وضع داكن
29-03-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 09 - التوبة النصوح - أركانها وشروطها.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ زياد :
  بسم الله والحمد لله ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع العليم ، بسم الله نستفتح بالذي هو خير ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير .
 إخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم في مستهل حلقة جديدة من برنامجنا منهج التائبين ، أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ زياد :
 وصلنا إلى الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، كيف تعرفون التوبة النصوح ؟ ما هي أركانها ؟ ما هي شروطها ؟

التوبة النصوح هي التوبة التي لا رجوع عنها :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 التوبة النصوح هي التوبة التي لا رجوع عنها ، والتوبة الأولى هي أهون توبة على المذنب ، كأن الحجاب الذي كان بينه وبين الله يهتك في ثانية ، وكأن الله عز وجل يلقي في روعه أنه غفر له ، وأنه قبل ، وكأن أحمالاً كالجبال أزيحت عن كاهله ، ذلك أن الإنسان حينما يسأل الله قبول التوبة يجيبه الله عز وجل بقبولها ، يقول : يا رب لقد تبت إليك ، يقول الله تعالى: عبدي وأنا قد قبلت ، وقد ورد في بعض الآثار أن الله عز وجل يخاطب بعض أنبيائه يقول : يا داود لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي وماتوا شوقاً إلي ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين ؟
الأستاذ زياد :
 سبحان الله ، وهو الغني عن عباده .
الدكتور راتب :
 حينما ناجى أحد العارفين ربه قال : يا رب ، إذا كانت رحمتك بمن قال : أنا ربكم الأعلى فرعون ، ألم يقل الله :

﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ﴾

[ سورة طه : 43 -44 ]

 أحد العارفين يقول : يا رب ، إذا كانت رحمتك بمن قال : أنا ربكم الأعلى ، فكيف رحمتك بمن قال : سبحان ربي الأعلى ؟ وإذا كانت رحمتك بمن قال : ما علمت لكم من إله غيري ، فكيف رحمتك بمن قال : لا إله إلا الله ؟
 التوبة النصوح من ثمارها اليانعة أن الله ينسي بقاع الأرض والملائكة جميعاً كلهم خطايا المذنب وذنوبه ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .

التوبة النصوح هي عرس المؤمن :

 والله أخ زياد ، أنا أشعر أن التوبة النصوح هي عرس المؤمن ، يوم الفرحة الكبرى ، أنه فتح مع الله صفحة جديدة ، أن هذا الماضي كله أصبح في طي النسيان ، لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي .

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة الزمر : 53 ]

 مهما يكن ذنبك كبيراً فرحمة الله أوسع من ذنبك ، ألم يقل الله عز وجل :

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأعراف : 156 ]

 فالتوبة النصوح هي التوبة التي تعقد من قبل عبد تألم أشد الألم من ذنبه ، ثم عقد العزم على ألا يعود لمثل هذا الذنب مادام حياً ، هذه التوبة النصوح تشعر التائب أن جبالاً كانت جاثمة على صدره وأزيحت عنه ، ولا أدل على ذلك من تصوير النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عليه الصلاة والسلام سيد البيان ، تعلمنا في الجامعة أن أعلى نص في اللغة العربية القرآن الكريم ويليه الحديث الشريف ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش ))

[الطبراني عن أبي سعيد الخدري]

 وهذا أسلوب رائع في البلاغة ، تأكيد المديح بما يشبه الذم .

التوبة النصوح توبة في الأعماق يسبقها ندم شديد وتتبعها سعادة لا توصف :

 النبي عليه الصلاة والسلام صوّر أعرابياً يركب ناقة عليها طعامه وشرابه ، فلما أدركه التعب جلس ليستريح ، أفاق فلم يجد الناقة ، فأيقن بالهلاك ، فصار يبكي حتى أخذته سنة من النوم ، فأفاق فرأى الناقة فاختل توازنه فقال : يا رب أنا ربك وأنت عبدي .
 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا ، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ ))

.

[مسلم عن أنس بن مالك]

 أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ، فالتوبة النصوح توبة في الأعماق ، ويسبقها ندم شديد ، وتتبعها سعادة لا توصف ، ومن ألطف ما قاله العلماء في التوبة النصوح قول ابن القيم رحمه الله تعالى: " ما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً أسره عدوك ، وحال بينك وبينه ، وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ، ويعرضه لأنواع الهلاك ، وأنت أولى به منهم ، وهو غرسك وتربيتك، ثم إنه انفلت من عدوه ، ووافاك على غير ميعاد ، فلم يفاجئك إلا وهو على بابك يتملقك ويطربك ويستعينك ويمرغ خديه على تراب أعتابك ، فكيف يكون فرحك به ، وقد اختصصته لنفسك ، ورضيته لقربك ، وآثرته على سواه ؟ ولست الذي أوجدته ، وخلقته ، وأسبغت عليه نعمك، والله عز وجل هو الذي أوجد عبده ، وخلقه ، وكونه ، وأسبغ عليه نعمه ، وهو يحب أن يتمها عليه ، فيصير مظهراً لنعمه ، قابلاً لها ، شاكراً لها ، محباً لوليها ، مطيعاً له ، عابداً له ، معادياً لعدوه ، مبغضاً له ، عاصياً له " .
 هذا كلام طيب حول ما ينبغي أن نعلمه عن ذات الله عز وجل حينما يتوب عبده المؤمن إليه .
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

خصائص التوبة العلم والحال والعمل :

 ينبغي أن أضيف إلى هذا الموضوع حكاية حكاها أحد العلماء قال : رأى في بعض سكك المدينة باباً قد فُتح ، وخرج منه صبي ، يستغيث ويبكي ، وأمه خلفه تطرده حتى خرج ، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت ، فذهب الصبي غير بعيد ، ثم وقف مفكراً ، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يأويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً ، فوجد الباب مرتجاً ، فتوسده ، ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ، فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه ، والتزمته تقبّله ، وتبكي ، وتقول : يا ولدي ، أين تذهب عني ؟ ومن يأويك سواي ؟ ألم أقل لك لا تخالفني ؟ ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ، وإرادة الخير لك ، ثم أخذته ودخلت ، فتأمل قول الأم : لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة ، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :

(( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ : أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَرْحَمَ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا . . . ))

[ابن ماجه عن ابن عمر]

 وأين تقع رحمة الأم من رحمة الله عز وجل الذي وسعت رحمته كل شيء ؟ شيء متعلق بهذا الموضوع ، هو أن الذي يرضي الله عز وجل أن نبادر سريعاً إلى التوبة النصوح ، ولعلي أذكر الإخوة المستمعين بأن خصائص التوبة العلم والحال والعمل ، فكلما كان العلم أعمق وأمتن وأقوى كان الندم أشد ، وكلما كان الندم أشد كانت التوبة أكثر متانة وأطول أمداً ، فالتوبة النصوح سهلة جداً ، ولكن العبرة أن يثبت الإنسان عليها ، وسهل جداً في كل مجالات الحياة أن تصل إلى شيء ، ولكن البطولة أن تبقى فيه ، سهل أن تصل إلى القمة ، ولكن البطولة أن تبقى في القمة ، سهل أن تنجح ولكن البطولة أن تبقى ناجحاً ، وأعيد وأكرر : إن أهون توبة للإنسان أول توبة .
الأستاذ زياد :
 هل هناك توبة ثانية ؟

التوبة النصوح أساسها المتابعة والثبات :

الدكتور راتب :
 حينما يقع في الذنب نفسه كأنه نقض التوبة ، عندئذ يجد صعوبات في أن يتوب ثانية ، أنا أنصح الإخوة الكرام من يتابعنا في هذا البرنامج أنه إذا عقد العزم على التوبة النصوح بطولته لا في عقد العزم عليها ، بل في متابعتها وفي الاستمرار عليها ، ما من حاج يذهب إلى بيت الله الحرام وحينما يقترب من الحجر الأسود يقول : عهداً لك يا رب على طاعتك ، فإذا عاد من الديار المقدسة ، وعاد إلى ما كان عليه ، فكأنه نقض هذا العهد ، وكأن الله عز وجل يعتب على عباده المؤمنين حينما يقول :

﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾

[ سورة الأعراف : 102]

 فالتوبة النصوح أساسها المتابعة ، أساسها الثبات ، ومادام الإنسان مع الله يشعر بقوة من الله تمده ، ألم يقل الله عز وجل في سورة الفاتحة :

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾

[ سورة الفاتحة: 5 ]

 هذا النبي الكريم يوسف عليه السلام ماذا قال :

﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

[ سورة يوسف 33 ]

 معنى ذلك أن المؤمن إذا آمن بالله الإيمان الصحيح ، وتاب إلى الله توبة نصوحاً ينبغي أن يبقى مفتقراً إلى الله بأن يمده بقوة يثبت بها على هذه التوبة ، لأن هناك الكثير من المؤمنين الذين لا يعدون ولا يحصون تابوا ونقضوا التوبة ، فما كان لهم عند الله من عهد .
الأستاذ زياد :
 سؤالي هنا فضيلة الشيخ دكتور محمد راتب النابلسي : هل يتوب المرء من ذنب بعينه ؟ أم أنه يتوب عن معصية الله سبحانه وتعالى ؟

حقوق العباد مبنية على المشاححة بينما حقوق الله مبنية على المسامحة :

الدكتور راتب :
 إذا كان سالكاً طريق الإيمان ، وزلت قدمه في موضوع محدد يتوب من هذا الذنب بالذات ، أما إذا كان شارداً عن الله في الأصل فهذا الإنسان يحتاج إلى توبة عامة عن كل ما نهى الله عنه ، هناك من يشرد عن الله شروداً كثيراً ، فإذا أراد أن يتوب ينبغي أن يتوب عن كل معصية من دون تحديد ، أن يلتزم أمر الله وبابه ، أما إذا كان سالكاً طريق الإيمان وزلت قدمه في موضوع محدد يمكن أن يتوب من هذا الذنب بالذات .
الأستاذ زياد :
 نذكر أيضاً من أركان التوبة ما كان بين المرء وأخيه الإنسان من حقوق يجب أن يؤديها له ، أو أن يتسامح مع هذا الإنسان .
الدكتور راتب :
 حينما تحدثنا في حلقة سابقة عن أن من أركان التوبة العلم والحال والعمل ، فالعمل وزعناه إلى ثلاثة أبواب : عقد العزم على ألا يفعل هذا الذنب في المستقبل ، والإقلاع عنه في الحاضر ، وإصلاح ما مضى ، إصلاح ما مضى أن تؤدي الحقوق إلى أصحابها ، ذلك لأن حقوق العباد مبنية على المشاححة ، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة .

خاتمة وتوديع :

الأستاذ زياد :
 نتابع غداً بإذن الله تعالى الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم ومتابعتهم ، حتى الملتقى لكم التحية ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور