وضع داكن
29-03-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 21 - عبادة الله فيما أقامك.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
 الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 أيها الأخوة المستمعون ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم في مستهل حلقة جديدة من برنامج : "منهج التائبين"، أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي معنا ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ، لنتأمل صوراً من الواقع المعاش ، فبعد أن تحدثنا عن عواقب من يعيّر أخاه بذنب انطلاقاً من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ ))

[سنن الترمذي عن معاذ بن جبل]

 قلت : لنتأمل صورةً أخرى ، هذه زوجة تابت إلى الله ، وقبِلَ الله توبتها والتزامها بمنهجه ، لنقل : بعد سنوات من الغفلة والمعصية ، وهذا زوجها يقارف المعاصي ، فهي توبخه ، وتحقره ، ولا تقوم بشأنه ، بل تهمل شأنه ومتطلباته ، وتفضل على ذلك مجلس علم خارج بيتها ، أو محاضرة تحضرها ، أو نشاطاً عاماً تقوم به مع أخواتها ، وهذا أمر ممدوح ومندوب ، وقد تتخذ من القاعدة الشرعية " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " حجةً لها في هذا العمل ، أيحق لها هذا ؟ وإذا عكسنا الصورة ، أيحق لهذا الزوج هذا العمل ، أن يهمل زوجته التي ما زالت على المعاصي ؟

عدم قبول الله تعالى من امرأة عبادة تتناقض مع هويتها :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 لعل جزءاً أساسياً في الإجابة على هذا السؤال الدقيق أن نعرف أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعبده ، ومن أدق مفهومات العبادة أن نعبده فيما أقامنا ، وقد سماها بعض العلماء : عبادة الهوية ، فإذا أقام الله العبد قوياً عبادته الأولى أن ينصف الضعيف ، وإذا أقامه غنياً عبادته الأولى أن ينفق من ماله ، وإذا أقامه عالماً عبادته الأولى أن يعلم الناس ، هذا بعد أداء الفرائض ، نعم ، أما إذا أقامها امرأة فأول عبادة لها أن ترعى زوجها وأولادها ، ذلك أن في الإسلام شيئاً هو ذروته وسنامه ، إنه الجهاد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام يخاطب امرأةً يقول :

(( انصرفي أيتها المرأة ، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها لمرضاته ، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله ))

[ابن عساكر وأخرجه البيهقى في شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد الأنصارية]

 أرأيت إلى الجهاد ، وهو ذروة سنام الإسلام ! أعلى عبادة في الإسلام أن تجاهد نفسك وهواك أولاً ، وهذا الجهاد جهاد النفس والهوى ، وأن تعلم الناس أمور دينهم ، وهذا الجهاد الدعوي ، وقد سماه الله جهاداً كبيراً فقال تعالى :

﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

[سورة الفرقان : 52]

ثم الجهاد القتالي .
 أرأيت إلى امرأة ترعى زوجها وأولادها هي عند الله عز وجل في جهاد ، لذلك لا يقبل الله من امرأة عبادة تتناقض مع هويتها ، هذه المرأة جعلها الله زوجةً لزوج عليها واجبات كثيرة ، أولاً أن تحصنه ، كانت الصحابية الجليلة إن أرادت قيام الليل تسأل زوجها بادئ ذي بدء : ألك بي حاجة ؟ لشدة فقهها في الدين ، المرأة المؤمنة تتزين لزوجها ، وتعتني به ، وتبذل له من نفسها ما يريد كي تحصنه ، وتبعده عن معصية لا ترضي الله ، بينما المرأة التي تهمل نفسها ، ولا تعتني بمظهرها ، ولا تعامل زوجها العبادة التي أمرها الله بها إنها تخالف منهج الله فيما أقامها، قاعدة إن الله لا يقبل عملاً صالحاً إلا إذا أديت الفرائض ، فمثلاً هل يقبل الله من عبد قيام الليل وقد ترك الصلوات الخمس ؟ مستحيل .
المذيع :
 طبعاً لا .
الدكتور راتب :
 أنا أعتقد ، ولعلي على صواب أن المرأة التي تهمل زوجها وأولادها ، ولا تعتني بمظهرها ، ولا تلبي رغبة زوجها ، ولا تربي أولادها التربية الصالحة ، هذه إن أرادت أن تكون داعيةً هي تتناقض مع نفسها ، لأنها تخالف أمر الله فيما أقامها .

عبادة المرأة الأولى أن تحسن رعاية زوجها وأولادها :

 المرأة عبادتها الأولى أن تحسن رعاية زوجها وأولادها ، وعبادتها الأولى أيضاً أن تسهم في إعفاف المسلمين ، فثيابها جزء من دينها ، وقد خلق الله المرأة محببةً للرجال ، فإذا خرجت في الطريق تبرز مفاتنها لشباب بينهم وبين الزواج عشرون عاماً ، هذه تثير فتنةً لا ترضي الله عز وجل ، إن كان خروجها يتناقض مع منهج الله عز وجل فهي عاصية ، لذلك حينما تكون المرأة مستورةً ، بمعنى أنها لا تظهر مفاتنها للأجانب ، ثم تلبي حاجات زوجها التي أمر الله بها وأولادها عندئذ تكون قد عبدت ربها العبادة التي أقامها الله فيها ، وكما أن الله لا يقبل نافلةً ما لم تؤدَ الفريضة ، كذلك لا يقبل الله من امرأة حضور دروس علم ولقاءات دعوية ، وهي قد أهملت زوجها وأولادها ، بل إنني أرى أن المرأة التي تعتني بزوجها وأولادها هي أقرب إلى الله من امرأة أهملت زوجها وأولادها ، واعتنت بعباداتها النافلة ، أنا أذكر قصة تكاد لا تصدق .
المذيع :
 نرجو لها أن تكون أقرب إلى الله سبحانه وتعالى من التي . . .
الدكتور راتب :
 امرأة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف تصبح السيدة الأولى في المجتمع الإسلامي ، عندها أولاد أيتام ، قالت : يا رسول الله ، أخاف إن كنت زوجةً لك أن أهملهم ، وأخاف إن اعتنيت بهم أن أهملك ، فاعتذرت ، هذه امرأة بطلة اعتذرت عن أن تكون زوجة رسول الله لعلمها أن عليها واجباً لا حدود له مع أولادها ، وأمام زوجها ، فيا أخي الكريم هذه المرأة التي تهمل زوجها ، وقد تحمله على معصية دون أن تشعر ، وقد تجعله يطلق بصره في الحرام ، وقد تجعله يأنس للقاء لا يرضي الله في إعراضها عنه ، ولانشغالها عنه ، هذه لا تفقه شيئاً في الدين.
المذيع :
 ونحن نتحدث عن منهج التائبين ، وعن أخلاق التائبين ، فضيلة الشيخ هنا نتحدث عن أمر دقيق قد يصادف بعض الأسر ، ليس الأمر مقتصراً على المرأة التي تابت إلى الله ، والتزمت بمنهج الله ، العكس صحيح ، الزوج تاب إلى الله ، والتزم بمنهج الله ، وهو يحقر زوجته التي ما تزال تقترف المعاصي ، هل له أن يحقرها ؟ هل له أن يهملها ؟ ظناً منه أنها سترضيه بالتوبة إلى الله ؟

المشكلة بين المرأة وزوجها ليست في البيان والتقريع والتأنيب إنما في المعاملة :

الدكتور راتب :
 والله الذي أراه أنه كما كان شارداً عن الله ، ثم تفضل الله عليه ، ودله على طريق الإيمان ، كما صبر الله عنه ينبغي أن يصبر عليها ، وكما تفضل الله عليها فدلها على طريق الهدى ، وصبر عليها ينبغي أن تصبر على زوجها ، من سوء الأدب مع الله ، ومن عدم الحكمة أن المرأة إذا تابت إلى الله بدأت تعيير زوجها ، لكن ينبغي أن تنصحه برفق ، وفيما بينها وبينه ، بل إن المرأة إذا أهملت زوجها أوهمته أن دينها هو العقبة في مودتها له ، لو أن المرأة التائبة التي عرفت ربها ، وتحجبت ، واستقامت على أمره ، وكان زوجها غارقاً في المعاصي والآثام ، فاعتنت به ، وصبرت عليه ، هو بشر من لحم ودم ، يراها تصلي ، يراها تحب الله ، يراها تتلو القرآن ، وهو غارق في المعاصي ، عنايتها به ، وإكرامها له على معصيته قد تجلبه إلى الدين ، ما هذا الدين ؟ أما حينما تسيء إليه لأنها مؤمنة فتبعده عن الدين .
 مرة سألني أخ ، قال لي : عندي ولدان ، أحدهما عاق ، أريد أن أكافئ الأول ، وأحرم الثاني ، قلت له : تزيد العاق عقوقاً ، أما إذا عدلت بينهم على اختلاف موقفهم منك فلعلك تحمل هذا العاق على أن يكون باراً بك ، لذلك المشكلة ليست في البيان والتقريع والتأنيب ، المشكلة في المعاملة ، والله أنا أقسم لك إن أناساً كثيرين أعرفهم سبب توبتهم زوجاتهم ، زوجته مؤمنة مستقيمة ، واحتوته ، واستوعبته ، وآنسته ، وخدمته ، فكان إكرامها له سبب هدايته ، وتوبته .

استقلال المرأة في دينها عن زوجها :

 لكن أنا أقول لك كلمة دقيقة جداً : إن المرأة مستقلة في دينها عن زوجها ، كيف ؟ لو أن زوجها أمرها بمعصية فلا يقبل الله منها أن تقول له يوم القيامة : يا رب ، هكذا أمرني ، ساق الله لنا قصةً شهيرة ، قال تعالى :

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾

[ سورة التحريم: 11]

 من فرعون ؟ أكبر طاغية في الأرض ، من فرعون ؟ الذي قتل أبناء بني إسرائيل ، واستحيا نسائهم ، ومع ذلك بكل جبروته وطغيانه لم يستطع أن يحمل زوجته على عبادته .
 في هذه القصة ملمحان دقيقان : الملمح الأول : هو أن المرأة مستقلة في دينها عن زوجها ، لا يقبل منها أن تقول : هو أمرني ، لعل هذا في ذمته ، لا ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
 الملمح الثاني الخطير : أنها لم تتركه بقيت زوجته تخدمه ، معنى ذلك أن المرأة إذا وجدت زوجها غارقاً في المعصية فواجبها أن تعامله كزوجة صالحة ، أن تؤدي الذي عليها ، وأن تطلب من الله الذي لها .

حاجة الدعوة إلى الله إلى لطف ورقة :

 هذا الزوج الغارق في المعاصي إذا منع زوجته من مجلس علم أو نشاط عام مع أخواتها الناشطات في المجتمع الإسلامي ، هل تقول : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؟
 لا ، أنا أقول شيئاً آخر : لا يمكن أن ينعكس دين زوجته عليه خدمةً ورفقةً ومودةً ، ويمنعها عن هذه المجالس ، لا يمكن ، أما إذا انعكست هذه المجالس عليه غلظةً واستعلاءً وكبراً وتقريعاً وإهانةً وإهمالاً لابد من أن يمنعها ، تصور أن الدين جعلها متكبرة ، أن الدين جعلها مهملة ، أن الدين جعلها قاسية ، إذاً يمنعها ، أنا والله متأكد مما أقول : لا يمكن لامرأة لها مجلس علم تحضره ، أو لها أستاذة تعلمها إلا انعكس دينها على زوجها خدمةً ورقةً ورحمةً وتواضعاً لا يمكن أن يمنعها ، أنا من خلال تجربتي المتواضعة حينما يتفوق أحد طلابنا في التعليم الثانوي يقول له أبوه : خذ أخاك معك إلى المسجد ، أما حينما يرسب في المدرسة ، وهو من رواد المسجد يمنعه من المسجد ، هذه قاعدة ، أنت على ثغرة من ثغر الإسلام ، فلا يؤتين من قبلك ، كل مسلم حقيقةً هو سفير المسلمين ، فإذا أعطى عن الإسلام صورةً متألقة أحب الناس الإسلام .
 مثلاً : موظف في محل ، إذا ذهب ليصلي ، وغاب ساعتين ، يمنعه صاحب العمل من الصلاة في المسجد ، أما إذا غاب عشر دقائق ، وحاسب نفسه على الدوام حساباً عسيراً ، يشجعه على الصلاة في المسجد ، نحن لسوء فهمنا ، ولسوء حكمتنا ننفر الناس من الدين ، كما أن هناك داعيةً إلى الدين ، هناك منفر من الدين ، فالمرأة التي تتمسك بدينها ، وهذا فرض ، لكن مع تمسكها يوجد غلظة وشدة واستعلاء ، أول من يكره دينها زوجها .
 ليكن إسلامنا كإسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي أحبّ محمداً فأحب الإسلام ، فأسلم ، أو كإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أحبّ الإسلام ، فأحب محمداً ، فأسلم ، وهكذا من باب الحب ، يمكن أن نصنع المعجزات في مجال الدعوة ، وفي مجال التوبة ، وفي كل مجالات الخير .
 أسرة فقيرة جداً ليس في بيتها ماء ساخن ، فهذه الزوجة تؤدي واجبها تجاه زوجها ، وتستيقظ قبل الفجر ، تسخن له الماء ، تدعوه إلى الصلاة برقة بالغة ، هو من لحم ودم ، الزوجة التي أكرمها الله بالحكمة ، أكرمها الله بالفقه ، تدعو إلى الله برفق ونعومة ، لا أنسى من جاء لملك ليعظه ، فقال له : سأغلظ عليك ، فقال له : ولمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني ، أرسل موسى إلى فرعون ، فقال له : قل له قولاً ليناً ، الكلام اللطيف ، نحن نفهم الدعوة إلى الله تحتاج إلى عنف ، وإلى قسوة ، وإلى توبيخ ، وإلى تقريع ، لا، الدعوة إلى الله تحتاج إلى لطف :

﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾

[ سورة طه : 44]

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 تناولنا هذه الصورة من صور الواقع المعاش بين زوج وزوجه ، أحدهما على منهج الله وعلى توبته لله سبحانه وتعالى ، والآخر ما زال غارقاً في المعاصي ، لم يتب الله عليه بعد ، سنتناول في حلقة الغد بإذن الله تعالى ، ومن ضمن منهج التائبين ، وأخلاق التائب العلاقة بين الأب والأم التائبين الصالحين وأولادهما .
 أشكركم فضيلة الشيخ ، وأشكر الأخوة المستمعين لحسن إصغائهم ، وكانت هذه همسة في أذن الزوج والزوجة لكي يحسنوا التعامل فيما بينهم على منهج التائبين .
 أشكركم وأشكر الأخوة المستمعين ، لكم التحية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور