أنواع الفساد، قد يجدها الإنسان بشكل لا يحتمل في أماكن بعيدة عن بلاد المسلمين، عندئذٍ يشعر بقيمة دينه، وبضدها تتميز الأشياء، الإنسان أحياناً لا يعرف قيمة بلده، ولا قيمة دينه، ولا قيمة أمته، ولا قيمة العلاقات الاجتماعية التي تسود مجتمعه إلا إذا رأى مجتمعاً آخر.
 مثلاً: نحن في بلادنا في الشرق الأب مقدس، والابن شيء ثمين جداً، فأكثر آباء المسلمين يحرصون على أبنائهم، وعلى تزويجهم، وعلى تأمين أعمال لهم، بينما تجد الأب هناك أنجب هذا الولد، وتركه، اذهب اشتغل، اعمل، كما تريد ذكراً كان أم أنثى، فهذا الترابط الأسري شيء ثمين جداً نراه في بلادنا، وهو بقية من دين، هذا الذي بقي من ديننا، بقي من رحمتنا، بقي من تعاطفنا، بقي من تواصلنا، شيء متميز جداً أمام المجتمعات التي ضاعت فيها كل القيم، لذلك هؤلاء الذين يأتون إلى بلادنا من بلاد بعيدة يشعرون أن بيننا روابط قوية جداً.
 قال أحدهم: عندكم شيئان أساسيان، الحب فيما بينكم والروحانية في دينكم، وهذه نفتقدها نحن هناك، إن الذي أريد أن أؤكده أن البيئة لها تأثير كبير في الخط العريض من المجتمع، والاستثناء الذي بينته قبل قليل من أن بعض الأشخاص العظام يؤثرون ولا يتأثرون هذا استثناء، لكن لا ينسحب على كل أعداد المجتمع، لذلك لابد أن تحيط نفسك ببيئة إسلامية، ببيئة منضبطة، ببيئة تخاف الله، ببيئة تحب الله ورسوله، ببيئة الخلق شيء مقدس فيها.
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ))

[الترمذي]

 لذلك قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾

 

[ سورة الممتحنة: الآية 13]

 يوجد معنا نصوص كثيرة جداً قرآنية ونبوية تؤكد أنه لابد من أن يكون ولاؤك للمؤمنين، وأن تكون معهم، وأن تحبهم، وأن تعطف عليهم، وأن تكون في خدمتهم حتى تقتبس من إيمانهم، ومن ورعهم، ومن رحمتهم، ومن خلقهم الفاضل، هذه النقطة الأولى.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ، هناك منحىً آخر في هذا الموضوع، إذا كنت من المؤمنين الملتزمين، وترى في نفسك قوة إيمان، وأحدهم من أصدقائك أو معارفك ضعيف الإيمان، ينغمس بعض الشيء في المعاصي، وهكذا، هل تنأى جانباً عنه، أم تظل على علاقة به، على رجاء أن تصلح حاله ؟
 الأستاذ:
 والله المؤمن القوي يلتقي مع جميع الناس، مع كل الأصدقاء، لأنه واثق من قوة إيمانه، واثق من بيانه المؤمن معه حجة، ألم يقل الله تعالى:

 

﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾

 

[ سورة الأنعام: الآية 83]

 فالمؤمن معه حجة، أساساً يقال: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، لو اتخذه لعلمه، المؤمن معه حجة، معه بيان، معه منطق، أو معه تصور دقيق للكون وللحياة وللإنسان، حجم الإنسان، مكانة الإنسان، هدف الإنسان، رسالة الإنسان، لو أن مؤمناً اهتدى إلى الله عز وجل هداية كبيرة، وله أصدقاء في الجاهلية، أنا أرى أن من واجبه أن يكون معهم كي يأخذ بيدهم، إلا أنني أحذر هذا الأخ الكريم أنه إذا التقى بهم، وشدوه إلى مستنقعهم، أو شدوه إلى بيئتهم التي لا ترضي الله ينبغي أن يبتعد عنهم، أما إذا أمكنه أن يشدهم إلى ما هو عليه ينبغي أن يكون معهم لعبة شد الحبل هي الضابط في هذا الموضوع.
 وقلت: مع الرجاء بأن يصلح حالهم، هو واثق من إيمانه، وقد تكون هناك تجارب عديدة، منها تجربة مررت بها أنا شخصياً، أحدهم كان صديقاً لي، وأبقيت على صداقته، شيئاً فشيئاً تغير حاله من دون حجة وإقناع، وهكذا، إما بالمعاملة، ورؤى الممارسة ورؤى القيم التي يتمسك بها المؤمن.
 أنا سمعت كلمة من عالم أعجبتني جداً، يقول هذا العالم: البطولة لا أن تأتي بإنسان من جامع إلى جامع، بل من ملهى إلى جامع، بطولتك ليس أن تأتي به من جامع، أن تزهده بشيخه، وأن تضمه إلى شيخك، هذه ليست بطولة، البطولة أن تنقله من الملهى إلى المسجد، من الضياع إلى اللقاء مع الله، من الشرود إلى الاتصال بالله، من الشقاء إلى السعادة، من الجهل إلى العلم، من الغفلة إلى اليقظة هذه هي البطولة.
 وبالتالي على ضعيف الإيمان أن يقوي إيمانه بمعاشرة المؤمنين، والإبقاء على علاقته معهم، ومحاولة أخذ الأسباب لتقوية هذا الإيمان.
 هل تصدق أن هناك آيةً دقيقةً جداً في القرآن الكريم تؤكد هذا الموضوع.
 قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 102]

 أمر إلهي، أي: أطيعوا الله، قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

 

[ سورة التوبة: الآية 119]

 وكأن الآية تقول: إنكم لن تستطيعوا أن تتقوني يا عبادي إلا إذا كنتم مع الصادقين، كنتم في أجواء إيمانية، لذلك:

 

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 28 ]

 إذاً:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ ﴾

 كن معهم، أجواؤهم إيمانية.

 

﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

 يعني الملاهي وأماكن اللهو، واللقاءات المختلطة فرضاً.

 

 

﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾

 بالمناسبة هناك لفتة لغوية رائعة جداً، كلمة أغفلنا لا تعني أن الله جعله غافلاً.
 المذيع:
 هنا أريد الاستفسار.
 الأستاذ:
 لأن العرب تقول في لغتها: عاشرت هؤلاء فما أجبنتهم، أي ما وجدتهم جبناء، وعاشرتهم فما أبخلتهم، أي ما وجدتهم بخلاء، كلمة أغفلنا لا تعني أنه خلق الغفلة فيهم، تعني أنه وجدهم غافلين.

 

 

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 28 ]

 وآية أخرى:

 

﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ﴾

 

[ سورة لقمان: الآية 15 ]

 كن معه، لذلك قال بعض علماء القلوب: لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ويدلك على الله مقاله، الصاحب مهم جداً في أمور الدنيا، لا بأس أن تصاحب من هو دونك في الدنيا، لئلا تحتقر نعمة الله عليك، قد تكون أنت في صحة تامة، ونعمة الصحة لا تعدلها نعمة، إلا الهدى، تأتي هذه النعمة قبل الصحة، فإن صاحبت من هو أغنى منك تزدري نعمة الله عليك، لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثلما ترى له أما في أمور الدين، ينبغي أن تصاحب من هو فوقك بكثير، ليكون قدوةً لك، ولتقتبس من علمه وخلقه، ونمط سلوكه في الحياة.
 فلا بد أن يحيط المسلم نفسه بأجواء إيمانية، إما في المساجد، إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني وحق على المزور أن يكرم الزائر.
 قد لا تأكل طعاماً في المسجد، لكن قد تلهم الحكمة، والحكمة أثمن شيء، قد تلهم شعوراً بالأمن، قال تعالى:

 

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

 

[ سورة الأنعام: الآية 81-82]

 والإنسان حكيم نفسه، أنا سهرت مع هؤلاء، فابتعدت عن الله، سهرت مع هؤلاء، فتاقت نفسي للبقاء معهم، أو ترقرقت دموعي، أو لان قلبي، أو شعرت أنني في جنة، معنى هذا أن المكان الذي ارتحت إليه، وانسجمت معه، ورأيت أنه يقربك إلى الله الزم هؤلاء، لابد من جو إيماني، لابد من بيئة إيمانية، حتى في قضاء أوقات الفراغ، لابد من أصحاب مؤمنين، أطهار، حتى في العلاقات الاجتماعية، حتى في مناسبات الفرح، لابد من الصحبة الصالحة، هذه قاعدة أساسية.
 محور هذا اللقاء كله قوله تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

 

[ سورة التوبة: الآية 119]

 أي: إن لم تكونوا معهم فلن تستطيعوا، لأن الصاحب ساحب.
 المذيع:
 نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، نتابع غداً بإذن الله تعالى الحديث عن أسباب ضعف الإيمان، أشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور