وضع داكن
19-04-2024
Logo
الموضوعات الأدبية - درس تلفزيوني : 22 - النزعة القومية في الأدب العربي القديم .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

أسعد الله مساءكم.
 أرحب بكم أيها الأعزاء المشاهدين في لقاء اليوم، كما أرحب بالزميل الكريم الأستاذ راتب النابلسي الذي يشاركني في بحث اليوم.
موضوعنا لهذا اليوم هو البحث في ظهور النزعة القومية عند العرب.
 إذا بدأنا بالمقولة التي تقول: إن الأدب أبرز ضروب الفنون عند العرب، وقديماً قيل الشعر ديوانهم، ومعنى ذلك أنك إذا أردت أن تتعرف العرب وتعرف عاداتهم وتقاليدهم وتعرف أخلاقهم وقيمهم ومبادئهم وأفكارهم التي آمنوا بها واعتنقوها، إذا أردت أن تعرف هذا كله فعُد إلى ديوانهم، إلى أدبهم، فإنك سوف تجد في الأدب العربي صوراً متنوعة لكل هذه الجوانب، فأنت حين تقرأ مثلاً قول دريد بن الصمة:

وما أنا إلا من غزية إن غوت  غويت وإن ترشد غزية أرشد

 تفهم من هذا البيت شكل العلاقات التي سادت المجتمع العربي في فترة من العصور الماضية، من هذا المنطلق نبحث في أدبنا عن النزعة القومية عند العرب متى ظهرت ؟ وكيف ؟ أو بشكل آخر هل في أدبنا القديم نزعة قومية ؟ هذا ما أترك للزميل توضيحه.
السؤال هل في أدبنا القديم نزعة قومية ؟
 في نص هذا السؤال كلمتان تحتلان مركز الثقل، الكلمة الأولى هي الأدب، والكلمة الثانية هي القومية، فالقومية هي شعور الانتماء إلى الأمة العربية، بينما كلمة الأدب هو التعبير المثير عن حقائق الحياة، التعبير الفني الجمالي عن التجارب الإنسانية، فإذا جمعنا الكلمتين الأدب القومي أي هو التعبير الفني عن قضايا الأمة وعن مشكلاتها الكبرى، أما السؤال: هل في أدبنا القديم نزعة قومية ؟
 يمكن أن نقول نعم ولا، إذا فهمنا معنى كلمة النزعة القومية على أنها اتجاه قومي واضح المعالم فأغلب الظن إن أدبنا القديم يفتقر إلى هذا النوع من الأدب، أما إذا فهمنا النزعة على أنها ومضة تشرق حيناً وتختفي أحياناً ففي أدبنا القديم جذور واضحة للأدب القومي، وفيه نواة انطلق منها، هذا الأدب القومي، أو هذه النزعة القومية ظهرت حيناً واختفت أحياناً كما قلت قبل قليل، ظهرت على شكل شعور ضبابي عاطفي غائم، وظهرت على شكل شعور سببه التحدي، وظهرت على شكل ثالث إثر الأزمات العظيمة التي ألمت بالأمة العربية.
 الآن لنستعرض هذه النزعة في الأدب القديم عصراً عصراً إن أمكن، ففي الجاهلية الأولى كان انتماء الإنسان العربي إلى أمته انتماءً عفوياً وانتماءً عاطفياً وانتماءً غائماً، وأحياناً يبدو هذا الانتماء إثر الأخطار الشاملة التي كانت تواجه الأمة العربية، ففي معركة ذي قار التي واجه فيها العرب، كل العرب الفرس وكانت معركة مصيرية إن صح التعبير يقول أحد الشعراء وهو أبو تمام:

 

لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد  وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صهب الأعاجم أنـه به  أعربت عن ذات أنفسها العُرب

 هذا الانتماء إلى الأمة العربية انتماء ضبابي غائم غير واضح وعاطفي لكنّ الانتماء الواقعي اليومي كان إلى القبيلة، فالشاعر كان يفخر بقبيلته، بمآثرها، يندد بخصومها، يتحدث عن فضائلها، أي أن أنا الشاعر كان ذائبة في قبيلته، وهل من قول أصدق من قول دريد بن الصمة الذي تحدث به الزميل قبل قليل:

 

 

وما أنا إلا من غزية إن غوت  غويت وإن ترشد غزية أرشد

 من هذا العرض السريع في الجاهلية كان هناك انتماء واقعي يومي إلى القبيلة، وانتماء إلى الأمة انتماء نوبي إن صح التعبير وعاطفي وغائم، فحينما جاء الإسلام آمن الإنسان العربي بقيم الإسلام وتمثلها وعاشها، وجعل علاقاته وانتماءاته على أساس ديني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

 

 

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ))

 

[ الترمذي، أبي داود ]

 ويقول أيضاً:

 

(( أنا جد كل تقي، ولو كان عبداً حبشياً ))

 أستاذ راتب: نحن نعرف أن الإسلام وسّع رقعة العرب المكانية كما وسّع علاقاتهم الاجتماعية بالشعوب الأخرى، هذا التوسع الذي أطابه العرب بعد الإسلام هل نستطيع أن نقول إن علاقة العرب بالشعوب الأخرى كانت علاقة امتزاج، أي بمعنى هل امتزجت الشعوب الأخرى بالعرب وامتزج العرب بالشعوب الخرى وذابوا فيها، أم أنهم ظلوا يتطلعون إلى الشعور القومي بين الحين والحين ؟
 يبدو لي أن الإجابة عن هذا السؤال تتعلق بموقف العرب من هذه الشعوب التي احتوتها الفتوحات، موقف العرب أي طريقة التعامل معهم، وطريقة التعامل معهم لم تكن على وتيرة واحدة، كما أن موقف الشعوب من الدعوة الجديدة من حيث رفضها أو تقبلها أسهم إسهاماً واضحاً في تحديد نوع العلاقة، أي في الإجابة عن سؤالكم ما إذا كانت هذه الشعوب قد ذابت في الأمة العربية فأصبحت جزءاً منها أم أنها حافظت على شخصيتها القومية أولاً وبدأت تحاول أن تشن حملة نقدية على عادات العرب وبعض مآثرهم ثانياً.
 الحقيقة أنه في العصر العباسي ظهر تحدٍ واضح من الأمم والشعوب التي انطوت تحت الراية العربية، بدا هذا واضحاً حينما أجاب الجاحظ الأديب الكبير أو رد على الشعوبية بموقف قومي واضح سليم وبروح علمية صحيحة، ولا أذل على ذلك من أن بعض الشعراء بدأ يحس بانتمائه العربي ويشيد بأمته العربية وبقومه، من هؤلاء الشعراء مثلاً البحتري، وطلابنا يعرفون أن البحتري كان يفخر بقومه وبأمته العربية يقول مثلاً البحتري:

 

 

إن قومـي قـوم الشريـف قديماً وحديثاً أبوة وجدودا
معشر أمسكن حلمهم الأرض وكادت من عزمهم أن تميد
فإذا المحل جاء جاءوا سيولا وإذا النقع ثار ثاروا أسودا
يحسن الذكر عنهم والأحاديث إذا حدث الحديـد الحديد
نحن أبناء يعرب أعرب الناس لساناً وأنضر الناس عودا

نفهم من هذا أستاذ راتب على أن هذا الشعور القومي ما كان يظهر في الحالات العادية، وإنما كان يظهر حينما يشتد تحدي الشعوب الأخرى كما قدمت، هل هناك مواقف أخرى ظهرت فيها النزعة القومية في الأدب العربي غير مواقف التحدي ؟
 لا شك أن هذه الملاحظة جديرة، فالشعور القومي في الأدب القديم أو في الحياة العربية السابقة ما كان شعوراً مستمراً، كان شعوراً كما قلت قبل قليل كان شعوراً نوبياً إن صح التعبير، يظهر تارة ويختفي تارة أخرى، فحينما ظهر في مطلع العصر العباسي على شكل تحد للأمة العربية، ظهر بسبب آخر في العصر العباسي الثاني حينما ضاعت الأندلس، أو حينما انتزع الأسبان هذه الجنات من أيدي العرب، هذه المأساة الطاحنة ويمكن أن نسمي مأساة الأندلس أو ضياع الأندلس مأساة فلسطين الأولى، كما يمكن أن نسمي مأساة فلسطين، أندلس العرب الثانية، هذه المأساة التي هزت المشاعر أنطقت الشعراء بشعر نتلمس منه الروح القومية واضحة، ولا أدل على ذلك من القصيدة الشهيرة، التي تعد من القصائد التي يصح أن تترجم إلى معظم لغات العالم، قصيدة أبي البقاء الرندي التي مطلعها:

 

 

لكل شيء إذا ما تم نقصـان  فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول  من سره زمن ساءته أزمان

 أبو البقاء الرندي حينما رأى عرب الأندلس قد هاموا على وجوههم وشوهدوا في الآفاق، بينما إخوانهم في المشرق يمرحون ويرتعون وهم في عزهم وسلطانهم نائمون، آلمه هذا الموقف، ربما آلمه هذا التخلي وقد نقول ربما آلمه هذا التفرش فقال مخاطباً قومه العرب في المشرق مشيداً بفضائلهم تارة وعاتباً عليهم تارة أخرى ماذا قال:

 

 

يا راكبين عتاق الخيل ضامرة  كـأنها فـي مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة  كـأنها فـي ظلام النقـع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة  لهـم بـأوطانهم عـز وسلطان
أعندكم نبـأ من أهــل أندلس  فقد سرى بحديــث القوم ركبان
كم يستغيث صناديد الرجال  وهم قتـلى وأسرى فمـا يهتز إنسان
ألا نفوس أبيّات لهـم همـم  رأما علـى الخيـر أنصار وأعوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد  إن كان في القلب إحساس وإيمان

كأني بأبي البقاء الرندي يعيش معنا اليوم ويشهد أحداث أمتنا العربية.
 إذاً كما اتضح أستاذ راتب أن الشعور القومي كان لا يظهر إلا في أوقات الشدائد والأزمات التي تمر بها أمتنا العربية يظهر ظهوراً عفوياً ولا شك أن هذا الشعور استمر في الأحداث التالية، بعد هذه الفترة التي تفضلتم بالحديث عنها، هذه ملاحظة صحيحة ليس في مأساة الأندلس برز الشعور القومي، في هذه المأساة وفي أكثر أو في كل المآسي التي شهدتها الأمة العربية، بعد مأساة الأندلس، فضياع القدس مثلاً على يد الفرنجة، أيضاً أبرز الروح القومية وأنطق الشعراء بشعر نلمح منه الروح القومية التي نبحث عنها في هذا الموضوع.
 هذا صحيح ولكن الروح القومية في الأدب الحديث هي روح مستمرة ولها شكل آخر، أنا الآن أريد أن أنتقل من العصر القديم ونحرق المراحل كما يقولون لنصل إلى مطلع عصر النهضة، يخطر في بالي سؤال، ما الأسباب المباشرة أو غير المباشرة التي عملت على إظهار الروح القومية في مطلع عصر النهضة، هذا سؤال ولكن هناك سؤال يتممه، هل الروح القومية في عصر النهضة كانت روحاً نقية خالصة ؟ أم أنها اختلطت بها توجهات أخرى، وإذا كانت هذه الروح القومية التي اختلطت بها توجهات أخرى قد تخلصت منها وأصبحت نقية، فما الأحداث السياسية التي عملت على تنقية هذه الروح، هذا ما أرجو أن تتحدثوا عنه في هذه الندوة.
 الحقيقة أن هنا صار مجموعة أسئلة متداخلة إذا بدأنا من البداية نقول: مما لا شك فيه أن العصر الحديث هو عصر القوميات في العالم العربي وفي العالم أجمع، وما نسميه الأدب القومي الذي ندرسه في وقتنا الحالي إنما هو وليد ظروف حياتنا المعاصرة، فإذا أخذنا الجانب الأول من السؤال عن العوامل التي ساعدت على ظهور هذه المسألة في أدبنا وفي مجتمعنا فإننا نقول إن انتشار الوعي في صفوف الأدباء واطلاع الأدباء على التراث العربي القديم من جهة واتصالهم بالحضارة الحديثة وما حملته من أفكار ولا سيما أفكار الثورة الفرنسية من جهة أخرى، أفكار الثورة الفرنسية بما فيها من مبادئ العدل والمساواة والحق كل هذه عوامل دفعت الأدباء إلى البحث عن طريق للخلاص من الواقع المر، من الواقع العربي المتخلف، وكان من الطبيعي أن يسفر كل أديب عن وجهة نظر تتناسب مع بيئته وثقافته ومفاهيمه، إذاً هذه العوامل انتشار الوعي والاتصال بالحضارة هي التي جعلت أدباءنا يبحثون عن طريق للخلاص، وهي التي بالوقت نفسه جعلتهم يتخذون اتجاهات مختلفة.
الشق الثاني من السؤال.
 أستاذ عبد العظيم: ذكرتم العوامل ولكن كما قلت في الشق الثاني من السؤال: النزعة القومية التي ظهرت في بداية عصر النهضة، لا شك أنها كانت مختلطة بتوجهات أخرى إن صح التعبير، ولهذه التوجهات مبرراتها، ما هي هذه التوجهات ؟ قلت في حديثي أنه من الطبيعي أن يصدر كل أديب عن وجهة نظر تتلائم مع ثقافته ومفهومه والبيئة التي عاش فيها، إذا استعرضنا هذه الاتجاهات السياسية المختلفة والنزعات المتباينة نتبين أن في أدبنا في بداية عصر النهضة نزعات مختلفة الحقيقة منها النزعات الإقليمية الضيقة، كما حدث في مصر ولبنان، ومنها نزعات أعم وأشمل كالنزاعات الشرقية التي دعا أصحابها أقطار الشرق جميعاً إلى التكاتف للوقوف في وجه الخطر القادم من الغرب، ولعل هذا الفريق تأثر بدعوة المصلح جمال الدين الأفغاني، نذكر من هؤلاء حافظ إبراهيم مثلاً، الذي دعا أقطار الشرق جميعاً لليقظة والوقوف في وجه الغرب الطامع، وهو الذي يقول:

 

 

طمع ألقى عن الغرب اللثام  فاستفق يا شرق واحذر أن تنام

 إذن هناك اتجاه سياسي كان يدعو أقطار الشرق جميعاً إلى التكاتف وإلى النهضة، بالإضافة إلى هذه الاتجاهات ظهر في بداية العصر الحديث اتجاه آخر كان الدافع له الرابط الديني وهو ما نسميه بالنزعة العثمانية أو بالاتجاه العثماني، ويدعوا أصحابه إلى الإبقاء على السلطنة العثمانية والإصلاح في ظلها، قلت أن هذا كان برابط الدين، وأذكر من الأدباء المتقدمين في هذا الجانب عبد القادر المبارك الذي يقول في إحدى قصائده:

 

 

حمت تركى والعرب الكرام من  الردى حسام إخاء لا يزال مجردا
عناصر هـذا الشعب ضمتهـم  عرى روابط عثمانية تدفع الردى

 إذن هناك فريق من الأدباء دعا للإصلاح في ظل العثمانيين، وكلنا يعرف قول أحمد المحرم المشهور:

 

 

يا آل عثمان من ترك ومن عرب  وأي شعب يساوي الترك والعرب

 بجانب هذه الاتجاهات السياسية المختلفة ظهرت القومية العربية كحركة تقدمية تحررية، كاتجاه سياسي هدفه الإصلاح، ولعل من الأدباء المبكرين في التعبير عن الشعور القومي إبراهيم اليازجي، فله قصائد قديمة في هذا المجال، أنشدوا لها في عام ألف وثمانمائة وثمانية وستين ومطلعها:

 

 

سلام أيها العرب الكرام  وجاد ربوع قطركم الغمام
لقد ذكر الزمان لكم عهودا ً مضت قدماً فلم يضع الزمان

 وإلى جانب اليازجي يقف عبد الرحمن الكواكبي الأديب الحلبي المعروف وصاحب الكتابين المشهورين: طبائع الاستبداد، وأم القرى، يدعو في كتابه الثاني أم القرى إلى إقامة خلافة عربية في الجزيرة العربية، إذاً نقول إن الاتجاه القومي ظهر في العصر الحديث كاتجاه سياسي إلى جانب اتجاهات مختلفة هدفها الإصلاح.
أستاذنا الكريم: ذكرتم هذه الاتجاهات التي رافقت الاتجاه القومي فواكبته، الذي يبدو لنا أن هذه المفاهيم المختلطة مع الاتجاه القومي ليست مستمرة حتى الآن، ما العوامل السياسية والاجتماعية التي أسهمت في تنقية الروح القومية واستمرارها وجعلها واضحة ؟
 قلنا في البداية أن النزعة القومية وليدة الظروف، لا شك أن هناك أحداثاً حدثت على الساحة العربية أثرت في هذه الاتجاهات التي تحدثت عنها قبل قليل، فأزالت بعضها ودفعت بعضها الآخر إلى الظهور، ولعل من أبرز الأحداث التي أثرت في هذا الصراع بين الترك والعرب، هذا الصراع الذي بدأه الاتحاديون الأتراك بفرض سياسة عنصرية على الوطن العربي وهو ما نسميه سياسة التتريك التي تقوم على الاستئثار بالمناصب العليا في الدولة واستبدال اللغة التركية باللغة العربية كلغة رسمية، هذا الموقف من الاتحاديين الأتراك قابله الأدباء العرب بتشكيل جمعيات أدبية وسياسية اتخذوا منها مجالاً للتعبير عن الشعور القومي وللنضال القومي، ويشتد الصراع بين العرب والترك إلى أن يبلغ ذروته في حادثة إعدام الأحرار، طبعاً كانت هذه الحادثة حافزاً لكل عربي لأن يعيد النظر في علاقته بالترك ولا سيما الأدباء، وهذا ما حصل، فقد تأثر الأدباء بهذه الحادثة واندفعوا إلى الصف القومي، أو بمعنى آخر نقول: إن هذه الحادثة بالذات كانت حافزاً للأدباء لاتخاذ موقف قومي واضح ودفعت الشعور القومي إلى الظهور، ولعل الزهاوي الشاعر العراقي أبرز من عبر عن هذا الاتجاه وهذا الجانب في قصيدته التي رثى فيها الشهداء والتي سماها النائحة ومطلعها:

 

 

على كل عود صاحب وخليل  وفي كل بيت رنة وعويل

 في هذه القصيدة يقول:

 

 

بني يعرب لا تأمنوا الترك بعدها  بني يعرب إن الذئاب تصول

 طبعاً الذي يقارن هذا البيت بما قدمناه قبل قليل من قول أحمد محرم: يا آل عثمان، وهنا يقول بني يعرب، يجد الفرق الواضح، إذاً نقول إن هذه الحادثة هزت وجدان الإنسان العربي وطارت أنباؤها إلى كل الأقطار العربية وتعالت صيحات الأدباء حتى من وراء البحار، نحن نسمع القروي من المهاجر ينظر إلى هذه الحادثة على أنها على بشاعتها جمعت أمة العرب، وهو القائل في قصيدته التي رثى فيها الشهداء:

 

 

أكرم بحبل غدا للعُرب رابطة  وعقدة وحدت للعُرب معتَقدا

 فليس من المعقول بعد هذه الحادثة أن نجد أديباً عربياً يدعو إلى الوحدة مع الترك، وبالتالي من الطبيعي ألا نجد عربياً يدعو للوحدة مع شعوب شرقية أخرى، وكان من الطبيعي أن يقف الأدباء العرب بعد هذه الحادثة يستحثون أبناء أمتهم للأخذ بالثأر، للثورة، وهذا ما نسمعه من كثير من الشعراء، فأبو الفضل الوليد مثلاً يقول:

 

 

بلاد الشـام غـادرك الكرام  فعيش الحر فيك إذاً حرام
لقد كثرت من العُرب الضحايا  ولم يهتز في الغمد الحسام
ألا يـا أيها العرب استـدلوا  مـذليكم فـحتّام الخصـام
وثوروا الثورة الكبرى وقولوا  لهم إنـا نموت ولا نُضام

 هذه الحادثة إذاً نقول إنها نقطة تحول في المسار القومي، لقد دفعت الشعور القومي إلى الظهور والاتجاه القومي إلى البروز وأذابت كل الاتجاهات السياسية الأخرى، وهذه الدعوة التي أطلقها الأدباء بعد هذه الحادثة لاقت صدى في نفوس الشعب فسرعان ما انتفضت الأمة العربية في ثورتها الكبرى التي رأى فيها الأدباء تحقيقاً لأملهم القومي، رأوا في هذه الثورة أنها ستحقق الكيان القومي، لذلك استقبلوها بالتكبير فأحدهم يقول:

 

 

الله أكبر قامت دولة العرب بشرى  لهارون ومأمون في الترب

 ترى أن فؤاد الخطيب الذي قرأنا له أبياته يحدو لهذه الثورة ويرى أنها ثورة العرب على البغي والظلم، هي ثورة تذكره بماضي الجدود لهذا بدأ أبياته بصورة من الماضي:

 

 

لمن المضارب في ظلال الوادي ري الرحاب ترصد الورّاد
الله أكبـر تـلك أمـة يعرب نفرت من الأغوار والأنجاد
ومشت تدك البغي مشية واثق بـالله والتاريـخ الأجداد

 إذاً هذه الأحداث هي التي دفعت المفهوم القومي إلى الظهور كنزعة سياسية وكحركة تحررية اعتنقها كل الأدباء، حتى أولئك الذين كانوا ينزعون نزعات أخرى كحافظ إبراهيم مثلاً الذي بدأ يدعو إلى الإصلاح على أساس النزعة الشرقية وقرأنا له أبياته، حافظ إبراهيم في فترة من الفترات دعا إلى الإصلاح على أساس النزعة العثمانية وهو القائل:

 

 

لقد مكّن الرحمن في الأرض دولة  لعثمان لا تعفو ولا تتشعب

 إذاً هي في رأيه دولة لا تزول ولا تنمحي، حافظ إبراهيم بعد هذه الأحداث حمل راية القومية، أليس هو القائل:

 

 

لمصر أم لربوع الشام تنتسب  هنا العلا وهناك المجد والحسب
أم اللغات غداة الفخر أمهمـا  وإن سألت عن الآباء فالعـرب

 إذاً نقول إن هذه الأحداث التي استعرضناها كان لها تأثير كبير في الاتجاه السياسي على الساحة العربية، أذابت كل الاتجاهات الأخرى ودفعت المفهوم القومي إلى الظهور، اعتنقه كل الأدباء وعبروا عنه بأشكال مختلفة.
لعل من المفيد أن نستعرض أمام المشاهدين الأعزاء بعض هذه المواقف بعد أن أصبح الأدباء ينزعون نزعة قومية من المفيد أن نذكر لهم بعض مواقف الأدباء القومية.
 الحقيقة أنه بعد أن استقر المفهوم القومي بشكل واضح ومتميز وأصبح نقياً من كل ما خالطه من مفهومات أخرى اختلطت به لأسباب تاريخية بعد أن استقر هذا المفهوم وأصبح واضحاً ومستمراً اتجه الأدباء في عصر النهضة إلى التعبير عن هذا المفهوم، ولكنهم صبوا مشاعرهم القومية في قوالب شتى وفي صور متعددة، بعض هؤلاء من صبّ مشاعره القومية في صورة الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة العربية، فذكر ما تعانيه أمته من ظلم واستكانة وخنوع وسكوت عن الحق واتباع لطريق الردى، هذا الواقع المؤلم استثار حماس الشعراء ومنهم إبراهيم اليازجي الذي تحدثتم عنه قبل قليل فقال قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

 

 

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
فيما التعلـل بالآمـال تخدعكم وأنتم بيـن راحات القنــا سلب
كم تُظلمون ولستم تشتكون وكم تُستغضبــون فلا يبدو لكم غضب
ألفتم الهون حتى صار عندكـم طبعاً وبعض طباع المرء مكتَسب

هناك صور أخرى كثيرة يبدو أنه لا يتسع الوقت للحديث عنها، ولكن أدع لكم الحديث عن ملخص سريع لأفكار النص الأساسية.
 لعل قبل التلخيص أستاذ راتب يحضرني الآن أبرز مواقف الأدب القومية التي استمرت حتى الآن، أو نقول أشمل المواقف وأعمها في أدبنا الحديث هو الحديث عن الماضي، تذكير بالماضي العريق، هذا الموقف الأدبي القومي مستمر حتى الآن، فقد عاد الأدباء إلى التاريخ واستحضروا منه صور مشرقة، لعل هدفهم من ذلك إطلاع أبناء أمتهم على ماضي الجدود، فقد تنوعت أساليبهم وتنوعت الصور المشرقة التي استحضروها، فمن مذكِّر بالقيم والأخلاق إلى مذكر بشخصيات كان لها دور في شخصيات أمتنا، إلى من ذكر بمواقف تاريخية كانت نقطة تحول في تاريخ البشرية والعالم، ولعل المشاهدين ليسوا بعيدين عن هذه الأعمال الأدبية التي تُعرض عليهم وتحكي لنا جوانب من الماضي، هذا مجال يطول أستاذ راتب ولعلنا في لقاء آخر نستعرض مواقف الأدباء بشكل أوضح.
ومن الحسن أن ننهي هذا البحث بتلخيص للأفكار التي تناولها إذا أردتم.
 وجدتم يا إخوتنا المشاهدين أن المفهوم القومي بدأ في العصر الجاهلي مفهوماً عفوياً عاطفياً غائماً، وكان الانتماء في هذا العصر انتماء إلى القبيلة أكثر مما هو انتماء إلى الأمة، وحينما كان انتماء إلى الأمة كان إثر ظهور أخطار تهدد وجوده، وفي العصر العباسي بسبب من التحديات التي واجهتها أمتنا العربية من الشعوب التي احتوتها الفتوحات بدأ يظهر عند الشعراء المفهوم القومي أوضح من ذي قبل، لكن المآسي الكبرى التي شهدتها الأمة العربية كان لها أثر كبير جداً في تعميق مفهوم القومية وفي توضيحه ولا سيما وأن المآسي كانت متلاحقة بحيث أن المفهوم يزداد شيئاً بعد شيء في الوضوح، لكنه في العصر الحديث شيء ثابت هو أن المفهوم القومي صار نقياً صافياً وصار مستمراً وهذا ما يلحظه الإخوة المشاهدون في الأدب الحديث، وكيف أنه ظاهرة لا تتعلق بالأحداث الطارئة.
نرجو أن تكونوا أيها الإخوة المشاهدون قد أفدتم من هذه الندوة وإلى لقاء آخر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

إخفاء الصور