وضع داكن
28-03-2024
Logo
الموضوعات الأدبية - درس تلفزيوني : 26 - الأدب الإجتماعي الإصلاحي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أعزائنا المشاهدين أسعدتم مساء وأهلاً بكم ومرحبا في هذا اللقاء الجديد.
 الأدب الاجتماعي والإصلاحي موضوع هذا اللقاء، وهذا الموضوع يثير في أذهاننا مجموعة من الأسئلة تقودنا إلى موضوعات عدة، لهذا كان الأدب الاجتماعي الإصلاحي، أو متى تبدو الحاجة ملحة إلى الإصلاح الاجتماعي ؟ حينما تفسد علاقة الإنسان بعقله، أو يسيء إعماله فيسخره لأغراض رخيصة، عندها يكون الجهل والتجهيل هو أعدى أعداء الإنسان، وحينما تنقطع صلة الإنسان بينبوع القيم أو تفسد علاقته به تسفل أهدافه، وتنحط ميوله، ويبيح لنفسه أكثر الوسائل قذارة لأشد الأهداف انحطاطاً، عندها تكون أزمة الأخلاق مدمرة، التي تسبب الشقاء الإنساني، وحينما تفسد علاقة القوي بالضعيف، ستكون الغلبة لصاحب القوة لا لصاحب الحق، عندها تعيش الأمة أزمة حضارية تعيق تقدمها أولاً وتقوم دعائمها ثانياً، فيكون انهيار الحضارة وانهيار الأمة، وما دور الأدب الحقيقي في إصلاح الفساد، أو هل الأدب قوة فعالة تستطيع إنقاذ البشر من ألوان الفساد الغارقة فيه بطريق مباشر أو أنه غذاء روحي بطيء الأثر قليل الخطر، لن يقدم ولن يؤخر، إن الذين يحسنون الظن بالأدب يقولون :
  قام الأدب على التجربة الحية الصادقة لإنسان أو شعب أو عصر، من دون تزيف أو تهويل، حتى لا تفسد الصور وتحجب الحقائق تلك الحقائق التي هي وسيلة العصر الحديث لفهم نفسه ووعي مشكلاته وأدرك مدى قدرته على حله، إذا كان الأدب كذلك خرج من وظيفة الحلية البديعة الساكنة فوق الصدور إلى وظيفة النور البراق المتحرف الذي يفتح الأبصار، وتقتضي الموضوعية في البحث أن نقول : إذا صور الأدب نوعاً من الشذوذ والانحطاط وحمل قارئه على أن يعطف على الانحلال ويعجب بالتدهور فإن مجتمعاً بأسره يمكن أن تسري فيه العدوى عن طريق هذا الأدب، ويكون الأدب حينئذٍ مدمراً لمجتمع وقيمه وأخلاقه.
 إذاً : فالأدب في أحسن الأحوال وفي أحسن حالاته، بل وفي الأجواء الحرة الصحيحة يستطيع أن يقدم صورة دقيقة لمشكلة أو مأساة اجتماعية تعد الخطوة الأولى لإصلاح ما فسد ولا بد من أن تتلوها خطوات وخطوات.
هل الأدب الاجتماعي الإصلاحي من حيث المضمون ظاهرة جديدة كل الجدة، أما في الأدب القديم ما يشبهه من قريب أو بعيد.
أيها الأخوة الأكارم :
 الإنسان هو الإنسان، متى وجد وحيث ما حل، فطرته وصبغته وحاجاته ومشاعره وآلامه وطموحاته هي هي، فالمشكلات الاجتماعية كانت ولا تزال على اختلاف في تنوعها وفي حدتها وفي حجمها، ومما يؤكد هذه الحقيقة وهي أن المشكلات الاجتماعية هي هي، أسوق إليكم هذه القصة...
أحد الولاة في عهد عمر بن عبد العزيز كتب إليه، إن إناساً من العمال قد اقتطعوا مالاً ولست أقدر على استخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشيء من العذاب، فإن أذنت لي أفعل.
 فكتب إليه عمر : إني أعجب من استئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك حصن من عذاب الله، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله فانظر من قامت عليه بينة فخذه بما قامت به عليه البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفه وخل سبيله، ويم الله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم والسلام.
 هذه القصة تؤكد أن المشكلات الاجتماعية هي هي، وأن الإنسان هو هو، لذلك يمكن أن يكون في الأدب القديم ومضات من الأدب الاجتماعي تؤكدها بعض هذه الصور، فأبو فراس الحمداني يغرق في ألم فردي عميق يحمله على أن يهجو الزمان ويشكو غدر الخلان فيقول :

بـمن يثق الإنسان فيما ينوبه ومن  أين للحر الكريم سحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم  ذئاب على أجسادهم ثيــــاب

 فتاة عربية تلمس كف أبيها فتجدها خشنة، فتقول :

 

هذه كف أبي خشنها ضرب  مجحاف ونقل بالزبيب

 فيجيبها أبوها :

 

 

ويكي لا تستنكري كد يدي  ليس من كد لعز بذليـــل

إنما الذلة أن يمشي الفتـى ساحب الذيل إلى وجه البخيل
 وفي هذا المعنى نفسه يقول الإمام علي كرم الله وجهه : " والله والله مرتين لحفر بئرين بإبرتين وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين ونقل بحرين ذاخرين إلى أرض الصعيد بمنخلين وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين أهون عليّ من أن أٌريق ماء وجهي أمام بخيل لئيم لوفاء دين.
 هذا هو المعنى نفسه، صورة رابعة من صور الأدب الاجتماعي القديم بعض الشعراء صور أثر الرشوة في تذليل المصاعب وتحقيق الرغبات، فقال :

 

 

إذا كنت في حاجة مرسل  وأنت فيها كلف مــغرم
فأرسل حكيم ولا توصـه  وذلك الحكيم هو الدرهم

 أليست يا أخوتنا المشاهدين، ويا أعزائنا الطلاب :
أليست هذه الموضوعات وتلك الصور واللقطات من صميم الأدب الاجتماعي.
ما المضامين الكبرى التي انطوى عليها الأدب الاجتماعي الإصلاحي ؟
 الحقيقة أن أبعاد الواقع الاجتماعي للأمة العربية في العصر الحديث أكبر من أن يعبر عنه الأدب مهما بدا هذا الأدب ملتصقاً بالجماهير، فهناك تخلف عن ماضي الأمة العربية المزدهر روحياً وهناك تخلفاً عن حاضر العالم المتقدم مادياً، وهناك سبب خارجي يلخص بسيطرة القوي، وهناك سبب داخلي يختصر باستغلال الضعيف وبتحديد أدق إن المضامين الكبرى للأدب الاجتماعي والإصلاحي هو تخلف الوعي والفكر وصراع الحضارات والأخلاق والعادات والتقاليد والشقاء الإنساني، وسأختار من هذه المضامين الموضوعين الأول والثاني.....
تخلف الوعي والفكر.
 الجهل قبيح وأقبح منه الإصرار عليه، فالجهلة كالخشب المسندة وكالأنعام الشاردة، وكالحمر المستنفرة، والطامة الكبرى ألا تدري وألا تدري أنك لا تدري، ومثل هذا الإنسان أخطر على المجتمع من الجاهل الصرف، فلا هو عالم فيفيد من علمه ولا هو جاهل فيسعى إلى طلب العلم، يقول الزاهوي :

 

 

نصحت للقوم في شعري فما سمعوا  كأنما القوم في آذانهم صمم

 والعلم سبيل إلى الخلاص من التخلف الفكري والاجتماعي والاقتصادي بل والسياسي، وأنه بالعلم ترقى الأمم وأنك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، وأن الناس هلكة إلا العالمون والعالمون هلكة إلا العاملون والعاملون هلكة إلى المخلصون، وأن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطيك شيئاً، وأن من طلب العلم يظل طالباً للعلم طوال حياته، وأن المرء يظل عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، وقد قيل تعلموا العلم فإن كنتم سادةً فقتم، وإن كنتم وسطاً ستم، وإن كنتم سوقة عشتم.
يقول الرصافي موضحاً هذه المعاني :

 

 

متى ينجل يا قوم بالصبح ليلكم فتذهب عنكم غفلة وذهــــــول
تريدون بالعلية سبيل وهل لكم إليه وأنتم ذاهلون سبيـــــــل
ألا نهضة علمية عربيـــة فتنحث أرواح بها وعقــــــول

 

ويشجع رعديد ويعتز صـاغر  وينشط بالسعي الحفيف كسول

ولكن يا أخوتنا المشاهدين ويا أعزائنا الطلاب :
 لكن العلم شرط لازم غير كاف للتقدم الحقيقي، فلا بد للعلم من سياج منيع من القيم الإنسانية الثابتة، لئلا يصبح أداة خطيرة في أيدي قوى الشر، وأكبر دليل على ذلك فزع العلم الغربي من انتشار الأسلحة النووية والتسابق في تطويرها، وقد تنبئ أحد الفلاسفة الغربيين أن الحرب العالمية الرابعة سوف تكون بالحجارة فقط، ويعني بذلك أن العلم من دون قيم أخلاقية سيدمر نفسه، وقد تنسحب هذه الحقيقة على المستوى الفردي، وإلى ذلك أشار حافظ إبراهيم فقال :

لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخـــلاقه
كم عالم مد العلوم حـبائلاً لوقيعة وقطيعة وفــراق
وطبيب قوم قد أحل لطبه ما لا تحل شرعية الخـلاق
وأديب قوم تستحق يمينه قط الأنامل أولظ الإحـراق
في كفه قلم يمج لعابه سم وينفــــث على الأوراق

 الموضوع الآخر في الأدب الاجتماعي الإصلاحي هو صراع الحضارات، لن أعرف الحضارة، ولكنني سأبرز نوعيها من خلال بعض الصور الأدبية، حينما يصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أن يهشم أنف جبلة بن الأيهم الملك الغساني لأنه هشم أنف بدوي داس طرف ردائه، يقول عمر مخاطباً جبلة من خلال الحوار الذي صاغه الأستاذ الشاعر سليمان العيسى
يقول عمر :
 أرض الفتى لا بد من إرضاءه مازال ظفرك عالق بدمائه أو يهشمن الآن أنفك وتنال ما فعلت كفك.
يقول جبلة :
 كيف ذاك يا أمير المؤمنين هو سوقة وأنا عرش وتاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرض.
يقول عمر :
نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديدا وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدا، عالم نبنيه كل صدع فيه بشذا السيف يداوى، وأعز الناس بالصعلوك بالعبد تساوى.
 عمر بن الخطاب الذي يصر على تهشيم أنف جبلة بن الأيهم الملك الغساني هو نفسه يمر في الطريق وفي الطريق غلمان فإذا رأوه فلما رأوه تراكضوا إلا واحد منهم بقي واقف في أدب وجرئه، فلما وصل إليه عمر وحاذاه قال أيها الغلام لما لم تهرب مع من هرب، فقال أيها الأمير لست ظالماً فأخشى ظلمك ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
يا أخوتنا المشاهدين ويا أعزائنا الطلاب :
 هذه حضارة القيم، هذه حضارة الأجداد، هذه حضارة أصحاب الرسالة السامية الخالدة، فماذا عن حضارة المادة، حينما تطأ قدم إنسان أرض القمر فيرى شروق الأرض وغروبها، لا شروق القمر وغروبه وحينما يستقل المرء طائرة أسرع من الصوت فننتقل من أوربا إلى أمريكا في أقل من ساعتين، وحينما يرفع أحدنا سماعة الهاتف ليتصل بإنسان يبعد عنه عشرات الآلاف من الكيلومترات دون أن يعبأ بفاتورة الهاتف التي قد تفوق دخل السنوي، أو حينما يستخدم الهاتف التلفزيوني ليرى من يحدثه وجهاً لوجه، وحينما ترى وأنت في بيتك ما يحدث في أطراف الدنيا مما يندى له جبين البشرية خجلاً، وحينما تضغط على حرف في جهاز التلكس وأنت في مكتبك في دمشق فيطبع هذا الحرف في الوقت نفسه على جهاز مماثل في اليابان، وحينما تبث الصور للأمواج الإذاعية وتلتقط البرامج بالأقمار الصناعية فإن هذا كله يعد من منجزات حضارة المادة، ولكن هذه الحضارة ليست متاحة للجميع، بل هي متاحة لمن يدفع الثمن وربما كان الثمن باهظاً لا يملكه أكثر أهل الأرض، لذلك كانت هذه الحضارة أحياناً سبباً لمعظم الصراعات في العالم التي سببت شقاء الإنسان الذي لا يحيط به وصف، إن حضارة القيم تعني سيطرت الإنسان على ذاته في أرقى صورها، بينما تعني حضارة المادة سيطرت الإنسان على ما حوله وعلى من حوله عن طرق أسلحة متطورة تعطل كل معاني الشجاعة والإقدام وإباء الضيم، قال أحد المفكرين الأجانب متحدثاً عن الحضارة الغربية :
ملكنا العالم ولما نملك أنفسنا.
 لذلك يا أخوتنا المشاهدون نشب صراع حاد بين الحضارتين حضارة القيم وحضارة المادة، بين القديم والجديد، بين القيم والحاجات بين المبادئ والرغبات، وقد انعكس هذا الصراع على الأدب فوقف بعض الأدباء مواقف سلبية من الحضارة الغربية، فصور زيفها وقسوتها وشرورها، يقول ربى الشبيبي :
خداع وكذب واقتراف وقسوة وظلم أهذا العالم المتمدن.
 ويقف أدباء آخرون موقفاً معتدلاً ومتوازناً فيتقبلون من الغربيون ما في رؤوسهم من علم ومعرفة، ويدعون ما في نفوسهم من عادات وتقاليد، سؤل أحد الأدباء ماذا نأخذ وماذا ندع من حضارة الغربيين فقال في إيجاز : نأخذ ما في رؤوسهم وندع ما في نفوسهم، فإن الثقافة ملك البشرية جمعاء لأنها مثل عسل استخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال وهل يعقل إذا لدغتنا جماعة من النحل أن نقاطع عسلها، فليكن همنا جين العسل دون النظر إلى جماعات النحل.
أخوتنا المشاهدين :
بقي من مضامين الأدب الاجتماعي الإصلاحي الأخلاق والعادات والتقاليد والشقاء الإنساني فأرجو أن يتاح لي أو لغيري في لقاء آخر معالجة هذه الموضوعات.
 وفي ختام هذا اللقاء أشير إلى أن في الأدب الاجتماعي الإصلاحي نقطتين هما من نقاط الضعف الأولى : أن رؤية الأدباء الإصلاحيين كانت محدودة وقاصرة، لم تصل الأسباب الحقيقية للمشكلات الاجتماعية والنقطة الثانية : أن أولئك الذين هم وراء المشكلات الاجتماعية والذين ماتت في نفوسهم كل القيم الإنسانية والحضارية هؤلاء الذين وراء المشكلات الاجتماعية ما كان لهم أن يستجيبوا لدعوة بالحسنة إلى العدل والإنصاف، لذلك كان لا بد من رؤية أخرى، رؤية واضحة بعيدة، وكان لا بد من وسيلة أخرى أكثر فعالية ونجاحة من وسائل الأدب الإصلاحي.
هذا ما سوف تجدونه في درس قادم إن شاء الله عنوانه الأدب الاجتماعي الثوري، أرجو أن تكون قد أفدتم من هذا اللقاء وإلى لقاء آخر

 

إخفاء الصور