وضع داكن
28-03-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 10 - تكرار التوبة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ زياد :
  بسم الله والحمد لله ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه .
 أيها الأخوة المستمعون ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم ، وهذا لقاء يتجدد بحمد الله تعالى ضمن برنامج : "منهج التائبين" ، أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي أحد أبرز علماء ودعاة دمشق ، أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ ، ونتابع الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، ماذا إذا تكرر الذنب وتكررت التوبة ؟ هل تبقى توبة نصوحاً صادقة ؟

التوبة النصوح :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 تحدثنا في الحلقة السابقة عن التوبة النصوح ، وهي التوبة التي لا رجوع عنها ، ولكن الإسلام واقعي ، الإسلام يسع كل المسلمين ، الآن دخلنا في موضوع آخر ، الأصل والأكمل أن تكون التوبة نصوحاً ، لا عودة فيها ، ولكن لو أن شاباً سألنا ماذا أفعل ؟ وقعت في الذنب مرة ثانية ، هل الحكمة أن نيئسه من رحمة الله أم أن نفتح له أبواب رحمة الله عز وجل ؟ هذا موضوع حلقة اليوم ، الأكمل ما قلناه في الحلقة السابقة ، الأكمل أن تكون التوبة نصوحاً ، الأكمل ألا يرجع الإنسان عن توبته ، لأنه دخل في أبواب رحمته ، الأكمل أن يفتح العبد المذنب مع الله صفحة جديدة ، فإذا زلت قدمه ، وهذا من ضعف الإنسان ، وأعاد الذنب مرة ثانية ، من له غير الله ؟ لمجرد أن ييأس الإنسان من قبول توبته يفجر ، والأمر يكون في حيز صغير ، فإذا هو في متاهة كبيرة ، فرحمة الله جل جلاله كانت كحبل النجاة ، يتمسك به العاصون ، كانت كصمام الأمان ، كانت كقارب النجاة ، فلابد من أن نؤكد للإخوة المستمعين أنك إذا أعدت الذنب فأعد التوبة ، وليس لك إلا الله .

﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾

[ سورة الشورى : 25]

رحمة الله واسعة :

 ورد في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا ، وَرُبَّمَا قَالَ : أَذْنَبَ ذَنْبًا ، فَقَالَ : رَبِّ أَذْنَبْتُ ، وَرُبَّمَا قَالَ : أَصَبْتُ ، فَاغْفِرْ لِي ، فَقَالَ رَبُّهُ : أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ، وَيَأْخُذُ بِهِ ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا ، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ، فَقَالَ : رَبِّ ، أَذْنَبْتُ ، أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ ، فَاغْفِرْهُ ، فَقَالَ : أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ، وَيَأْخُذُ بِهِ ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا ، وَرُبَّمَا قَالَ : أَصَابَ ذَنْبًا قَالَ : قَالَ : رَبِّ أَصَبْتُ ، أَوْ قَالَ : أَذْنَبْتُ آخَرَ ، فَاغْفِرْهُ لِي ، فَقَالَ : أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ، وَيَأْخُذُ بِهِ ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، ثَلَاثًا ، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ ))

[ سورة البخاري عن أبي هريرة]

 كأن النبي عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق عن ربه يؤكد لنا أن رحمة الله واسعة ، وأنه لا بد من أن نصل إليه ، أن نلجأ له ، وأن نحتمي به ، وأن نركن إلى رحمته ، وفي حديث آخر عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

((يا رسول الله ، أحدنا يذنب ، قال : يكتب عليه قال : ثم يستغفر منه ، ويتوب ، قال : يغفر له ، ويتاب عليه ، قال : فيعود ، فيذنب ، قد يكتب عليه ، قال : ثم يستغفر منه ، ويتوب قال : يغفر له ، ويتاب عليه ، قال : فيعود ، فيذنب قال : يكتب عليه ، ولا يمل الله حتى تملوا ))

[الحاكم في المستدرك ، والطبراني في المعجم الأوسط]

الأستاذ زياد :
 أبواب التوبة مفتوحة على المؤمن ، من كمال إيمانه ، ورقي إيمانه ، وتألق إيمانه أن يوقن حق اليقين بأن التوبة مقبولة بإذن الله تعالى ، وأن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة مهما تكررت ، ومهما تكرر الذنب .

الجبر عقيدة فاسدة :

الدكتور راتب :
 ذلك أن الله عز وجل يقول :

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾

[ سورة النساء : 27 ]

 هذه إرادة الله !

﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾

[ سورة النساء : 27 ]

 بل إن في الحديث القدسي :

(( إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها ))

الأستاذ زياد :
 هنا بعض المحاجين يقول لك : طالما أن إرادة التوبة هي من عند الله سبحانه وتعالى فمن أين تأتي إرادة الذنب ؟ هل الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نذنب ؟
الدكتور راتب :
 حاشا لله .

﴿اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

[ سورة الأعراف : 28]

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾

[ سورة الأنعام: 148 ]

 هذه الآية أصل في نفي الجبر ، والجبر عقيدة فاسدة ، لو تصورناها لكنا في ضلال مبين .

﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾

[ سورة النساء : 27 ]

الإنس والجن منحوا نعمة الاختيار ليثمن عملهم :

 خلقنا ليرحمنا ، بدليل قوله تعالى :

﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

[ سورة هود:119]

 أن نتوهم أن الله أراد الذنب لنا هذا مستحيل ، وألف ألف مستحيل ، أراد الخير لنا ، أراد الهداية لنا ، ولكننا مخلوقات أنعم الله علينا بنعمة الاختيار ليثمّن عملنا ، فالإنسان مخير ، وأساس الذنب كما بحثنا هذا في أول حلقة أن كائناً أودعت فيه الشهوات ، ومعه منهج ، فتحرك بدافع من شهوته من دون منهج ، تماماً كالذي يقود مركبة بلا مقود ، فيها محرك قوي هي الشهوة، أما المقود هو المنهج ، فمركبة تتحرك بلا مقود مصيرها حادث مروّع ، فكل إنسان يتحرك في شهوة أودعها الله فيه هي في الأصل حيادية ، ليرقى بها إلى رب الأرض والسماوات ، هي شهوة بمثابة سلم نرقى به ، أو دركات نهوي بها ، هذا هو أصل الذنب ، كائن مخير ، لذلك لا تجد لا في الملائكة ، ولا في الجمادات ، ولا في الحيوانات تكليف ، ولا ذنب ولا توبة ، مخلوقات مسيرة ، الإنسان والجن من بين مخلوقات الله جميعاً منحوا نعمة الاختيار ليثمن عملهم، وأودعت فيهم الشهوات لتكون سلماً لهم إلى رب الأرض والسماوات ، فتحركوا بدافع من شهواتهم بدون منهج يسيرون عليه فوقعوا في هذه الذنوب ، هذا فلسفة الذنب ، أما أن يريد الله ذنباً للإنسان :

ألقاها في اليم مكتوفاً وقال  له إياك إيّاك أن تبتل بالماء
***

العقيدة السليمة أساس العمل الصالح :

 العوام لهم كلمات هي الكفر بعينه ، يقول لك شارب الخمر : طاسات محدودة بأماكن معدودة ، من قال هذا ؟ هذا كلام إبليس ، فكل كلمة يقولها العوام ينبغي أن تقاس بالقرآن ، فإن وافقته نقبلها ، وإن عاكسته نركلها بقدمنا ، لا بد من عقيدة سليمة ، والعقيدة السليمة أساس العمل الصالح ، ولو أن هناك عقيدة لا تنعكس عملاً فاعتقد ما شئت ، ولكن لأن كل انحراف في العقيدة يقابله انحراف في السلوك ، إذاً لا بد من أن نمحص عقائدنا ، وأن نعرف الله عز وجل :
 ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا.
الأستاذ زياد :
 هنا في الحديث النبوي الشريف الذي صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم عن العبد الذي أذنب ثلاثاً ، وتاب من ذنبه ، في بعض روايات الحديث هناك خاتمة له " فليعمل ما شاء " ، أي هل يا تُرى يعمل ما شاء ، هكذا على الإطلاق ، يذنب ويتوب ، يذنب ويتوب ؟
الدكتور راتب :
 أنا أفهم هذا التذييل في الحديث فهماً لعلي أكون مصيباً به ، حينما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام عن سيدنا عثمان حينما جهز جيش العسرة قال :

(( ما ضرّ عثمان ما فعله بعد اليوم ))

[الترمذي]

 كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : بلغ مرتبة من القرب من الله أنه قلما يخطئ ، فحينما يذنب ويتوب ، ويذنب ويتوب ، ويذنب ويتوب ، كأنه آن له ألا يذنب ، أما أنا لا أفهم الحديث على أنه مهما عاش إلى أمد طويل يذنب ويتوب ، كلما أذنب وتاب ضعفت علاقته بالله عز وجل ، ولعل هذا هو الصواب ، هناك قول آخر : عن علي رضي الله عنه قال : " خياركم كل مفتن تواب ، قيل : فإن عاد ؟ قال : يستغفر الله فيتوب ، قيل فإن عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب ، قيل : حتى متى ؟ قال : حتى يكون الشيطان هو المحسور " .

الهروب من أسباب الخطيئة خير من أن تهرب من الخطيئة نفسها :

 لا تكن عوناً للشيطان على أخيك ، بل كن عوناً لأخيك على الشيطان ، هذا معنى المؤمن يهب الأمل للمذنبين .
 والذي تعرفونه كثيراً أن الذي سأل راهباً عن إنسان قتل تسعة وتسعين رجلاً ، هل له من توبة ؟ قال له : لا ، فكمل به بالمئة ! أما العالم الآخر الذي سأله أمره أن يخرج من أرض يذنب فيها إلى أرض فيها قوم صالحون ، العالم الآخر عالج أصل المشكلة ، وكأن الله عز وجل حينما يقول :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119 ]

 العالم الحقيقي يبحث عن سبب الذنب ، البيئة السيئة ، رفقاء السوء ، المثيرات التي يعيشها الإنسان ، هذه كلها تدفعه إلى الذنب فأنت إن أردت أن ترفع مستوى إنسان أبعده عن أسباب الذنب ، فالهروب من أسباب الخطيئة خير من أن تهرب من الخطيئة نفسها . حينما قال الله عز وجل :

﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾

[ سورة الإسراء: 32 ]

 لمَ لمْ يقل : لا تزنوا ؟ حينما قال الله عز وجل :

﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾

[ سورة البقرة: 187 ]

 لمَ لمْ يقل : فلا تعتدوها ؟ ذلك أن للمعصية وهجاً .

أساليب كثيرة إن طبقها الإنسان ابتعد عن الفاحشة :

 أنا أضرب مثلاً دقيقاً : وزير كهرباء في بلد ما هناك خط توتر عالي ثمانية آلاف فولت ، لابد من وضع لوحة تحذ ر المواطنين ، هذا التيار له حرمة ، أو دائرة ، أو حيز ، إن دخل فيه الإنسان أصبح قطعة من الفحم ، فهذا الوزير يضع اللوحة ممنوع لمس التيار ، أم ممنوع الاقتراب منه ؟ ممنوع الاقتراب منه ، لذلك قال تعالى :

﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾

[ سورة الإسراء: 32 ]

 شهوة جنسية تشبه صخرة في رأس جبل متمكنة ، أنت إذا دفعتها لك أن تدفعها ، ولكن لن تستقر إلا في قاع الوادي ، أنت حينما تتساهل بممهدات الفاحشة في الأعم الأغلب يقع فيها الإنسان ، فلذلك حينما أنصح الناس بالتوبة أنصحهم أيضاً بالبعد عن أسباب الذنب ، البيئة الفاسدة ، الرفيق السيئ ، الصحافة الماجنة ، القصص الإباحية ، متابعة الأفلام التي لا ترضي الله ، هذه كلها تودي إلى المعصية ، فالبطولة أن أبتعد عن أسباب المعصية ، وللسيد المسيح كلمة رائعة يقول : الشريف هو الذي يهرب من أسباب الذنب ، لا من الذنب نفسه ، فغض البصر وعدم الخلوة طريق لحفظ الفرج ، هناك أساليب كثيرة إن طبقها الإنسان ابتعد عن الفاحشة ، فأنا كإنسان أدعو الناس إلى الله عز وجل أقول لهم : توبوا ، ولكن يجب أن أبين لهم أنه ينبغي أن يبتعدوا عن مظان المعصية ، وعن أماكن المعصية ، وعن العصاة ، بل إن العلماء يقولون : إن صحبة الأراذل تجرح العدالة . فمن عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته
 فإن ظلم الإنسان الآخرين ، أو كذبهم ، أو أخلف وعده معهم ، سقطت عدالته ، لكن العلماء ذكروا أن هناك أشياء كثيرة تجرح العدالة لا تسقطها ، مما يجرحها صحبة الأراذل ، والتنزه في الطرقات ، والحديث عن النساء ، وتطفيف بتمرة ، وأكل لقمة من حرام ، ومن بال في الطريق ، من مشى حافياً ، من أكل في الطريق ، العلماء عددوا أحوالاً كثيرة تجرح العدالة ، لكن أريد من هذا اللقاء من هذا الذي يجرح العدالة أن نصحب الأراذل ، ومعنى قوله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 119 ]

 هذا الذي يعصم الإنسان عن الذنب ، وفي الحديثين المشهورين الذي قتل تسعة وتسعين رجلاً ، التوجيه النبوي أن العالم الآخر أبعده عن مواطن الربا وعن البيئة ، فأنت لن تستطيع أن تستقيم على أمر الله إلا إذا كنت في بيئة صالحة ، فقل لي من تصاحب أقل لك من أنت .
الأستاذ زياد :
 هل ندخل اليأس إلى قلوب من هم في بيئة قد تكون غير صالحة ؟

من يبتعد بأخلاقه عن سقطات من حوله يعينه الله على الطاعة :

الدكتور راتب :
 هنا يوجد توجيه : أنا حينما يكون قدري أن أكون في بيئة سيئة ينبغي أن أكون في برج أخلاقي عنهم ، لا في برج فكري ، أنا أعيش معهم ، لكن لا أقع في سقطاتهم ، ولا أنغمس في شهواتهم ، لا تذل قدمي كما يذلون ، هناك من يعيش في بيئة لا ترضيه ، هذا قدره ، لكن حينما يبتعد بأخلاقه عن سقطات من حوله الله عز وجل يعينه على الطاعة .
الأستاذ زياد :
 أتحدث عن إنسان أذنب مع هذه البيئة العاصية المذنبة ، ولكنه أراد أن يتوب هل لنا أن نعطيه إرشاداً عدا أن يتخلى عن هذه البيئة ؟
الدكتور راتب :
 نرشده ، ونقول له كما قال الله عز وجل :

﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾

[ سورة الكهف: 28 ]

 هو معهم بجسمه ، لكنه لا يطيعهم ، ولعل في هذا إرشاد تربوي كبير جداً .
الأستاذ زياد :
 أريد أن أضع الإصبع على الجرح ، لنقُل : فتاة مغلوب على أمرها ، والدها يشرب الخمر ، يقول لها : أحضري لي كأس الخمر ، وهذا غالباً ما يقع ، وهي تنهج منهج الله ، وملتزمة بطاعته وبرفض معصيته ، وترجو رضاه ، فماذا تصنع ؟

الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان :

الدكتور راتب :
 قبل أن أجيب على هذا السؤال أبين حكمة الله في هذا التخليط ، قد ينجب فتاة طاهرة من أب سيئ ، وقد ينجب أب جيد فتاة سيئة ، الحكمة من ذلك أن هذا الأب حينما يرى ابنته الطاهرة المستقيمة الملتزمة لعله يتذكر الله عز وجل ، ما خلّط الله الصالح مع الطالح في أسرة واحدة إلا ليكون الصالح مذكراً وقدوة للطالح ، وكم من فتاة تاب أبوها على يديها ، كم من زوج سيئ تاب على يد زوجته ، هذا التخليط هناك حكمة تربوية رائعة منه : أنت كمعلم تضع الطالب الجيد إلى جانب الطالب السيئ لعله يأخذ منه بعض أخلاقه الفاضلة ، أما لو وضعت سيئين في جانب واحد يحدث انفجار ، فالتخليط من حكم الله العظمى ، نحن نقول لهذه الفتاة الطاهرة التي تعرف الله عز وجل : حينما تتصلين بالله عز وجل الصلة المتينة هذه تعطيك حكمة ومقاومة عالية جداً ، وتعطيك لساناً طليقاً في الحق ، فلعل هذه الفتاة ، وهي في بيئة سيئة يهديها الله عز وجل إلى طريق قويم لإصلاح أبيها ، أنا أقول لكم : لا يمكن أن تستقر حقيقة الإيمان في قلب مؤمن إلا وأن تعبر عن نفسها بحركة نحو الآخرين ، المؤمن ليس سلبياً ، وليس متقوقعاً ، وليس منسحباً من الحياة .
 أنا أذكر كما تفضلت الأب شارب الخمر كلما رأى ابنه يصلي يضربه ، ومازال هذا الابن ينصح أباه عشرات السنين إلى أن تاب على يده ، وعرف قيمته ، فأحد شيوخ الأزهر علمته نملة ! دخل الأزهر فلم ينجح في الامتحان فنوى أن يبتعد عنه ، فرأى نملة صعدت إلى هدفها ثلاثاً وأربعين مرة ، وهي مصرة !
 أعرف قصة صاحب ملهى الشام ، له بنت لا تأكل من طعامه أبداً ، ولا يمكن أن ينالها من مال أبيها شيء ، ولو طلبت المليون منه لم يتردد في إعطائها هذا المبلغ ، لكنها رأت ماله حراماً فاستقامت على أمر الله ، والمؤمن دون أن يشعر هو داعية كبير باستقامته ، الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان ، العفة والأمانة والصدق دعوة ، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه من كان قدرهم أن يعيشوا في بيئة سيئة .

خاتمة وتوديع :

الأستاذ زياد :
 نتابع غداً بإذن الله تعالى حديثنا عن التوبة النصوح الصادقة ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أشكر الأخوة المستمعين لحسن متابعتهم لنا في برنامج منهج التائبين ، حتى الملتقى لكم التحية ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور