وضع داكن
29-03-2024
Logo
الموضوعات الأدبية - درس تلفزيوني : 16 - يا منكراً شكواي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

إخواننا الأعزاء:
 أسعدتم مساءً وأهلاً بكم ومرحباً في هذا اللقاء الأول لهذا العالَم الدراسي، في الأدب القومي موضوعات كثيرة بعضها أخذ طريقه إلى كتب التاريخ وبعدها ما يزال ساخناً لا تزيده الأيام إلا تأججاً، ويشاهد الإنسان العربي كل يوم تطورات جديدة، وأحداث مؤثرة تزيده تعقيداً وتعميقاً، ومن هذه الموضوعات مأساة فلسطين ؛ فمأساة فلسطين تعد أكبر مأساة إنسانية ألمت بالأمة بالعربية في تاريخها الحديث، فقد هزت أهوالها ضمائر الأدباء وأنطقتهم بشعر غزير عبّر عن قلوبهم المتفطرة وعن تطلعاتهم إلى التحرير والعودة.
 وقد نتج عن نكبة فلسطين مآسٍ كثيرة ؛ منها مأساة اللاجئين والنازحين، ومأساة الوافدين، ونرجو أن يكونوا جميعاً عائدين، فقد سحقت هذه المأساة الضمير العربي، واندفع الأدباء يعبّرون عن هذه المأساة بشعر صادق العاطفة، مُحكم البنيان، ومن هؤلاء الأدباء الشاعر زكي قنصل الذي ولد في يبرود، إحدى المدن الصغيرة في سورية، عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر، وتلقى دراسته في مدارسها ثم هاجر إلى الأرجنتين عام ألف وتسعمائة وتسعة وعشرين، وعمل في التجارة وكان ميالاً إلى الدرس والمطالعة، فدرس العربية بنفسه، هكذا المتفوقون، حتى امتلك ناصيتها، وأصبح قادراً على الكتابة ونظم الشعر له مجموعات عدة من أشهرها: أوتار القلب، وشظايا، أرأيتم يا طلابنا الأعزاء كيف أن التقديم للنص ينبغي أن يشمل الحديث عن موضوعه العام، وعن مناسبته، وصاحبه، والآن إلى النص موضوع الدرس.
يقول الشاعر زكي قنصل:

يا منكراً شكوايَ عـذرك بيــّنُ وقع الأنين على السليم ثقيل
أتسومني مرح الطليق وموطنـي بين السلاسل والقيود ذليـل
لهفي على القدس انطوت أعلامه وكبت بأشبال النضال خيـول
الجود إلا في الكرامـة زينــة والصفح إلا في الجهاد نبيـل
مليونُ عانٍ في العراء تشـردوا لـم يختلج لهوانهـم مسؤول
نصبوا على درب الرياح خيامهم يذكي جراحهـم غـد مجهول
يا شائدين على الجريمة دولـة من بُطْلِ يومٌ ضاحـك ويزول
لا ترقصوا للنصر فهـو بدايـة إن الختام نـدامـة وعويـل

يا طلابنا الأعزاء:
 خطتنا في دراسة الأبيات شرحها أولاً ثم الحديث عن أفكارها الأساسية وعن عاطفتها وعن خيالها وعن أسلوبها، فإلى شرح الأبيات بيتاً بيتاً.
البيت الأول:

يا منكراً شكواي عذرك بيّن  وقع الأنين على السليم ثقيل

البيّن: الواضح، العذر البين: العذر الواضح، والأنين: الصوت من ألم أو من مرض.
 شرح البيت: كأن الشاعر العربي قد أنكر عليه بعض الغرباء في المهجر أن يجزع للنكبة، يا منكراً شكواي، فرد عليه قائلاً: لا عليك عذرك بيّن، إذا أنت أنكرت شكواي وحزني فأنت خلّيُ البال مما أعاني، أنت خلّيُ البال، أنت السليم مما أعاني وأنا صاحب الأنين، ووقع الأنين على السليم ثقيل، ولو كنت شجياً مثلي لما ثقل عليك أنيني، ولا ضننت علي بالعزاء، وقديماً قيل: ويل الشجي من الخلي.
البيت الثاني:

أتسومني مرح الطليق وموطني  بين السلاسل والقيود ذليل

 كلمة أتسومني معناها في هذا البيت أي المعنى السياقي، أي أتطلب مني ؟ والطليق هو الإنسان ضاحك الوجه، طليق الوجه، وقد جاء في الحديث الشريف:

 

(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ))

 

[ مسلم، الترمذي، ابن ماجة، الدارمي ]

أي بوجه باش.
 أما شرح البيت: كيف تريدني أن أفرح فرح السعادة، وأن أمرح مرح الغبطة والحبور وقد نزلت بوطني النكبة، فأذلته وقيدته بأغلال الظلم والعدوان.
وأما البيت الثالث:

لهفي على القدس انطوت أعلامه وكبت بأشبال النضال خيول

 اللهف يا إخوتنا الطلاب، اللهف: الحزن والتحسر، ولهفي على القدس ؛ معنى التركيب: ما أشد حزني عليها أو على ضياعها، وكبت الخيول بمعنى تعسرت ووقعت. وقد قيل لكل جواد كبوة، ولكل حسام نبوة، ولكل عالم هفوة.
أما شرح البيت: وتقفز صورة النكبة من براكين الجراح، وهي تختنق بدخان الحسرة، وتتقد بسعير اللهفة، فإذا القدس قد انطوت فيها أعلام المجد والعز والفتيان الأبطال، قد كبت بهم خيول الجهاد.
وأما البيت الرابع:

 

الجود إلا في الكرامة زينة والصفح إلا في الجهاد نبيل

هذا البيت كلماته واضحة، إذاً نبدأ مباشرة بشرحه:
 وهنا ينطق الشاعر بحكمة بليغة فالجود بالمال والنفس خصلة سامية وسجية كريمة، الجود زينة، إلا أن يكون بالكرامة والعزة فعندها يكون مذلة ودناءة، والصفح نبيل وإنساني وهو من شيم الكرام، لكن من امتشق الحسام فلا يعاتب إلا بالحسام، ورحم الله أجدادنا حينما قالوا:

 

 

إذا الملك الجبار صعّر خده  مشينا إليه بالسيوف نعاتب

البيت الخامس:

 

 

مليون عانٍ في العراء تشردوا  لم يختلج لهوانهم مسؤول

 العاني: المتعب من العناء، لم يختلج: أي لم يضطرب، هؤلاء المشردون مليون عانٍ، الذين عصفت بهم النكبة وألقتهم خارج ديارهم وأوطانهم، هاموا على وجوههم وشردوا في الآفاق، وهؤلاء الذين هم مسؤولون عن النكبة لم يضطرب لهم ضمير، ولم يثر لهم وجدان، وفي هذا المعنى يحضرني قول أديب إسحاق، يتحدث عن الدول المستعمرة فيقول: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر.
البيت السادس:

 

 

نصبوا على درب الرياح خيامهم  يزكي جراحهم غد مجهول

 درب الرياح: كناية عن العراء والفلاة، ويذكي هنا في هذا المعنى: أي يزيدها ألماً، فلان ذكي النفس: أي طاهر النفس، هذه صفة نفسية وفلان ذكي العقل: هذه صفة عقلية، أما كلمة يذكي هنا، أي يزيدها ألماً. أذكى النار: أشعلها، وهؤلاء المشردون أقاموا خيامهم في العراء بعد أن فقدوا ديارهم وأوطانهم، هذه الخيام اضطربت فيها الرياح، وكادت أن تقتلعها، ولاشيء يعمق جراحاتهم كالمستقبل المجهول الذي ينتظرهم.
وأما البيت السابع:

 

 

يا شائدين على الرذيلة دولة للبطل يوم ضاحك ويزول

 الشاعر هنا لم يلبث أن نفض عن كاهله انكسار الحزن، تغيرت اللهجة، الشاعر لم يلبث أن نفض عن كاهله انكسار الحزن ومسح عن عيونه ضباب الدمع، وراح يتطلع إلى يوم الثأر، فخاطب المغتصبين، بصوت يشيع فيه العزم والأمل، بألا يغتروا بهذا النصر المؤقت، فللباطل ساعة والحق قائم إلى قيام الساعة، في هذا البيت تحدٍ للمغتصبين بأن النهاية ليست في صالحهم،
وأما البيت الثامن والأخير فقول الشاعر:

 

 

لا ترقصوا للنصر فهو بداية  إن الختام ندامة وعويل

 شرح البيت: ولئن كانت البداية مشرقة لا ترقصوا للنصر فهو بداية، وإن كانت البداية مشرقة فإن النهاية مفجعة، فالأمور بخواتيمها، ولا تستقر إلا على الوجه الصحيح، فللباطل جولة ثم يضمحل، وكم من مغتصب رفعت له علامات فلما علا مات، قصدت هذه العبارة بالذات لأنها شاهد دقيق على الجناس التام.
 ننتقل يا طلابنا الأحبة إلى الدراسة الفنية، ونعني بالدراسة الفنية، دراسة الأفكار والمعاني والعاطفة والمشاعر، والخيال والصور، والصياغة اللفظية، فالأفكار والمعاني، موضوع النص قومي، يغلب عليه وصف المشردين، ووصف هذه النكبة، التي كان لها أثر كبير في نفس الشاعر.
وإذا شئنا أن نحدد أفكار الأبيات الأساسية فقد تحدث الشاعر في البيت الأول عن أنينه، وعن ضيقه، وعن كآبته، وتحدث في البيت الثاني أيضاً عن الكآبة التي تحل به، بأن وطنه ذليل بين السلاسل والقيود، وفي البيت الثالث تحدث عن ضياع القدس، وفي البيت الرابع تحدث عن ما يقتضيه صون الكرامة والعزة، وفي البيت الخامس تحدث عن المشردين وعن المستقبل الذي ينتظرهم، وتحدث عن خيامهم التي نصبت في العراء، وفي البيت السابع، تحدى المغتصبين بأن النهاية ليست في صالحهم وأن النصر في النهاية لأصحاب الأرض فالختام ندامة وعويل على المغتصبين، ونصر مؤزر للمناضلين، لقد جاءت أفكار الشاعر كما رأيتموها متسلسلة وواقعية.
 فإذا أردنا أن ننتقل إلى العاطفة في النص فلا شك أن عاطفة الشاعر قومية، وأن هذه العاطفة عاطفة صادقة نابعة من وجدانه ومن تجربته، ولكنها تعبِّر بشكل أو بآخر عن انتمائه إلى أمته العربية وتعاطفه مع نكباتها، هذه العاطفة عاطفة قومية، ولكن إذا تحدثنا عن المشاعر الفرعية في النص فهذه هي حسب ترتيب الأبيات.
 في البيت الأول والثاني شاعت في النص مشاعر الشكوى والضيق، وفي البيت الثالث والرابع والخامس والسادس شاعت في النص عاطفة الحسرة والألم لضياع القدس ولحالة المشردين، وفي البيتين الأخيرين تحدٍ ووعيد وتفاؤل بالمستقبل.
وإذا أردنا أن ننتقل إلى خيال الشاعر وإلى الصور الأدبية التي في النص فإليكموها بشكل موجز، وسأختار من الصور أبرزها وأوضحها:
 إنكار الغرباء لشكوى الشاعر يشبه وقع الأنين على السليم، هنا شُبّه الوطن بإنسان وحُذف الإنسان وبقيت بعض لوازمه وهو ما يعتريه من أحوال، حُذف الإنسان وبقيت بعض لوازمه وهذه الاستعارة مكنية، ثم هناك في البيت: لهفي على القدس انطوت أعلامه، نصبوا على درب الرياح، درب الرياح كناية عن الفلاة والعراء، وانطوت أعلامه كناية عن ضياع السيادة العربية.
كبت بأشبال النضال خيول ؛ كناية عن عدم إحراز النصر.
 أرأيتم يا إخوتي الطلاب كيف أن التشبيه الضمني تشبيه لا يجري على قواعد التشبيه، وأن الاستعارة بشكل عام تشبيه بليغ حُذف أحد طرفيه، وأن الاستعارة التصريحية هي حذف المُشبه والتصريح بالمُشبه به، أما الاستعارة المكنية فهي حذف المُشبه به والإبقاء على بعض لوازمه، أما الكناية فهي التعبير عن المعنى ببعض لوازمه.
 إذا أردنا أن نُقيِّم هذه الصور، صور الشاعر كثيرة ومتنوعة، وكانت لا تخرج عن التشبيهات والاستعارات والكنايات، ولكن هذه الصور كان بعضها تقليدياً قديماً ؛ فكبت بأشبال النضال خيول، هذه صورة قديمة، ربما لم تصلُح للعصر الحديث، وهناك بعض الصور التي يمكن أن تكون جديدة كقول الشاعر: يذكي جراحهم غد مجهول، والخيام المنصوبة على درب الرياح.
على كل هناك صور تقليدية، وهناك صور فيها بعض الجِدَّة.
ننتقل إلى الفقرة الأخيرة من الدراسة الفنية وهي الصياغة اللفظية.
يا طلابنا الأحباب:
في الصياغة اللفظية غالباً نتحدث عن الكلمات، وعن التراكيب، وعن بعض المحسنات البديعية إن وجدت، وعن الموسيقا بشكل عام، نكتفي بهذا الدرس بالحديث عن الألفاظ والتراكيب.
 لا شك أن ألفاظ النص ألفاظ جزلة، ومعنى ألفاظ جزلة أي أنها ألفاظ فخمة مفخمة تملأ الفم والأذن وذات إيقاع شديد، فكلمة منكراً: يا منكراً شكواي، كلمة بيّن، كلمة القيود، كلمة النضال، كلمة البطل، وكلمة عويل، هذه كلمات جزلة، ربما كانت مناسبة لموضوع النص القومي الحماسي، وأما التراكيب فقد جاءت متينة، متماسكة، وموزعة بين الخبر والإنشاء، فيا منكراً شكواي هي جملة إنشائية، أتسومني مرح الطليق هذه جملة إنشائية، لهفي على القدس جملة خبرية، الجود إلا في الكرامة هي جملة خبرية، مليون عان في العراء تشردوا أيضاً جملة خبرية، نصبوا على درب الرياح خيامهم جملة خبرية، يا شائدين على الجريمة دولة جملة إنشائية، لا ترقصوا للنصر جملة إنشائية، لا أزيد معلوماتكم إذا قلت لكم إن الجملة الإنشائية هي الأمر والنهي والنداء والتمني والترجي والحض وما إلى ذلك من فنون القول التي لا يصح أن يقال لصاحبها كاذب أو صادق.
يا طلابنا الأحباب آخر فقرة في الدرس إعراب بعض الكلمات:
يا منكراً شكواي:
يا: اليا ياء النداء.
منكراً: منادى شبيه بالمضاف منصوب.
 شكواي: مضاف إليه مجرور بالكسرة المقدرة على الألف للتعذر، والياء ضمير متصل مبني على الفتح في محل جر بالإضافة.
 أتسومني: الهمزة حرف استفهام، تسوم: فعل مضارع مرفوع والنون للوقاية، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول.
مرح: مفعول به ثان.
 لا ترقصوا: لا ناهية، ترقص فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، والألف للتفريق.
للبطل يوم: مبتدأ مؤخر، والتقدير يوم كائن للبطل .
يا طلابنا الأحباب:
 أرجو أن تكونوا قد أفدتم من هذا الدرس، فاللغة العربية وهذه كلمة موجزة، اللغة العربية مجموعة قدرات ومهارات، وليست وعاء معلومات، لذلك لا يستطيع الطالب أن يتفوق في اللغة العربية إلا إذا مارسها، وإلا إذا طبقها، وإلا إذا شرح النصوص وأعرب الأبيات وكتب الموضوعات، أرجو لكم نجاحاً مضطرداً في شتى الميادين، وإلى لقاء آخر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

إخفاء الصور